الموت بين الحق والعقوبة


عباس يونس العنزي
2011 / 7 / 25 - 19:40     

الموت .. بين الحق والعــقوبة
عباس يونس العنزي

عبر العصور وجد الإنسان نفسه عاجزاً مستلباً أمام واقعة الموت بشتى مسبباتها ، وحالما تمكن من وعي ذاته فانتقل من ذاتٍ إلى شخص حسب التعريف الهيجلي الحيوي وأنتج أول أيدلوجيا وصفت بالدين الأول البدائي وهو ما عرف بالدين الطوطمي جابه مسألة موت من حوله ( إذ أن الإنسان لا يصدق موته الشخصي مطلقا ) بضعف عقلي شديد لم يمكنه من فهمها سوى ما نضج لديه حول سلفه الحيواني الطوطمي المقتول الحامي ، وفي زمن مبكر من تحضره أعلن استسلامه للألم ألممض وقبوله النتيجة الحتمية لكونه حيا ، فتيقن جلجامش ملك أوروك العتيد أن رفيقه اللدود أنكيدو لن يعود من عالم الأموات الـمظلم الذي مضى إليه مرغما وإنه لاحقٌ به لا محالة ولو بعد حين وبعد رحلةٍ شاقةٍ فاشلةٍ بحثاً عن الخلود استنتج أن الباقي هو الذكر الطيب والعمل المميز ليس إلا وما أن ارتقى الوعي الإنساني قليلا حتى لجأ الإنسان اضطرارا للتنظير الديني في غالب الأحوال من أجل تهوين قسوة وغموض تلك الواقعة المحزنة عبر التبشير بالعوالم الأخروية المتنوعة تنوع الأديان حيث ابتدأت بتناسي الموت وتطورت بموت يمثل بوابة لملكوت الله ثم أصبحت ممرا إلى عالم مناظر للعالم الدنيوي ويتفوق عليه بالأبدية مما ارتقى بالموت ليكون حقا من حقوق الفرد الموصلة للسعادة وفق شريعة دنيوية متفق عليها . ومع صعوبة هذا الحل الملامسة لشواطئ اللاعقلانية و المتضمن مأساة أشد وطأة من مأساة الموت ذاتها لكن وكما قال جورج لوكاش ( اللاعقلانية الظاهرة في الوجود لم تكن سوى مرض ثقافي نتيجة التشيؤ الـحاصل في المجتمع الطبقي البرجوازي ) وأيضا نتيجة العجز المطلق ، ولم تتكون مجموعة الحلول الدينية إلا في سياق هذا المرض الثقافي وهذا يتساوق تماما مع ما نظره سيغموند فرويد في مؤلفه المتميز ( موسى والتوحيد ) فالرضة المبكرة المتمثلة بالموت ظهرت لاحقا وبعد فترة كمون بصيغة عصاب وهذيانات تـمثل مرضا ثقافيا حضاريا عميقا ، ولو ترك الأمر للفرد وحده دون معاونة فكر اجتماعي عام يـجمعه بالآخرين لما استطاع مواجهة حقيقة فنائه بكل هذا الصبر الـمتعملق ، والمدهش أن الإنسان أي إنسان لن يستطيع ولا يريد التخلص من استبداد أيدلوجيا مجتمعه وقيمها المهيمنة على كامل تكوينه العقلي والنفسي ، وهو في أزمة تناقضات دائمة بين اندفاع الفردي ومحرمات الجمعي ، وفي سعيه لاستخلاص مفاهيم متعالية تنجيه من ثقل صراعات التناقضات فإنه برع في إخفاء رغباته وأهدافه الحقيقية غير المتسقة مع قيم الهيمنة الاجتماعية بتغطيتها بالبراق الناعم من نسيج تلك القيم ، وهذا يشمل المتسول في الأزقة المسحوقة كما يشمل الملوك والرؤساء في أعظم الدول فعندما يحاول شحاذ كسب عطف الناس ودفعهم لمنحه ما يريد يلجأ للأيدلوجية المهيمنة فيحاول إقناعهم أن هباتهم هي البوابة الحقة للجنة الموعودة ولطالما أصاب النجاح في مسعاه ، وكذلك فعندما منح السلطان العثماني لقب حامي المسيحيين في البلاد الإسلامية لإمبراطور فرنسا نابليون الثالث ثارت ثائرة نيقولا الأول إمبراطور روسيا فوصف الفرنسي بأنه مغرور لقيط وأضاف أن لا حق لأحد أن يتمتع بحمل شرف هذا اللقب العظيم غيره هو ..