المثقف والسلطة في الوطن العربي


هشام غصيب
2011 / 8 / 11 - 08:55     

نقطة الانطلاق في الحديث عن المثقف والسلطة، على الأقل في الوطن العربي، هي طبيعة السلطة السياسية السائدة عربياً في نصف القرن الأخير. فبتحديد هذه الطبيعة نحدد أيضاً علاقتها بالمثقف وطبيعة الخطاب الثقافي السائد والمهيمن في الوطن العربي اليوم. ولكن من المؤسف حقاً أن طبيعة السلطة السياسية العربية لم تجد حتى الآن من ينظرها تنظيراً علمياً ثورياً شاملاً، الأمر الذي حدا كثيراً من الدارسين والسياسيين إلى إسقاط النماذج السياسية الغربية الصالحة لوصف الدولة الرأسمالية الغربية المتطورة على السلطة العربية التي تختلف كيفياً عن نظيرتها الغربية. ومع أنني لا أدعي أنني بصدد تقديم نظرية شاملة للسلطة السياسية العربية المعاصرة، إلا أني سأحاول هنا تحديد بعض ملامحها الرئيسية المشتركة بين الأقطار العربية قاطبة، مقارنة مع الدولة الرأسمالية المتقدمة ( أي الدولة الرأسمالية المركزية).

1. نلاحظ أولاً أن الدولة الرأسمالية المركزية والأخرى الرأسمالية المحيطية كلتيهما تمتلك نوعاً من الاستقلال الذاتي النسبي. لكنهما تختلفان كيفياً في طبيعة الاستقلال الذي تتمتعان به. ففيما تمتلك الدولة المركزية ما يمكن وسمه بالاستقلال الوظيفي، فإن الدولة المحيطية تمتلك استقلالاً اجتماعياً مادياً. فالدولة المركزية لا تشكل قوة اجتماعية مستقلة وإنما تشكل أداة مستقلة للحكم الطبقي، أي جهازاً طبقياً مستقلاً نسبياً. أما الدولة المحيطية، فهي تشكل قوة اجتماعية مستقلة نسبياً ومتميزة عن القوى الاجتماعية الأخرى، أعني عن الفئات الطبقية الأخرى في المجتمع الأهلي، وتقع فوقها. ويعكس هذا الفرق بين الدولتين الفرق الكبير بين عمليتي نشوئهما. فقد نشأت الدولة الرأسمالية المركزية من قلب المجمتع الإقطاعي لسد متطلبات القوى الصاعدة للرأسمالية الأوروبية، ومن ثم فقد جاءت منذ البداية مرتبطة بنيوياً بالطبقة البرجوازية الصاعدة، التي أدت دوراً حاسماً في بناء هذه الدولة. أما الدولة المحيطية، فقد كان الدور الأكبر في تشكيلها لقوة خارجية، هي البرجوازية الإمبريالية، التي ركبتها من عناصر، بعضها محلي وبعضها خارجي، لإحداث تحولات معينة في هذه المجتمعات ودمجها بصورة أوثق في النظام الرأسمالي العالمي. وعندما منحت المجتمعات المحيطية استقلالها الرسمي السياسي، حافظت الدولة المحيطية على استقلالها الاجتماعي المادي وعلى موضعها بوصفها جسماً وسيطاً بين المجتمع الأهلي المحيطي وبين النظام الرأسمالي العالمي.

2. ويقودنا ذلك إلى الطبيعة الطبقية للدولة المحيطية . ففي حين تمتلك الدولة الرأسمالية المركزية طبيعة برجوازية محددة ومشكلة تاريخياً، وفيما تمارس برجوازية المركز سيطرتها السياسية عبر جهاز الدولة وتضبط الأخير بوسائل وآليات وأساليب مختلفة، فإن الدولة المحيطية هي الشكل الذي تنظم به البرجوازية المحيطية ذاتها بوصفها طبقة مسيطرة في المجتمع المحلي. بذلك، فإن بيروقراطية الدولة في المجتمعات المحيطية ليست مجرد شريحة إدارية تخدم مصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة، كما هو الحال في المراكز، بل إنها هي نفسها الطبقة الاجتماعية المسيطرة. ومن هذا المنظور فإنها أقرب إلى الطبقات المسيطرة في التشكيلات ما قبل الرأسمالية، وبخاصة التشكيلات الآسيوية القديمة، منها إلى الطبقة البرجوازية الكلاسيكية. وهذا يعني أن الدولة المحيطية ليست مجرد أداة لإعادة إنتاج شروط الاستغلال، بل إنها هي نفسها الآلية الرئيسية للاستغلال، حيث إن الأعضاء والشلل الذين ينتمون إلى البيروقراطية الحاكمة يستخرجون فائض القيمة وفائض العمل عن طريق آليات الدولة، أي بالوسائل السياسية، تماماً كما كان الحال عليه في الإمبراطوريات الآسيوية القديمة. وهذا يفسر الاستقلال المعين الذي تتمتع به الدولة المحيطية في علاقتها مع المجتمع الأهلي ( المدني ). فهي فوق جميع الطبقات في المجتمع الأهلي وتتمتع باستقلالية عنها بالضبط لأنها شكل تنظيم الطبقة المسيطرة. ويمكن وسم هذه الطبقة السياسية المسيطرة بالطبقة البرجوازية المحيطية.

