فجر الحداثة والمشروع المادي الحديث


هشام غصيب
2011 / 7 / 18 - 09:52     

لا نبالغ إن قلنا إن الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت، هو مدشن الحداثة ومؤسس المشروع المادي الحديث. فهو أول مفكر حديث وضع تصوراً شاملاً ونقياً “للعالم مادة وحركة”، أي وضع تصوراً مادياً ميكانيكياً بحتاً للكون، ومن ثم مشروعاً مادياً بحتاً لتفسير ظاهرات الكون. كما إنه أول من نقل بصورة منهجية مصدر اليقين من الذات الإلهية إلى الذات الإنسانية المفكرة الفردية. بذلك أرسى ديكارت دعائم ركنين أساسيين من أركان الحداثة: مادية الطبيعة ويقينية الذات الفردية المفكرة. فالحداثة ترتكز إلى حد كبير على اكتشاف الطبيعة بوصفها كياناً مادياً لانهائياً مستقلاً تحكمه قوانين صارمة تتحرك وتتفاعل مكوناته بموجبها، وهو اكتشاف دشنه ديكارت. كما إنها ترتكز إلى اكتشاف آخر، هو اكتشاف الإنسان بوصفه ذاتاً فردية مفكرة تحمل قيمتها داخليا في ذاتها، وهو أيضا اكتشاف ديكارتي. هذان الاكتشافان الديكارتيان الكبيران شكلا منصة انطلاق الحداثة، كما نعرفها ونعانيها اليوم.

ويجدر الانتباه هنا إلى أن الحداثة، وبرغم تأزمها اليوم وتفاقم أزماتها الفكرية والروحية، وبرغم كل ما سمعناه مؤخراً عن ما بعد الحداثة وانهيار السرديات الحداثوية الكبرى، ما زالت قائمة ومؤثرة تتطور وتنبض حياة. إنها مشروع غير ناجز، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني المعاصر، يورغن هابرماس. إنها ما زالت ثقافة العصر لا تنافسها أي ثقافة أخرى، قديمة كانت أو معاصرة. كما إن التبصرين الديكارتيين المذكورين ما زالا قائمين في جوهريهما برغم ما أصابهما من تطورات وتغيرات.

ولنسلط الضوء أولاً على تبصره المادي، أي على فلسفة ديكارت في الطبيعة. لقد كان ديكارت أول مفكر حديث تصور الطبيعة بدلالات مادية بحتة وبصورة شاملة ومستقلة وجلية. وبالمقارنة، فإن التصور الذري القديم (ديمقريطس، أبيقور، لوكريشس) شابه الكثير من الضبابية وكان منقوصا ويفتقر إلى نظرية متماسكة في الحركة. أما كون ديكارت، فقد كان جلياً من حيث امتداده ومكوناته وقوانينه وطبيعة حركاته. إذ كان امتداده لانهائياً، واستحال فيه الخلاء، وكان مكوناً من عدد لانهائي من الجسيمات المتنوعة الأشكال والأحجام والقابلة للانقسام. فديكارت رفض فكرة الذرات غير القابلة للانقسام. وتحكم حركات هذه الجسيمات ثلاثة قوانين في الحركة، من ضمنها قانون القصور الذاتي، الذي أخذ يعرف لاحقاً بقانون نيوتن الأول في الحركة. وتنبع ظاهرات الكون برمتها من حركات الجسيمات وانقساماتها واندماجاتها. وبالطبع، فإن العلم كان يتحرك صوب هذا التصور المادي البحت للطبيعة منذ كوبرنيكوس، ونجد ارهاصاته في بيكون، وبرونو، وغاليليو، وحتى في كبلر. لكنه كان ملوثا بالعناصر المثالية واللاهوتية والأفلاطونية والفيثاغورية والهرمسية قبل ديكارت. ولم يبرز في نقائه وصفائه إلا مع ديكارت.