نيقولا الأول ، وكانت هذه المعضلة المعنوية الدينية تغطية فعالة لمصالح ومطامع كلا العاهلين غير المعلنة وعبثا حاولت النمسا اقتراح اقتسام اللقب بينهما فساءت الأوضاع حتى وصلت إلى ما عرف بحرب الكريميا ( القرم ) ، ولو أعلنت مطامع الرجلين الحقيقية لما تمكنا من الحصول على تأييد شعبيهما اللازم لخوض الحرب لكنهما صنعا من الغزل الديني المرغوب شعبيا للغاية غطاءا سمح لهما جر الناس إلى التطاحن الدموي .

إن قيم الأيديولوجيا المهيمنة هي التي سـمحت لكل الناس وفي مقدمتهم الحكام الطغاة وعبر كل الأزمان إخفاء الدوافع والغايات الحقيقية التي تـحركهم و سوغت ارتكاب الفظائع والخطايا وبتأييدٍ وانخراطٍ شعبي واسع النطاق ، وبنفس القدر من طاقة التأثير المذهلة فهي التي مكنت الإنسان الفرد من تقبل الحيل الأيديولوجية ـ الدينية لمجابهة كل المآسي الاجتماعية والطبيعية وفي مقدمتها مأساة موته الفردي في حين ظل كل إنسان في أعماقه وبالخفاء يأمل الوصول إلى حل دنيوي ناجح لتلك الواقعة الفظيعة ، وفي نقطة التناقض بين الحل الأيديولوجي الاجتماعي المهيمن والسعي الفردي الحقيقي الدنيوي تجذرت صراعات المواقف المتضاربة في تبني الموت : بافتراض أنه حق ، أو بافتراض أنه قدر غاشم ، أو بافتراض أنه عقوبة .

ولا شك أن إنـجاز المفهوم الروحي ـ الجسدي لدى الملكة العقلية البشرية المتنامية ونضوجه في وصف الحياة والإنسان على وجه الخصوص ( وفشله الذريع في التعامل المنصف مع الكائنات الحية الأخرى ) هو الذي يقف وراء ولادة فكرة البعث الموغلة بالرجاء والحلم غير المجديين ، فهذه الفكرة ترسخت استنادا إلى إثباتات مهمة أبرزها قابلية استعادة الذكريات وتنشيطها في المنطقة البصرية من الدماغ أثناء النوم وهي القابلية التي اصطلح على تسميتها بالأحلام والتي نجهل الآن فعليا مسوغات وزمن تكونها ، لكن ورغم ذلك فقد لاحظ العلماء وبدهشة الموقف السلبي التام الذي اتخذته اليهودية الأولى في التعامل مع قضية الموت ، فقد خلت تماما من التبشير بالبعث و بأي شكل للعالم الأخروي وانصب اهتمامها على الشأن الدنيوي المؤطر باعتقادات ما ورائية موجزة للغاية رغم سيادة مفهوم المزدوج الروحي ـ الجسدي وتأثر اليهودية الشديد بالـمعتقدات المصرية والبابلية التي تعج بأفكار العالم السفلي والحساب ومن ثم الراحة المطلقة أو العذاب الدائم كما نلحظ ذلك في كتاب الموتى المصري ، وحتى عندما أوجدت فكرة المسيا المنقذ والمطهر من الآثام في مراحل تاريخية متقدمة لم تثر قضية العالم