الماركسية في فقه الأستاذ أمير الغندور


عذري مازغ
2011 / 7 / 29 - 20:35     

كم هو جميل أن يبادر المرء في وضع قراءة جديدة للماركسية، تستلزم أدوات جديدة للفهم تتوافق مع الواقع الجديد الذي هو في حركة دائمة تستلزم هي بدورها متابعة ورصد تغيراتها الموضوعية في سبيل خلق أدوات تملكها المعرفي، أدوات تؤسس لجديدها، وكم كان شيقا أن نتابع الأستاذ أمير الغندور، في جرأة مشكورة، أن يبادر بمنهج تفكيكي جديد ومثير في نفس الوقت، وكم كانت خيبتنا حين يكتشف المرء ان قراءته التفكيكية هي قراءة فقهية أكثر منها قراءة علمية، قراءة حاول أن يقلع بها الماركسية من جدورها المادية ليعيدعا في قالب ميثالي مترفعة بشكل غريب بقلب قدمها على رأسها، تأول النصوص الماركسية كما يتأول الفقهاء نصوص القرآن في عملية تفكيك هي في الحقيقة عملية نزع النصوص من أنساقها ومحاكمتها في عملية تأويل لها بوثوقية أقل ما يقال عنها، أنها وثوقية ترنمية في إطار لغة جوفاء تخلق تناقضات وهمية ثم ثحاكمها وفقا لخلفيات مغرضة تؤسس لعودة الفكر الفردي، أو الفرد كمحرك للتاريخ، ولا عجب أيضا أن تؤدي استشرافات الأستاذ الغندور وفق ما للفرد من سطوة على التاريخ إلى استشراف آفاق المستقبل الإنساني بشكل يعود بنا إلى زمن الأسطورة العجائبيةالتي ألهمت لحقب طويلة المجتمعات الإنسانية، لا عجب في الأمر ان تتصور هذه القراءة عودة لجذوة النبلاء والالإقطاعية والرأسمالية أو افتراضات تقوم على احتمالات هوليودية تؤسس لسطوة الفكر الخرافي الهوليودي وعودة الدناصير
من البداية سينبهر المرء من خلال عنوان الجزء الاول: “ تفكيك الماركسية” سيناقشها الغندور من خلال إبراز جهازه التفكيكي الذي سيكشف لنا مواطن الضعف والخلل من خلال قراءة لا تهدف إلا لذاتها (لا هدف من التفكيك سوى ذاته)، من هنا فهو يقدم أسئلة مفتوحة “يتطلب التفكير فيها بعدة أجوبة” من هنا وقبل البدء في عملية التفكيك يحدد أمير أول ضحية لهذا التفكيك وهي الإيمان الدوغمائي بالماركسية، فهو من البدء يقوم بعملية تفكيك لذاته يكتشف به قبل بدئه اول ضحاياه هو الإيمان الدغمائي
ماهو هذا المومن الدغمائي؟
من خلال اعتراضه على تدخل هذا المؤمن يبرز أمير عدة نماذج للتهجم الدوغمائي ويحدد استراتيجيتهم، وما يعنينا هنا هو ابرازهم دون الدخول في استراتيجية تهجمهم المحتملة على تفكيكه، فهو تخمين يطرحه الكاتب اعتراضا لأي تهجم على منهجيته التفكيكية فبل أن ينهجها فهو يستنبط هذا التهجم من رصده للواقع ويتنبأ باستراتيجية هذا التهجم قبل ان يبدا تفكيكه كما قلت سابقا والتهجم هذا كما حدده:
تهجم سياسي، تهجم عقيدي، تهجم علمي ووفقا لآلية تهجمهم، من منطلق موقعهم ذاك الذي جاء في تصنيف الاستاذ فهم بالترتيب نفسه الماركسي السياسي، الماركسي العقيدي والماركسي العلمي، وما يعزز هذا الإستنتاج هو بالضبط آلية تفكيكه فهو يناقش الماركسية بآلية تفكيك مختلفة،وهذا ليس منا اعتراض على منهجه إذا كانت هذه الآلية بالفعل محايدة، بل اعتراضي في إقصاء الماركسيين «فليس من مصلحة أي دوغمائي أن يشارك في تفكيك الماركسية، لأن الماركسي حسب هذا الإعتراض سيتفجر إيمانه»، وسبب هذا التفجر هو ما سيبرزه منهج التفكيك في بطلان الماركسية فاهتزاز الإيمان هو بالضرورة خلخلة أسس الماركسية وهذا بالتالي هدف متوخى يحدده من البداية الأستاذ أمير وهو ما يناقض منهج التفكيك لذاته الذي بشر به أمير الغندور، وهو( وهنا ساكون دوغمائيا سياسيا أو إيديولوجيا أو عقائديا كما تنبأ الأستاذ) أثر لممارسة غير حيادية كما يريد امير، لأنها أساسا تحدد نتيجة غير معلنة هي اهتزاز “الإيمان” بالماركسية. كما يحدد بالتالي دغمائية معتنق الماركسية في استراتيجية تهجمه المحتملة على صاحب التفكيك، فالكاتب يتوقع استراتيجية التهجم هذا انطلاقا من استراتيجية الدفاع التي تتأسس على أسئلته المفتوحة ذاتها، والتوقع هذا يعني أن الاسئلة مفتوحة فقط فيما يخدم هدف الخلخلة، من هنا فلاحياد في أية قراءة مهما تجردت، فمن البداية يتحدد:
1.موضوع التفكيك الذي هو الماركسية
2.يتحدد ضحية التفكيك الذي هو معتنق الماركسية
3.يتحدد هدف التفكيك وهو خلخلة الماركسية التي تهز معتنقي الماركسية على اختلاف مشاربهم كما حددها الكاتب في استراتيجية التهجم المحتملة.
