دفاعا عن ماو- في الثورة الثقافية-


محمد علي الماوي
2011 / 7 / 9 - 23:16     

(مقتطف من كتاب "ردا على حزب العمل الالباني" الصادر سنة 1984 بباريس بامضاء ماركسيين لينينيين عرب-المنظمة الم الل (الماوية) بتونس.أنشر النص كما هو باعتباره وثيقة تاريخية من ارشيف الماويين في تونس)

فى الثورة الثقافية
تنبع أهمّية دراسة الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى وتحديد موقف علمي تجاهها لا فقط من ضرورة فهم هذا الحدث التاريخي ومعانيه السياسية والإيديولوجية وإنّما كذلك من ضرورة المساهمة فى بلورة موقف ماركسي-لينيني من الصراع القائم على المستوى العالمي بين من يتهجّمون على الثورة الثقافية وينكرون كلّ أهمّية لها ومن يدافعون عنها بإعتبارها إضافة مثرية للنظرية العلمية والممارسة الثورية. وقبل التوصّل على تحديد مفهوم الثورة الثقافية وطبيعتها وإستنتاج أبعادها ومعانيها ، لا بدّ من تقديم الإطار التاريخي الذى جاءت فيه أي توضيح الأحداث التاريخية التي سبقت الثورة الثقافية ومهّدت لها.
1- الإطار التاريخي للثورة الثقافية :
بعد الإنتصار التاريخي الهام الذى حققته الثورة الصينية فى 1949 ضد قوى الإستعمار وحلفائه المحليين من كمبرادور و إقطاع وبعد فترة تميّزت بتكريس الديمقراطية الشعبية ( الديمقراطية الجديدة أو السلطة الوطنية الديمقراطية تحت قيادة الحزب الشيوعي) جاءت الوثبة الكبرى ( 56- 1958) التي كانت بمثابة الإنتقال إلى مرحلة الإشتراكية أي إقامة سلطة البروليتاريا. لكن الأمر لم يكن بمثل هذه السهولة حيث أنّ أعداء الإشتراكية بمختلف سيماتهم كانوا يحاولون عرقلة مجرى التاريخ بشتّى السبل ، بل إنّه منذ سنة 1949 كان ليوتشاوتشى يدعو إلى ضرورة تدعيم الرأسمالية والإستغلال بدعوى أنّ ذلك يؤدّى إلى الإشتراكية ، فهو يقول مثلا فى خطابه فى المؤتمر الأوّل للشبيبة ( 12 ماي 1949) : " بقدر ما يكون الإستغلال أقوى ، بقدر ما يزداد فضل الرأسماليين " مضيفا" وفى فترة قادمة ، عندما يتحقّق التصنيع سوف يكون هناك عدد أكبر من المعامل ،وبالتالى سوف ننتج اكثر وحينئذ نحقّق الإشتراكية.
ولم يكن هذا الطرح جديدا بل هو نسخة أخرى من نظرية قوى الإنتاج تلك النظرية التحريفية التي دعا إليها تروتسكي وبوخارين وريكوف وغيرهم ممن يزعمون انّ الإشتراكية سوف تأتى كنتيجة حتمية وبصفة ميكانيكية لتطوّر الإنتاج ، متغافلين عن أهمّية العامل السياسي والإيديولوجي أي عن دور الجماهير والحزب الشيوعي من خلال النضال فى سبيل السيطرة على السلطة السياسية. لقد كان تكتيك ليوتشاوتشى يتلّخص فى تلك الفترة فى السعي نحو تحقيق تحالف بين البرجوازية القديمة وبرجوازية الدولة أي البرجوازية البيروقراطية التي كان يمثّلها ففى خطابه الموجه لرجال الصناعة و التجارة بتاريخ 25 أفريل 1949 ذكر ليوتشاوتشي بأنّه تحدث مع أحد أصحاب المعامل ( صونغ فاي كينغ) وطمأنه قائلا له بأنّه عندما يقع التحوّل على الإشتراكية فإنّ الدولة سوف تشترى منه مؤسسات أخرى. وبعد أن أكّد ليوتشاوتشى لرجل الأعمال صونغ فاي كينغ بأنّ مداخيله سوف لن تنقص فى مرحلة الآشتراكية بل سوف تزيد ، سأله هل هو موافق على مقترحاته، فأجابه بالتأكيد ، لكن رجل الأعمال المذكور خيّب آمال ليوتشاوتشى حيث أنّه فرّ من الصين بعد فترة وجيزة! ( جلبار مورى " من الثورة الثقافية إلى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني" الجزء الأوّل ص 26-27). و فى حين كان ماو تسى تونغ يؤكّد فى تلك الفترة على ضرورة توجيه الفلاحة والحرف بكلّ حذر ولكن بخطى ثابتة نحو التصنيع والإشتراكية ، كان ليوتشاوتشى يقول : " علينا أن نترك المجال لتشغيل اليد العاملة المؤجرة وللنشاط الفردي بأن يتطورا حسب مشيئتهما" ( نفس المصدر ص 29) .
