مشروع العلم الحديث


هشام غصيب
2011 / 7 / 26 - 00:41     

إذا استثنينا علمي الفلك والضوء ، وجدنا أن علم الطبيعة القديم المرتبط أصلاً باسم أرسطو (علم الطبيعة المشائي) كان يخلو من الرياضيات . فلا نجد في كتابات أرسطو العلمية وكتابات من تلاه من أساطين العلم القديم الإغريق والعرب أي أثر لمعادلة أو علاقة رياضية.

لقد كان علم الطبيعة القديم غير مريّض بمعنيين: بمعنى أن التنظير فيه لم يكن مريّضاً، وبمعنى أنه لم يكن يرتكز إلى القياس الدقيق، وإنما إلى المشاهدة الحسية اليومية الخام. لقد كان ينطلق من مبادئ فلسفية وجمالية وأخلاقية عامة ويطورها منطقياً مسترشداً بالمشاهدات الحسية اليومية الخام.

أما علما الفلك والضوء ، فقد ريّضا مبكراً ، ربما لأنه كان يعتقد أن السماوات والضوء لا تنتمي إلى عالم المادة وحركتها ، وإنما إلى عالم مثالي يليق بالهندسة والحساب. ولم يفكر أحد قبل الفيزيائي الإيطالي ، غاليليو غاليلي (1564-1642)، أن يمد هذه الأساليب الرياضية المتقدمة إلى عالم المادة وحركتها .

فلئن أنزل كبلر، ومن بعده ديكارت ونيوتن ، السماء إلى الأرض ومحيطها ، فقد رفع غاليليو الأرض إلى السماء بتطبيقه أساليب علم السماوات على الأرض .

لقد ريّض غاليليو الطبيعة برمتها ، مدشنا بذلك مشروع العلم الحديث . فما الذي يميز هذا المشروع ، الذي قلب الأمور رأساً على عقب وكان أثره بركانياً على الحياة البشرية وتاريخ الإنسان؟

أساس هذا المشروع هو التركيز على نظام فيزيائي محدد وتحديد مكوناته والتفاعلات بين هذه المكونات . يأتي بعد ذلك تحديد خصائص هذا النظام . وهنا يفرّق العلم الحديث بين خصائص أولية وخصائص ثانوية . فالأولى موضوعية ومريّضة . أما الثانية فهي ذاتية ونوعية . وأعني بذلك أن الخصائص الثانوية لا تنيع من جوهر النظام الفيزيائي المدروس ، وإنما من وقع النظام على الحواس والعقل . فهي ذاتية بهذا المعنى . وبالطبع فإن العلم الحديث يفترض وجود عالم موضوعي بخصائص موضوعية محددة مستقل تماماً عن معرفته وعن أي وعي أو عقل عارف.

بذلك يسعى العلم الحديث إلى تحديد الخصائص الأولية للنظم الفيزيائية، وهي ما يسمى الكميات الفيزيائية، كالطول والزمن والسرعة والتسارع والكتلة والقوة والزخم والطاقة ودرجة الحرارة وشدة الإضاءة. ولا تحدد بأنواعها فقط، وإنما بمقاديرها أيضاً. وهي تتحدد وتتميز وتتمثل بالقياس الدقيق والرياضيات . ويسعى العلم الحديث إلى اكتشاف هذه الكميات وتحديدها بالقياس والرياضيات، ثم إلى تحديد العلائق المتنوعة بينها، أي تحديد كيفية تغير كمية فيزيائية بتغير غيرها. وتعرف هذه العلائق بقوانين الطبيعة . وعليه، فإن العلم الحديث يسعى إلى الكشف عن قوانين الطبيعة، أي العلائق الموضوعية بين الكميات الفيزيائية أو خصائص النظم الفيزيائية، وتفسير الوقائع العيانية بدلالتها واستعمالها للتنبؤ بوقائع عيانية جديدة . فالعلم الحديث يسعى إلى تحديد مزيد من الكميات الفيزيائية والعلائق المتنوعة بينها من أجل التفسير والتنبؤ.

هذا هو مشروع العلم الحديث ، الذي دشنه غاليليو، والذي ما زال ماضيا في طريقه يتطور ويتشعب ويتوسع .