الأخروي بأي شكل من الأشكال وقد أورد الدكتور فريز صموئيل في كتابه ( موت أم إغماء ) شهادة أحد اليهود للمسيح فقال ( وقرأت في الكتب المقدسة أن الله سيرسل ذبيحة كاملة للتكفير عن خطاياي أسمه المسيا ) ولم تزد الشهادة شيئا آخر ، ونلمس حتى الآن تشبث البناء العقلي اليهودي بالفكرة الأولى في ما قاله أحد المسؤولين الإسرائيليين وهو يعلق على العمليات الاستشهادية الفلسطينية : ( لهم الشهادة .. ولنا النصر ! ) . ومما يتوجب توضيحه أن فكرة المنقذ المخلص الأصيلة في العقيدة المسيحية والتي تؤمن بطهارة بيت داوود وانتصاره الحتمي عن طريق المسيح المنتظر والتي لا تتعامل مع أي تبشير بعالم أخروي يبعث فيه أحد عاصرتها وتلتها أفكار مناظرة كما في الزرادشتية التي تتوقع ظهور سوشيان وهو مخلص من نسل زرادشت المقدس سينهض في نهاية الزمان ليقيم دولة العدل في هذه الدنيا كذلك فهناك من آمن باختفاء محمد بن الحنفية وهو من أولاد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب من غير السيدة فاطمة في جبال رضوى وسيعود بإذن الله وينتصر على أعدائه ليقيم دولة الحق واستمرارا لذات النهج جاءت فكرة المهدي المنتظر وهو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى أيضا وسيظهر وفق ذات المعادلة التي قال بـها أتباع بن الحنفية و التي روج لها الشيعة الأمامية الإثنا عشرية وذهب بعض الإسماعيلية إلى أن الحاكم بأمر الله الفاطمي هو الإمام المنتظر وكل هذه الأفكار المتطابقة لا تشير من قريب أو بعيد إلى أي عالم أخروي بشكل مباشر ما خلا وقوعها في إطار الفكرة الدينية الميتافيزيقية العامة حول الجنة ويوم البعث والتي تجعل من موضوع المخلص المنتظر غير مـجدي تماما وفاقد لقيمته وأصالته ، والانقطاع الظاهري عن الأمل والتفاؤلية الدينية لا يعني الاندثار في لجة التشاؤم وسوداويته إنما تمكنت اليهودية من ابتداع نمط للإيـمان بتفاؤلية دنيوية استسلامية قابلناها فيما سبق عند جلجامش السومري وقوامها منح الزمن الدنيوي كل السمات التي تجعله زمنا كليا ونـهائيا للحياة فيه تجري عملية الحساب والعقاب والثواب ، وفي إشارة عابرة لكنها مفيدة تدعم ذلك فإن الرب في ساعة رضاه لم يعد بني إسرائيل بالجنان السماوية الخالدة كما فعلت أديان أخرى بل وزع عليهم المقاطعات الفلسطينية مكافأة لهم على حسن سيرتهم بعد أن كان قد غضب عليهم دنيويا مرات ومرات ، ويمكننا الاستنتاج أن الموت في العقل اليهودي المتسم بدنيويته التامة لا بد وأن يكون مستفظعا للغاية وإن اتـخذ كعقاب فسيكون قاسيا بل لن تضارع قسوته كل أنواع العقوبات مجتمعة على أن يتم بشرطين الأول أن يأتي في غير حينه أي بعمر فعال ، و الثاني وهو الأهم يتمثل في اقترانه بضوابط تعذيب شديدة وبعيدة عن كل رحمة أو عفو ، وبهذا الفهم فأن لم يكن عقوبة سيكون الموت ( وما بعده ) المنسي في العقيدة اليهودية قدرا مؤلما غاشما لابد