ميادين القتال التي تختارها الإمبريالية المعاصرة


سمير أمين
2011 / 8 / 9 - 09:16     

الشروط التي تضمن الرد الفعال من الجنوب


تقضي فنون الحرب بأن يختار كل محارب ميدان القتال الأكثر مناسبة له في حالة الهجوم، وأن يفرض ذلك الميدان على الخصم بحيث يضطر لاتخاذ موقف الدفاع. وتسري نفس القاعدة على السياسة سواء على المستوى الوطني أو العالمي.

ومنذ ما يقرب من ثلاثين عاماَ يفرض ثالوث الإمبريالية الجماعية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) ميدانين للقتال وهما الديمقراطية والبيئة، ويتمسك بهما للآن.

وتحاول هذه الدراسة أولاً أن تحدد المفاهيم والمضمون لكل من هذين الموضوعين الذين اختارهما ثالوث القوى الإمبريالية، وأن تقوم بتحليل انتقادي لهما من وجهة نظر مصالح الشعوب والأمم والدول الموجهان ضدها وهي بلدان الجنوب بعد بلدان الشرق السابق. ثم ننظر في دور الأدوات التي تستخدمها الإمبريالية لخوض معاركها، وهي: العولمة اللبرالية مع أيديولوجيتها (الاقتصاد التقليدي)، وعسكرة العولمة، والحكم الجيد، والمعونات، والحرب على الإرهاب ومعها الحرب الوقائية، وكذلك الأيديولوجيات المصاحبة (ثقافة ما بعد الحداثة). وسنحاول في كل مرة أن نبرز شروط رد الفعل الفعال من جانب الشعوب ودول الجنوب على تحديات إمبريالية الثالوث.



أولاً: الديمقراطية، أية ديمقراطية؟



لقد كانت فكرة عبقرية أن اختارت دبلوماسية حلف الأطلنطي في السبعينيات موضوع الديمقراطية لهجومها الموجه لتفكيك الاتحاد السوفييتي واستعادة بلدان شرق أوروبا. وقد تبلور هذا القرار في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وخاصة في التوقيع على معاهدة هلسنكي لعام 1975. ويشرح جاك أندرياني في كتابه المعنون: "الفخ: هلسنكي وسقوط الشيوعية" كيف أن السوفييت الذين توقعوا الحصول على نزع سلاح الناتو والوصول إلى حالة استرخاء حقيقي قد تعرضوا لخديعة من جانب قوى الغرب. [i]

لقد كانت ضربة عبقرية لأن قضية الديمقراطية كانت قضية حقيقية نظراً لأن الأنظمة السوفييتية لم تكن ديمقراطية كيفما عرفنا مبادئها وممارساتها. أما بلدان حلف الأطلنطي فكان من حقها أن تصف نفسها بالديمقراطية بغض النظر عن الحدود والتناقضات في ممارساتها السياسية الفعلية الخاضعة لمتطلبات إعادة إنتاج الرأسمالية. فالمقارنة بين النظامين كانت تعمل لصالحهم.

ثم جرى بالتدريج التخلي عن الحديث عن الديمقراطية وإحلال الحديث الذي أيده السوفييت عن "التعايش السلمي"، و"عدم التدخل في الشئون الداخلية" محله.

لقد كان للحديث عن التعايش السلمي بريقه في أيام نداء ستوكهولم في الخمسينيات عندما كان يذكر الناس بالخطر النووي الحقيقي المتضمن في الدبلوماسية العدوانية للولايات المتحدة الأمريكية منذ مؤتمر بوتسدام (1945) الذي تبعه بعد أيام الهجوم بالقنابل الذرية على اليابان.

وكان اختيار هذه الاستراتيجية (التعايش السلمي وعدم التدخل) مناسباً، حسب الظروف، لكلا الطرفين المسيطرين في الشرق والغرب، لأنه سمح بقبول التعريفين: الرأسمالي والاشتراكي على علاتهما لكل من بلدان الغرب والشرق. وقد استبعد أي نقاش جدي حول الطبيعة الدقيقة لأي من الطرفين: أي الرأسمالية القائمة بالفعل (الرأسمالية الاحتكارية)، وكذلك طبيعة الاشتراكية القائمة بالفعل. وقامت الأمم المتحدة (بالموافقة الضمنية لقوى الطرفين) بتغيير التعبيرين: الرأسمالية والاشتراكية، إلى اقتصاديات السوق، والاقتصاديات الموجهة مركزياً (وعلى سبيل التشويه: الاقتصاديات الموجهة إدارياً).

وهذان التعبيران، وكلاهما غير صحيح، أو صحيح بشكل سطحي فقط، جعلا من الممكن التأكيد على إمكانية التقاء النظامين، وهو التقاء تفرضه التكنولوجيا الحديثة (وهي نظرية خاطئة هي الأخرى مستمدة من نظرة أحادية تكنيكية للتاريخ). كذلك جرى قبول التعايش السلمي لتسهيل هذا الالتقاء، أو لإثبات العكس وهو التضاد المطلق بين النموذج "الديمقراطي" (المرتبط باقتصاد السوق)، و"الشمولية" (المرتبطة بالاقتصاد الموجه إدارياً)، وذلك في بعض اللحظات خلال الحرب الباردة.

واختيار التركيز على خوض المعركة في ميدان حديث الديمقراطية سمح بافتراض تحجر كل من النظامين، وبذلك صار الخيار الوحيد الممكن لبلدان الشرق هو الاستسلام والعودة للرأسمالية (أي السوق)، الذي سيؤدي عندئذ، وبشكل طبيعي، للمقرطة. أما أن هذا لم يحدث (لروسيا السوفيينية)، أو بشكل كاريكاتوري (لبعض الجماعات الإثنية هنا وهناك في أوروبا الشرقية) فأمر آخر.

واستخدام بلدان التحالف الأطلنطي لحديث الديمقراطية هو في الواقع أمر جديد، ففي أول الأمر كان الناتو يتعامل بسلاسة كاملة مع سالازار في البرتغال، ومع الجنرالات الأتراك، ومع الكولونيلات اليونانيين. وفي الوقت ذاته، دعمت دبلوماسية بلدان الثالوث (وكثيراً ما أقامت) أسوأ الدكتاتوريات التي شهدتها شعوب أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا.

وقد استخدم حديث الديمقراطية هذا في أول الأمر بحرص كبير، فقد تفهمت سلطات الناتو المشاكل التي قد تعرقل خططهم المفضلة للسياسات الواقعية. ولم تُفهم القيمة الأخلاقية للموعظة الديمقراطية إلا في عهد الرئيس كارتر (وهو ما يشبه أوضاع أوباما الآن). وكان ميتران في فرنسا هو الذي قبل التخلي عن سياسة ديجول في رفض انقسام أوروبا في ظل استراتيجية الحرب الباردة التي فرضتها الولايات المتحدة. وأثبتت خبرة جورباتشيف في الاتحاد السوفييتي فيما بعد، أن هذا الحديث أدى للكارثة.

