الحريات الديمقراطية والاشتراكية2


حميد كشكولي
2011 / 7 / 15 - 23:24     

المحتوى الاقتصادي للنظام السياسي الديمقراطي


يبين التحليل الماركسي لأوضاع روسيا 1905 لماذا لم يؤد ِّ وصول البرجوازية للسلطة ، و سيادة الرأسمالية إلى إقرار الحريات الديمقراطية . وقد كان لينين و(كذلك كاوتسكي في أوج فترات حياته الراديكالية) قد وصل إلى هذه النتيجة من تحليله لديناميكية الثورة الروسية ، إذ استندت إستراتيجية البلاشفة وفق التحليل اللينيني ذاك إلى أن التحولات الاقتصادية هي بإمكانها ضمان تثبيت وصيانة الحريات الديمقراطية لصالح الطبقة العاملة ، و أن الطبقة الحليفة للعمال في هذا الميدان، و التي تتقاطع مصالحها مع هذه التغييرات و تناضل في نفس الوقت لأجلها في هذه المرحلة ليست البرجوازية وكبار ملاكي الأرض ، بل الفلاحون الذين يطمحون إلى إقامة نموذج خاص من الرأسمالية في الريف؛ يمنحهم سلطات في الريف بدلا من منحها لأصحاب الأرض الكبار والرأسماليين. وسوف يكون ، وفق التحليل البلشفي ، هذاالنموذج الرأسمالي البنية التحتية الاقتصادية لإقامة ديمقراطية حقيقية وضمانة للحريات السياسية العامة.

ووفق هذا التحليل البلشفي كان النظام السياسي المنبثق عن ثورة 1905 ملبيا المطالب الديمقراطية للطبقة الثورية، وأن الحكومة كانت حكومة العمال والفلاحين لا نظام برجوازي ديمقراطي. فلم تعني خطة النيب إقامة نظام رأسمالي و تنمية طبقة برجوازية . و قد أثارت الثورات الشعبية في مصر تساؤلات عديدة ، منها ما هو البديل العمالي الاشتراكي للحكم في البلدين ؟ و ما هي الأهداف المرحلية للثورة ، أو ماذا كانت ؟
فالأجوبة على هذه التساؤلات ليست سهلة ، وتتطلب تحليلا طبقيا دقيقا لأوضاع العمال و الكادحين و الرأسمالية في البلدين . وأن مساهمتي في هذا المجال ليست إلا محاولة لمقاربة الوضع و إثارة النقاش الجدي حوله. فإن الرأسمالية المصرية في مرحلة الثورة الشعبية الراهنة في وضع أفضل كثيرًا من حالها في أوائل التسعينات، سواء من الناحية المالية ، أو من الناحية الإنتاجية ولكن هذا لا يعني الشيء الكثير بالنسبة للطبقة العاملة. فرأسمالية ناشئة ما زالت تحبو كالرأسمالية المصرية عليها، حتى تستطيع أن تصمد في سوق عالمية راكدة وبها منافسين عتاة، أن تضغط وتضغط على مستويات معيشة الجماهير العمالية، وتشدد من استغلالها ، تمامًا كما فعلت الدول التي سبقتها في سلم الصعود.

لهذا فأن العلاقات الرأسمالية تسود حتى في أرياف مصر وتونس ، رغم كونها رأسمالية تابعة ، ألا أن في ظروف العولمة ، والثورة المعلوماتية أصبحت العلاقات الرأسمالية وهي من طبيعتها أيضا ، لا تعرف حدودا قومية، كما أن العمال بطبيعتهم أمميين و متضامنين أمميا.

لا يمكن تصور أي شكل من أشكال التطور الرأسمالي في الريف يتقاطع مع مصالح شريحة واسعة من البرجوازية الصغيرة الزراعية ويستلزم في نفس الوقت أوسع الحريات الديمقراطية، بدون تغيير أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية السائدة في الريف ، أي بإزالة أو حل الطبقات والشرائح المستغِلة ما قبل الرأسمالية .
وطالما هناك شرائح واسعة في المجتمع لها مطالب ديمقراطية وينادون بها في المظاهرات ، و نظرا لما يفرضه واقع الاقتصاد الرأسمالي في مصر وتونس ،ونظرا لانعدام وجود نموذج رأسمالي بإمكانه تأمين ونشر وإقرار الحريات الديمقراطية ، وليس ثمة طبقة أو شريحة هدفها إقرار مثل هذا النموذج الرأسمالي للديمقراطية غير الموجودة ، فيكون وهما إقرار الحريات السياسية في مصر اليوم بدون التعرض للعلاقات الرأسمالية السائدة. وإن لاكتفاء اليسار بمطالب ديمقراطية فارغة من محتوى اقتصادي سوف يتم استخدامه أداة سياسية وإيديولوجية لعرقلة تبلور أو تشكل قطب سياسي عمالي اشتراكي.
إن تحقيق الحريات الديمقراطية لا يمكن إلا بدون حركة جماهيرية تطالب بها، وتكون قادرة على ممارستها و الدفاع عنها. بعبارة اخرى طالما أن البنية الاقتصادية للمجتمع لم تتغير، و طالما أن البنى الاقتصادية للرأسمالية راسخة كما كانت و لم تتزعزع من مكانها ، فلا يمكن تصور صمود نظام سياسي هدفه تأمين الحريات الديمقراطية حقا.