منه ولا بد من نسيانه في آن واحد ، لكنه موت عنيف وفظيع مقبول إن تقرر اللجوء إليه معاقبة ، ويتأكد هذا المعنى على نطاق تاريخي بالحكم الذي أصدره اليهود على السيد المسيح حيث اضطره مناوئوه أن يحمل صليبه في مسيرة عذابٍ وألمٍ شديدين ليتركوه معلقا عليه بعد أن ثبتوا أطرافه عليه وتمتعوا بسقيه خلاً ساعة عطشه الشديد ، فهم أرادوا له العذاب المطلق ليضمنوا أن موته خال من الرحمة وحيث جاء موته في زمن غير مناسب فقد اكتملت عندهم صيغة العقوبة . إن الـموت وفق الفهم اليهودي للعقوبة يوقـظ اليومينيدز ( ربات الانتقام في الميثولوجيا اليونانية ) فيغدو انتقاما وليس عقوبة ، وهناك فارق كبير بين العقوبة والانتقام فالعدالة كما يقول الدكتور إمام عبد الفتاح في مقدمته لترجمة كتاب هيجل ( أصول فلسفة الحق ) تلغي الجريمة وتعيد الحق إلى نصابه أما الانتقام فهو يضيف خطأً إلى خطأ الـجريمة الأول وفي هذا الشأن أيضا يقول الفيلسوف الألماني هيجل في مؤلفه الكبيـر آنف الذكر و الـمثير للجدل ( وكثيرا ما يتخذ العقاب صورة الانتقام ، غير أنه مع ذلك سيبقى خطأ من حيث إنه فعل من أفعال الإرادة الذاتية ، ومن ثم فهو لا يتفق مع مضمونه ) .

ويمكننا أن نلمس قدرا من الانسجام في العقيدة اليهودية القديمة من مسألة الموت فهو قدر حتمي لابد منه لكنه منسي تماما وإن استخدم كعقوبة فسيقترن مع شروط قاسية للغاية لتحقيق العدالة و سيكون كافيا لردع الجريمة مع إغفال تام لمصير الشخص المعاقب ويبدو أنهم عجزوا عن إيجاد طريقة يمنعوا فيها عبث المجرم بالمجتمع غير الموت كاقتراح السجن أو النفي ، لكن الأزمة في الموقف من الموت تستفحل تماما وتغدو مليئة بالتناقضات عندما نتقدم قليلا نحو المسيحية وتطورات تنظيرها بهذا الشأن ، فهي في فلسفة الكلمة المتجسدة ـ الفادي إذ رفضت موت المسيح عبر الإصرار على قيامته وصعوده إلى السماء وقدمت لذلك بسلسلة من المعجزات منها إحياء الموتى إنما جاءت بفكرة مستحدثة تماما وهي إمكانية البعث وتجاوز الموت في العالم المعاش مما يعني حصول تطور خطير في الفكر الديني فحيث أن المسيح قد بعث ليكون خالدا فقد جعلت من موت المؤمنين التحاقا به في ملكوته السماوي حيث الراحة الأبدية الغامضة للغاية بينما ألقي بالآخرين غير المصدقين إلى العدم والعذاب الأبدي ! رغم أن عدم الإيمان يتوجب عده نوع من الخطايا التي يمكن أن يتحملها الفادي المخلص عن كل الناس ولابد من أن نؤكد الفارق النوعي بين فكرة البعث المسيحية وأفكار العالم السفلي القديمة فعالم البعث هو عالم أحياء بينما العالم السفلي عالم أموات لن يبعثوا أبدا. إن التبشير بالأبدية والعيش السرمدي يخلق رد فعل مؤيد عميق صوفي المعنى لأنه يستجيب للرغبة الأعمق لدى الإنسان وقد أشار لوسنيان وهو من كتاب اليونان العظماء والذي ولد عام مائة ميلادية في ساموسطا إلى حال المسيحيين فقال كما أورد ذلك الدكتور