وهكذا حقق الحديث الديمقراطي الجديد ثماره، فقد بدا مقنعاً لليسار الأوروبي بما سمح بتأييده، لا فقط من جانب اليسار الديمقراطي (الاشتراكيين)، ولكن أيضاً من جانب الأكثر راديكالية مثل الشيوعيين، وبانضمام الشيوعيين الأوروبيين صار التوافق عاماً.

وتعلمت الطبقات السائدة في الثالوث الإمبريالي الدرس من نجاحها، فقد قررت الاستمرار في استراتيجية التركيز على الجدل حول "قضية الديمقراطية". فالصين لا يوجه لها الانتقاد لفتح اقتصادها للعالم الخارجي وإنما لأن سياساتها يوجهها الحزب الشيوعي. ولا يهتم أحد بما حققته كوبا من منجزات اجتماعية لا مثيل لها في كامل أمريكا اللاتينية، ولكن يجري الانتقاد لنظام الحزب الواحد، بل يوجه نفس الحديث لروسيا بوتين.

فهل انتصار الديمقراطية هو الهدف الحقيقي لهذه الاستراتيجية؟ من السذاجة بمكان تصديق ذلك، فالهدف الوحيد هو أن يُفرض على البلدان الرافضة الانخراط فيما يسمى النظام العالمي اللبرالي. وهو هدف إمبريالي الغرض منه تحويل هذه البلدان إلى تخوم مسودة للنظام. وتحقيق هذا الهدف يعرقل في الواقع تطور الديمقراطية في البلدان المعنية وليس بالمرة تحقيق تقدم في اتجاه "قضية الديمقراطية".

إن فرص التقدم في طريق الديمقراطية للبلدان التي كانت تمارس الاشتراكية كما هي في الواقع، كانت أكبر بكثير في المدى المتوسط إن ام يكن في الحال. فقد كانت جدلية الصراع الاجتماعي ستتطور من تلقاء ذاتها لتتجاوز حدود الاشتراكية كما هي في الواقع للخروج من النفق.

وفي الواقع، لا يثار الحديث عن الديمقراطية إلا في حالة البلدان التي لا ترغب في الانفتاح على الاقتصاد العالمي المعولم. والعربية السعودية وباكستان دليل واضح على ذلك، وكذلك جورجيا وغيرها من البلدان الميالة لتحالف الأطلنطي.

وعلاوة على ذلك، ففي أحسن الأحوال، لا تتجاوز الصيغة الديمقراطية المقترحة الصورة الكاريكاتورية للانتخابات متعددة الأحزاب التي ارتبطت دائماً تقريباً بالتراجع الاجتماعي الذي تفرضه سيطرة الرأسمالية كما هي قائمة اليوم (أي الاحتكارية). وقد أضرت هذه الصيغة بالديمقراطية فعلاً مما دفع الكثير من الشعوب المرتبكة بسبب ذلك، للتوجه نحو الارتباط الديني أو العرقي بالماضي.

لذلك يصير من المهم جداً اليوم تدعيم الدور الانتقادي لليسار الراديكالي (وأؤكد هنا على الراديكالي لأن الانتقاد اليساري العام غامض ومربك). وبعبارة أخرى، ذلك الانتقاد الذي يربط بين مقرطة المجتمع (وليس مجرد إدارته السياسية) مع التقدم الاجتماعي (في اتجاه الاشتراكية). فمن وجهة نظر هذا الانتقاد، النضال من أجل المقرطة والنضال من أجل الاشتراكية كل لا يتجزأ. فلا اشتراكية بدون ديمقراطية، وكذلك لا يمكن تصور التقدم الديمقراطي بدون الهدف الاشتراكي.



ثانياً: البيئة أم النظرة الاشتراكية للقيمة الانتفاعية؟ قضية البيئة وما يسمى التنمية المستدامة



وهنا كذلك نبدأ بالاعتراف بوجود مشكلة حقيقية، وهي تدمير البيئة الطبيعية، وفي نهاية المطاف مشكلة بقاء الحياة على كوكب الأرض، وهي المشكلة التي تسبب فيها منطق التراكم الرأسمالي.

وهنا كذلك بدأت القضية في السبعينيات وبالتحديد من مؤتمر ستوكهولم في عام 1972. ولكنها بقيت في مرتبة متأخرة من الخطاب السائد حول إدارة الاقتصاد، ولم ترفع إلى مستوى الأداة المهمة في الاستراتيجية السائدة إلا مؤخراً.

وهكذا لم تظهر الترجمة الإنجليزية لكتاب فاكيرناجيل وريس الذي حمل تأملاً جاداً من وجهة نظر الفكر الاجتماعي الراديكالي حول مستقبل هذه القضية إلا في عام 1996. [ii]

ولم يكتفِ فاكيرناجيل وريس من التقدم بمفهوم جديد وهو "موطئ القدم البيئي" ولكنهما وضعا نظاماً لقياس ذلك المفهوم بوحدات "الهكتارات الكوكبية"، التي تقارن قدرة المجتمعات/البلدان الحيوية (أي قدرتها على إنتاج وإعادة إنتاج الحياة على الكوكب) باستهلاك تلك الجماعات/البلدان للموارد المتاحة لها من خلال تلك القدرة الحيوية.

وقد توصل المؤلفان لنتائج خطيرة للغاية، فقد وجدا أن القدرة الحيوية للكوكب هي 2,1 هكتار كوكبي للفرد الواحد، أي أن المجموع الذي يقابل 6,3 مليار فرد يعيشون حالياً على سطح الأرض هو 13,2 مليار هكتار كوكبي. ولكنه تبين لهما أن متوسط استهلاك الموارد العالمية قد بلغ ـ في منتصف تسعينيات القرن الماضي ـ 2,7 هكتار كوكبي للفرد، وهذا المتوسط يخفي حقيقة التباين الخطير بين البلدان المختلفة، فمتوسط استهلاك الفرد في بلدان الثالوث الإمبريالي يساوي أربعة أضعاف المتوسط العالمي. وهذا يعني أن بلدان المركز قد استولت على جزء كبير من القدرة الحيوية لمجتمعات الجنوب لمصلحتها الخاصة. وبعبارة أخرى، فإن توسع الرأسمالية القائمة بالفعل يقوم حاليا بتدمير الكوكب والبشرية (حيث تجاوز الاستهلاك الفعلي للقدرة الحيوية مجموع القدرة الحيوية للكوكب). وفضلاً عن ذلك فإن منطق الاستمرار في هذا التوسع يقتضي إما عملية إبادة فعلية لهذه المليارات من شعوب الجنوب التي تقف في الطريق، أو الإبقاء عليها في حالة من الفقر المتزايد طوال الوقت. وينمو حالياً تيار فاشي بيئي يعطي شرعية لهذا النوع من الحل.

وتنبع أهمية هذه الدراسة من أنها لا تكتفي بحساب (وأؤكد هنا على فكرة الحساب وليس مجرد خطاب) القيمة الانتفاعية لكوكب الأرض وتقديرها بالهكتارات الكوكبية وليس بالدولارات، وذلك بغض النظر عن النتائج التي توصلا إليها.

