المنهج الأفلاطوني لدى غاليليو


هشام غصيب
2011 / 7 / 10 - 20:20     

يميل بعض مؤرخي العلم، أمثال الفرنسي إسكندر كويري والأميركي توماس كون، في مقاربتهم ثورة غاليليو الفكرية، إلى تأكيد الانقلاب المفاهيمي، الذي أحدثه غاليليو، على حساب دور التجربة العلمية في اكتشافاته الباهرة في علم الحركة. فهم يرون أن غاليليو ابتكر إطاراً مفاهيمياً جديداً مغايراً للإطار المفاهيمي الأرسطي القديم من أجل مقاربة الطبيعة، وحركة الأجسام تحديداً، وأن هذا الإطار تمثل وتجسد في قوانين حركة الأجسام الأرضية التي صاغها (قانون السقوط الحر، وقانون حركة القذائف على سطح الأرض، ومبدأ النسبية، ومبدأ القصور الذاتي). أما التجربة العلمية، فلم تدخل إلا هامشياً في صوغ هذه القوانين وفي ابتكار هذا الإطار. إنهم يعظمون من شأن الابتكار المفاهيمي ويقللون من شأن التجريب العلمي. لكنهم لا يشرحون آليات الابتكار المفاهيمي الغاليلي ولا يفسرون كيف استطاع غاليليو أن يتخطى الإطار الأرسطي القديم صوب إطاره الجديد، وكأن هذا الإطار انبثق من قلب عقله أو مخياله الباطن فجأة ومن دون مسوغات أو مقدمات عقلية.

ويميل آخرون، مثل أغلب مؤرخي العلم التقليديين، إلى التركيز على التجربة العلمية على حساب الابتكار المفاهيمي. فهم يعتبرون ثورة غاليليو ثورة علمية في المقام الأول وليست ثورة فكرية، ويعتبرون مفهوماته الجديدة نابعة من قلب تجاربه المبتكرة، وكأنه اشتق علائقه ومفهوماته بصورة ميكانيكية وبالاستقراء البسيط من تجاربه ومشاهداته. ووفق هذه النظرية،فإن الابتكار الرئيسي لغاليليو هو ابتكار تجريبي أداتي، أي ابتكار تجارب وأدوات قياس جديدة وفي مجالات جديدة. لكن أولئك الباحثين لا يفسرون لماذا لم تخطر التجارب المصيرية التي أجراها غاليليو على بال من سبقوه من العلماء الأوروبيين والعرب والإغريق، برغم ما تحلى به بعضهم من مهارات وميول ونزوعات تجريبية لم تكن تقل عن نظيرتها الغاليلية. كما إنهم لا يفسرون ولا يشرحون كيفية انبثاق المفهومات الغاليلية من تجاربه ومشاهداته.

وأجد نفسي مختلفاً مع الطرفين كليهما لأن كليهما يتبع منهجا أحادي الجانب في النظر إلى الأمر ويقيم جدرانا مطلقة بين مكونات النظام الواحد والسيرورة الواحدة. فكلاهما ينظر إلى الأمر بمنطق إما/أو، وليس بمنطق هو/ونقيضه.

وأرى أن جوهر ثورة غاليليو الفكرية يكمن في ثورته المنهجية، حيث إن ثورته المفاهيمية وتجاربه الجديدة الفذة تنبع من ثورته المنهجية. لقد ابتكر غاليليو منهجاً جديداً في النظر إلى الطبيعة وفهمها والتفاعل معها. وقد نبع هذا المنهج من قلب موروث غالييلو المعرفي بمكوناته المتنوعة: المكون الأرسطي التقليدي، والتقليد البطلمي في علم الفلك، والتقليد الأرخميدي في علم الطبيعة، والتقليد العربي في علم الضوء، والتقليد الكوبرنيكي في علم الفلك، والتصور الذري الإغريقي للوجود. وكانت مكونات متناقضة في كثير من جوانبها. فلم ينبع منهج غاليليو الجديد من العدم، ولا من عقله أو مخياله الباطن، وإنما نبع من تناقضات موروثه المعرفي بصورة عقلانية خلاقة.