3. تتسم الدولة المحيطية بقدر كبير من الطفيلية والفساد. إنها جسم اجتماعي طفيلي في جوهره، يقتات على مجتمعه، وعلى مجتمعات أخرى في بعض الأحيان. وتنبع سمة الطفيلية هذه من خصوصية السيطرة الطبقية في المجتمعات المحيطية. ذلك أن البرجوازية البيروقراطية المحيطية لا تستخرج فائض القيمة عن طريق دورها في تنظيم الإنتاج وتدفق رأس المال الإنتاجي وفق معايير الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج، بل إنها تفعل ذلك بوسائل سياسية قسرية وعلى أساس تحكمها بآليات إعادة الإنتاج التي خلقتها في الأصل البرجوازية الإمبريالية. بذلك، فليس للدولة المحيطية دور إنتاجي أصيل تستخرج فائض القيمة عن طريقه. فهي مجرد حلقة في السلسلة العالمية لإعادة الإنتاج الرأسمالي. ومن هذا المنظور، فإن الدولة الآسيوية الاستبدادية، التي كانت سائدة في الصين والهند والعالم الإسلامي، أرقى في فعلها ودورها من الدولة المحيطية الحديثة، حيث إن الأولى كان لها دور حاسم في عمليات الإنتاج الزراعي والحرفي، وفي تنظيم عمليات التبادل. بل إن امتيازاتها الطبقية كانت قائمة في الأصل على أساس هذا الدور الإنتاجي.

4. هناك شرخ أساسي بين الشكل والمضمون في المؤسسات المحيطية. ويتضح هذا الشرخ بجلاء في الدولة المحيطية. فهي تتشح برداء أوروبي عصري، لكنه رداء شكلي لا يرتكز على قوة اجتماعية محلية حقيقية. ذلك أن قشرة المعاصرة الرقيقة تخفي تحتها جهازاً سياسياً وآيديولوجياً وظيفته الوحيدة تنظيم عمليات القمع والاستهلاك وإعادة إنتاج الهيمنة الأجنبية. أما الوظائف الأخرى التي تؤديها في العادة الدولة الرأسمالية المركزية، أعني الوظائف المدنية المواطنية، فلا تؤديها الدولة المحيطية إلا شكلياً وسطحياً، وتتم في العادة على أسس ما قبل رأسمالية ومن قبل قوى ما قبل رأسمالية في أصولها تتحرك ضمن إطار الدولة وخارجها. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يميل إلى تقوية الأشكال ما قبل الرأسمالية وإعادة إنتاجها. وهكذا، فمع أن الأسس الاقتصادية للعاشائرية والقبلية والطائفية الدينية اختفت في العديد من الأقطار العربية، إلا أن هذه البنى ما قبل الرأسمالية ما زالت مؤثرة وفعالة في هذه الدول بفضل وظائفها السياسية والآيديولوجية، وخصوصاً بوصفها نظماً ما قبل رأسمالية للإعالة والقضاء. ذلك أن النظم الطائفية والعشائرية ما زالت تقدم لقطاعات واسعة من الناس في الوطن العربي الحماية والإعالة ومازالت تشكل نظماً للحقوق والواجبات. بذلك، فإن بقاء هذه الأشكال ما قبل الرأسمالية واستمرارها برغم التطور الرأسمالي يعود بصورة أساسية إلى الطبيعة المشوهة والناقصة للدولة المحيطية بوصفها دولة برجوازية.

5. وفي ضوء ذلك كله، فليس من المبالغ فيه القول إنه ليس هناك مجتمع أهلي (مدني) في الوطن العربي، مثلما إنه ليس هناك دولة، بالمعنى الأوروبي البرجوازي. فلما يتشكل النظيران.