وفى مقابل هذا التكتيك الذى كان يتوخّاه ليوتشاوتشى و أعوانه قصد الحيلولة دون الإنتقال على الإشتراكية ، شنّ الشيوعيون الحقيقيون منذ بداية الخمسينات هجوما مضاعفا : من جهة ضد البيروقراطية التي اخذت تسعى إلى الحصول على إمتيازات داخل المؤسسات الرسمية و أجهزة الدولة من جهة أخرى ضد الصناعيين و التجار الخواص المتحالفين مع تلك البيروقراطية. لقد حدّد ماو بوضوح فى تلك الفترة محور الصراع قائلا:" بعد إنتصار الثورة الديمقراطية بقي البعض إيديولوجيا فى حدود تلك المرحلة ، إنهم لم يفهموا التحوّل الأساسي الذى حدث فى طبيعة الثورة ذاتها ، فهم ما زالوا باقين فى ديمقراطيتهم الجديدة عوض أن يسعوا إلى الثورة الإشتراكية..." ( المصدر السابق ص 32).
و هكذا جاءت الوثبة الكبرى التي أعلنت بثقة بارزة على الإنتقال الى الإشتراكية وكانت إنتصارا كبيرا ضد التحريفيين و على رأسهم ليو تشاوتشى ودنك سياو بينغ . لكن هؤلاء لم يقع الكشف عنهم بعد، بل لقد حاولوا بكلّ وسيلة عرقلة الوثبة الكبرى ثمّ التقليل من أهمّية نتائجها وخاصة على المستوى الإقتصادي ، فها هو ليوتشاوتشى فى سنة 1963 يزعم أنّه " خلال هذه السنوات الأخيرة لم يستفد الفلاحون من الإقتصاد الجماعي..." مضيفا " لا يجب ان نخشى من تدفّق الرأسمالية ، فالسوق الحرّة يجب أن تبقى." ( المصدر السابق ص 36) . أمّا دنك سياو بينغ فصرّح : " يمكن أن نلجأ إلى الإستثمار الفردي شريطة أن نتمكّن بذلك من زيادة الإنتاج. لا يهمّ لون القط إن كان أبيضا أم أسودا ، فإذا كان يصطاد الفئران فهو قط جيّد" ( نفس المصدر).
ولا بدّ من التأكيد على أن ما يجرى فى الصين فى تلك الفترة لم يكن معزولا عمّا يجرى خارجها، حيث قامت التحريفية فى الإتحاد السوفياتي بإنقلاب على إثر وفاة ستالين، وإستولت على السلطة لتحولها إلى أداة حكم للبرجوازية ممثلة فى خروتشوف وزمرته. وكان لسقوط أوّل دولة إشتراكية بين يدي التحريفية تأثير كبير حيث تدعّمت التحريفية العالمية، و برز ذلك بوضوح خاصة خلال وإثر المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي،وكان الدرس الهام الذى إستخلصه الشيوعيون الصينيون وعلى رأسهم ماو ,يتلخّص فى ضرورة البحث عن أداة قوية تقطع السبيل أمام حدوث نفس الشيئ فى الصين. لكن بالمقابل نجد ليوتشاوتشى فى تلك الفترة وبالضبط بعد سنة واحدة من المؤتمر 20 يقول: " لا يجدر بنا ان نعتبر بأنّ نظامنا وحده هو النظام الحسن وأن الأنظمة الخرى كلّها سيئة" ( من كتابه : كيف تكون شيوعيا جيدا؟ مشيرا بذلك إلى الإتحاد السوفياتي) وفى نفس الكتاب ، طبعة 1962 ،نجد ليوتشاوتشى يسقط إسم ستالين وإنجلس الذين كانا مذكورين إلى جانب ماركس ولينين. وطبعا لم يكن هذا الإسقاط سهوا فى فترة تميّزت بشنّ هجوم كبير قامت به التحريفية السوفياتية ضد ستالين ( بعد وفاته) لكي تتمكّن من تغطية وتبرير مواقفها وممارساتها التحريفية. ولفهم أبعاد إسقاط إسم ستالين يجب التذكير بأنّ هذا الأخير أكّد فى جانفي 1933 ( تقييم المخطّط الخماسي الأوّل) بأنّ القضاء على وجود الطبقات لا يتحقّق بعد الثورة الإشتراكية بمجرّد إهمال الصراع الطبقي وإنّما يكون ذلك عبر تجذير الصراع. وهو نفس الموقف الماركسي-اللينيني الذى دعمه ماو من خلال تأكيده على ضرورة الثورة الثقافية ، هذه الثورة التي برزت أهمّيتها أكثر نظرا للهجوم الحاد الذى شنته التحريفية العالمية محاولة نسف كلّ المكاسب التي حققتها الماركسية-اللينينية سواء من خلال النظرية أو التطبيق. لهذا فقد فهم الشيوعيون الصينيون وعلى رأسهم ماو منذ بداية الستينات أن محاربة التحريفية داخليّا ( فى الصين) لا يمكن أن تكون معزولة عن عمليّة دحض التحريفية العالمية وعلى رأسها زمرة خروتشوف فى الإتحاد السوفياتي. وكانت الرسالة ذات ال25 نقطة بلورة واضحة فى تلك الفترة للموقف الماركسي-اللينيني من التحريفية ، مجسّدة المبدأ العلمي الذى لخصه ماو فى مقولة : إنقسام الواحد إلى إثنين. وذلك فى مجابهة الموقف التحريفي الذى كان يدعو له ليوتشاوتشى وأمثاله والقائل بإندماج الإثنين فى واحد.