لقد آمن غاليليو في أن الرياضيات هي لغة الطبيعة ، أي أن الطبيعة كتاب مكتوب بلغة الهندسة والجبر والحساب . وقد عبّر عن هذه الفكرة بالقول: ” إن الفلسفة مكتوبة في هذا الكتاب الهائل الماثل مفتوحاً دوماً أمام ناظرنا
(إني أتكلم عن الكون). لكنه لا يمكن قراءته إذا لم يتعلم المرء أولاً اللغة ولم يستدل على الحروف التي يكتب بها. وهي مكتوبة باللغة الرياضية، وحروفها هي المثلثات والدوائر وغيرها من الأشكال الهندسية. ومن دونها فإنه من المستحيل بشريا فهم كلمة واحدة. من دون هذه الحروف تغدو الفلسفة سيراً مشوشا في نفق مظلم ” .

بهذه الفكرة الفلسفية وبترجمتها فعلاً وعملاً دشن غاليليو مشروع العلم الحديث، الذي اتسع وتشعب وتطور حتى طبع عالم الإنسان بطابعه وصنع الحياة الحديثة على شاكلته ومثاله .

والحق أن هذا التوصيف لمشروع العلم الحديث يفسر ملاحظة محيرة ما فتئت تلح عليّ منذ زمن ، وهي أن قوانين الطبيعة جميعاً ، ومن دون استثناء ، رياضية البنية . فليس هناك قانون واحد من قوانين الطبيعة لا يملك هذه الخاصية ولا يحتوي مثل هذه البنية. إن قوانين الطبيعة لهي جميعاً هياكل رياضية تحمل معاني فيزيائية من دون أي استثناء. وهذا ينطبق على قوانين حركة الأجسام الجاهرية ـ قوانين كبلر في حركة الكواكب ، وقوانين غاليليو في حركة القذائف الأرضية ، وقوانين نيوتن العامة في الحركة والجاذبية ، وقوانين الطاقة والفعل ، وقوانين حفظ الكميات الميكانيكية . كما إنه ينطبق على قوانين المجالات والحركة الموجية ، وقوانين الحرارة والضوء ، وقوانين الكهرمغناطيسية، وقوانين الغازات والذرات والجزيئات وحالات المادة ، وقوانين نواة الذرة والجسيمات دون النووية ، وقوانين تكون النجوم والمجرات ، وقوانين نشوء الكون وتطوره ، وقوانين المكان والزمان . إنها ظاهرة عامة لا تعرف الاستثناء .

وتزول الحيرة بإزاء هذه الظاهرة حين ندرك أن قوانين الطبيعة هي في أساسها علائق رياضية موضوعية بين الكميات الفيزيائية، وأن هذه الأخيرة تتحدد بالرياضيات والقياس الدقيق. فكون مشروع العلم الحديث يتمحور حول الكميات الفيزيائية يجعله معنيا باستكشاف البنية الرياضية للطبيعة. إن مفهوم الكميات الفيزيائية هو مصدر البنية الرياضية الضرورية لقوانين الطبيعة وأساسها.

وقد اكتملت نواة مشروع العلم الحديث على يدي العالم الإنجليزي ، إسحق نيوتن. ذلك أنه حتى يتمكن نيوتن من وصف تغير الكميات الفيزيائية بالعلاقة مع بعضها بعضاً، فقد ابتكر نمطاً جديداً من الرياضيات، هو علم الحسبان
(التفاضل والتكامل) ، الذي يعنى باللانهايات الصغرى . وينبغي الإشارة هنا إلى أن الفيلسوف الألماني ، لايبنتز، أفلح في ابتكار علم الحسبان بصيغة أخرى تختلف عن صيغة نيوتن في الوقت ذاته تقريباً ، وبمعزل عن نيوتن .

وقد ضخ نيوتن ابتكاره الجديد في صلب فيزيائه ، أي في صلب قوانينه الكونية في الحركة والجاذبية، مدشناً بذلك تقليداً علمياً جديداً عمّ علم الطبيعة برمته حتى هذه اللحظة من تاريخه . فعبر عن هذه القوانين بدلالة معادلات تفاضلية . ودرج من تلاه من الفيزيائيين والرياضيين على فعل ذلك، الأمر الذي حول قوانين الطبيعة في جميع فروع الفيزياء إلى ثلة من المعادلات التفاضلية والتكاملية. وينطبق هذا القول تماماً على قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، وقوانين الطاقة والفعل ، وقوانين الضوء والحرارة والكهرمغناطيسية ، وقوانين الذرات والجسيمات دون الذرية، وقوانين الكون . فهي جميعاً معادلات تفاضلية وتكاملية. والحال أن نيوتن ، بضخه علم الحسبان في قوانين الطبيعة ، أفلح في تحويل هذه القوانين
( أو بالأحرى، تعبيراتها) إلى ماكنة مذهلة في إنتاج المعرفة بصدد الطبيعة ، أي في إنتاج معرفة مهمة من عدد محدود من البيانات والقياسات . لقد حول عملية إنتاج المعرفة في جانب كبير منها إلى عملية حل معادلات تفاضلية وتكاملية، أي إلى عملية ذهنية منطقية تجريدية. وحول قوانين الطبيعة إلى طاقة إجرائية مذهلة تتمتع بقدرة هائلة على التفسير والتنبؤ.