وقد تبين لاحقاً خطأ تصور ديكارت الكوني من حيث التفصيلات. وبصورة خاصة، فقد وجه نيوتن وليبنتز وهويغنز نقداً جذرياً لهذا التصور نسف كثيراً من جوانبه. فقيما اعتبر ديكارت الامتداد جوهر المادة، فقد بين نيوتن أن الكتلة، وليس الامتداد، هو جوهرها. وفيما أكد ديكارت على استحالة الخلاء في الكون، أكد نيوتن على ضرورته. وفيما ركز ديكارت على الشكل والحجم، ركز ليبنتز على مفهوم الطاقة، وركز هويغنز على مفهوم الزخم، وركز نيوتن على مفهومي الكتلة والزخم. كذلك، فقد نسف نيوتن قوانين ديكارت الثلاثة في الحركة (باستثناء قانون القصور الذاتي) واستبدل بها ثلاثة قوانين أخرى أخذت تعرف باسمه. كما استبدل نيوتن بدوامات ديكارت قانون الجاذبية الكوني لتفسير حركات الكواكب والأقمار والمذنبات. والأهم من ذلك أن نيوتن أدخل إلى كون ديكارت الميكانيكي مفهوم الفعل عن بعد أو المجال، كالجاذبية والمغناطيسية. بذلك أدخل نيوتن تعديلا مهما على مشروع ديكارت المادي التفسيري. ففيما حاول ديكارت تفسير ظاهرات الكون جميعا بدلالة حركات الجسيمات وأحجامها وأشكالها وتصادماتها واندماجاتها، فقد تصور نيوتن الكون عل شكل مكان مطلق لانهائي الامتداد يتضمن جسيمات مادية ذات كتل متنوعة وتتفاعل معاً لا بالتصادمات فيما بينها فقط، وإنما أيضاً بالقوى المجالية. ووضع نيوتن مشروعاً مادياً معدلا لمشروع ديكارت يتمثل بتفسير ظاهرات الكون برمتها بدلالة حركات الجسيمات وتفاعلاتها (التصادمات والقوى المجالية).

وعليه، يمكن القول إن الثورة العلمية الكبرى (1543-1678) توجت بالتصور النيوتني المادي المجالي للكون: مكان مطلق لانهائي يطيع قواعد هندسة إقليدس، وزمان مطلق، تتحرك فيهما جسيمات(ربما لانهائية العدد)، هي بمثابة نقط هندسية تحمل كتلاً، وتتحرك بفعل تفاعلاتها معاً بالتصادم وبالقوى المجالية وفق قوانين نيوتن في الحركة والقوى المجالية.

وساد هذا التصور طوال القرن الثامن عشر أساسا للعلم والفلسفة. وظل قائما في القرن التاسع عشر، ولكن أضيف إليه مفهوم الأثير، وهو مائع مطلق يملأ الكون برمته ويشكل حاملا للضوء(الأمواج الضوئية) والكهرباء والمغناطيسية وتجسيدا لمكان نيوتن المطلق.

أما في القرن العشرين، فقد أطيح بالأثير وبالمكان والزمان المطلقين (على يدي ألبرت آينشتاين). وعلى أنقاضها نشأ تصوران ماديان للكون: التصور النسبي والتصور الكمي. أما التصور النسبي، فقد طغى فيه المجال المتصل على الجسيم. ومفاده أن الكون يتكون أساساً من مجال متصل رئيسي، هو الزمكان(أي الزمان والمكان في وحدتهما الهندسية) أو المجال الجاذبي، ومجالات ثانوية تتفاعل معاً ومع الزمكان.