فى هذا الإطار العام إنطلقت الثورة الثقافية بدءا بميدان الفنون والأدب ، لكي تنتشر بعد ذلك إنتشارا واسعا ضمّ كلّ الميادين وخاصة الميدان السياسي والإيديولوجي.
2- طبيعة الثورة الثقافية وأهدافها:
ما هي الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى ولماذا سميت كذلك وما هي القوى المشاركة فيها والقوى الموجهة ضدّها؟ بالإجابة على هذه الأسئلة يمكن تحديد طبيعة الثورة الثقافية وأهدافها، أي بعبارة أخرى هل كان الأمر يتعلّق فعلا بثورة بالمفهوم العلمي ام هي مجرّد " صراع بين الكتل" داخل السلطة مثلما يدعى انور خوجة الذى يقول : " لقد أكّد سير الأحداث أنّ الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى لم تكن ثورة وأنّها لم تكن كبرى ولا ثقافية وبالخصوص لم تكن بروليتارية البتّة . إنّها لم تكن سوى إنقلابا داخل القصر على المستوى الصيني من أجل تصفية حفنة من الرجعيين الذين كانوا قد إستولوا على السلطة. وبالطبع كانت الثورة الثقافية مخادعة. إنّها قضت فى نفس الوقت على الحزب الشيوعي الصيني و على التنظيمات الجماهيرية واغرقت الصين فى فوضى جديدة. لقد قاد هذه الثورة عناصر غير ماركسية ( أو بالتحديد الأربعة) الذين بدورهم سوف يقضى عليهم عن طريق إنقلاب عسكري من قبل عناصر أخرى معادية للماركسية وفاشية"
هكذا وبكلّ بساطة يعرف أنور خوجة الثورة الثقافية حسب ما أكده له " سير الأحداث".
1- الثورة الثقافية تنبع من واقع الصراع الطبقي:
لقد تبيّن فى البداية أنّ الثورة الثقافية لم تكن خارج السير التاريخي للواقع الذى عاشته الصين داخليّا وعالميّا منذ إندلاع الثورة سنة 1949 أي أنّ الثورة الثقافية لم تكن سوى إنقلابا أبيض ( إنقلابا داخل القصر) أي أنّها صراع بين كتل متناحرة بعيدة عن واقع الصراع الطبقي.إنّ دراسة هذه المسألة تطرح ضرورة فهم مسألة الصراع بين الخطين داخل الأحزاب الشيوعية وعلاقة ذلك بالواقع الطبقي فى ظلّ الإشتراكية: ما هو الصراع بين الخطين داخل الحزب الشيوعي ( علاوة على المنظمات الجماهيرية الأخرى) وهل هو حتمي وهل يستمرّ داخل المجتمع الإشتراكي... وما هو الموقف العلمي تجاه ذلك الصراع؟
يزعم أنور خوجة بأنّ " ماو تسى تونغ نفسه بارك ضرورة " الخطين" داخل الحزب" . ويحاول أنور خوجة ان يوهم بأنّ مقولة الصراع بين الخطين تتناقض تماما مع تعاليم الماركسية-اللينينية وأنّها مقولة دعا إليها ماو لتبرير تواجد البرجوازية داخل الحزب الشيوعي أي تؤدّى إلى تحويل الحزب الشيوعي من حزب يمثّل الطبقة العاملة وفكرها الماركسي-اللينيني إلى حزب يمثّل تحالفا طبقيا بين البرجوازية والبروليتاريا إلخ...