وكما بينا في المقالة السابقة، فقد لاحظ غاليليو الفرق التناقضي بين التقليد الأرسطي الميتافيزيقي في دراسة الطبيعة والتقليد الأرخميدي الرياضي في دراستها والتقليد البطلمي الرياضي في علم الفلك (وربما) التقليد العربي الرياضي في علم الضوء. ولاحظ عقم الأول وصفياً وتفسيرياً وتنبؤياً مقارنة بخصوبة الأسلوب الرياضي. لذلك، سعى إلى إيجاد طريقة لتطبيق الأسلوب الرياضي على حركة الأجسام الأرضية، فوجد ضالته في ما أسميه المنهج الأفلاطوني في العلم.

ويرتكز هذا المنهج إلى تصور معين لقوانين الطبيعة مفاده: أولاً، أن قوانين الطبيعة مقدارية، ومن ثم رياضية، في جوهرها لأنها علائق موضوعية بين ما أسميه الكميات الفيزيائية، كالطول والفترة الزمنية والكتلة والسرعة والتسارع والكتلة والزخم الخطي والزخم الزاوي والطاقة ودرجة الحرارة. وتتحدد هذه الكميات بالرياضيات والقياس الدقيق. أما العلائق بينها، فهي متنوعة من حيث الطبيعة والعمق والشمول والاتساع، وتعكس لانهائية التنوع في الطبيعة وطبقاتها وأعماقها. ويمكن القول إن الكميات الفيزيائية هي مقولات وجودية تؤطر الوجود المادي. إنها الخصائص العامة التي تتحدد بها الأنظمة الفيزيائية. وهي أساس وحدة الوجود المادي. وتبين قوانين الطبيعة كيف ترتبط هذه المقولات الوجودية ببعضها بعضاً وكيف تتغير بتغير بعضها بعضاً.

ثانياً، إن هذه المقولات الوجودية لهي مثالات أفلاطونية. فهي خصائص لنظم فيزيائية مثالية ممكنة. إنها خصائص لمثالات. فغاليليو لم ينطلق من مادة الحس الخام والمبادئ الميتافيزيقية العامة، كما كان يفعل الأرسطيون في العلم القديم ، وإنما درس الطبيعة وظاهراتها بدلالة المثالات الأفلاطونية وعلائقها الرياضية. وبذلك استطاع أن ينقل أساليب الهندسة الرياضية من علمي الفلك والضوء إلى علم حركة الأجسام الأرضية. إذ طبقت الهندسة الرياضية في العلم القديم على حركة الأجرام السماوية والضوء لأن الأخيرة اعتبرت مثالية، وليست مادية. أما الأجسام الأرضية فقد اعتبرت غير خاضعة للهندسة الرياضية بصفائها لماديتها الصارخة، فتركت للميتافيزيقا والخبرة اليومية الفجة. لكن غاليليو استطاع أن يخضعها إلى الهندسة الرياضية، على غرار علمي الفلك والضوء، بالانتقال المتعالي (الترانسندنتالي) من عالم الحس المباشر إلى مثالاته الأفلاطونية، أي إلى عالم الممكنات الأفلاطونية، أو بالأحرى بالتأرجح بين العالمين. وبرز لأول مرة في تاريخ العلم مفهوم النظام الفيزيائي المثالي الممكن الذي تحكمه قوانين الطبيعة الرياضية في أبسط صورها. فانتقل غاليليو من عالم الحس الفج إلى عالم الأجسام الساقطة في الخلاء المطلق، والكرات التامة التكوّر، والسطوح التامة الصلابة والتامة الملوسة، أي الخالية من الاحتكاك، وهلّم جرّا. وشكل هذا الانتقال ثورة فكرية عارمة في تاريخ العلم، وقاد غاليليو إلى قانون السقوط الحر في الخلاء التام، وإلى قانون تدحرج الكرات التامة على السطوح المائلة تامة الصلابة والملوسة، وإلى قانون حركة القذائف في الخلاء، وإلى قانون النسبية الغاليلية، وإلى قانون القصور الذاتي. وهي جميعاً قوانين رياضية مثالية تحكم المثالات الأفلاطونية، وتحكم ظاهرات الطبيعة عبر هذه المثالات.