وهكذا ثبت أنه من الممكن قياس القيمة الانتفاعية الاجتماعية بطريقة علمية رشيدة، وهذا أمر له أثر حاسم حيث إن الاشتراكية يجري تعريفها على أنها مجتمع مبني على القيمة الانتفاعية وليس القيمة التبادلية. وقد جادل المدافعون عن رأسمالية نهاية التاريخ دائماً بأن الاشتراكية هي عالم مثالي غير واقعي لأن القيمة الانتفاعية ـ في رأيهم ـ لا يمكن قياسها إلا بالمقارنة بالقيمة التبادلية (على أساس "المنفعة" قي أدبيات الاقتصاد الشائع).

وأخذ القيمة الانتفاعية في الاعتبار (وموطئ القدم البيئية هو أول مثال جيد لذلك)، يعني أن الاشتراكية يجب أن تكون "بيئية" ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، وقد عبر ألفاتار عن ذلك بالقول: "الاشتراكية الشمسية أو لا اشتراكية". [iii] ولكن ذلك يعني كذلك أنه من المستحيل على أي نظام رأسمالي، حتى لو جرى إصلاحه، أن يحقق ذلك كما سنثبت لاحقاً.

ولم يكتفِ ماركس بالحدس بقيام هذه المشكلة، ولكنه قدم دراسة جادة تثبت ضرورة التمييز بين القيمة والثروة، الأمر الذي تنكره أدبيات الاقتصاد الشائع. وقد قال بوضوح إن التراكم الرأسمالي يدمر الأساس الطبيعي الذي يقوم عليه وهو الإنسان (أي العمال المغربون والمستغلون والمسودون والمعرضون للاستبداد) والأرض (وهو ما يرمز للثروة الطبيعية المتاحة للإنسانية). ورغما عن محدودية هذا التعبير، وهو بالطبع أسير لعصره، فإنه يعبر عن رؤية ثاقبة للمشكلة (تتجاوز مجرد الحدس) يجب أن نقدرها.

وعلى ذلك فمن المؤسف أن علماء البيئة في عصرنا، بمن فيهم فاكيرناجل وريس، لم يقرأوا ماركس، فقد كان ذلك جديراً بأن يدفعهم لتطوير اقتراحاتهم، وأن يقدروا أثرها الثوري بشكل أكبر، وبالطبع كانوا سيتجاوزون ما وصل إليه ماركس في الموضوع.

وهذا النقص في النظرة الحديثة للبيئة يجعل من السهل على الاقتصاد الشائع وهو في وضع السيطرة اليوم، أن يستولي عليها، وهو أمر يجري حالياً، بل قد وصل إلى وضع متقدم.

وقد ظهرت البيئة كتيار سياسي كما عبر عنها ألان ليبيتز، أول الأمر بين صفوف اليسار السياسي الميال للاشتراكية. وبعدها صُنفت حركة الخضر، ثم أحزاب الخضر على أنها تنتمي ليسار الوسط لتعاطفها مع مبادئ العدالة الاجتماعية والدولية، وانتقادها "لتبديد الموارد" وتعاطفها مع العمال والشعوب الفقيرة. ولكن، بغض النظر عن تعددية هذه الحركات، فإن أياً منها لم تُقِم علاقة ثابتة بين البعد الاشتراكي الضروري للرد على التحديات وبين البعد البيئي الضروري هو الآخر. ولتحقيق هذا الترابط لا مندوحة عن الرجوع للتفرقة بين القيمة والثروة كما عبر عنها ماركس قديماً.

واستيلاء الأيديولوجيا الشائعة على فكر البيئة يجري على مستويين، أولاً بتحويل حساب القيمة الانتفاعية إلى مجرد قيمة تبادلية مُحسنة، وثانياً باستقطاب التحدي الإيكولوجي إلى إيديولوجيا "توافقية". وكل من هاتين العمليتين تمنعان الرؤية الواضحة للتعارض المطلق بين الرأسمالية والإيكولوجيا (علم البيئة).

ويقوم الاقتصاد الشائع باستيعاب الحسابات البيئية بسرعة رهيبة، وقد جُند الآلاف من شباب الباحثين في الولايات المتحدة، وبالتبعية في أوروبا، للقيام بذلك.

ويجري حساب "التكلفة البيئية" على أساس الظواهر الخارجية، فيجري تحليل التكلفة/المنفعة لحساب القيمة التبادلية (وهي ذاتها تُسوى بالقيمة السوقية) للوصول إلى "ثمن عادل" يتضمن الاقتصاد الخارجي واللااقتصاد، وهكذا تمر الخديعة.

وبالطبع ليس هناك ما يدل على أن النتيجة التي تتوصل إليها هذه الحسابات المعقدة للثمن العادل هي ذات القيمة السوقية الفعلية لهذا الثمن. وقد تكون هناك حوافز ضريبية وغيرها لتحقيق هذا التقارب، ولكن ليس هناك ما يثبت ذلك في الواقع.

وكما هو واضح فقد استغلت الاحتكارات العالمية بالفعل موضوع البيئة لتبرير فتح ميادين جديدة لتوسعها المدمر. وقد أعطى فرانسوا أوتار مثالاً رائعاً على ذلك في كتابه عن الوقود النباتي (أو الأخضر). [iv] والرأسمالية الخضراء هي اليوم على رأس قائمة الأعمال لأولئك القائمين على رأس السلطة في بلدان الثالوث (يميناً ويساراً)، ولمديري الاحتكارات. والبيئة المعنية تنتمي لما يسمى "بالاستدامة الضعيفة" (حسب اللغة الشائعة) أي لمبادلة "حقوق استخدام موارد الأرض". [v] وانضم جميع الاقتصاديون التقليديون لهذا الموقف، حيث يقترحون "طرح موارد الأرض في المزاد (أي مصايد الأسماك، وحقوق التلويث، الخ.) وهذا يعني تدعيم طموح الاحتكارات العالمية لارتهان مستقبل شعوب الجنوب أكثر من ذي قبل.

واستيلاء الإمبريالية على خطاب البيئة هذا حقق لها خدمة كبيرة، فقد سمح بتهميش، إن لم يكن استبعاد قضية التنمية. وكما نعلم فقضية التنمية لم تكن على الأجندا الدولية إلا عندما استطاعت بلدان الجنوب فرضها بمبادرتها الخاصة واضطرت بلدان الثالوث إلى التفاوض وتقديم التنازلات. ولكن بمجرد انقضاء مرحلة باندونج لم تعد المشكلة قضية التنمية بل مجرد فتح الأسواق. والبيئة كما تفسرها القوى المسيطرة، لا تعدو أن تكون امتداداً لهذا الاتجاه (أي فتح الأسواق).

ويجري كذلك على قدم وساق استيعاب الخطاب البيئي ضمن سياسات التوافق (وهي التعبير عن رأسمالية نهاية التاريخ).

وقد جرى هذا الاستيلاء بسهولة لأنه يتفق مع الأوهام والتغريبات المرتبطة بالثقافة السائدة وهي الرأسمالية. ومما سهل ذلك أن هذه الثقافة موجودة بالفعل، وسائدة في أذهان أغلب الناس، في الجنوب كما في الشمال.