إنّ أنور خوجة عندما يتعرّض ب " النقد" لماو تسى تونغ يحاول دائما أن يتخفّى وراء تشويهات لمقولات ماو ويتعمّد الإنزلاق من موضوع إلى آخر...فمقولة الصراع بين الخطين ليست من " إختراع" ماو وليست موقفا إراديّا ذاتيّا ، بل هي مجرّد تعبير علمي عن واقع تعيشه الأحزاب الشيوعية والمنظّمات الجماهيرية عموما حتى داخل المجتمعات الإشتراكية . إنّ الصراع بين الخطين هو واقع وحقيقة قائمة الذات برهنت عليها التجارب الثورية فى كلّ الفترات. والأمثلة الساطعة على ذلك كثيرة منها الصراعات التي عاشها الحزب البلشفي سواء قبل الثورة الإشتراكية عندما حاول المناشفة جرّ الحزب إلى الإنتهازية اليمينية والشوفنية فتصدّى لهم البلاشفة ( الخطّ الماركسي-اللينيني) وعلى رأسهم لينين ، وكذلك بعد ثورة 1917 عندما قام التحالف اليميني " اليساري" ( تروتسكي ، زينزفياف إلخ) بمحاولات عديدة ومتنوّعة الأشكال لعرقلة المسيرة الحقيقية للإشتراكية ، فتصدّى لهم الماركسيون-اللينينيون وعلى رأسهم ستالين. بل نؤكّد أنّه على الرغم من المواجهة الكبيرة التي قادها ستالين ضد الخطّ الإنتهازي داخل الحزب ،ورغم المكاسب التي حققتها تلك المواجهة و خاصة دحض التروتسكية وكشف حقيقتها بإعتبارها طابورا خامسا للإمبريالية ,فإنّ كلّ ذلك لم يمنع الإنتهازيين من القيام بإنقلابهم إثر وفاة ستالين. فكيف يفسّر أنور خوجة وجود هؤلاء الإنتهازيين داخل الحزب البلشفي فى فترة لينين وستالين؟ وكيف يفسّر ما حصل داخل الأممية الثانية مثلا عندما تمكّن الإنتهازيون اليمينيون الشوفينيون من جرّ تلك المنظمة الدولية إلى الإفلاس مّما دفع "الماركسيين –اللينينيين" إلى إعلان إنسحابهم منها وتكوين الأممية الثالثة ؟ بل كيف يفسّر أنور خوجة التصفيات التي قادها بنفسه داخل حزب العمل الألباني ضد عناصر عديدة لم تكن تتماشى معه، ألا يعنى وجود هذه العناصر داخل الحزب أنّه فعلا هناك صراع بين خطين بقطع النظر عن تحديد طبيعتهما،وبقطع النظر عن طريقة أنور خوجة فى " حسم " التناقضات داخل الحزب.
إنّ الحديث عن صراع بين الخطين داخل الأحزاب الشيوعية لا يعنى الدعوة الى هذا الصراع وإنّما فقط لأنّه حقيقة قائمة الذات أكدتها كلّ تجارب الأحزاب الشيوعية. إنّ ماو لا يحيد عن الماركسية-اللينينية قيد شعرة عندما يطرح مسألة وجود الصراع بين الخطين ، بل هو ينطلق من علمية النظرية الماركسية-اللينينية التي تعلم كيفية تطبيق المادية الجدلية وعدم تناول المسائل بصفة مثالية إرادية وذاتية مثلما يفعل أنور خوجة الذى يحاول أن يغطى الظواهر المادية هروبا من مجابهتها. إنّ موقف ماو تسى تونغ من مسألة الصراع بين الخطين هو الموقف العلمي الذى يمكن تشبيهه بموقف الطبيب عندما يعاين الظاهرة المرضية لكي يعالجها بطريقة سليمة ، أمّا موقف أنور خوجة فهو شبيه بموقف رجل الدين الذى يتصرّف إزاء الظواهر المادية حسب التعاليم المسبقة المسيطرة فى كتابه المقدّس ! لذا فهو ينكر وجودها أو يبرّره حسب مصالحه الإجتماعية الضيقة. ورغم أنّ أنور خوجة يستشهد بمقولات ستالين حول ضرورة أن يكون الحزب الشيوعي حزبا متكتلا ،وحزبا يمثّل الطبقة العاملة ، فإنّه يتصرف مع هذه المقولات بصفة دغمائية ويتغافل عن الحقيقية التي مفادها بأنّ ذلك رهين يقظة الشيوعيين وإلتحامهم بالجماهير الكادحة ونضالهم ضدّ تسرّب الإنتهازيين.
والسؤال المطروح الآن: كيف يفسّر وجود ظاهرة الصراع بين الخطين داخل الأحزاب الشيوعية ذاتها بل وحتى فى ظلّ الإشتراكية؟ يقول لينين: " تحت سلطة السوفيات سوف يتسرّب داخل حزبكم وداخل حزبنا ، حزب البروليتاريا ، عدد أكبر من المثقّفين البرجوازيين... إنّهم سوف يتسرّبون داخل السوفياتات والمحاكم والإدارات ، لأنّه لا يمكن بناء الشيوعية إلاّ بالقوى البشرية التي خلقتها الرأسمالية ، إذ لا يوجد غير ذلك، ولا يمكننا أن ننفي ولا أن نصفّي المثقفين البرجوازيين وإنّما يجب الإنتصار عليهم وتغييرهم وإعادة تكوينهم وتثقيفهم من جديد ،مثلما يجب أيضا ,بواسطة صراع طويل النفس و إعتمادا على دكتاتورية البروليتاريا إعادة تثقيف البروليتاريين أنفسهم، الذين هم كذلك لا يتخلصون من أفكارهم المسبقة البرجوازية الصغيرة ، بواسطة معجزة و بإيعاز من القديسة مريم، إو بإيعاز من شعار أو قرار أو مرسوم،ولكن فقط بواسطة صراع جماهيري طويل ومرير ضد تأثيرات الشرائح البرجوازية الصغيرة...(مرض " اليسارية" الطفولي فى الشوعية).