4.تتحدد استراتيجية الدفاع للهجوم المحتمل
5.تتحدد طبيعة السؤال “المتفتح” كما تتحدد طبيعة تعدد الجواب
والنتيجة: ينتفي حياد التفكيك، من هنا لا وجود للحياد إلا في وهم الكاتب وحده، واستراتيجية تبنيه هي دوغمائية أيضا متبناة تجاه الدوغمائيات الأخرى النقيضة، فما يهز الآخر في سياق الإحتمال يورط السؤال ومنطلقاته ويحدد تاليا اجوبته ويهز أيضا دوغمائية الكاتب التي ظهرت كثيرا في ردوده على التعليقات.
ليس هذا فقط فالأستاذ الغندور أيضا يعترف أن قراءته هذه هي «تأويل جينالوجي» يقوم على تأويل صفة “العلمية” في سياق الذي ظهرت في الماركسية، ولا يهمنا بخصوص هذها الأمر سياق قوله هذا بقدر ما يزكي عملية التأويل التي تتنافى مع الحياد
لهذا فأن يوهمنا الكاتب بحياد يلبس طابع تفكيكي بريء ليس سوى عملية تحوم حول خلق وهم الحياد فأسئلة التفكيك غير مفتوحة كما سنرى والأجوبة غير متعددة كما سيظهر، بل هي اسئلة دوغمائية تتضمن اجوبتها، بمعنى أنها تفتقد لأساسها المعرفي، لانها بالتحديد تسجن الاجوبة، وهذا بالتحديد هدف هذه القراءة “الدوغمائية” التي سيرفضها حتما الأستاذ أمير كما أشار، وعلى عكس ادعاء الحياد، هذه القراءة التفتيتية لا تدعي الحياد، بل تنطلق من موقع النقيض، والنقيض هنا هي قراءة ماركسية تثبت قدرتها على التفكيك بموضوعية وعلمية، موضوعها تفتيت المفكك في “تفكيك الماركسية” فهي من البداية تحدد موضوعا قائما ومنشورا في الحوار المتمدن، ستتناوله باسئلة مختلفة تناقش أسئلة التفكيك ذاتها وكشف طابعها اللامعرفي كما ستكشف حيازها الإيديولوجي ووثوقيتها المتفجرة، بمعنى ساناقش موضوعا قرأته، أعرف منطلقاته وهفواته ومن ثم استخراجها وفق سياقها، لا خارج سياقها كما فعل الاستاذ مع الماركسية، وهذا مايضفي على هذه القراءة موضوعيتها، هذه القراءة واعية لهدفها، ملمة بموضوعها، ولا تدعي الحياد، لان الحياد هذا الذي ابتلي به مفكرو النزعة الحيادية، هو في نفس الوقت سطوة الفعل الدوغمائي حين يناقش أو يجادل من خارج عملية التفكير في تجريد يائس يحاول ان يظهر بمظهر العلم المختبري التجريبي(النزعة التجريبية)، والعلم هذا في العلوم الإنسانية، هو غيره في العلوم المختبرية، هذه الإشارة أثارها ايضا الكاتب، لكن لخدمة حياده فقط فهو لا يوثرها حين يمارسها، أي انه يأخذ الظاهرة مجردة في صفائها عن كل مايربطها بواقعها ليناقشها باسئلته “المفتوحة”، وينسى ان عملية التجريد ذاتها هي عمل إقصائي واعي لذاته، ينسجن بها السؤال فيما هو يتوخى تفتحه، ويتحدد الجواب انطلاقا من فخ السؤال، والتجريد هذا هو عملية إقصاء للسؤال المخالف.

