موضوعات حول أزمة ديون الرأسمالية العالمية*


رشيد غويلب
2011 / 7 / 20 - 14:28     


ترجمة: رشيد غويلب


1 ) المتربولات الرأسمالية مفلسة، عندما عقدت القمة السنوية للبلدان الصناعية السبعة في نهاية مايس 2011 في مدينة دوفيل الفرنسية، فان رؤساء الدول والحكومات المتقدمة اجتمعوا على جبل من الديون الحكومية يقدر بخمسة و ثلاثين بليون دولار، وهو مستوى لم تصله مديونية الدولة من قبل. إن اقتصاد النظام الآن اقتصاد مديونية بامتياز، إذ يبلغ المجموع الكلي للديون، ديون الدولة وديون الأسر و الشركات في المراكز الرأسمالية في الولايات المتحدة و منطقة اليورو و اليابان، في عام 2011 مئة بليون دولار تقريبا، وهو ما يساوي 2,5 ضعف مجموع الناتج الإجمالي المحلي السنوي
.
2 ) تزايدت الديون العامة بشكل حاد خصوصا، مع وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية، وبلغ معدل الزيادة، في المراكز المذكورة، 50% تقريبا في سنوات 2007 – 2011 ، وهو ما يعادل أضعاف وارداتها السنوية من الضرائب. دفعت ألمانيا على سبيل المثال كل وارداتها من الضرائب خلال السنوات الأربع لسداد ديون الحكومة الاتحادية و المقاطعات و البلديات.
لقد أنفقت هذه الدول بلايين الدولارات على صفقات إنقاذ البنوك وتحفيز الدورة الاقتصادية ، بالإضافة إلى تكاليف الحرب في العراق و أفغانستان وبالتزامن مع جفاف واردات الضرائب في سنوات الأزمة، وخصوصا الضرائب المفروضة على الأرباح. تم حشو الفجوات في الميزانيات بكميات كبيرة من السندات الحكومية التي يجري تداولها و تسويقها بواسطة البنوك، و لهذا فالبنوك و المؤسسات المالية التي تم إنقاذها بالأمس تحقق اليوم أرباحا من الديون التي توجب على الدول الحصول عليها لتمويل صفقات الإنقاذ.

3 )النظائر لجبال الديون العالمية هي أموال الأثرياء الهائلة التي تتجمع كأبراج تعانق السماء. هناك ثروة مالية تقدر 121,8 بليون دولار تدار من قبل مدراء الصناديق التنفيذيين (مجموعة بوسطن للاستشارات)، وعلى عكس الديون فان الثروة المالية تتركز عاليا بيد حفنة من أصحاب الملايين و المليارات. يوجد اليوم 12,5 مليون مليونير في العالم يشكلون 0,9 من الأسر الثرية يمتلكون 39% (48 بليون) من مجموع الثروة المالية في العالم.

تقل إمكانية الاستثمارات المريحة في الاقتصاد الحقيقي، نتيجة للتضاؤل الشامل للقوة الشرائية وتزايد الديون العامة و ديون الأسر ، وفي المجال المالي حيث يتوفر فيضان نقدي تتوفر إمكانية للاستثمارات الطارئة، و نمو مديونية الدول هي فرصة مرغوبة للتوسع في الاستثمار و المضاربات من قبل المستثمرين في الأسواق المالية.