إذن فالماركسية-اللينينية لا تطمس وجود صراع خطّين ولا تنكر تأثيرات الفكر البرجوازي الصغير وإنّما تحدّد أسباب هذه الظاهرة ليتسنى مواجهتها علميّا. ويمكن تلخيص الأسباب فى النقاط التالية:
= إنّ المجتمع الإشتراكي الذى يمثّل الفترة التمهيدية للدخول فى الشيوعية ( كما أكّد ذلك لينين خاصة فى " الدولة و الثورة" ) إنّما هو مجتمع طبقي ممّا يفسّر تواجد المنظمات الحزبية وغيرها وأجهزة الدولة إلخ... إذن ورغم أنّ المجتمع الإشتراكي يكون تحت سلطة البروليتاريا فإنّ هذا لا يعنى القضاء نهائيّا على الصراع الطبقي، وبالتالى فإنّ الحزب الشيوعي الصيني فى ظلّ الإشتراكية يتعرّض مثلما يتعرّض خلال المجتمعات الطبقية الأخرى ، على خطر تسرّب الإنتهازيين وتأثيرات الفكر البرجوازي ، بل إنّ خطر التسرّب هذا يزداد نظرا لأنّ البرجوازية تجد نفسها مقهورة و محرومة من السيطرة على أجهزة السلطة فتحاول إسترجاع " مجدها" الضائع وعرقلة مسار الإشتراكية بأساليب ملتوية ، بل إنّها فى سبيل ذلك ترفع راية الثورة بإنتهازية...
= إنّ سلطة البروليتاريا الفتية لا يمكن لها أن تتدعّم وخاصة فى الفترة الأولى بدون أن تلجأ بصورة أو بأخرى إلى القوى البشرية والإمكانيات المادية التي وجدت خلال المجتمع الرأسمالين والمهمّ فى هذا المجال هو أن تعرف البروليتاريا كيف تحول تلك الطاقات لفائدتها ولكن هذا يدعم أيضا خطر تسرّب الفكر البرجوازي داخل المنظّمات الحزبية والجماهيرية عموما وداخل أجهزة السلطة.
= إنّ وجود الإمبريالية وسيطرتها العالمية يشكّل أكبر عائق أمام تطوّر الإشتراكية فى البلدان التي تقوم فيها الثورة خاصّة وأنّ هذه الأخيرة لا تنطلق مرّة واحدة وفى نفس الوقت داخل جميع البلدان وهكذا تسعى الإمبريالية إلى محاصرة الإشتراكية وخنقها فى المهد بالاعتماد على عناصر داخلية مما يزيد في خطر ظهور الإنتهازية وتسرّبها...
= إنّ البروليتاريا نفسها لا تستطيع ان تتخلّص دفعة واحدة وبعصا سحرية من تأثيرات الفكر البرجوازي والممارسات البرجوازية وهذا ينعكس أيضا داخل الحزب وبقيّة المنظمات وأجهزة الدولة.
=ان عامل الاستقرار الاجتماعي لكوادر الحزب قد يؤثر سلبا في الاندفاع الثوري ويساهم في تحويل بعض الكوادر الى عناصر بيروقراطية منعزلة عن واقع الجماهير
تلك عموما أهمّ الأسباب التي تفسّر الصراع بين الخطين حتى فى ظلّ الإشتراكية ، هذا الصراع الذى يجب معرفة خوضه ومواجهته بأساليب ثورية صحيحة حتى لا يتحوّل لفائدة البرجوازية وبقيّة القوى الرجعية فى محاولتها من أجل العودة إلى السلطة. إذن فإنّ الإعتراف بوجود صراع خطّي ( أساسا بين الخطّ البروليتاري الماركسي-اللينيني والخطّ الإنتهازي سواء اليميني او اليسراوي) داخل الحزب الشيوعي إنّما ينطلق من واقع مادي وليس من تصوّر وهمي ، ذلك إنّ المسألة ليست إرادية كما يتصوّرها أنور خوجة وغيره من المثاليين ، بل إنّ الإعتراف بوجود الصراع بين الخطين يعنى الوعي بأنّ الحزب الشيوعي يتعرّض إلى خطر سيطرة التحريفية أو اليسراوية ، و أنّ سلطة البروليتارية ذاتها تتعرّض إلى خطر الإنقلاب الرجعي ، ذلك أنّ هذا الصراع الخطّي الذى هو إنعكاس للصراع الطبقي لا يمكن أن يبقى متجمّدا ولا يمكن أن يتحوّل إلى حالة من " الوفاق" الطبقي بصورة مطلقة ( رغم إدعاءات التحريفية السوفياتية حول دولة الشعب بأسره و حزب الشعب كله...) وإنّما يفيد بأنّ خطّا ما يجب أن يسيطر ويقضي على نقيضه وهذا ما يتحتّم على الماركسيين –اللينينيين خوض صراع مرير ومستمرّ وجماهيري وإتباع تكتيك سليم من أجل كشف تسرّب الإنتهازيين ودحض مواقعهم حتى لايتمكّنوا من تحويل الحزب الشيوعي إلى حزب إنتهازي يخدم مصالح البرجوازية والقوى الرعية. وهذا هو الهدف العام من الثورة الثقافية التي هي سلاح بين يدي البروليتاريا لكي تحافظ على حزبها الشيوعي وتدعم سلطتها الإشتراكية.