فريز ( إن المسيحيين لا يزالون يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي ولد في فلسطين لأنه أدخل إلى العالم ديانة جديدة وأن هؤلاء المفتونين قد أقنعوا أنفسهم بأنهم لن يموتوا بل يبقون للأبد ولهذا السبب تراهم يستخفون بالموت وكثيرون منهم يسلمون أنفسهم طوعا واختيارا ) وفي كل الأحوال فلقد وقفت المسيحية في مواجهة واقعية مع معضلة الموت فأعلنت على لسان المسيح رفضها للموت عبر التبشير بالأبدية الغامضة اعترافا منها بالحقيقة التي لا يريد أن يصدقها أحد والمتمثلة بمقابلته للعدم ، فحولت الموت إلى مدخل للأبدية ولم تعتد به كعقوبة إلى أن تحولت إلى دولة ونظام كنسي فتوجب عليها أن تدافع وتهاجم ولعل الموت هو أشد الأدوات فاعلية للتخلص عمليا وللأبد من المخالفين والمختلفين ومن هنا راحت التناقضات تجتاح العقيدة الجديدة وبدت نفعية متعصبة عكس الديانات القديمة الصريحة والمنسجمة بمواقفها ومبادئها .

إن الـموت وفق الإعلان المسيحي الأول عندما يكون عقوبة فهو فعل غاشم حتما و لا يقره العقل ولا يمكن قبول موقف الفيلسوف الألـماني العظيم هيجل المعروف باهتمامه البالغ بفلسفة الحق والذي وافق على الموت كعقوبة بشرط أن تـحصر في مجال ضيق ولعل ما دفعه لذلك هو سطوة إيـمانه المسيحي الكنسي على بعض أعماق تفكيره الحقوقي وانحيازه للدولة على حساب الفرد ، والأدق هو ما صرح به سيزار بيكاريا الـمشرع الإيطالي بقوله ( لا يمكن أن نزعم أن العقد الاجتماعي يتضمن موافقة الأفراد على إعدامهم بل ينبغي علينا أن نفترض العكس ) .

ويأتي التناول الإسلامي لمعضلة الموت ليعين فهما متصاعدا بذات الاتجاه يبلغ ذروته في ذلك الوصف التفصيلي للعالم الآخر وإصراره القاطع على بعث الناس كل الناس وإعادة الحياة إليهم ومحاسبتهم على أعمالهم بدقة غاية في التفصيل ، بل إن الأمر تعدى الأعمال إلى النيات التي ستكون معلومة يوم القيامة ( وهو يوم بعث الخلق ومحاسبتهم ) وبهذا سيكون الفرد مـجبرا على التحسب لا من أعماله فقط بل مما يضمره ويفكر به أيضا . وتبعا لذلك فموت المتقين هو سبيلهم الوحيد نحو الخلود في عالم أخروي مناظر تماما للعالم الدنيوي ويزيد عليه بأبديته وتوفر كل ما يرغب الإنسان به وما يشتهيه وهذا تطوير بالغ الوضوح لملكوت الله المسيحي وإغراء للمؤمنين للأقدام على الموت باطمئنان كامل لما يليه وبذلك أصبح الموت حقا من حقوق المؤمنين انطلاقا من كونه الدرب الوحيد الموصل للجنة .أما الآخرون فلهم عذاب عظيم في نار جهنم وهم فيها خالدون أيضا ، أي أنهم سيبعثون كما يبعث المتقون لكن مصيرهم سيكون مروعا في أتون العذاب المرير . وبهذه الصيغة فإن العذاب الذي ينتظر الكافرين لا بد أن يغني ـ وبالفعل أغنى في حالات لا حصر لها ـ عن العذاب الدنيوي وما دام الفرد أو الجماعات لا يخلخلون النظام الاجتماعي والسياسي الجديد فليس هنالك من ضرورة لمعاقبتهم حتى على