4 ) لقد كان التعامل مع سندات الدولة، بالنسبة للبنوك و المستثمرين الماليين، مملا نوعا ما، لقلة الربح المتحقق منها ، إذ كان الربح المتحقق من التعامل بالأوراق المالية للدول يتراوح في الأحوال لاعتيادية بين 2 -3% ، و لكن الوضع مختلف ألآن: فمع تزايد تدفق الأموال من جهة، ونمو ضغط الديون من جهة أخرى، أصبح بالإمكان رفع سعر الفائدة والعوائد إلى مديات اعلي، و ممارسة المضاربة حتى ضد العملات الرئيسية أو الاستمرار فيها لحد إيصال الدول إلى حافة إعلان الإفلاس, تشكل سندات ضمانات الائتمان او ما يعرف بالانكليزية ( (cds-Papiere, die dredit-default-swaps و مشتقاتها وسيلة مهمة للمضاربة، و قد جرى أضافتها بعد الأزمة المالية، من قبل اكبر 16 بنك للاستثمار، إلى الديون الحكومية.
تلعب وكالات التصنيف الثلاثة Moody´s, Standard & Poors and Fitch دورا مركزيا في تصاعد معدلات أسعار فائدة وعوائد السندات الحكومية، عندما تقوم وبلعبة مشتركة مع المضاربين وبنوك الاستثمار بالتخفيض المستمر لدرجة تصنيف السندات الحكومية، وبالتالي ترفع من سعر الفوائد و العوائد المفروضة عليها وتجبر الدول على القبول بقروض مرتفعة الفائدة.، وبهذا تدفع بالدول بشكل متزايد إلى مصيدة الديون. إن الضحية الأولى لهذه اللعبة هي البلدان الصغيرة وبلدان محيط منطقة اليورو الغير قادرة على المنافسة، كما تقع في مرمى المضاربين بلدان منطقة اليورو المتوسطة مثل اسبانيا، على نحو متزايد، و كذلك بلدان أعضاء في قمة السبعة كايطاليا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية عملاقة الاقتصاد والديون ، هي اليوم في مجرى حديث وكالات التصنيف. وهذا ما يفسر الفارق الكبير في نسبة الأرباح (لأمد قصير لا يتجاوز 10 أعوام) في مختلف بلدان الاتحاد الأوربي، فعلى سبيل المثال بلغت النسبة في آذار 2011 في اليونان 12,44% وفي ايرلندا 9,67% و في البرتغال 7% و في أسبانيا 5,25% و في ايطاليا 4,88% وفي فرنسا 3,61% و في ألمانيا 3,21%.
المضاربات بالسندات الحكومية خالية من المخاطر إلى حد كبير، ويجري تحويل المخاطر إلى القطاع العام، المثال بواسطة " برامج إنقاذ اليورو" على سبيل. حتى في حالة الديون متوسطة المستوى يجري استنزاف دافعي الضرائب وصغار المدخرين، في حين يجري تصنيف مخاطر الدائنين الكبار في ألمانيا و فرنسا و بريطانيا باعتبار مخاطر "نظامية" و يجري دعمها بأموال دافعي الضرائب، مع إن السياسة ليس لديها سلطة تعريف المخاطر " النظامية"، تلك المخاطر التي يمكن أن تقود إلى سلسلة من ردود الأفعال مصحوبة بخطر الانهيار.