2- جماهير الثورة الثقافية :
إنّ كلّ ثورة تتحدّد بجملة من العناصر الأساسية من ضمنها معرفة القوى الإجتماعية المشاركة فيها وخاصة القوى القيادية ،ومعرفة القوى الموجهة ضدّها.
يحاول أنور خوجة مثلما فعل من قبله إتباع خروتشوف وبريجنيف إيهامنا بأنّ الثورة الثقافية لم تكن سوى إنقلاب و صراع كتل إلخ... إنها لم تكن جماهيرية ولم تشارك فيها البروليتاريا كقوّة قيادية، وذلك لكي ينفوا طابعها الثوري، يقول أنور خوجة: " فى نظرنا ، بإعتبار أنّ هذه الثورة الثقافية لم تقع قيادتها من طرف الحزب ،وإنّما كانت بمثابة إنفجار فوضى ناتج عن نداء وجهه ماو تسى تونغ ، يسقط عنها طابعها الثوري. لقد مكّن نفوذ ما وفى الصين من إثارة ملايين الشبان غير المنظّمين من طلبة وتلاميذ ، إتجهوا نحو بيكين ، نحو لجان الحزب والسلطة وقاموا بحلّها. وكان يقال بأنّ هؤلاء الشبان يمثّلون إذن فى الصين " الإيديولوجية البروليتارية". وهم الذين سوف يلقنون للحزب وللبروليتاريا الطريق " الصحيح" ! ويواصل أنور خوجة قائلا:" ... لقد كانت هذه الوضعية الخطيرة نتيجة لمفاهيم ماو تسى تونغ القديمة المعادية للماركسية، فهو كان يقلّل من شأن الدور القيادي للبروليتاريا ويبالغ فى تقدير دور الشبيبة فى الثورة ...وهكذا أبقيت الطبقة العاملة جانبا وفى العديد من الحالات وقفت ضد الحرس الأحمر بل وصلت إلى حدّ التصادم معهم. إنّ رفاقنا الذين كانوا وقتئذ فى الصين شاهدوا بأم أعينهم عمّال المصانع يحاربون ضد الشبان. لقد صار الحزب مفكّكا وتمّت تصفيته. ولم يكن فى أي حال من الأحوال حزب الشيوعيين ولا البروليتاريا. لقد كانت هذه الوضعية خطيرة جدّا".
إنّ ما يقوله أنور خوجة برغم التشويهات المتكرّرة ، له صفة إيجابية تتمثّل فى أنّه يحوصل كلّ التهجّمات التي أطلقت ضد الثورة الثقافية سواء من التحريفية أو اليسراوية ، طارحا عدّة إشكاليات هامّة. ولكن قبل ذلك لا بدّ من الإشارة أوّلا إلى الخور المثالي- الميتافيزيقي الذى يبرز عند أنور خوجة مدعيا أنّ نفوذ رجل واحد فى بلاد تعدّ بالمئات من الملايين يستطيع أن يدفع بالمجتمع إلى ما يسميه هو " إنفجار فوضى". شخص واحد يستطيع أن يحرّك ملايين الشبان ويقودهم إلى " تفكيك" لجان الحزب والسلطة! أي شخص يستطيع أن يفعل هذا حتى ولو كان ماو نفسه؟ هل هي سذاجة أنور خوجة التي قادته إلى تخيّل هذه الحالة ، أم هو هروبه من الحقائق وتشويهه لها؟ هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نلاحظ أنّ أنور خوجة يتناول الأحداث بعمومية فضفاضة مقصودة حيث يتهرّب من تحديد طبيعة اللجان الحزبية التي وقع حلّها و تحديد العناصر المسيطرة داخلها ،وتحديد العناصر التي وقفت ضد الحرس الأحمر إلى غير ذلك من المعطيات المدققة الهامة التي يرفض أنور خوجة ذكرها متخفّيا وراء العموميات والسطحيات ومع ذلك فإنّ تهجّمات أنور خوجة تمكن من طرح إشكاليّات جديرة بالإهتمام تتعلّق بالقوى المشاركة فى الثورة الثقافية والقوى المعادية لها/ وتتلخّص تلك الإشكاليات فى : الدور الريادي للمثقفين الثوريين الشبان والدور القيادي للبروليتاريا. وهل هناك تعارض بينهما ؟ موقع الحزب خلال الثورة الثقافية ولماذا وقع حلّ بعض اللجان أو الهياكل وتعويضها بأخرى؟