ثالثاً، مما سبق يتضح أن قوانين الطبيعة تنطبق على الممكنات المثالية، وليس بصورة مباشرة على الكائنات الحسية. فباطن الظاهر هو عالم الممكنات المثالية. ومن ثم فإن الأخير هو أساس الظاهر. وتنبع الحاجة إلى العلم ومنهجه من عدم التطابق هذا بين الظاهر والباطن، الكائن والممكن. ولما كان عالم الممكنات لانهائياً بطبعه، وكانت قوانين الطبيعة معنية به، لا بعالم الكائن، فإن قوانين الطبيعة تفترض لانهائية التنوع في الكون. وقد برهنت قوانين الطبيعة بهذا المعنى على نجاعتها الفائقة أداة في إنتاج المعرفة الدقيقة بصدد الطبيعة. فكما في أفلاطون، فإن المثالات هي طريقنا لاستيعاب الكائنات عقلياً.

رابعاً، وتشكل التجربة لحظة حاسمة في هذا المنهج الأفلاطوني الغاليلي. فالتجربة هي الجسر الواصل بين الكائنات الحسية والمثالات الممكنة. وهي جسر باتجاهين. فالتجربة تحاول أن تجسد المثال الأفلاطوني الممكن في عالم الحواس. لكنها، من جهة أخرى، تساهم مساهمة أساسية في نقل الباحث من مستوى الكائن الحسي إلى مستوى المثالي الممكن.

وقد سبق أن طرحت مثالاً على العملية الأولى، أي تجسيد المثال الممكن في الكائن الحسي. إذ تصور غاليليو وضعاً مثالياً ممكناً لأجسام على سطح الأرض تسقط في خلاء تام. وجسد هذا الأمر في تجارب تتضمن تدحرج كرات دقيقة التكور على سطوح شديدة الملوسة مائلة بزوايا صغيرة تمكن الباحث من تخفيف أثر مقاومة الهواء والاحتكاك ومن قياس أزمان الحركة بساعات بدائية. ومن الأمثلة الأخرى تصوره أجساماً تسقط عامودياً من سارية سفينة مثالية تتحرك على سطح الماء في بحر مثالي حركة منتظمة تماماً في خط مستقيم تام الاستقامة. وقد قاده هذا التصور المثالي إلى مبدأ النسبية الغاليلية، الذي ينص على أن سلوك الأجسام لا يتغير البتة إذا انتقلنا من سفينة ساكنة إلى سفينة متحركة حركة منتظمة في خط مستقيم. وقد عمم ألبرت آينشتاين هذا المبدأ في مطلع القرن العشرين ليعم جميع الظاهرات وجميع الأجسام المتحركة بسرع منتظمة في خط مستقيم بالنسبة إلى بعضها بعضاً. وقاده ذلك إلى ابتكار ميكانيكا جديدة هي الميكانيكا النسبية وتصور جديد للمكان والزمان.