5 ) الاتحاد الأوربي و إستراتيجيو اليورو يريدون إعاقة إفلاس البلدان التي تعاني المشاكل وهم قلقون حول إمكانية انفراط عقد الاتحاد النقدي وانهيار اليورو، ويحاول متشددو " الترويكا": صندوق النقد الدولي و البنك المركزي الاوربي و المفوضية الأوربية تخفيف عبء الديون على بلدان الأزمة بواسطة إجراءات قسرية قاسية، وتقيدها بما يسمى ببرامج التكيف الهيكلي لجعلها قادرة على التنافس و " لكي تستطيع تسديد ديونها" كما تقول المستشارة الألمانية (ميركل). تشمل برامج التقشف و التكيف الهيكلي الانضباط المالي الصارم و التقشف والحد من الخدمات العامة و تقنين المعونات الاجتماعية و المعاشات التقاعدية و خفض الأجور و رفع الضرائب العامة، و هذه الشروط الصعبة لخدمة ديون الدولة تؤدي إلى استنزاف بلدان معنية و تمزقها نتيجة لضعف القوة الشرائية والطلب، وتدفعها أكثر في دوامة الأزمة، وهذا ما يثبته تراجع النمو في هذه البلدان. ما مدى فائدة نوع من القدرة على المنافسة في سوق عالمية تتميز بالتراكم المفرط و قلة الطلب وتحتل زواياه الصغيرة من البلدان الصاعدة وبلدان شرق أوربا التي انضمت للاتحاد الأوربي.
يأخذ إجبار البلدان المديونة، على بيع الممتلكات العامة إبعادا جديدة. "كل شيء يجب أن يهدر"، حتى المعالم الثقافية و التراثية لم تعد من المحرمات. " أكروبولس للبيع" كان عنوان تعليق جريدة السودويجة تسايتك (جريدة الجنوب الألماني) على أوضاع اليونان وأما جريدة البيلدتساتنك ( الصورة) العنصرية فقد كتبت " بيعوا جزركم، انتم مفلسون ايها الإغريق".التزمت حكومة باباندريو بخصخصة ممتلكات تعود للدولة بقيمة 50 مليار بورو. وفق حسابات صندوق النقد الدولي يمكن الحصول على 300 مليار يورو من بيع عقارات الدولة فقط، وهو ما يعادل 27 ألف يورو لكل مواطن يوناني. هذا نهب و مصادرة غير مسبوقة لثروة الشعب وإعادة توزيعها على الأثرياء، وسوف لا تؤدي إلى الخروج من فخ الديون، بل سيكون في أحسن الأحوال تأجيل للمشكلة.

6 ) حتى في البلدان الرأسمالية المتقدمة و التي لا تواجه الهبوط في دوامة الأزمة مباشرة ولا تواجه إفلاس الدولة تؤدي الديون الفظيعة إلى رفع أسعار الفوائد و إلى تقليص للمكتسبات الاجتماعية. وفق حساب تقريبي تدفع بلدان القمة السبعة من 10 الى 15 %، من إنتاجها الإجمالي المحلي، سنويا كأرباح عن مجموع ديون الدولة و الشركات و الأسر.و هذا هو النوع الثالث لإعادة التوزيع لصالح الرأسمال و الأثرياء. في التوزيع الأولي بين راس المال و العمل يجري التحول في النسب، منذ عام 2000 ، بشكل مستمر لصالح معدل الإرباح و على حساب معدل الأجور،و في التوزيع الثاني الذي يرتبط بسياسة توزيع الضرائب، والتي تبنى على أسس لا اجتماعية ، تؤدي إلى تراجع نسبة الضرائب المفروضة على الإرباح إلى مجموع الضرائب المستوفاة ، وعليه تقول الشركات و الأثرياء وداعا للمشاركة في تمويل الشؤون العامة. يعتبر النوع الثالث للتوزيع ، من الأسفل إلى الأعلى ،بمثابة جزية تفرض لصالح أموال الرأسمال، لان الإرباح المترتبة على ديون الدولة تدفع من قبل دافعي الضرائب، إي من الضرائب المفروضة على الأجور وعلى المستهلكين. تؤدي الفوائد المترتبة على الديون الشخصية إلى خفض ميزانية الأسرة مباشرة، في حين تقوم الشركات غالبا بإضافة ما تدفعه من إرباح إلى الأسعار أو تستعيده من خلال الادخار في تكاليف الأجور.

7 ) التدفق المالي غير المسبوق و عودة صناديق المضاربة الكبيرة وروافعها المالية و المضاربة ضد الدول والعملات الرئيسية تجلب معها خطر سلسلة من ردود الأفعال و الأزمات المالية. يتسارع جنون الأسواق المالية بشكل لا يمكن تصوره، ولذا فان أية تسويات في الأسواق المالية، والتي لا يمكن إبرامها ضد سلطة راس المال المالي سوف لن تحل المشكلة،و ستقوض و تدمر فيضانات الأموال الهائلة جميع أشكال الاحتواء، فضلا عن إن المضاربة و التعاملات المالية الكبيرة لا تجري في الأسواق المالية، بل تجري خارج البورصة و بلا شرعية،فالمشكلة ليست في السدود، بل في الفيضانات التي ما لم يجري الحد منها، فانها تشكل مخاطر لكارثة مالية جديدة.