أما التصور الكمي، فهو يوحد جليا بين القصور الديكارتي الجسيمي والتصور النيوتني الآينشتايني المجالي. إذ إنه يرى الكون امتدادا لانهائيا، لا يعرف الخلاء، ويعج بالجسيمات الأولية، التي تنبعث عن بعضها بعضا وعن المكان نفسه، وتمتص بعضها بعضا ويمتصها المكان نفسه، الأمر الذي يذكرنا بكون ديكارت. لكن هذه الجسيمات ليست كجسيمات ديكارت ونيوتن. فهي محتارة دوما لا تدري ماهيتها. فهي تارة جسيم بالمعنى النيوتني وطوراً مجال بالمعنى الآينشتايني ، اعتماداً على بيئتها وتفاعلاتها مع بيئتها. وقد تطورت هاتان الصورتان وتوحدتا في الثلاثين عاماً الأخيرة في ما أخذ يعرف بنظرية الخيوط الفائقة. وأضافت هذه النظرية إلى التصور الكمي المذكور أعلاه فكرتين أساسيتين: فكرة أن الجسيمات ليست مجرد نقط كتلية، وإنما هي خيوط طاقة في غاية الصغر(أصغر من الذرة بحوالي ترليون ترليون ترليون ترليون مرة)، وفكرة أن للمكان عشرة أبعاد، لا ثلاثة.

وهكذا، فإن الكون هو مكان بعشرة أبعاد يعج بالخيوط الفائقة الصغر التي تتفاعل معاً بطرق شتى.

ويتضح من هذا الاستعراض السريع للتطورات والتعديلات التي أصابت كون ديكارت المادي أن جوهر هذا الكون ظل إلى حد كبير قائماً حتى يومنا هذا: امتداد مكاني لانهائي يعج بالمكونات المادية المتنوعة والمتفاعلة معاً (جسيمات نيوتنية، مجالات، جسيمات كمية، خيوط فائقة). إن تصور ديكارت المادي للطبيعة، والذي دشن به الحداثة، ما زال قائما من حيث الجوهر، تماما كالحداثة نفسها، التي عانت كثيرا من التبدلات والتطورات والأزمات، ولكنها ظلت قائمة صامدة.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الفكرة الديكارتية الأخرى، التي شكلت ركنا أساسياً من أركان الحداثة، أعني فكرة الأنا أو الذات الفردية المفكرة ويقينيتها، أي اكتشاف الإنسان بوصفه ذاتاً فردية مفكرة مطلقة اليقينية والقيمة. فالفرد، وفق ديكارت، لا يستمد وجوده وقيمته من الجماعة ولا من الحاكم المطلق ولا من الخالق نفسه، وإنما يستمدهما من ذاته، من داخله الفكري. وقد ترسخت هذه الفكرة في الثقافة الحديثة، في الفلسفة والسياسة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع. وبصورة خاصة، قد نشأت الليبرالية الإنجليزية والأوروبية على أساس هذه الفكرة. وقامت الدساتير الحديثة (الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها) على هذا الأساس أيضا. وفي عصرنا، فإن فلسفة حقوق الإنسان تنطلق منها. ونرى كثيراً من الفلسفات الحديثة تشترك في الالتزام بهذه الفكرة برغم تبايناتها الكثيرة. وأذكر في هذا المقام الإمبريقية البريطانية والكانطية و النفعية البريطانية وفلسفتي شوبنهاور ونيشته والفرويدية والوجودية(كيركغور، هيدغر, سارتر). ففي الإمبريقية المنسجمة مع ذاتها يصبح الوجود مطابقاً للذات وانطباعاتها وأفكارها وعواطفها. وفي كانط، تصبح الذات العاقلة صانعة العالم المحسوس. وفي ماركس، يصبح الأفراد ( بلحمهم ودمهم) صانعي التاريخ ويصبح الفرد غاية التاريخ. وكذلك الحال مع ليتشه، الذي يصبح الفرد المتفوق (السوبرمان) لديه غاية التاريخ.