وفي المقابل، يصعب التعبير عن احتياجات الثقافة الاشتراكية المضادة، إذ لا توجد ثقافة اشتراكية أمامنا. فهي ثقافة المستقبل التي يجب أن بجري اختراعها، أي مشروع حضارة مفتوحة لجميع التصورات. ولا تكفي صيغ مثل "بناء الاشتراكية عن طريق الديمقراطية وليس السوق"، أو "السيطرة الثقافية بدلاً من الاقتصاد الذي تخدمه السياسة"، رغم نجاحها في تحريك مبادرة عملية التحرك التاريخية. إنها ستكون عملية طويلة "قرنية" أن يجري بناء المجتمعات على أسس غير رأسمالية، سواء في الشمال أو الجنوب، ولا يمكن أن تجري بسرعة. ولكن بناء المستقبل مهما كان بعيداً يبدأ اليوم.



ثالثاً: الاقتصاد التقليدي: أداة أيديولوجية مركزية لإعادة إنتاج الرأسمالية



يشير خطاب الاقتصاد التقليدي إلى النظام الحالي بوصفه "اقتصاد السوق"، وهذا وصف غير كافٍ بل مضلل، فهو قد يصف الاقتصاد البريطاني في القرن التاسع عشر، أو الصين في عهد دولة سونج أو مينج، أو المدن الإيطالية في عصر النهضة.

وكانت نظرية اقتصاد السوق دائماً هي أساس "الاقتصاد الشائع"، وهي تلغي الحقيقة الجوهرية بأكملها، وهي علاقات الإنتاج الاجتماعية (وخاصة المِلكية بصفتها التعبير المباشر عن هذه العلاقات، والتي ترفع لمرتبة التقديس). ويحل مكانها افتراض مجتمع مكون من أفراد (هم الذين يلعبون الدور الأساسي في إعادة بناء النظام وتطويره). وهؤلاء "الأفراد" لا تاريخيين مثلهم مثل أولئك الذين منذ بدء تاريخ الإنسانية (مثل روبنسون كروزو) لهم ذات الصفات الثابتة (الأنانية، والقدرة على اتخاذ القرارات التي تخدم ذواتهم). وبناء "اقتصاد السوق" على هذه الأسس لا يعبر بصدق عن الرأسمالية التاريخية الحقيقية، بل يبني نظاماً خيالياً لا يتضمن أياً من القسمات الجوهرية للرأسمالية الحقيقية.

ويكشف كتاب رأس المال لماركس الطبيعة الأيديولوجية (بالمعنى الوظيفي للكلمة) لهذا البناء للاقتصاد الشائع منذ فردريك باستيا، وجان باتيست سي، وهي ببساطة إسباغ الشرعية على النظام الاجتماعي القائم، ووصفه بالنظام الطبيعي العقلاني. أما نظريات القيمة التالية ـ عن المنفعة، والتوازن الاقتصادي العام، التي طُورت رداً على ماركس في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وكذلك وريثتها من الدراسات الاقتصادية الرياضاتية المعاصرة، والمسماة بالكلاسيكية، أو النيو كلاسيكية، أو اللبرالية، أو النيولبرالية (والتسمية لا تهم في الواقع) ـ لا تبتعد عن الإطار الذي تضعه المبادئ الأساسية للاقتصاد الشائع.

وخطاب الاقتصاد الشائع يساعد على إنتاج وإعادة إنتاج الرأسمالية كما هي قائمة اليوم. وهي تمتدح المنافسة فوق أي شيء آخر، إذ تعتبرها الشرط الضروري "للتقدم". وهي لا تمنح هذا المديح لقيمة التضامن (رغم وجود أمثلة تاريخية على ذلك) التي تقيدها داخل حدود العمل الخيري والتعاطف. والمنافسة قد تقع بين "المنتجين" (أي الرأسماليين دون النظر للطبيعة الاحتكارية للإنتاج الرأسمالي حالياً)، أو بين العمال (بافتراض أن العاطلين أو الفقراء هم المسئولون عن أوضاعهم). وتدعم مفهوم المنافسة العبارات الحديثة (مثل الحديث عن شركاء اجتماعيين بدلاً من الطبقات المتصارعة)، وكذلك بعض الممارسات مثل محكمة الخدمة المدنية للاتحاد الأوروبي التي تعمل بتشدد على تفكيك النقابات بوصفها عقبة في سبيل المنافسة بين العمال.

والاستخدام المنفرد لمبدأ المنافسة يدفع المجتمع لدعم هدف تحقيق "التوافق" الأمر الذي يستبعد أي مستقبل متخيل لمجتمع آخر مبني على التضامن. وهذه الأيديولوجية المتعلقة بمجتمع التوافق في طريقها للاعتماد في أوروبا، وهي تدمر قدرة الرسالة الديمقراطية على تحقيق التحولات المرغوبة. وهي توحي بالرسالة اللبرالية اليمينية التي تعتبر الدولة ـ أياً كانت طبيعتها ـ "عدواً للحرية" (مما يعني أنها عدو للمنشأة الرأسمالية الحرة)، في حين تبتعد ممارسة الديمقراطية عن التقدم الاجتماعي.



رابعاً: هناك مشاكل حقيقية في العالم المعاصر أكثر من مجرد الاقتصاد الشائع



يستبعد الاقتصاد الشائع بكل بساطة من تحليله المشاكل الحقيقية الرئيسية التي يفرضها انتشار الرأسمالية التاريخية في غزوها للعالم. وسنستعرض باختصار أهم هذه القضايا:



في القلب من مشاكل اليوم، رأسمالية الاحتكارات المالية العامة المعولمة.



لقد بلغت الرأسمالية درجة من التكثيف والتمركز لرأس المال لا مقارنة بينها وبين أوضاعها منذ خمسين عاماً، ولذلك أسميها رأسمالية الاحتكارات المعممة. والاحتكارات ليست بأي حال اختراعاً جديداً في التاريخ الحديث، ولكن الجديد هو العدد المحدود للاحتكارات المسجلة (أو المجموعات) وتبلغ حوالي الخمسمائة إذا اعتبرنا الهائلة الحجم منها فقط، وتصل إلى ما بين 3000 إلى 5000، إذا حصرناها جميعاً. وهي تتحكم عن طريق قراراتها في مجموع الحياة الاقتصادية للكوكب بل أكثر. وبذلك تكون رأسمالية الاحتكارات المعممة هذه قفزة نوعية للأمام بالنسبة للتطور العام للرأسمالية.

وعادة ما يكون التفسير الوحيد المقدم لهذا التطور هو أنه ناتج عن التطور التكنولوجي، وهذا تفسير صحيح جزئياً فقط، كما أن الاختراعات التكنولوجية ذاتها تتحكم فيها متطلبات التركيز والضخامة. بل إنه في كثير من أنواع الإنتاج يكون الحجم الصغير أو المتوسط للمنشأة هو الأكثر كفاءة. وهذا هو الحال في الإنتاج الزراعي على سبيل المثال، حيث ثبت أن الإنتاج العائلي الحديث يتميز بأعلى كفاءة. وينطبق هذا على الكثير من أنواع إنتاج السلع والخدمات التي تخضع حالياً للاحتكارات التي تتحكم في قدرتها على البقاء.