وخلاصة القول إن السلطة السياسية النمطية في الوطن العربي اليوم هي نوع من دكتاتورية الأرستقراطية الرثة المبقرطة أو دكتاتورية العصابة المافيوية المبقرطة التي تقوم سلطتها وريعها على أساس احتكارها الفعل السياسي وأدوات القمع والعنف. وهذا يفسر طبيعتها القمعية الشديدة وأساليبها البوليسية الفظيعة التي ترمي إلى حظر الفعل السياسي خارج إطارها والحيلولة دون التشكل السياسي للفئات الطبقية الأخرى في المجتمع العربي. ويشكل ذلك مدخلاً إلى طبيعتها الثقافية وعلاقتها بالمثقفين. فهذه الطبقة لها وظائف ورغبات ومطامع، لكنها لا تملك رؤية متماسكة ولا مشروعاً تاريخياً تنفذه، بعكس البرجوازيات الغربية. لذلك، فهي عاجزة بحكم تكوينها وتركيبها الداخلي عن إفراز من أسماهم أنطونيو غرامشي مثقفيها العضويين. ويعني غرامشي بالمثقفين العضويين أولئك الذين تفرزهم الطبقات التاريخية الجذرية والذين يعبرون عن ضمير الطبقة التي ينتمون إليها وعن عقلها وطموحاتها التاريخية ورؤيتها ومشروعها التاريخي ويضفون عليها تجانساً ثقافياً معيناً. إن الطبقة السياسية الاستبدادية العربية عاجزة عن إفراز مثقفيها العضويين بحكم طبيعتها الاقتنائية ( ولا أقول الاستهلاكية)، طبيعتها الطفيلية اللاإنتاجية. ومع أن بعض الطبقات السياسية العربية كانت تتضمن إلى هذا الحد أو ذاك جناحاً إنتاجياً تنموياً يعود في جذوره إلى فترة صعود المد القومي اليساري، إلا أن الهيمنة ظلت من نصيب الأجنحة الطفيلية الاقتنائية العاجزة بحكم وظائفها وطبائعها الاجتماعية عن إفراز مثقفين عضويين. كما إنها تنامت مع انحسار المد القومي اليساري حتى كاد الجناح الإنتاجي التنموي أن يتلاشى كلياً في عقد التسعينيات من القرن الماضي. ولو اقتصر الآمر على عجزها عن إفراز مثقفين عضويين، لهانت المسألة. لكن احتكارها دائرة الفعل السياسي الأمني يجعلها تسعى باستمرار إلى تحطيم ما تفرزه الفئات الاجتماعية الأخرى من مثقفيين عضويين. كما إن حاجتها المتنامية إلى كوادر بيروقراطية وكمبرادور ثقافي ينسجم مع دورها الكمبرادوري العام يحولها إلى غول مفترس يتغذى على ما ينتجه المجتمع من مثقفين عضويين محوّلاً إياهم إلى من أسماهم غالب هلسا أشباه المثقفين.

لقد ابتكرت هذه الطغم السياسية أساليب وطرائق متنوعة من الترغيب والترهيب لاقتناص المثقف العضوي أو من تشتم فيه إمكانية التحول إلى مثقف عضوي. وتسعى في سياق اقتناصه إما إلى تحطيمه روحياً وشله إبداعياً ودفعه إلى الانتحار في شتى صوره، وإما إلى استعيابه وهضمه وتحويله من مثقف عضوي مبدع يتمتع باستقلال فكري وروحي ويعبر عن رؤية تاريخه وضمير ثقافي إلى مجرد موظف بيروقراطي تافه يوجه الأجهزة الإعلامية والتربوية والثقافية للنخبة السياسية الحاكمة صوب وعي الجماهير من أجل إفساد هذا الوعي وتخريبه وتفتيته وتتفيهه ولجم تطوره، ويعرّب الإعلام الإمبريالي المزيف، ويسوّغ التزوير الرسمي بتغليفه بهيبة تعبيرية. إنها تعمل باستمرار على تحويل المثقف العضوي من خدمة طبقة اجتماعية أو وطن أو أمة أو مشروع تاريخي إلى خدمة السلطان وأهدافه البراغماتية الوضيعة.