عدم اعترافهم بالقناعات الدينية الإسلامية وهذا هو منبع التسامح مع الديانات الأخرى ، أما الذنوب الأخرى التي يقترفها أفراد المجتمع فقد وضعت لها عقوبات مشددة لن تصل للموت إلا في حالات محددة تأتي كرد فعل لجرائم قتل في معظم الأحوال ودائما هناك تحريض باتجاه مبدأ التوبة وما يليه من مغفرة دنيوية وأخروية ، لكن الإسلام كان متشددا للغاية في صراعه مع قريش حتى أنه أباح قتل أصحاب الديانة القديمة حيث ثقفهم المسلمون وكان اللجوء لصيغة الموت كعقوبة هو السبيل الوحيد للتعامل مع عدم الإيمان بالدين الجديد وبغض النظر عن قواعد كثيرة أقرت في المرحلة الأولى أي مرحلة الدعوة منها أن كل من يعتنق دينا فذاك شأنه وللمسلمين دينهم كما تم تناسي عبرة العفو بشكل محيـر في مواقف عدة مثل ما حدث للطبـيب والرحالة المكي النضر بن الحارث بن كلدة الذي أسر في معركة بدر إذ قتل صبرا أو ما جرى لليهود من بني قريظة في أحد حصونهم إذ أبيدوا بذات الطريقة المؤلمة بعيد معركة أحد .

إن تحول الإسلام من دعوة إلى دولة أدى به إلى مثل ما حصل للمسيحية الكنسية ، فإذ لم يتحدث التاريخ عن أية حالة حكم بالموت على مسلم في المجتمع المدني ( عدا حالات الاغتيال السياسي التي بدأت بسعد بن عبادة حيث اغتاله نفر من الجن فيما قاله الرواة ! مرورا بالقتل المفجع للخلفاء الراشدين الثلاثة : عمر وعثمان وعلي وكل ذلك جرى خارج المبادئ والشرع السائدين ) كانت عمليات المعاقبة بالموت تجري على قدم وساق في ظل النظام السياسي الأموي - العباسي واستنادا إلى تفسيرات واجتهادات براغماتية للنصوص المعتمدة ، وكان وجود الجلاد والسيف والنطع شرط لا يقوم مجلس الخلفاء إلا به . ويمكننا تشخيص الخلل الذي دفع نحو هذا الانحراف بعدم اتخاذ المشرع الإسلامي موقفا حادا يتبنى إلغاء عقوبة الموت و إرجاء معاقبة من يستحقها ليوم الحساب الأخروي مع اتخاذ عقوبة مناسبة أخرى غير القتل كما إن التطرق للتجارب التاريخية التي عصفت بأقوام قديمة وأبادتهم وعدها غضب دنيوي من الله وفر لكل من شاء مسوغا أخلاقيا للقتل القانوني ، فما دام الله عد الموت عقوبة وراح يقتل لسبب أو لآخر إذن حق للآخرين أن يفعلوا ما يشاؤون بمن يشاؤون للأسباب التي يقنعون بها ، ومما يثير الدهشة أن يعد الموت والإبادة الجماعية لأقوام معينة بمثابة عقوبة إلهية في حالات مشار إليها بينما لم تعد كذلك لأقوام أخرى ضربتها نكبات مشابهة ، وبـقدر انطباق الأمر على المجموعات البشرية فهو ينطبق على الأفراد أيضا فثمة من قتل ووصف قتله بالعقوبة بينما حصل ذلك لآخرين وبطريقة أبشع لكن التعصب عدهم شهداء ! فيا للعجب .

في الختام وكي لا نطيل نقر تماما أن الموت معضلة الإنسان العظمى التي بحلها الدنيوي الواقعي المؤكد سوف يتغير وجه الكون وحتى ذلك اليوم ألا يتوجب على من يرى نفسه إنسانا التوقف عن استخدام الموت كعقوبة أو وسيلة لإلغاء الآخرين ؟