الشيوعية باعتبارها خيال علمي- تفكيك الماركسية - ج 2


أمير خليل علي
2011 / 7 / 23 - 21:09     

تفكيك الماركسية - ج 2

الشيوعية باعتبارها خيال علمي:


لابد في البداية أن ألفت الأنظار إلى أن المقال الحالي – وما يعقبه – ينسج في مسار تطوري وجدلي .. وذلك بمعنى أنه دوما قيض الاستكمال حتى نهايته .. وبهذا فلا يصح اقتطاع إحدى الأفكار الجزئية منه واعتبارها بمثابة ثغرة لنسف المقال من أساسه. بل الأجدى هو فهم علاقة هذا الجزء بغيره من الأجزاء في المقال ونسف هذه العلاقة، لا نسف الجزئية فقط.

وليس هذا الاستدراك مني محاولة لقمع نقاد المقال. لكنه على العكس محاولة لتنويرهم إلى طريق العثور على ثغرات أكثر حساسية. لا أكثر!

من الطوباوي إلى الخيال العلمي:

تقوم الفكرة الشيوعية عند ماركس على مصادرتين متتاليتين تؤيدان بعضهما، حيث تتخفى الثانية تحت الأولى بشكل تمويهي وتحايلي.

تدور المصادرتان وفقا للتسلسل التالي:

المصادرة الأولى:

الرأسمالية مرحلة .. . ما يعني أنها ليست دائمة ولابد أن تنتهي:

وهذه مصادرة تاريخية مقبولة، بل وموجودة ومعروفة منذ هيراقليطس وفي أغلب الأديان والموروثات الشعبية التي تؤكد أن دوام الحال من المحال.

المصادرة الثانية :

أن الرأسمالية ستنتهي إلى الاشتراكية ثم الشيوعية

هنا تحديدا تكون هذه المصادرة الثانية فيها مبالغات غير سليمة وغير صحيحة وغير علمية.

فلا يوجد في علم التاريخ لا السابق ولا الحاضر ما يؤكد المصادرة الثانية بالمرة.

فكيف ينتهي الصراع الطبقي إلى إزالة الطبقات بينما لم يحدث ذلك بالمرة خلال أي من المراحل والتشكيلات الاجتماعية التي درسها ماركس قبل الرأسمالية. حيث كان كل ما يحدث هو تصاعد الصراع بطريقة الجدل الذي ينحل في نشوء مركب جديد يحتوي بداخله على عناصر صراع مستقبلي جديد. ولم يحدث بالمرة في أي من مراحل التاريخ السابقة أن انتهى الصراع إلى إزالة الصراع. فإزالة الصراع هي نزعة ضد ماركسية لكونها ضد جدلية بل ضد تاريخية. لأنها تؤكد وصول التاريخ إلى نهايته، بتوقف الصراع الذي هو المحرك الأساس لكل تاريخ إجتماعي.
لذا ففرضية إزالة الصراع عند المرحلة الشيوعية هي فرضية مضادة للماركسية ومضادة لجدل التاريخ، سواء عند ماركس أو هيجل.

لذا فوحدها المصادرة الأولى المتعلقة بضرورة سقوط الماركسية هي فقط الصحيحة. لأنها تتفق مع جدل التاريخ الماركسي والهيجلي. وبهذا تتحول هذه المصادرة الأولى من كونها مصادرة إلى كونها فرضية مقبولة وقابلة للتدليل على صحتها.

لكن المسألة تتوقف عند هذا الحد.

فالمصادرة الثانية بتحول الصراع الرأسمالي إلى إزالة الصراع الشيوعي هي مصادرة غير جدلية ولا تتفق بالمرة مع الماركسية أو الهيجيلية.
وبهذا يجب توقيف هذه المصادرة الشيوعية عند كونها مصادرة دون أن تتحول إلى فرضية مقبولة أو مصدقة.

لكن هذا لم يحدث في الماركسية .. وهنا تحديدا دخلت الماركسية إلى حركتها الثانية .. أي تحولت من الحركة العملية الجدلية إلى الحركة التصويرية الإيهامية.

كيف تم الإيهام والتنويم؟

ولنفهم أسلوب التنويم الفكري الموجود بين هاتين الفرضيتين، فعلينا أن نفك الترابط الوهمي بينهما.
فهاتان المصادرتان تعملان وكأنهما ليسا مصادرتين متجاورتين. بل توحيان للقارئ دوما بأنهما مترابطتين، وبأن بينهما علاقة سبب ونتيجة، أو علاقة مقدمة عقلانية ونتيجة ضرورية. وهذا الترابط هو محض إيهام وتنويم فكري خطير.

فالمصادرة الأولى صحيحة ... فصحيح أن الرأسمالية ستنتهي، فهذا فكر قدري تواكلي. لكن أن ينقلب هذا الفكر القدري التواكلي فجأة إلى فكر تنبوئي توقعي في المصادرة الأولى ... فهذا يعني أن الطاقة الفكرية التواكلية القدرية الموجودة في المصادرة الأولى تتسلل إلى المصادرة الثانية لتمنحها شحنة تنويمية قادرة على شل فكر من يتعامل معها، فيبدو الأمر وكأن المصادرتين يتجاوران كسبب ونتيجة. بينما هذا ما هو إلا محض تنويم يشل الفكر.

إذن نحن هما أمام مصادرتين مجدولتين معا. وكأنما الهدف الواعي أو اللاواعي هي تمرير المصادرة الثانية غير السليمة من خلال التمويه على العقل، بذكر المصادرة الأولى السليمة.

