لا تُعرَفُ الماركسيةُ بالرجال !


وليد مهدي
2011 / 8 / 2 - 01:24     

(1)

لعل الإطار الثقافي العربي الإسلامي الماضوي العام ، وبسبب محورية " المقدس " في هذه الثقافة ، هو إطار يعتمد النقل و التأويل لدرجة إن الفلسفة الشائعة في " العلم " الديني الكلاسيكي الفقهي هي :
يؤخذ العلم من افواه الرجال ...
فالثقات من هؤلاء الرجال ومن يحظون بمكانة اخلاقية رفيعة في المجتمع هم الاولى بنقل المعرفة والقيم سواء من الشارع المقدس ( الرسول والقرآن ) مباشرة ، أو استنباطها و تأويلها من نصوص القرآن او السنة المروية عن الرسول ..
هذه الفلسفة الماضوية التأريخية القديمة ربما حتى قبل فجر الإسلام المحمدي في جزيرة العرب ، وجد علي بن ابي طالب نفسه في مواجهتها اذ بان الفتنة الكبرى ايام حكمه حين اخبر الامة للمرة الاولى :
لا يعرف الحق بالرجال ، إعرف الحق تعرف اهله !
فقد تصور بن ابي طالب جوهر الأزمة الفكرية بأنه حالة من الافتقار إلى إطار " عقلاني " يمكن للوعي الجمعي الإسلامي الرجوع إليه في ذلك الحين ليكون معياراً لما سماه " الحق " .. بدلاً من اعتماد " افواه " الرجال كمصادر للحق والحقيقة !
وهي المشكلة التي سبق وان واجهها ارسطو في اليونان القديمة مع السفسطائيين ، وتمكن ببراعة نادرة في التاريخ من خلق الإطار العقلي – الكلامي المسمى بالمنطق الارسطي والذي قضى على التلفيقات السفسطائية التي كانت بمثابة اقوال وحكم مأثورة تجري منسابة في الوعي الجمعي الإغريقي كجري الاستنباطات المأخوذة من افواه الرجال في الوعي الجمعي الإسلامي ، وهو المنطق الذي اعتمده المتكلمون المسلمون فيما بعد والمدرسيون الكنسيون بعدهم قبل ان تأتي العقلانية المعاصرة لتحل محل هذا كله ( في المجال العلمي على الأقل ) ..

(2)

قد يتصور الكثير من الأخوة الماركسيين الأفاضل الذين يخوضون الحوارات المتنوعة حول الماركسية في الحوار المتمدن بان ذلك الزمان ولى وإن حواراتهم باتت في منأى عن السفسطة المموهة كمعرفة اصيلة منسوبة إلى اقلام المفكرين الماركسيين واليساريين المعاصرين ...
لكن المتابعة الفاحصة لجملة هذه الحوارات تبين مدى افتقار هذه النخبة لإطار عقلاني موحد جامع ، أو على الاقل مجموعة اطر يمكن ان تحدث بينها تصادمات مثمرة يمكنها ان تتمخض عن نتائج ، فما عدا جانب النمري – قوجمان المتميز بالإطار الكلاسيكي الماركسي المحافظ نسبياً ، نجد الفريق المقابل الذي ينسب نفسه لليسار الماركسي ( ابراهامي – الزيرجاوي ) واقع في ما يشبه أزمة فكر الخوارج ايام علي بن طالب نفسها لكن ( مع فارق الزمان والمكان ) ..
هذا الفريق لا يعرف اي إطار عقلاني يمكنه ان يؤدي إلى مناقشة ضمن قواعد ثابتة ، وبدلاً من ان تناقش القضايا والإشكاليات في النظرية الماركسية بمبناها الفكري المجرد عن انتسابها لقول فلان وعلان ، نجد ان نخبة اليسار هذه في الحوار المتمدن تطرز كتاباتها وتعليقاتها بأسماء لامعة ورنانة في تاريخ الفكر الماركسي وجلها اجنبية في تصور وهمي بحيازة قمم المعرفة التقدمية الحداثوية الاصيلة ..
ولعلني لا اتعجب ما حصل مع آخر مواضيع سلسلتي عن الماسونية وما تطرقت له عن النظام النقدي العالمي وعلاقته بالنظرية الماركسية الكلاسيكية من ان ينبري لي زميلي وصديقي الكريم جاسم الزيرجاوي مذكراً بشكلٍ عفوي غير مباشر بأن أصول المحاورة المتبعة " عادة " في الحوار المتمدن تتطلب إبراز " رخصة الكتابة " ممثلة في أسماء لامعة ببحثها الاكاديمي الرصين المجرد عن الماركسية كعقيدة لابد من طرحها في مناقشة النظرية مثل طارق علي او فرنسيس وين ، بل ذهب الصديق العزيز إلى ابعد من هذا حين وضح استعداده لذكر مئات الأسماء من الرجال الذين لابد وان اكون قرات لهم قبل التجرؤ في خوض هذا المضمار ..!