وقد دشن نيوتن هذا التقليد العظيم باشتقاقه قوانين كبلر ، التي تصف حركة الكواكب حول الشمس وحركة القمر حول الأرض ، بالإضافة إلى قوانين غاليليو في حركة الأجسام الأرضية ، من معادلاته التفاضلية المعبرة عن قوانينه الكونية . وكان ذلك اختباراً مهماً لفاعلية التقليد العظيم الذي أرساه . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أفلح الفيزيائي السكتلندي ، جيمس كلارك ماكسويل ، في توحيد الكهربائية والمغناطيسية والتعبير عن قوانين المجال الكهرمغناطيسي بدلالة عدد من المعادلات التفاضلية أخذت تعرف بمعادلات ماكسويل في الكهرمغناطيسية . ومنها اشتق ماكسويل فكرة أن هناك أمواجاً كهرمغناطيسية وأن الضوء ليس سوى ضرب من الأمواج الكهرمغناطيسية . لقد فسر الضوء وخصائصه وتنبأ بوجود أنماط أخرى من الإشعاعات، كالإشعاع الميكروي ودون الأحمر وفوق البنفسجي والسيني وإشعاع غاما، بضربة رياضية واحدة .

وفي عام 1926، ابتكر الفيزيائي النمساوي ، إرفن شرودنغر ، معادلة أخذت تعرف باسمه وتصف ديناميكا الإلكترونات وغيرها من الجسيمات دون الذرية . وقد استطاع شرودنغر استنتاج طيف ذرة الهيدروجين ( أي الإشعاعات المنبعثة عن هذه الذرة) بحل معادلته الموجية بالطرق الرياضية المألوفة .

وقبل ذلك ، وفي عام 1916، توصل الفلكي الألماني ، كارل شفارتشيلد ، إلى حل لمعادلة آينشتاين المجالية (النسبية العامة) تبين لاحقاً (بعد عشرات السنين) أنه يمثل الثقوب السوداء ، تلك المناطق المغلقة في الكون التي لا يخرج منها شيء ، ولا حتى الضوء . ومعنى ذلك أن معادلات آينشتاين المجالية التفاضلية تقودنا إلى معرفة حالات مادية جديدة
(الثقوب السوداء) بآلياتها الرياضية الداخلية .

وفي عام 1928، توصل الفيزيائي البريطاني، بول ديراك، إلى معادلة تفاضلية تطيع نظرية النسبية الخاصة وميكانيكا الكم في آن واحد. ومنها اشتق بالطرائق الرياضية التقليدية، وبعبقريته التأويلية ، وجود نمط جديد من المادة، وهو ما أخذ يعرف بضد المادة . وقد أثبتت التجارب اللاحقة صحة هذا الاستنتاج. وعلى سبيل المثال ، فإن للإلكترون ضداً يسمى البوزيترون . فإذا تفاعل إلكترون مع بوزيترون ، دمر الجسيمان بعضهما بعضاً وتحولا إلى إشعاع كهرمغناطيسي
(إشعاع غاما). والعكس صحيح أيضاً. أي إذا تفاعل جسيما غاما معاً دمرا بعضهما بعضا وتحولا إلى إلكترون وبوزيترون .

وفي عام 1968، وضع الفيزيائيان الأميركيان ، واينبرغ وغلاشو ، والفيزيائي الباكستاني، عبد السلام ، نظرية توحد القوة النووية الضعيفة مع القوة الكهرمغناطيسية وقادتهم معادلاتهم التفاضلية إلى فكرة وجود جسيمات كتلة الواحد منها تفوق كتلة البروتون بحوالي تسعين مرة . وبالفعل ، فقد تم الكشف عن هذه الجسيمات في معامل سيرن في جنيف عام 1983 على يد الفيزيائي الإيطالي ،
كارلو روبيا ، وفريقه .

وهكذا نرى أن نيوتن ، بابتكاره علم الحسبان وضخه في قوانين الطبيعة، ابتكر ماكنة مذهلة وغير مسبوقة في إنتاج المعرفة وفي التفسير والتنبؤ ، احتلت القلب من مشروع العلم الحديث .