مثل هذا الطرح يواجَه غالبا بتهم جاهزة مثل التطرف اليساري والصبيانية و غيرها ، كما يمكن أن يفهم كثيرون طرحي هذا بشكل مغلوط بأنني أطالب القوى اليسارية الاشتراكية الماركسية بتجاوز الأهداف المرحلية و رفع شعار بناء الاشتراكية فورا ، إذ لا يوجد أي ّ ماركسي لا يستنج إستراتيجية نضالية في أية ثورة انطلاقا من الضرورة الموضوعية لتغيير أسلوب الإنتاج.
وقد شاركت شرائح واسعة في الثورة المصرية والتونسية يرفعون شعارات تطالب بالديمقراطية، وان الطبقة العاملة بسبب انعدام الحريات السياسية، ليست مهيأة لبناء الاشتراكية.
ثمة بديلان للقوى اليسارية الاشتراكية الماركسية متناقضان في الثورة الراهنة . فمن جهة أن أغلب الجماهير، بضمنها العمال بشكل موضوعي لهم مطالب بالحريات الديمقراطية ( و أن الطبقة العاملة غير مستعدة للاشتراكية) ، ومن جهة أخرى أن الحريات والتقدم الذي تحقق لصالح الطبقة العاملة لا يمكن لها البقاء و الصمود طالما لم يتم التعرض للعلاقات الرأسمالية، وأساليب الإنتاج الرأسمالي.

البديل الأول هو أن يبقى النظام السياسي بعد الثورة بيد البرجوازية، أي تتشكل حكومة ترعى مصالح الرأسمالية و الطبقة الرأسمالية، ولا يريد مس الرأسمالية. في هذه الحالة لا ضمان للحريات السياسية حتى في ظل أفضل الدساتير الديمقراطية والعلمانية وأصدقها، و بالتالي تضطر الحكومة للتضييق على الحريات الديمقراطية، وهذا ما حصل في تونس ومصر، والمثال الواضح هو سكوت اللبراليين في مصر عن مساعي القوى الرجعية لسن قوانين لمنع الإضرابات العمالية.
والبديل الآخر هو أن تكون الحكومة حكومة مجالسية للعمال والكادحين. مثل هذه الحكومة لا تأبى إلا أن تواجه الرأسمالية وتقوم بمحاربتها حين يبدو لها إن المطالب الديمقراطية للثورة تتناقض مع مصالح الرأسمال والرأسماليين ، و لأجل تحقيق أهداف الثورة الأخرى أي الخبز لا بد لها أن تهجم على الرأسمالية و أن تضمن المطالب الاقتصادية للجماهير العمالية والكادحين ضاربة مصالح الرأسماليين عرض الحائط..

إن تحقق الحريات الديمقراطية وصيانتها في ظل حكومة العمال والكادحين ليس رهنا بتدوين الدستور الديمقراطي ، ولا بالنيات الطيبة للحكام ونزاهتهم ، ولا بالتنوير ب " النظام الديمقراطي العلماني " والمجتمع المدني الذي يطرحه أكثر اللبراليين يسارية داخل أطياف اليسار القومي التقليدي . إن حكومة العمال والكادحين بضربها الرأسمالية أو مواجهتها لتأمين مطلب " الخبز" ، إنما تقوم بتأمين البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية لإقرار الحريات الديمقراطية . وان التجربة بينت في مرحلة الثورة انه رغم ضرورة مواجهة الرأسمالية في سبيل تحقيق هدف " الخبز والحرية" إلا أنها ليست كافية لاستمرارها، إذ يجب بشكل منتظم تبديل المنظومة الاقتصادية الرأسمالية بنظام إنتاجي آخر. وإن على حكومة العمال والفلاحين الكفاح للعبور بشكل طبيعي صوب الاشتراكية لكي تتمكن من صيانة مكتسبات الثورة المنتصرة في مراحلها الأولى.

حميد كشكولي
[email protected]

2011-07-15