ولكن قبل هذا لا بدّ من تحديد موقع القوى الرجعية ذاتها وعلى رأسها ليوتشاوتشى ودنك سياو بينغ عشية إنطلاق الثورة الثقافية (1966) . لقد كانت هذه القوى تسيطر على عدد كبير من المنشآت الصناعية والمدن والضواحي ،وكان دنك سياو بينغ يحتلّ موقع السكرتير العام للحزب ، إضافة إلى موقع ليوتشاوتشى ذاته. وكانت المواقع التي تحتلّها رموز التحريفية وحلفائهم من البيروقراطيين داخل المعامل تمكنهم من عرقلة وصول المواقف والتعاليم الماركسية-اللينينية التي يتخذها ماو وبقية الشيوعيين إلى الجماهير. هذا إضافة إلى أنّ التحريفيين ، أعوان ليوتشاوتشى ، كانوا يسيطرون فى مجال الثقافة و التعليم ( وهذا ما يفسّر أنّ الثورة الثقافية إنطلقت أوّلا فى هذا المجال). إنّ هذه الوضعية الخطيرة حقّا يتغافل عنها أنور خوجة وأمثاله بل يباركونها وليس أدلّ على ذلك من صرخة الفزع التي يطلقها أنور خوجة عندما يستنتج بأنّ الثورة الثقافية مكنت من حلّ وتصفية المواقع التي كان يسيطر عليها التحريفيين متحدّثا عن حصول " وضعية خطيرة جدّا" ،و متغافلا عن تحديد تلك القوى والمواقع التي وقعت تصفيتها والتي كانت هي المرمى الرئيسي لسهام الثورة الثقافية فى فترتها الأولى ، تلك القوى والمواقع التي تمثّل البرجوازية البيروقراطية فى تحالفها مع البرجوازية القديمة مثلما سبق تحليله.
وهذا ما يتغافل عنه أنور خوجة وأمثاله من المعادين للثورة الثقافية وفى المقابل نجد أنور خوجة يتهكّم لى مساهمة الشبان وكأنّه ذلك العجوز التقليدي الذى لا يستطيع أن ينظر الى الشبانّ الا باعتبارهم اطفالا صغا را" تنقصهم " حنكته و تجربته" وبالتالى فهم لا يجب أن يلووا عصا الطاعة فى وجهه ووجه أمثاله من " شيوخ الحكمة" من هذا المنظار التقليدي والمثالي يستنكرأنور خوجة إندفاع " الشبان" ( بدون تحديد هويتهم السياسية والإيديولوجية) ويستغرب كيف أنّهم " سيلقنون" للحزب والبروليتاريا الطريق الصحيح ، موهما بأنّ التناقض خلال الثورة الثقافية كان بين هؤلاء الشبان ،ومن وراءهم ماو ، وبين البروليتاريا وزاعما بأنّ ماو تسى تونغ كان دائما يبالغ فى تقدير دور الشبان وإعطائه المكانة القيادية على حساب البروليتاريا. وهذا ما يجرّنا إلى طرح التساؤلات التالية: ما هي أهمّية ومكانة دور الشبان والمثقّفين الثوريين فى العمل الثوري عموما وفى الثورة الثقافية خصوصا، وذلك بالمقارنة مع دور البروليتاريا وهل هناك تناقض بينهما خاصة فى ظلّ الإشتراكية؟
يجب الإشارة أوّلا إلى أهمّية حجم الشبان فى المجتمع الصيني حيث نلاحظ أنّ عدد الشبان منذ بداية هذا القرن كان يعدّ بالملايين،وأنّ عددهم خلال الثورة الثقافية كان يمثّل وزنا هاما جدّا وقد لاحظ ماو هذه الحقيقة الموضوعية وأولاها الأهمّية اللازمة فى إطار تحديد القوى الإجتماعية الصينية بدون الإنحراف عن التحليل المادي الجدلي أي التحليل الطبقي. فالشبان قطعا لا يشكّلون طبقة إجتماعية. ولكن هذا لا ينفى أهمّيتهم وخاصّة فى مجتمع رزح سنينا تحت سيطرة الإقطاع و الإمبريالية وعانى كثيرا من التخلّف السياسي والإجتماعي. إنّ أهمّية الشبان فى مثل هذا المجتمع تزداد ، لا نظرا لحجمهم فقط ولكن أيضا نظرا لما يتحلّون به من صفات الإندفاع الثوري والقيام بالمبادرات فى سبيل دفع الجماهير الكادحة إلى الثورة. وفعلا فقد لعب الشبان خلال تاريخ الصين الحديث دورا هاما برز خاصّة منذ حركة 4 ماي 1919 التي كانت حركة إجتماعية ثورية معادية للإستعمار والإقطاعية وإنطلقت من صفوف الشبان ( طلبة وتلاميذ...) وتحوّلت إلى إنتفاضة شعبية عارمة بفضل إلتحام الشبان الثوريين مع الجماهير الواسعة.