وهذه العملية المريعة تجعل من الطبقة السياسية العربية عدواً لدوداً للمثقف العضوي العربي بغض النظر عن رؤيته وآيديولوجيته، أي بحكم كونه مثقفاً عضوياً. كما إنها تجعل منها أداة رئيسية للجم تطور المجتمع العربي وتشويهه، ومن ثم لإدامة حالة التخلف والتبعية التي يعاني منها المجتمع العربي. وتقود هذه العملية إلى سيادة خطاب ثقافي متهافت يتسم بكونه خطاباً استشراقيا و/ أو سلفياً يجوهر الغرب والشرق كليهما، وبكونه يفتقد إلى التماسك المنطقي المفاهيمي، وبكونه عاجزاً عن خلق الأفكار والرؤى الجديدة، وبكونه ما قبل علمي في جوهره برغم ظاهره الحديث ما بعد العلمي. وتسعى الطبقة السياسية العربية إلى ترسيخ هذا الخطاب ما قبل العلمي في مجابهة خطاب التحرر القومي العلمي النقدي الثوري، فتشن حرباً ضروساً على خطاب التحرر القومي وعلى حامليه من المثقفين العضويين.

بقي أن نقول إن الطبقة السياسية العربية تمر اليوم في محنة لا مثيل لها، وذلك بفعل الظروف الدولية السياسية والاقتصادية الجديدة. فهي غدت عبئاً اقتصادياً على النظام الإمبريالي العالمي في ضوء أزمة المديونية وتفاقم أزمات المراكز الرأسمالية الكبرى. كما إن غياب الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أفقدها هامشاً مهماً من الحرية والحركة. وهي تجد نفسها اليوم بين نارين: (1) نار الإمبريالية الأمريكية والمؤسسات المالية والتجارية الدولية من جهة، تلك القوى التي تسعى إلى تفكيكها وتهميشها وتحويلها إلى مجرد قوة درك تضبط الجماهير العربية المجوعة والمحرومة والمحاصرة في كنتوناتها وحماية الأمن الإمبريالي والصهيوني، أي تحويلها إلى شرطة حكم ذاتي على غرار ما يحدث في الأرض المحتلة، الآمر الذي يفقدها هيبتها ومصدر ريعها الطبقي ويحولها من سيد شبه إقطاعي إلى جابٍ وحارس ؛ (2) نار الحركات الدينية التي تحمل في باطنها مشروع إعادة إنتاج حكم الطبقة السياسية العربية في ظروف التجويع والتقشف والتهميش، ومن ثم تشكل منافساً قوياً للطبقة السياسية القائمة. فهي تحمل إمكانية إعادة إنتاج البناء الاجتماعي القائم، ولكن على أنقاض الطبقة السياسية العربية الحالية التي ما عادت قادرة على إعادة إنتاجه في الظروف الجديدة. إنها واقعة بين نارين كلاهما حارق قاتل وبين مصيرين كلاهما قاتم. أما الحل بالنسبة إلى الجماهير العربية ومثقفيها العضويين، فيكمن في تخطي كلا المصيرين وتجاوزهما صوب حكم القوى الإنتاجية التنموية التي تسعى إلى توحيد إرادة الجماهير العربية وتحرير موارد الأمة العربية وتسخيرها لبناء قدرات الأمة وقواها الإنتاجية وفق خطة علمية مدروسة تنفذ ديموقراطياً. وهذا يستلزم بالطبع أن تفرز الجماهير الشعبية مثقفيها العضويين، وتوفر لهم سبل الحماية من تغوّل السلطة السياسية العربية والكمائن التي تنصبها لاقتناص أولئك المثقفين، وأن تبني مؤسساتها القادرة على استيعاب أولئك المثقفين من دون تقييدهم أو تحطيمهم وبما يتيح لهم المجال كاملاً لأداء أدوارهم القيادية. ولعل في مقدمة الآليات الثقافية التي تعمل على خلق المثقفين العضويين للجماهير الشعبية، أي مثقفي التحرر القومي العربي، ما أسميه الاستغراب، وهو العملية النقيض للاستشراق. وينطوي الاستغراب على مجابهة الثقافة الغربية الحديثة بكل تحدياتها وجموحها وجنونها ولانهائياتها مجابهة جدية تغوص إلى قلبها وتستنطقها وتعانيها وتنقدها صوب تخطيها مدخلة الذات العربية المستغربة في سيرورة ثورية دائمة تزلزل أسسها وثوابتها وتجعلها تتخطى نفسها باستمرار حتى تصل إلى العقل العلمي الثوري النقدي الذي يأبه الثبات والاستقرار. هذا هو التحدي الذي تفرضه علينا أزمة السلطة السياسية العربية المعاصرة: خلق عقل حركة التحرر القومي العربية وحامليه من المثقفين العضويين وشروط تكونه وفعله.