وهذه مغالطة منطقية خطيرة، لأنها تستعصي على الفهم.

ولا أعلم لماذا لم يكتشف ماركس هذا التحايل المتبادل بين المصادرتين

لكن أظن أنه ربما لم يكن يريد اكتشافها. أي أنه ربما تعامى إراديا عنها.

ارتجالات شخصية في التنويم:

ولكشف هذا التحايل التنويمي، سأغير المصادرة الثانية، بأخريات من عندي، فأقول:

إن الرأسمالية مرحلة وستنتهي .. وستحل محلها مرحلة عبودية فائقة تنتهي بدورها بعد فترة ... لتحل محلها مرحلة إقطاعية فائقة تنتهي بدورها ... لتحل محلها مرحلة رأسمالية فائقة
وهذه المصادرة التي أخترعها هنا يمكنني أن أثبتها بآليات الفكر البوذي والنيتشوي حول العود الأبدي ودورات الحياة. وهي مهمة سهلة، طالما كانت مهمة الفيلسوف هي تغيير العالم لا فهم العالم.

أو يمكنني اختراع تنويعات أخرى بنفس الطريقة لصالح الإسلاميين أو اليهود أو المسيحيين أو الديناصورات، وفق إختياراتي الشخصية، فقط بتغيير المصادرة الثانية وحدها، مع الإبقاء على المصادرة الأولى، كما يلي:

إن الرأسمالية مرحلة وستنتهي .. وستحل محلها مرحلة دينية فائقة يعود فيها الناس إلى هويتهم الدينية
أو
ستحل محلها مرحلة يقتل الناس فيها بعضهم بعضا بالأسلحة النووية وتنتشر الإشعاعات القاتلة فوق سطح الأرض .. فتنجو الديناصورات وأفيال الماموث وحدها لأن طبقات جلدها السميكة تحميها وحدها من هذه الإشعاعات، بينما تقتل كل الكائنات الأخرى.. وبذلك ترث الديناصورات والأفيال الأرض مرة أخرى .. وتعود الحياة إلى ما كانت عليه منذ ملايين السنين .. وتعود دورة الأرض إلى بدايتها لتعيد كل مراحل التاريخ.

ويمكنني لتأييد هذه الرؤية أن أحشد أدلة كثيرة من علوم البيئة .. وساعتها سيكون من حقي أن أعلن:

إن علماء البيئة الإيكولوجيين قد اكتفوا حتى اليوم بفهم البيئة .. لكن المطلوب الآن هو تغيير البيئة .. فيا علماء البيئة ويا إيكولوجيين اتحدوا .. ولنمهد الأرض لإقامة ديكتاتورية الديناصورات.

من الواضح هنا أن الأمر سيتوقف على قدرتي على ما يلي:

• تصوير أسباب سقوط الرأسمالية الحتمي

• إدخال وإقحام بذور جنينية للديناصورات (أو أي حامل آخر للثورة) في سقوط الرأسمالية


فمثلا قد أشير إلى وجود مختبر مجهول نجح في استنساخ ديناصور ذكر وديناصورة أنثى .. في نفس توقيت قيام أمريكا بتوجيه ضربة نووية لروسيا.

وهكذا .. من الواضح هنا أن المسألة تتعلق بالقدرة على تصور سيناريوهات مختلفة عن الوضع الراهن .. لكن بشرط أن تكون مصورة على أنها قد تخلقت بشكل جنيني داخل الوضع الراهن .. وهذا بالضبط ما فعله ماركس بعبقريته التصورية التخييلية .. وهو بالضبط أيضا ما يفعله كل روائي عبقري في مجال روايات الخيال العلمي.

ففكرة السيناريو هنا تقوم على الربط المنطقي والواقعي بين الحاضر وبين المستقبل المتوهم .. لا أكثر.

فمثلا لولا موت بن لادن .. ولو كنا في عام 2003 لأمكنني بسهولة وضع سيناريو عن هجمات إسلامية جديدة تؤدي إلى تنصيب بن لادن خليفة للمسلمين وإنهيار الولايات المتحدة وحلفائها تماما.

بل ربما ما زال بالإمكان استبدال بن لادن بشخصية أخرى تحل محله في موقعه وتقوم بتنفيذ نفس السيناريو الموهوم عن نهاية الرأسمالية.

إذن من الواضح أن المفكر لو قرر أن يتبنى مهمة تصوير العالم .. في لحظات السقوط والنهوض .. فإنه قد يتحول إلى مجرد مؤلف لقصص خيال علمي لا أكثر.

وهنا يكون علينا أن نميز الفرق الشاسع بين "تصوير" وتفسير العالم وبين "تغيير" العالم. وهي الجدلية الحاكمة الموجودة في الكتابات المبكرة لماركس. (الأطروحة رقم 11 عن فيورباخ)

فالمفكر الواحد مطالب طوال الوقت أن يقوم بهاتين المهمتين معا وبشكل متوازن، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى.

بل إن المفكر أو الروائي الأفضل هو الأكثر واقعية وموضوعية من ناحية، وهو أيضا الأكثر قدرة على التصور والتخيل البعيد عن الموضوعي من ناحية أخرى. وتكمن عظمة المفكر في قدرته على مزج بين هذين الجناحين المتناقضين معا.

في المقال القادم سننظر كيف ومتى لجأ ماركس إلى تفسير وفهم العالم باعتبارها مهمة أولى، ومتى وكيف لجأ إلى التصوير والتخييل وتغيير العالم، باعتبارها مهمة ثانية، مختلفة ومتمايزة.