(3)

لا يمكن ان انكر بأن القراءة هامة في هذا الصدد ، وحال أن بعث لي رابطاً بكتاب عن فرنسيس وين قررت الشروع في قراءته حال فراغي من كتابة مقال اليوم ، إلا إن الأهم من القراءة يبقى تمييز الإطار العقلاني العلمي الذي تنتمي له نماذج ما نقرأ ..
فالماركسية لا تعرف بالرجال اولاً ، وإنما بخلفية المبنى العلمي لقراءاتها وتفسيراتها المختلفة ..
كان من الاولى على الزملاء المعلقين على الموضوع وغيرها من المواضيع التي يدور فيها الجدل في الحوار المتمدن حول الماركسية عموماً مناقشة جوهر النظرية المجرد ، تحليل ودراسة الحقائق التي تطرحها عن الصراع الطبقي والتحول في بنية هيكل الاقتصاد العالمي والذي أعدت صياغته بمفاهيم و أدوات قياس غاية البساطة وكلية ..
كان من الأولى الدخول في المسائل العلمية المجردة التي طرحها ( فرنسيس وين ) مثلاً فيما يتعلق بقضية هيكل الاقتصاد العالمي والماركسية التي طرحتها بشكل مباشر بذكر او حتى بدون ذكر اسم من ناقش هذه المسالة ..
لكن اعتماد اسم باحث او مفكر فقط دون طرح نتاجه ومقاربته ومناقشته بالعمق المطلوب مع القضية الأساسية المطروحة للنقاش في أي موضوع حواري في الحوار المتمدن يؤشر على استمرار ازمة الإطار العقلاني الموحد الجامع للفضاء الثقافي العربي حتى لو ادعى بعض المشاركين في بناء هذا الفضاء الإنتماء للماركسية بشقيها اليساري والمحافظ ..
فبدلاً من التلويح بضرورة العودة إلى الماركسية من مناهلها الاصيلة الصافية ( رجالاتها الاصلاء ) كان من الاولى دراسة وتوضيح المشكلة والقضية التي طرحها هؤلاء " الرجال " وجلهم عاشوا في زمان ومكان لا يناسب مشاكل العالم الإسلامي والعالم المعاصر بصورة عامة ..
وموضوعي السابق اصلاً كان يعتمد على اطروحتي الخاصة في قراءة المذهب الاستقرائي للماركسية كمنهج معرفة قمت بإسقاطه على الهيكل التبادلي الاقتصادي العالمي مقوماً بالرافعة المالية .. وطرحته كنظرية جديدة خاصة في " فلسفة " علم الاقتصاد يمكنها ان تتحول إلى مباني تطبيقية حديثة بمساعدة التكنولوجيا الرقمية الحديثة وشبكة المعلومات الدولية ( الإنترنت ) ..
لم يناقشني احد في تفاصيل بنية هذه الهيكل بتجرد علمي منذ طرح الفكرة في العام 2009 عدا الرفيق والصديق عذري مازغ ، فما هي الاسباب التي تجعل الماركسيين العرب ، حتى على مستوى مفكرين ثوريين كبار مثل مهدي عامل ابعد عن روح البناء العلمي المجرد للنظرية الماركسية وما يتطلبه من تغيير جذري جوهري في توليد نسخة او قراءة منها يمكنها الإلمام بالواقع الاقتصادي " الآني " الصرف وما تتطلبه المرحلة بعيداً عن مهاترات وتداخلات الآراء السياسية ، التي تمثل في حقيقتها تصادمات لآراء الرجال .. وليست تصادمات علمية موضوعية للأطر المعرفية التي يتبناها هؤلاء الرجال ..؟؟

(4)

