ديالكتيك الثورة


الياس حريفي
2011 / 8 / 1 - 00:33     

ان ارادة الشعب في التغيير وقيامه بالثورة يجب ألا تعمينا عن تحليل الثورات العربية موضوعيا. بل أن التحليل الموضوعي وحده ومن موقع الطبقة العاملة. قادر على اعانتنا في فهم الربيع الثوري العربي من زاوية نظر علمية. وهذا لا يمكن أن يكون قائما على قاعدة منهجية صحيحة الا اذا اعتمد المنهج التحليلي العلمي الوحيد والممكن (من وجهة نظرنا بالطبع) والذي هو الجدل المادي. وتطبيقه التاريخي : المادية التاريخية.
فهذه الثورات هي. بادئ ذي بدء حصيلة لتناقضات موضوعية في البنية الاجتماعية توجد على مستويات متفاوتة بنيويا حيث نجد التناقض الأساسي (كما يسميه ماو تسي تونغ) والمحدد بطبعه. قائما بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج. هذا التناقض والذي هو بطبيعة الحال. تناقض اقتصادي. هو المحرك لحركة الانتقال من تشكيلة اقتصادية-اجتماعية الى أخرى. ان القوى المنتجة على حد تعبير ماركس تدخل في مرحلة معينة من تطورها في تناقض عنيف مع ثباث علاقات الانتاج حيث تصبح هذه الأخيرة غير متلائمة معها مما يؤدي بنمط الانتاج الى فقدان شروط وجوده. والرأسمالية مثلها مثل أنماط الانتاج التي سبقتها تعاني من هذا التناقض الأساسي الذي يتمظهر في عهدها على شكل أزمات دورية خانقة تخرج منها الرأسمالية مادامت القوة القادرة على الاطاحة بها غير موجودة أو غير مكتملة النمو.
الا أن التناقض الاقتصادي لا يمكن لمسه ومعاينته مباشرة. فهو لا يعبر عن وجوده الا في البنية الفوقية : في الصراع الطبقي على مستوييه : السياسي والايديولوجي. ان احتدام الصراع بين الطبقات على المستوى السياسي و أيضا بينها على الصعيد الايديولوجي : الصراع بين الايديولوجية التقدمية والايديولوجيات الرجعية. هو ما يبرهن على وجود التناقض الاقتصادي وفعاليته اذ أن هذا الأخير باعتباره أساس البنية التحتية للمجتمع, يحدد باقي التناقضات الفوقية. وهذا ما دفع بالشهيد مهدي عامل الى تشبيه التناقض الأساسي باللاوعي "انه كاللاوعي في البنية النفسية عند فرويد. غائب على مستواه البنيوي. حاضر دوما في بقية المستويات البنيوية(1).
الا أن التناقض الاقتصادي برغم أهميته. باعتباره عامل التحديد. أو ربما بسبب من هذه الأهمية ليس هو الحقل الرئيسي للتناقض في البنية الاجتماعية : ان الصراع الطبقي هو هذا الجقل والصراع هذا صراع سياسي. فهو لا يتم أبدا على المستوى الاقتصادي أو الايديولوجي بل على المستوى السياسي في البنية الاجتماعية.
ان البلدان العربية عرفت صراعا طبقيا عنيفا منذ تغلغل نمط الانتاج الكولونيالي (الرأسمالي التبعي) في بناها الاجتماعية. وقد اشتدت وتيره هذا الصراع الطبقي مع تعاقب الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي (من 1929 الى 2008) مما أدى بالبرجوازيات الكولونيالية العربية الى فرض السيطرة الطبقية في ظل أنظمة فاشية واستبدادية. وهنا يجب التنبيه الى خطأ فادح في تحليل الفكر المسيطر للثورات العربية : فنجد من يرى ان أسباب الثورات كامنة في تدهور الوضع المعيشي للشعوب العربية وهذه رؤية اقتصادوية. ونجد من يقول أن الثورة تجد تعليلها في الطبيعة الديكتاتورية للأنظمة السياسية. في فصل تام عن الاقتصاد ودوره التحديدي. وهذه رؤية مثالية.