وفي الواقع فإن السبب الرئيسي لطلب الضخامة هو الرغبة في تحقيق أكبر ربح مما يفيد المجموعات الكبرى التي تصل إلى أسواق المال بسهولة. وكان التركيز دائماً هو رد فعل رأس المال على الأزمات الطويلة العميقة التي ميزت تاريخه. وقد حدث ذلك لأول مرة بعد الأزمة التي بدأت في السبعينيات من القرن التاسع عشر، ثم حدث مرة أخرى بعد قرن كامل تقريباً أي في سبعينيات القرن العشرين.

وهذا التركيز هو الذي أدى لإسباغ الطبيعة المالية على النظام، لأنها الطريقة التي تمتص عن طريقها الاحتكارات المعممة فائض القيمة العالمي الناشئ من عملية الإنتاج، وهو "ريع احتكاري" يسمح لمجموعات الاحتكارات هذه برفع معدلات الربح. وتحصل الاحتكارات على هذه "الجزية" لمجرد سيطرتها المنفردة على أسواق المال التي صارت الأسواق السائدة أو المسيطرة.

وعلى ذلك فتحويل النظام لهذه السيطرة المالية ليس نتيجة إلغاء القيود على أسواق المال، ولا هو ناشئ عن أحداث عارضة (مثل قضية الرهون العقارية)، التي يحرف إليها الاقتصاد الشائع والخطاب السياسي المصاحب له الاهتمام عادة، بل هو المتطلبات الضرورية لإعادة إنتاج الاحتكارات المعممة. أو بعبارة أخرى، إلى أن يجري تحدي الطبيعة الخاصة لهذه الاحتكارات فلا معنى للحديث عن "تقنين" أسواق المال.

ورأسمالية الاحتكارات المعممة ذات الطبيعة المالية هي في الوقت نفسه معولمة. وهنا أيضاً نلاحظ أن العولمة ليست صفة جديدة للرأسمالية، فقد كات دوماً معولمة. بل إنني قد جادلت دائماً بأن الرأسمالية المعولمة كانت دائماً استقطابية (أي أنها توسع باستمرار من الهوة بين مراكز النظام "المتطورة" وبين تخومه المسودة). وقد حدث هذا في جميع مراحل التوسع الرأسمالي الماضية والحاضرة، وكذلك في المستقبل المنظور. وقد تقدمت كذلك بالفرض القائل بأن المرحلة الجديدة من العولمة كانت مرتبطة بالضرورة بظهور "الإمبريالية الجماعية للثالوث".

والعولمة الجديدة لا يمكن فصلها عن السيطرة المنفردة للإمبريالية الجماعية على الموارد الطبيعية للكوكب، ومن هنا فإن التناقض المركز/التخوم ـ أو باللغة الشائعة صراع الشمال/الجنوب ـ هو أمر مركزي بالنسبة لأي تحول في طبيعة الرأسمالية كما هي قائمة اليوم. ويحتاج هذا الأمر أكثر من أي وقت مضى، إلى "السيطرة العسكرية على العالم" من جانب المركز الإمبريالي الجماعي.

أما "الأزمات النظامية" التي جرى دراستها وتحليلها ـ أزمة أنظمة الإنتاج المبددة للطاقة، أزمة الغذاء والأزمة الزراعية، الخ. ـ فهي لا تنفصم عن متطلبات إعادة إنتاج رأس المال للاحتكارات المعممة ذات الطبيعة المالية المعولمة. وإذا لم يُطعن في وضع هذه الاحتكارات فإن أية سياسات لحل هذه الأزمات ـ مثل صيغ "التنمية المستدامة" ـ تبقى ثرثرة خالية من أي مضمون.

وهكذا صارت رأسمالية هذه الاحتكارات المعممة ذات الطبيعة المالية والمعولمة نظاماً "عفا عليه الزمن"، بمعنى أن تشريك هذه الاحتكارات، أي إلغاء طبيعتها الخاصة(تحويلها للملكية الاشتراكية)، يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي الأساسي في أي تحليل انتقادي حقيقي للعالم كما هو. وإذا لم يحدث هذا، فالنظام بطبيعته لا بد أن ينتج تدميراً أشد وأشد بما في ذلك تدمير الكوكب ذاته. وهو سيؤدي بالقطع إلى تدمير مجتمعات التخوم، سواء منها ما يُطلق عليه اسم البلدان "البازغة" أو تلك المُهمشة.

ومرحلة التقادم هذه التي بلغها النظام في تطوره لا تنفصل عن تغيرات مناظرة في بنية الطبقات الحاكمة (البرجوازية)، والممارسات السياسية، والأيديولوجية والثقافة السياسية. والبرجوازية التاريخية تختفي من المسرح اليوم وتحل محلها البلوتوقراطية أو مديري الاحتكارات الأثرياء. ويسير مع هذا التطور بالضرورة تراخٍ في ممارسات الديمقراطية الفارغة من المضمون، وظهور تعبيرات أيديولوجية غاية في الرجعية.

ويجري تسلط الاحتكارات المعممة في بلدان الثالوث أو المركز تحت شروط تختلف عن تلك التي تجري بها في تخوم النظام، وبوسائل مختلفة. وهو اختلاف جوهري وفهمه ضروري لتحديد التناقضات الرئيسية للنظام، ثم تصور التغيرات الممكنة في الصراع بين الشمال والجنوب الذي سيتفاقم غالباً.

والثالوث يجمع الولايات المتحدة وولاياتها الخارجية (كندا وأستراليا)، وأوروبا الغربية، واليابان، والاحتكارات المعولمة هي نتاج تركيز رأس المال الوطني لهذه البلدان التي تكون الثالوث. أما بلدان شرق أوروبا حتى تلك المنضمة للاتحاد الأوروبي فلا تملك احتكارات وطنية، وهي لذلك لا تمثل إلا مجالاً إضافياَ للاستغلال للاحتكارات الغربية (خصوصاً الألمانية)، وهي لذلك تُعد في حكم التخوم، وعلاقاتها غير المتكافئة مع أوروبا الغربية تشابه، بعد إجراء التغيرات المناسبة، تلك التي تربط بلدان أمريكا اللاتينية بالولايات المتحدة (وكذلك بأوروبا الغربية واليابان).

وفي بلدان الثالوث تشغل الاحتكارات المعممة المسرح بالكامل في مجال اتخاذ القرارات الاقتصادية، وهي تمارس نفوذها مباشرة على الشركات الكبرى المنتجة للسلع والخدمات وكذلك المؤسسات المالية (البنوك وغيرها) التابعة لها. وهي تمارس هذا النفوذ بشكل غير مباشر على جميع المشروعات الصغيرة والمتوسطة (بما فيها الزراعية وغيرها من مجالات الإنتاج) والتي كثيراً ما تتحول إلى موردين من الباطن يخضعون لقيود الاحتكارات المعممة في جميع مراحل نشاطهم. وتمارس هذه الاحتكارات نفوذها في بلدان التخوم بوسائل مختلفة سنعود إليها فيما يلي.