يزداد ثبات أزمات النظام بأجمعه، و على أساس التوزيع الذي تم وصفه ينمو خطر إفراط جديد في التراكم أو أزمة استهلاك في الاقتصاد الحقيقي، ولا تقدم الطفرة في الطلب في البلدان الصاعدة سوى هدنة مؤقتة.
إذا ما حدثت أزمة مالية و اقتصادية، فستكون هناك لحظة جديدة ، عندها لا يمكن تصور سياسة اقتصادية حكومية بالأدوات الكنزية، كما إن السياسة التي جرى اعتمادها في سنوات الأزمة 2007 – 2009 والمبنية على برامج إنقاذ و تحفيز الاقتصاد جرى استنفاذها هي الأخرى. الكنزية ودعت الميدان بآخر صيحة " هورا" مرحى بعد أن أخرجت بلدان قمة السبعة من الأزمة مؤقتا مقابل مديونيتها الشاملة. إن تدخل حكومي سيكون ثمنه تضخم مفرط و مصادرة مدخرات المدخرين الصغار و المتقاعدين و غيرهم، الذين لا يستطيعون الهرب بأسهمهم ومقتنياتهم الخاصة.
8 ) لقد ماتت الكنزية ووصلت الليبرالية الجديدة إلى طريق مسدود وجواب المتسلطين هو الليبرالية الجديدة بلاس "زائد" (نسخة منقحة من الليبرالية الجديدة)، و التي ستؤدي إلى تقليص أكثر وحشية للبرامج الاجتماعية، و سيصل خفض الأجور و ظروف العمل غير المستقرة إلى قمتها، و ستزداد الهوة في المجتمع بين الفقراء و الأغنياء، وسيتم تجويع دولة الرفاه تماما. كل هذا يحدث تحت شعار "تعزيز القدرة على المنافسة"، ومنع دوامة الديون كما هو الحال في بلدان المحيط. و هذا يشترط تحجيم الحقوق الديمقراطية و التوسع في الأنظمة الاستبدادية.
في إعقاب الأزمة المالية جرى تحجيم الديمقراطية، و التمهيد لنشوء دكتاتورية المال. مع تثبيت "سقف للديون"، في القانون الأساسي ( الدستور) الألماني، اكتسب التعامل مع الثروة المالية ما يشبه الوضع الدستوري.الذي يجب فرضه في بلدان منطقة اليورو الأخرى. لقد جرى تحجيم السيادة وتضيق فسحة حركة البرلمان، فعلى سبيل المثال احتفظ البرلمان الألماني بحق مناقشة زيادة المعونات الاجتماعية 3 يورو فقط، وانشغل بها لأسابيع في حين إن القرارات المالية الكبيرة تتخذ في اطر أخرى.
صفقات الإنقاذ والتي تبلغ مئات المليارات تم تدبيرها في ليلة مظلمة من قبل دائرة ضيقة ضمت المستشارة ووزير المالية واثنين من رؤساء البنوك الخاصة و رئيس البنك المركزي الألماني و رئيس الرقابة لمصرفية . لقد اخضع البرلمان للوصاية وتخلى إلى حد كبير عن مهمته الأصلية و المركزية في تحديد قانون الموازنة. السيادة السياسية هي اليوم للبنوك و "قرارات الأسواق المالية"، فهم الذين يضعون أو يرفعون الإبهام عن الاقتصاد بأكمله، ونحن لا نقصد بلدان الأزمة داخل منطقة اليورو، فهذه البلدان يقرر سياستها الاقتصادية و المالية اليوم المفوضية الاوربية و صندوق النقد الدولي و البنك المركزي الأوربي و بنوك "النظام" ، هذه البلدان تخضع بالكامل لوصاية المال.

******************
* - مادة بقلم فريد شميد احد العاملين في معهد البحوث الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية في مدينة ميونخ الألمانية نشر في الأول من تموز الجاري على موقع المعهد وفي مواقع الكترونية أخرى