ومن الأمثلة على دور التجربة في الانتقال النقيض، أي من العالم الحسي المباشر إلى عالم المثالات الممكنة، أتدبّر التجارب التي تصورها غاليليو أو أجراها على الأجسام الساقطة على سطح الأرض، والتي قادته إلى تصور عملية السقوط الحر في الخلاء التام. لقد أدرك غاليليو أنه بإزاء نظام فعلي معقد يتكون من أجسام متنوعة الأحجام والأوزان تسقط في موائع متنوعة الخصائص والكثافات والقدرات الاحتكاكية. وتوصل بتجارب فكرية وحقيقية بارعة إلى دحض زعم أرسطو أن سرعة السقوط تتناسب طردياً مع وزن الجسم الساقط. ثم أجرى تجارب يتم فيها إسقاط جسمين مختلفي الوزن في موائع متنوعة الكثافات. ورصد الفرق بين السرعتين وتغيره إذ ننتقل من مائع إلى آخر. فوجد أن هذا الفرق ينقص كلما قلّت كثافة المائع. وقاده ذلك إلى نظامه الفيزيائي المثالي الممكن المتمثل بسقوط الأجسام في الخلاء التام. إذ استنتج من تجاربه تلك أن الفرق بين السرعتين يؤول إلى الصفر إذ تؤول كثافة المائع إلى الصفر (الخلاء التام)، أي استنتج أن الأجسام جميعاً، بصرف النظر عن أوزانها وأشكالها، تسقط بالكيفية ذاتها في الخلاء التام. وهو المبدأ الذي عممه ألبرت آينشتاين عام 1907، وأطلق عليه اسم مبدأ التكافؤ، وبنا على أساسه نظريته في النسبية العامة عام 1915.

وهكذا نرى أهمية التجربة في المنهج الأفلاطوني الغاليلي، حيث إنها الجسر الواصل في الاتجاهين بين عالم الحس المباشر وعالم المثالات الممكنة. فهي تجسد المثال واقعاً من جهة، وتجعل عالم الحس المباشر يومئ إلى مثالاته من جهة أخرى. إنها تمكن العلم من الانطلاق من أي من العالمين صوب الآخر. وعليه، فإنه من الخطأ تهميش أي من طرفي المعادلة الغاليلية، أعني البناء المفاهيمي والتجربة. فجوهر ثورة غاليليو ليس هذا بمفرده ولا ذاك بمفرده، وإنما بهما مجتمعين عبر المنهج الأفلاطوني الغاليلي. فهما يدخلان في تحديد بعضهما بعضاً عبر هذا المنهج. ويمكن القول إن جوهر الثورة الغاليلية هو هذا المنهج الأفلاطوني الغاليلي، وأن هذا الجوهر يتمظهر بثورة مفاهيمية وتجارب بارعة في آن واحد. ويمكن القول إن علم الطبيعة الحديث برمته بني على قاعدة هذا المنهج الجديد.

وقد نما هذا المنهج وتعمق في القرن السابع عشر، قرن الثورة العلمية الكرى. ووصل أوجه في ذلك القرن في إسحق نيوتن. إذ إن نيوتن كونن هذا المنهج وعممه من جهة وزوده بما كان ينقصه من الرياضيات الجديدة (علم الحسبان) من جهة أخرى. فكانت النتيجة بناء نظام فيزيائي مثالي كوني عماده المكان المطلق والزمان المطلق ونقط هندسية تحمل كتلا وتتحرك بسرع وتسارعات محددة وتتفاعل معاً عن بعد ( الجسيمات المادية). وهو نظام مثالي بامتياز، لكنه أثبت أنه الأداة المثالية والمثلى في إنتاج المعرفة بصدد ظاهرات الطبيعة والواقع المادي. وبالطبع فقد ظلت بعض رواسب العلم القديم طافية على سطح البناء النظري المهيب، الذي وضعه نيوتن في كتابه “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية”. لكن رياضيي القرن الثامن عشر الأفذاذ، أمثال برنولي وأويلر وموبرتي ولاغرانج، أزالوا هذه الرواسب وأعادوا صوغ نظرية نيوتن بلغة رياضية عصرية أظهرت مكامن قوة هذه النظرية وثوريتها بجلاء.

هكذا نشأ ما يسمى الميكانيكا الكلاسيكية على أنقاض العلم القديم أنموذجاً ساطعاً لكل النظريات والتصورات اللاحقة.