في غياب المعرفة الإلمامية بالموضوع
يثير الكاتب امير الغندور في تناوله مسألة القلب الفلسفي لجدل هيجل هذا القول:
«لكن يبدو ماركس أغفل نوعا أصغر من التناقض، لا هو بالتناقض الإجتماعي ولا هو بالتناقض العام الهيجلي، وهنا أقصد: التناقض الشخصي»
لا ادري لماذا هذا التناقض الشخصي هو تناقض صغير رغم أن محور الفلسفات قبل ماركس هو الإنسان، ورغم ان الغندور يستحضر في كل أجزاء مقالته هذه النزعة الفردية للشخص في تغيير الواقع، لقد قرأ ألتوسير وحاصره بنزعته التلفيقية، إلا انه على “صغر” هذا التناقض يوضح بالملموس عدم الإلمام بالماركسية (وهذا شق التهجم الدوغمائي العلمي كما أشار في استراتيجية التهجم الدغمائية)، هذا الموضوع عالجه ألتوسير، في إطار بحثه فلسفة ماركس في عملية تفكيك رائعة، عملية يدعونا إليها الأستاذ امير الغندور ويحذرنا منها في نفس الوقت، والتحذير هذا له خلفيته الفكرية في جدل التفكيك عند الغندور، فألتوسير استحال سجين ماركس بعملية تلفيقية رائعة عبر عنها الغندور بالقول:« مشكلة منهج ألتوسير أنه اعتبر الماركسية قد قد اكتملت مع اكتمال حياة ماركس... فإن آخر ماكتبه ماركس سيعد وفق هذه النظرة أنضج عما كتبه ماركس مقارنة بالكتابات المبكرة»
إن ما قاله ألتوسير بالتحديد هو أن ماركس المتأخر أكثر نضجا واكثر وضوحا وكمالا من ماركس المبكر، والنضج هنا والكمال هو في سياق القول تتبع مرحلة نضج ماركس الفلسفي وماركس الواقعي، وليس ماركس العبثي الذي يفترض له عمر اطول من عمره الحقيقي، وهنا نسأل الغندور في سياق عبث إطالة عمر ماركس ماذا سيحدث مثلا؟
أكيد سيرتد عن نضجه (وهو المقصود في سياق امير العندور) و سيدخل مرحلة الخرف، والخرف هذا هو بعث الهيجلية من جديد، وليس عكس ماذهب إليه الغندور في سياق تطور فكر ماركس بالقول: أكيد سيطور أكثر لأن ماركس كان دائم البحث وليس دوغمائي (هذا نفسه قول دوغمائي) لكن الغندور لن يقبل بهذه النتيجة رغم أن تاويله هذا في كل مقاله المفصل هو دعوة لإحياء الهيجلية.
ما فات الغندور أن إغفال التناقض الصغير” حسب تعبيره، ليس إغفالا بقدر ماهو معالجة الأمر في سياق آخر اعتبره ألتوسير بمثابة القطيعة الإيبستيمولوجية بين فلسفة كانت سائدة طوال عصور محورها الإنسان الفرد، أي ذات نزعة إنسانية، وفلسفة نمطية محورها الأنساق النمطية والإجتماعية التي هي الموجهة لعملية التفكير وليس الفرد، وأن الفرد هذا فيها، هو حامل لهذه البنى النسقية وهو ما عبر عنه ألتوسير بالنزعة اللاإنسانية في فلسفة ماركس، لقد أتيت بهذه الملاحظة الصغيرة بقدر صغر “التناقض الشخصي” لأظهر بان عدم الإلمام بالموضوع المفكك هو في ذاته إفلاس لعملية التفكيك، وعدم الإلمام هذا سنتتبعه في سياقات أخرى من مقالة الأستاذ الغندور على أن يمهلني القاريء في كتابة الأجزاء المتبقية نظرا لتعقد الأمر، فالغندور يتمتع بكثابة انبنائية منفلتة من انساقها تسمح له بالتحول من فكرة إلى اخرى بشكل يصعب معها التحميص و الرد السريع.