ولا تسيطر الاحتكارات على الحياة الاقتصادية في بلدان الثالوث فحسب، وإنما تحتكر كذلك السلطة السياسية بما يخدم مصالحها، حيث تدين لها الأحزاب السياسية (من اليمين واليسار). ويعتبر هذا الوضع، حالياً وفي المستقبل المنظور، "شرعياً" رغم ما يعنيه ذلك من تهوين من قيمة الديمقراطية. ولن يتأثر هذا الوضع إلى أن تظهر، في مستقبل ما، "جبهات معادية للمديرين الأثرياء" (البلوتوقراط) وتضع على أجندتها إلغاء الإدارة الخاصة للاحتكارات وتشريكها في أشكال معقدة ومتطورة صراحة.

وتمارس الاحتكارات المعممة نفوذها في التخوم بطرائق مختلفة تماماً. فرغم أن نقل المصانع والتشغيل من الباطن قد أعطى الاحتكارات بعض القدرة للتدخل مباشرة في الحياة الاقتصادية للبلدان المختلفة، ولكنها تبقى بلداناً مستقلة تسيطر عليها الطبقات المحلية الحاكمة، وعلى الاحتكارات المعممة أن تتعامل من خلالها. وهناك عدد كبير من الصيغ التي تحكم هذه العلاقات، ابتداء من الخضوع المباشر للطبقات الحاكمة في البلدان التي تحولت للكومبرادورية (أي أُعيد استعمارها)، وخاصة في البلدان المهمشة من التخوم (في أفريقيا وغيرها)، إلى المفاوضات الصعبة أحياناً (مع ضرورة عمل تنازلات متبادلة) مع الطبقات الحاكمة خاصة في البلدان "البازغة" وأهمها الصين.

وهناك كذلك احتكارات معممة في بلدان الجنوب، وهي شركات القطاع العام الكبرى في بلدان الاشتراكية كما هي في الواقع (في الصين طبعاً كما في الاتحاد السوفييتي السابق وكذلك بحجم أقل في كوبا وفيتنام). وكذلك كان الحال في الهند والبرازيل وغيرها من بلدان الجنوب الرأسمالي. وبعض هذه الاحتكارات كان لها وضع عام أو شبه عام، وبعضها قطاع خاص. ومع تعمق العولمة، بدأت بعض هذه الاحتكارات (عامة وخاصة) في التوسع خارج حدودها وفي اتباع وسائل احتكارات الثالوث، ولكن توسع احتكارات الجنوب خارج حدودها بقي، وسيبقى لوقت طويل، هامشياً بالنسبة لتوسع احتكارات الشمال. وفضلاً عن ذلك فاحتكارات الجنوب لم تستولِ على السلطة السياسية في بلدانها لمصلحتها المنفردة. وفي الصين ما زالت الطبقة السياسية الحاكمة في دولة الحزب تسيطر على قلب السلطة. وفي روسيا أعاد مُركب الاحتكارات العامة/الخاصة السلطة مرة أخرى للدولة التي كانت قد فقدتها لبعض الوقت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي الهند والبرازيل وغيرها من بلدان الجنوب، فإن سلطة الاحتكارات ليست منفردة، وتبقى السلطة بين أيدي مجموعات قائدة متسعة تشمل البرجوازية الوطنية، والطبقات المتوسطة، وملاك الأبعاديات الشاسعة، وأغنياء الفلاحين.

وتجعل هذه الأوضاع المختلفة من الضروري عدم الخلط بين وضع الدولة في بلدان الثالوث (حيث تعمل الدولة للمصلحة المنفردة للاحتكارات وحيث لا زالت تحتفظ بالشرعية) وبين الدولة في التخوم. فهذه الأخيرة لم تتمتع أبداً بشرعية دولة المراكز، ومن الممكن أن تفقد القليل من الشرعية الذي تملكه. فمن يسيطرون على السلطة ضعفاء ويتعرضون لأخطار الصراع الاجتماعي والسياسي.

ولا شك أن الفرض المستمد من النظرة الخطية "لمراحل التطور" (التي قدمها روستوف في عام 1960) والتي تقول بأن هذا التعرض للخطر عابر وقابل للزوال مع نمو الرأسمالية المحلية المندمجة في العولمة، غير صحيح حتى بالنسبة للبلدان البازغة. ولكن الفكر والاقتصاد الشائعين لا تملك القدرة الثقافية لفهم استحالة "اللحاق" في داخل النظام، وأن الفجوة بين المراكز والتخوم لن تختفي تدريجياً.

والاحتكارات المعممة والسلطات التي تخدمها في بلدان الثالوث مهتمة أساساً "بالخروج من الأزمة المالية" وإعادة النظام إلى ما كان عليه. وهناك من الأسباب ما يدل على أن هذه العودة، وهي ليست مستحيلة وإن كانت أصعب كثيراً مما تبدو، لن تكون مستدامة لأنها تعني الرجوع إلى التوسع المالي الأمر الجوهري للاحتكارات المعممة لأنه وسيلتها لانتزاع الريع الاحتكاري لمصلحتها الخاصة. ولذلك فهناك احتمال لحدوث انهيار آخر أكثر دوياً من انهيار عام 2008. وعلى أية حال، فإن إعادة النظام بهدف السماح للاحتكارات بالعودة إلى التوسع في نشاطاتها سيعني التوسع في عملية التراكم عن طريق استنزاف شعوب الجنوب (عن طريق الاستحواذ على مواردها الطبيعية بما فيها الأراضي الزراعية). ولن يتغلب الخطاب البيئي عن "التنمية المستدامة" على منطق توسع الاحتكارات الذي يبدو أنه يستحوذ ظاهرياً على هذا الخطاب كما نراه بالفعل.

وستكون الضحية الأساسية لهذه الإعادة هي أمم الجنوب سواء في البلدان البازغة أو غيرها.

وهكذا فالصراعات بين الشمال والجنوب مرشحة للتفاقم في المستقبل، وبذلك يكون رد الجنوب على هذه التحديات محورياً في تحدي النظام العولمي بأكمله. وهذا لن يعني التشكيك مباشرة في الرأسمالية، ولكنه بالتأكيد يعني التشكيك في شرعية العولمة التي توجهها الاحتكارات المعممة المسيطرة.

ويجب أن يركز رد الجنوب على تسليح شعوبها ودولها في مواجهة عدوان احتكارات الثالوث، وتسهيل "فك الارتباط" مع النظام المعولم الحالي وتدعيم أشكال بديلة من التعاون المتعدد الأطراف جنوب/جنوب.