اعتز بأن جدي الخامس كما يروي لي اهلي كان بدوياً يسكن في احد بيوت الشعر المتنقلة في البادية الجنوبية لنهر الفرات ، لكن هذا ليس مدعاة الفخر العظيم بالنسبة لي ..
محل افتخاري الكبير هو هذا التحول الفكري الذي اشعر به من فضاء ثقافة البادية ونقلها من افواه الرجال ( حدثنا فلان عن فلان ) إلى فضاء الإبداع الذاتي الشخصي المجرد حتى ولو كان بلا قيمة تذكر او تستحق النقاش .. ( الفتى من يقول ها انا ذا ..)
لا اشعر في الحقيقة بسوى الاسى حين يصف الزميل العزيز الزيرجاوي كتابتي ونقدي لعموم الماركسيات " البئيسة " التي تستقى من افواه الرجال دون الاعتماد على المبنى العلمي المجرد بانه " هجومٌ بدوي " في اشارة منه بأنه لا يقوم على اسس موضوعية قابلة للنقاش ..
أما أسباب هذا النقد فهو غير موجه لماركس ، ولكن لمن يقرؤن ماركس وهو ما سأذكره الآن..
فسواء كانت هذه الماركسية محافظة بإطارها الكلاسيكي المتحجر الجامد ، أو يسارية فوضوية.. " مالت مع الريح حيثُ تميلُ " .. ، فالنتيجة إن الماركسية العربية لم يعد لها اي رصيد قيمي ملموس في بنية وتكوين ثقافة الجيل الجديد ..
فإن تُركتْ ، ذهبت إلى قبرها غير مأسوفٍ عليها ، وإن نقدت بأي نقدٍ ومهما كان خصوصاً من كاتب وباحثٍ شابٍ مثلي ينتمي لجيلٍ جديد ، ألا يعتبر هذا محاولةً ايجابية في نفخ الروح فيها من جديد ..؟؟
ما وددت أن اوضحه في الختام ، بان طبيعة هذا الهجوم مهما كانت فهي لم تكن كهجوم بعض اقلام التيارات الصهيو- مسيحية المتطرفة تجاه كل ما هو إسلامي والتي شهدناها بغزارة في الحوار المتمدن الاعوام الماضية ما قبل الربيع العربي ، مع ذلك ، لم توصف تلك الهجومات والتعديات " الثقافية " الصارخة المبررة بالحرب على الارهاب من قبل الإخوة اليسارويين وحتى الكلاسيكيين بانها تعدي على " هوية " امة قبل ان تكون تجاوزاً سافراً على دين عظيم يدين به خمس سكان المعمورة ..
بل العكس ، اعتبر نقد الدين الإسلامي بمثابة توعية عن طريق " الصدمة " الكهربائية المباشرة كما ذهب الزميل الرفيق مثنى حميد مجيد في دفاعه عن كتابات السيد كامل النجار ، فالكثير من الماركسيين اعتبره ضمن مشروع التنوير العربي بديهية ، ويمكن لمثل هذا النقد برأيهم ان يبدل ذهنية العقل الإسلامي ومفاعيل تحريكها إلى ما قد يسهم في التحديث وإدخال الامة إلى التاريخ من جديد ..
فلماذا يكون هجومي بدوياً اذن حين اصف الماركسيين العرب بالأدعياء للماركسية ما داموا يغردون خارج السرب ويحلقون خارج فضاء التاريخ ولا يسهمون لا من قريب ولا من بعيد في الذي يحصل من اهوال تعصف بالعالم العربي والإسلامي تحت اجنحة تبرير " الاممية " والسماح للغرب المتوحش بالوغول اكثر فاكثر في استغلال البلاد والعباد ..؟؟
لماذا لا تكون تلك الكلمة بمثابة " وخزة " بسيطة أن استفيقوا والتفتوا لواقع الامة وما تعانيه ..؟؟
او حين اسمي الماركسية النقلية المقدسة المستقاة من افواه الرجال بالماركسية البئيسة ..
لماذا لا تقارن بما قاله ماركس " النبي " عن " وضاعة " البرجوازية وتحتسب كصياغة مقترحة جديدة في قاموس " الادبيات الماركسية " الواسع الشامل بدلاً من ان تحتسب كنبلة بدوية طائشة عابرة لقفار الصحراء لتصيب صنم الثقافة اليساروية في مقتل !؟
اتمنى على الاخوة اليسارويين ان لا يكونوا نقليين فقط ، عليهم التخلص من هذا الموروث اللاشعوري في الثقافة الإسلامية التي فروا منها إلى جنان التنوير والحرية في أوربا ، فلم تطبعهم البيئة " الفردانية " الجديدة هناك بخصائص الإبداع العلمي الذاتي ، فظنوا بانهم قتلوا البدوي المجبول في صياغة جيناتهم بمجرد ان تلبسوا بما يلبس الغربيون من لباسٍ ولغةٍ وثقافة ..
بمجرد أن شربوا الويسكي و الرم ، أو دخنوا سيجار الروثمن والكوبي حتى استفاق هذا المحافظ النائم " اليساروي " الذي يقدس النقل عن فلان ، فتحولت نحلة الاسماء العربية الراوية عن ابن عباس أو قتادة إلى " التوسير " أو " جرامشي " او جاك دريدا ..او فوكو ..
أرجو مرة أخرى أن لا يعتبر هذا هجوماً وتعدياً على احد ..
هو نقدٌ ربما يكون حاداً بعض الشيء ، لكنه مقدم مع تقديري وتثميني لكل ما طرحوه ..
مكررا في ذات الوقت اعتزازي الصادق وشكري للجميع ..