وفي كيركفور، يصبح الفرد قيمة مطلقة ووجوداً مطلقا غير قابل للاختزال إلى غيره، وتصبح الذاتية هي الحقيقة. وفي سارتر، تغدو الذات الفردية عدما مغروساً في قلب العماء الكوني. ولعله من المفيد أن يقوم باحثون بإجراء دراسات مفصلة عن الأشكال المتنوعة التي اتخذتها هذه الفكرة الديكارتية في الفكر الحديث، والتطورات الكبيرة التي عانتها في سياق تطور الفكر الحديث. وهكذا نجد أن ديكارت أرسى بفكرتيه العظيمتين قاعدة الحداثة والعلم الحديث والمشروع المادي الحديث في آن واحد.

ولكن، كيف تسنى لديكارت أن يفعل ذلك، أي أن ينقل الفكر البشري هذه النقلة الثورية المذهلة؟ كيف تسنى له أن يبلر النزوعات المادية والعقلانية والفردية، التي برزت في القرنين السادس عشر والسابع عشر في سياق الثورة العلمية الكبرى وبروز البرجوازية التجارية وتفكك الإقطاع الأوروبي، في مشروع الحداثة، أي في فكرة مادية الطبيعة ويقينية الذات الفردية المفكرة، بهذه الصورة الجلية؟

لقد أحرز ديكارت هذين الاكتشافين الحداثويين الكبيرين بإجراء فكري عبقري تمثل بالفصل الكامل بين المادة والفكر، وكان أول فصل من نوعه في التاريخ. إذ إنه افترض وجود جوهرين في العالم: المادة والعقل، وفصل بينهما تماماً. فجوهر المادة هو الامتداد، وجوهر العقل هو الفكر. وعليه، فإن كل امتداد مادي وكل مادة ممتدة، بمعنى أن الامتداد يخص المادة وحدها، وأن الفكر يخص العقل وحده، ولا يجوز الخلط بينهما بتاتاً. من ثم، لا يجوز أن تكون هناك عقول أو أرواح ممتدة، أي لا يجوز أن تسكن البنى الفكرية والروحية والغيبية عالم المادة الممتد. إن الأخير مجرد عالم من الأشكال والأحجام والحركة لا أكثر ولا أقل، وتحكمه قوانين دقيقة محكمة وقوى مادية بحتة، ويخلو تماماً من البنى الفكرية والروحية والجمالية والأخلاقية. أما تلك البنى، فهي تنتمي إلى العقل، أي إلى الجوهر الثاني. فالمادة لا تفكر، كما إن العقل لا يمتد، أي لا يوجد في المكان. بذلك، وبضربة واحدة، تمكن ديكارت من تأكيد مادية الطبيعة وخضوعها لمبدأ السببية (لقوانين السببية) ومن تأكيد العقل المفكر واستقلاله. أو قل إنه تمكن من تأكيد مادية الطبيعة ووضع مشروع مادي شامل لوصف الطبيعة وفهمها من دون نفي العقل والروح. لقد كان عليه أن يفعل ذلك لكي يطهر صورة الطبيعة من مخلفات العصور الأسطورية والميتاغيزيقية، من دون أن يلغي جوهرية العقل ولغزه. هكذا دشن ديكارت الحداثة والمشروع المادي وثقافة الفرد المستقل في آن واحد وبضربة عبقرية واحدة. لكن ديكارت بفعله ذاك خلق مشكلة جديدة في تاريخ الفكر، هي مشكلة ثنائية المادة والعقل. ويمكن القول إن تاريخ الفلسفة الحديثة تتمحور حول هذه الثنائية منذ ديكارت وحتى هذه اللحظة، بل ولا يمكن فهمه إلا بالإشارة إليها. ولكن، هل تمكنت الفلسفة الحديثة من التغلب على هذه الثنائية. نحن نعلم أن الديكارتيين وجون لوك وديفد هيوم وإيمانويل كانط وغيرهم كثر أخفقوا في ذلك. ولكن، هل أفلح آخرون، مثل باركلي وهيغل وماركس وهوسيرل وهيدغر، في ذلك؟ لذلك قصة أخرى قد نتناولها في دراسات وسياقات أخرى.