ولا شك أن تحدي وضع الملكية الخاصة للاحتكارات المعممة من جانب شعوب الشمال ذاتها (أي قيام الجبهة المعادية للبلوتوقراط) هدف استراتيجي مطلق من أجل تحرير العمال والشعوب. ولكن هذا الهدف لم ينضج سياسياً بعد، وليس من المنتظر تحقيقه في المستقبل القريب، ولكن في الوقت الحالي، من المنتظر أن تحتل الصراعات بين الشمال والجنوب مركز الصدارة على المسرح.



الرأسمالية مرحلة عابرة في التاريخ



إن مبدأ التراكم بلا توقف الذي يميز الرأسمالية يعني النمو بقيمة متصاعدة أو أسية وهذا يؤدي مثل السرطان إلى الموت. وستوارت ميل الذي فهم هذه الصفة تصور أن "الدولة الثابتة" ستضع حداً لهذه العملية غير الرشيدة، وشاركه كينز في هذا الاعتماد على العقلانية. ولكن لم بستطع أياً منهما تصور كيفية فرض هذا التوقف على الرأسمالية. أما ماركس الذي حدد دور الصراع الطبقي فقد تصور الطريقة للتغلب على سلطة الطبقة الرأسمالية التي تتركز اليوم في يد الأوليجاركية (ملاك السلطة والثروة).

والتراكم الذي يعني دوماً الإفقار هو الخلفية الموضوعية للصراع ضد الرأسمالية، ولكنه يجري أساساً من خلال التناقض بين رفاهية مجتمعات المركز التي تستفيد من الريع الإمبريالي وبين بؤس مجتمعات التخوم المسودة. وبذلك يكون هذا الصراع هو الموضوع المركزي للبديل: الاشتراكية أو البربرية.

وتاريخياً اتخذت الرأسمالية كما هي قائمة عدة أشكال من التراكم عن طريق النهب لا خلال مراحلها الأولى فقط (التراكم الأولي) ولكن طوال مراحل تطورها. وبمجرد قيامها عمدت رأسمالية الأطلنطي هذه إلى غزو العالم وإعادة بنائه على نمط النهب المستمر للمناطق التي سيطرت عليها والتي صارت بذلك التخوم المسودة للنظام. [vi]

ولم تستطع هذه العولمة المنتصرة أن تفرض سيطرتها الدائمة، فبعد أقل من نصف قرن بعد هذا الانتصار الذي كان من الممكن أن يُطلق عليه "نهاية التاريخ"، تحدته ثورة شبه التُخُم الروسية، وصراعات التحرير المنتصرة في آسيا وأفريقيا التي ميزت تاريخ القرن العشرين، وهي الموجة الأولى من الصراع لتحرير العمال والشعوب.

ويستمر التراكم عن طريق النهب تحت عيوننا في عهد رأسمالية الاحتكارات المعاصرة. ففي المراكز يعني استحواذ ملاك (حكام) الاحتكارات المعممة على الريع الاحتكاري، نهب القاعدة المنتجة للمجتمع بأكملها. وفي التخوم يجري نهب الفلاحين، وكذلك الموارد الطبيعية للمناطق المعنية. وهذه الممارسات هي الأدوات الأساسية لاستراتيجيات التوسع لرأسمالية الاحتكارات المعممة للعصر الحالي.

وفي هذا الإطار، أضع "قضية الزراعة" الجديدة كجوهر التحدي للقرن الواحد والعشرين، فنهب الفلاحين (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) يمثل الشكل المعاصر للإفقار (بالمعنى الذي قصده ماركس لهذا القانون) المرتبط بالتراكم. ولا يمكن الفصل بينه وبين انتزاع الريع لحساب الاحتكارات الإمبريالية سواء لإنتاج الوقود الزراعي أو بدون ذلك. وأستنتج من ذلك أن تطور الصراع حول الأرض، والرد الذي ستعطيه هذه الصراعات سيقرر مستقبل المجتمعات الفلاحية في الجنوب (أي نصف البشرية)، ويحدد قدرة العمال والشعوب على التقدم نحو حضارة حقيقية متحررة من سيطرة رأس المال لا أجد لها اسماً غير "الاشتراكية".[vii]

ونهب الموارد الطبيعية للجنوب يسمح باستمرار الاستهلاك المبدد للمصلحة المنفردة لمجتمعات الشمال، ويلغي أية إمكانية لتنمية تستحق هذا الاسم لشعوب الجنوب، وتمثل بذلك الوجه الآخر للميدالية بالنسبة للإفقار على المستوى العالمي. وعلى ذلك فأزمة الطاقة ليست نتيجة لنقص بعض الموارد اللازمة لإنتاجها (البترول بالطبع)، ولا هي نتيجة للأساليب الحالية للإنتاج التي تستهلك الطاقة بشراهة. ورغم أن هذه الأسباب حقيقية إلا أنها تمثل الأشكال الظاهرة والمباشرة للمشكلة. لكن هذه الأزمة نتجت عن رغبة الاحتكارات المعممة للإمبريالية الجماعية أن تحتكر لنفسها الحصول على الموارد الطبيعية للكوكب، سواء أكانت نادرة أم لا، بهدف الحصول على الريع الإمبريالي، وذلك بغض النظر عن استمرار استخدام هذه الموارد بالطريقة الحالية (المبددة والشرهة للطاقة)، أو استخدامها طبقاً لسياسات محسنة جديدة مقبولة "إيكولوجياً". بناء عليه، أتوقع أن استراتيجية التوسع لرأسمالية الاحتكارات المعممة الحالية، لا بد أن تواجه مقاومة متزايدة من جانب أمم الجنوب.



من أزمة طويلة لأخرى طويلة



الأزمة الحالية ليست أزمة مالية، ولا هي مجموعة من أزمات النظام، بل هي أزمة رأسمالية الاحتكارات المعممة، التي تتعرض سلطتها العليا المنفردة للتحدي من جانب صراعات الطبقات الشعبية، ومن جانب شعوب وأمم بلدان التخوم سواء أكانت بازغة أم لا. وهي في الوقت نفسه أزمة السيطرة الأمريكية. ورأسمالية الاحتكارات المعممة، والسلطة السياسية للأوليجاركية، والسيطرة الأمريكية، و عسكرة إدارة العولمة الوحشية في خدمة الاحتكارات، وسيطرة المالية، أشياء لا تنفصم البتة عن تراجع الديمقراطية، ونهب الموارد الطبيعية للكوكب، وضياع كل أمل في تنمية بلدان الجنوب.

والتحدي الحقيقي هو الآتي: هل ستنجح هذه الصراعات في التجمع لتفتح الطريق أو الطرق للانتقال للاشتراكية العالمية؟ أـو هل ستبقى متفرقة، بل ربما متعارضة، وتسمح ببقاء المبادرة في يد رأسمالية الاحتكارات المعممة؟

من المفيد العودة لدراسة الأزمة الطويلة الأولى للرأسمالية، والتي شكلت طبيعة القرن العشرين، لأن التشابه بين مراحل تطور هاتين الأزمتين مثير للانتباه.