ان ماهو سياسي له علاقة بماهو اقتصادي وبالشكل الذي يحدد فيه الثاني الأول وينفعل به. "ذلك أن ربط السياسي بالاقتصادي والنظر فيه في ضوء تحدده به يفرض على الفكر ضرورة اعتماد منهج التحليل الطبقي حتى لو لم يكن فكرا ماركسيا"(2). ان التناقض التناحري بين العمل والرأسمال وفشل المخططات البرجوازية لانقاذ النظام الرأسمالي وتصاعد الاحتجاج الاجتماعي وتنامي الفقر والبطالة وجيوش الفائض البروليتاري...كل ذلك يؤدي بالطبقات المسيطرة الى فرض ديكتاتوريتها الطبقية صراحة على المستوى السياسي...غير مقنعة بأغطية الديمقراطية البرجوازية كما هو الحال في بلدان الرأسمال الامبريالي.
وهذا الصراع بين الطبقات يسير لمدة معينة في خط التراكمات الكمية الى حين الوصول الى لحظة التغير النوعي. وهنا لا بد من النظر الى الثورة أو الانتفاضة الشعبية في ضوء قانون التحول من الكم الى الكيف...قالثورة التونسية مثلا لم تنتج من العدم وانما هي نتيجة لتراكمات كمية عديدة على صعيد الصراع الطبقي. هذه التراكمات أهلت لحدوث التحول النوعي في لحظة معينة.
كما يجب التشديد في دراسة الثورات العربية دياليكتيكيا. على أهمية العوامل الداخلية في مقابل العوامل الخارجية..هذا ما نلاحظ نقيضه تماما في الدعاية الايديولوجية الرجعية القائلة ب"عدوى الثورة بين الشعوب العربية" اذ أن الثورة لا تستورد ولا يخلقها التأثر بالخارج. وهنا تبرز لنا الخاصية الأهم للتحول الكيفي : تحدده بالعوامل الداخلية كعناصر رئيسية وبالعوامل الخارجية كعناصر ثانوية.
ان التراكم الكمي لدرجة حرارة الماء لم يكن ليؤدي الى تبخره (وهو التحول النوعي) لو لم يكن الماء نفسه كمادة ينطوي على تناقض داخلي كامن في بنيته الحزيئية : بين قوى مجمعة للجزيئات تدفعها الماء للتجمد. وبين قوى مفرقة لها (وهي قوة كل جزيء مستقلا عن الآخر) تدفعه للتبخر...ولولا هذا التناقض لما حدث التحول النوعي ولو كانت العوامل الخارجية – نقصد هنا ارتفاع درجة الحرارة وانخفاضها – في غاية القوة.
فالعلاقة اذن بين الثورة التونسية والثورة المصرية. أو بين هانين والثورة الليبية واليمنية ليست علاقة "عدوى" كما يدعي الفكر الرجعي وانما علاقة ترابط ديالكتيكي يتجه نحو حل التناقض الداخلي وتسريع التحول الكيفي.
كما أن النظرة السابقة للأنظمة العربية والنظام الرأسمالي ككل...نظرة ذات طابع ميتافيزيقي صرف هو طابع الرؤية البارمندية للكون والثباث والأبدية. ويذكر بوليتزر في كتابه التعليمي الكبير (أسس الفلسفة الماركسية) "قصة وردة كانت تعتقد بأن البستاني مخلد. لماذا ؟ لأنها لا تذكر أنها رأت غيره في البستان" وهكذا هو الفكر المسيطر اذ ينكر التغير ويلجأ نحو ما يسميها "الثوابت".
وهذا يعلمنا ضرورة النظر الى الثورات العربية في اطار القانون الديالكتيكي الأساسي. أي قانون التغير أو النمو المستمر. فضلا عن ادراك العلاقات فيما بين الثورات العربية والأوضاع الاقتصادية أولا ثم السياسية ثانيا...ولهذا يريد الديالكتيك الماركسي "ألا ينظر الى الظواهر فقط بالنسبة لعلاقاتها وترابطها بعضها البعض بل أيضا بالنسبة لحركتها وتغيرها ونموها في ظهورها واختفائها.
مراجع :
1- مهدي عامل. في التناقض. ص 228.
2- مهدي عامل. في الدولة الطائفية. نشر دار الفارابي بيروت. ص 107
- ج. بوليتزر. أسس الفلسفة الماركسية. ص 60 و 108
- ماو تسي تونغ. حول التناقض. في "كراسات الشيوعية" عدد 7-8 آب سنة 1952 ص 781
- كارل ماركس. بؤس الفلسفة. ترجمة حنا عبود. مصادر الاشتراكية العلمية