لقد دخلت الرأسمالية الصناعية التي انتصرت في القرن التاسع عشر في أزمتها الطويلة ابتداءً من عام 1873، فقد انهار معدل الربح للأسباب التي شرحها ماركس. وقد اتخذ رد فعل رأس المال اتجاهين: التركيز والتوسع العالمي. وقد استولت الاحتكارات على الريع المفروض على فائض القيمة الناتج عن استغلال العمال، وسارعت في استعمار الكوكب. وحققت لها هذه التحولات الجديدة أرباحاً خيالية جديدة قادت "للعصر الذهبي" (بين عامي 1890 و1914) حيث سيطرت رأسمالية الاحتكارات المالية. وفي ذلك العصر كان الخطاب السائد يمتدح الاستعمار (تحت مسمى رسالة التمدين)، كما يصف العولمة بأنها ضمان لاستتباب السلام. وانضوت أحزاب الاشتراكية الاجتماعية للعمال الأوروبيين تحت راية هذا الخطاب.

ومع ذلك فقد انتهى "العصر الذهبي" (La Belle Epoque) الذي اعتبره المنظرون الرئيسيون لتلك الحقبة بأنه نهاية التاريخ، بالحرب العالمية الأولى، التي كان لنين هو الوحيد الذي توقعها. وتميزت الحقبة التالية وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بالحروب والثورات المتوالية. وفي عام 1920، بعد عزل الثورة الروسية (في الحلقة الضعيفة للنظام) وفقدان الآمال في ثورة في بلدان وسط أوروبا، أعادت رأسمالية الاحتكارات المالية "العصر الذهبي" مرة أخرى رغم جميع المخاطر. وأدت إعادة هذا العصر الذي عارضه كينز في ذلك الوقت، إلى الانهيار المالي لعام 1929، والأزمة التي استمرت حتى الحرب العالمية الثانية.

وهكذا شهد القرن العشرين الطويل (1873/ 1990) كلاً من تفاقم الأزمة العميقة للرأسمالية الشائخة (للدرجة التي دفعت لنين للقول بأن الاحتكارية هي "أعلى مراحل الرأسمالية")، وكذلك الموجة الأولى للثورات المنتصرة ضد الرأسمالية (روسيا والصين)، وأيضاً للصراعات المناهضة للإمبريالية من جانب شعوب آسيا وأفريقيا.

وبدأت الأزمة العامة الثانية للنظام الرأسمالي في عام 1971، عندما أُلغيت قاعدة الذهب وفقد الدولار قيمته الثابتة بالنسبة للذهب، وذلك بعد قرن كامل على حدوث الأزمة الأولى. وانخفضت معدلات الربح والاستثمار والنمو، (ولم تعد أبداً لمعدلاتها في الأعوام 1945/1975). وكان رد فعل رأس المال على التحدي مماثلاً تماماً لرد فعله في الأزمة السابقة، أي مرة أخرى بالتركيز والعولمة. وهكذا وضعت البنية التي حققت "العصر الذهبي" الثاني: (1990/2008) للعولمة المالية التي مكنت المجموعات الاحتكارية من الاستحواذ على الريع الاحتكاري. وواكب ذلك ذات الخطاب: فالسوق هو الذي يضمن الرفاهية والديمقراطية والسلام، وهي نهابة التاريخ. ومرة أخرى، انضوى الاشتراكيون الأوروبيون تحت راية النيو لبرالية. ومع ذلك فقد تميز هذا العصر الذهبي الجديد بالحروب التي يقودها الشمال ضد الجنوب بدءاً من عام 1990. وكما أدت العولمة المالية الأولى لانهيار 1929، أدت الثانية لانهيار 2008. ونحن الآن في نقطة حرجة حيث يحتمل حدوث موجة من الحروب والثورات، خاصة والسلطات المسيطرة لا تتصور أي احتمال غير إعادة النظام إلى ما كان عليه قبل الانهيار المالي.

والتناظر بين هاتين الأزمتين العامتين للنظام الرأسمالي الشائخ يثير الانتباه، ومع ذلك فهناك اختلافات تنتج عنها اختلافات سياسية مهمة.



هل ستكون الموجة الثانية من حركات تحرر الشعوب مجرد تكرار لأحداث القرن العشرين أم ستكون أفضل؟



تحكم العالم الحالي مجموعات الأوليجاركية، فهناك الأوليجاركيات المالية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وهناك الأوليجاركية الروسية التي تحاول الدولة الحد من قوتها، وهناك سلطة الدولتية في الصين. وهناك كذلك أوتوقراطيات (تتخفى أحياناً وراء واجهات من الديمقراطية الانتخابية المحدودة) تسود في مختلف أنحاء العالم.

وتمر إدارة هذه الأوليجاركيات للعولمة المعاصرة بأزمة، فأوليجاركيات الشمال مطمئنة للبقاء في السلطة بعد انقضاء الأزمة، وهي لا تشعر بالتهديد لسلطنها. أما الأوتوقراطيات الحاكمة في الجنوب فوضعها مهدد بوضوح، فهل يهددها تحدي الثورات في الجنوب كما حدث في القرن الماضي؟ هذا محتمل ولكنه غير كافٍ. فلكي يتحقق للبشرية السير على الطريق نحو الاشتراكية، وهو البديل الوحيد للفوضى المدمرة، لا بد من التخلص من هذه الأوليجاركيات، وحلفائها وخدمها، سواء في الشمال أو الجنوب.

والرأسمالية "لبرالية" بطبيعتها، وذلك ليس بالمعنى الجميل للكلمة، وإنما بمعنى السيطرة الكاملة لرأس المال لا على العمال والاقتصاد فحسب، وإنما على جميع قسمات الحياة الاجتماعية. فلا يوجد اقتصاد سوق (وهو الوصف المعتاد للرأسمالية) دون "مجتمع السوق". ورأس المال يتابع بلا هوادة هدفه الوحيد من جمع المال، أي التراكم لمصلحته. وكان ماركس، ومعه علماء آخرون مثل كينز، قد تفهموا هذه الحقيقة بوضوح ولكن لا يتفهمها الاقتصاديون التقليديون بمن في ذلك اليساريون.

وقد فرضت الطبقات الحاكمة هذه السيطرة الكاملة والمنفردة لرأس المال طوال الأزمة الطويلة السابقة وحتى عام 1945. ولكن الانتصار الثلاثي للديمقراطية والاشتراكية والتحرر الوطني للشعوب هو الذي أقام بدلاً من هذا النموذج المنفرد والمستقر لسيطرة رأس المال، نموذج التعايش غير المستقر لثلاثة نماذج اجتماعية مقننة هي: نظام دولة الرفاهية في بلدان الاشتراكية الديمقراطية في الغرب، والاشتراكية كما هي في الواقع في بلدان الشرق، والشعبوية الوطنية في بلدان الجنوب. وأدى فقدان الزخم، وانهيار هذه الأنظمة إلى العودة لنظام السيطرة المنفردة لرأس المال المسماة بالنيو لبرالية.

ودفعت الكوارث الاجتماعية التي أطلقتها اللبرالية (وهي الجو المثالي لرأس المال) بالكثيرين للشعور بالحنين للماضي القريب بل الأبعد. ولكن هذا الحنين لم �