لقد حدّد ماو إنطلاقا من النظرية الماركسية-اللينينية ومن المعطيات الموضوعية ، القوى الإجتماعية المشاركة فى الثورة الوطنية الديمقراطية وهذه القوى هي "الطبقة العاملة والفلاحون والمثقّفون والشريحة التقدّمية من البرجوازية. إنّ العمّال و الفلاحين هما القوى الثورية الأساسية ،والطبقة العاملة هي الطبقة القيادية فى الثورة، بدون هذه القوى الثورية الأساسية و بدون قيادة الطبقة العاملة يستحيل تحقيق الثورة الديمقراطية المعادية للإمبريالية والإقطاع". إذن فإنّ ماو لا يستغنى البتّة عن الدور القيادي للطبقة العاملة ولا عن الدور الهام لبقية القوى الإجتماعية الثورية وخاصّة الفلاحين ( الذين يقدر ماو مكانتهم التقدير اللازم على النقيض من التحريفيين والتروتسكيين). أمّا عن علاقة الشبان بالطبقة العاملة وبقية الجماهير الكادحة، يقول ماو بأنّ دور المثقفين الشبان يتمثّل فى " الإلتحام مع جماهير العمّال والفلاحين الذين يشكّلون 90% من السكّان ،وتعبئتهم و تنظيمه" ( مؤلفات ماو ، الجزء الثاني ، ص 263- أمّا الإستشهاد السابق فهو من نفس المصدر ، ص 256).
ويؤكّد ماو على أنّه بدون إلتحام المثقفين مع الجماهير الواسعة ، فإنهم لا يستطيعون تقديم أي شيئ للثورة ، أي أن الذى يميّز المثقّف الثوري عن المثقّف البرجوازي الصغير ليس الإلمام الواسع بالنظرية الماركسية-اللينينية وقراءة أكثر عدد ممكن من الكتب إلخ وإنّما هو فى نهاية التحليل مدى إلتحامه بالجماهير وإنصهاره فى الطبقة العاملة من خلال الممارسة الثورية اليومية.إنّ أنور خوجة يستنتج من خلال كلّ هذا بأنّ ماو يقوم بإحلال المثقفين الشبان مكان الطبقة العاملة فى الدور القيادي. وهذا ما يؤكّد بأنّ أنور خوجة لا يستطيع أن يرى العلاقة الجدلية بين المثقّفين الثوريين والطبقة العاملة حيث أنّه لا ينظر إلى هذه العلاقة إلاّ بمنظار التعارض الميكانيكي مستنتجا بأنّه يجب على الشبان أن يبقوا بصفة مطلقة وراء الطبقة العاملة ويساندونها بكلّ سلبية. أمّا ماو تسى تونغ فهو إذ يؤكّد على الدور القيادي للطبقة العاملة ( وهذا ما يستوجب طبعا وجود حزب ماركسي-لينيني قوي) يعتبر بأنّ مهمّة المثقفين الشبان ( والمقصود طبعا الثوريين منهم لأنّ المثقفين الرجعيين يوجدون فى الخندق المعادى للثورة) تتمثّل عموما فى توعية وتأطير وتعبئة الجماهير الكادحة،و المساهمة فى تنسيق نضالاتها. وهذا يعنى أنّ الشبان ، إضافة إلى ضرورة إلتحامهم الكلّي واليومي بالجماهير يجب أن يقوموا بمبادرات ثورية خلاّقة لتوعية الجماهير وحثّها على الثورة،وليس كما يرى أنور خوجة أن يبقوا سلبيين يتابعون بصفة ميكانيكية جامدة تحركات الجماهير بدعوى أنّ العمّال هم الذين يقومون بالدور القيادي . إنّ أنور خوجة يحاول أن يخلق تناقضا وهميّا بين العمّال والمثقّفين الثوريين لأنّه لا يفهم الفرق بين الدور القيادي للعمّال ( وبالتالى الدور القيادي للحزب الشيوعي-ولفكر الطبقة العاملة- ) وبين الدور الريادي الذى يقوم به الشبان وخاصة فى بداية المرحلة الثورية. إنّ موقف أنور خوجة يقوم على تصوّر ميكانيكي عقيم مفاده وجود جيشين متقابلين يشهران أسلحتهما فى آن واحد وتنشب معركة بينهما تنتهى بإنتصار الطبقة العاملة " الصافية" وينتهى الأمر. ولكن " كلّ من ينتظر ثورة إجتماعية صافية " سوف لن يعيش طويلا كي يراها. فهو ليس سوى ثوري بالكلام ، لا يفهم شيئا من الثورة الحقيقية" ( لينين- تقييم لنقاش حول حقّ الأمم فى تقريري المصير مصيرها الجزء 22 ، ص 382-383).
ومثلما يظهر جليّا إفلاس خوجة فى تصوّره لمكانة الحزب الشيوعي وهياكله خلال الثورة الثقافية. إنّ أنور خوجة ينتقد ماو لأنّ الإتجاه العام للثورة الثقافية لم يقع إقراره إلاّ من قبل أغلبية ضئيلة داخل اللجنة المركزية. وهو يؤكّد مرّة أخرى بأنّ الحزب الشيوعي الصيني كان يضمّ عناصر إنتهازية تسرّبت داخله وأصبحت تحتلّ مكانة حتى داخل اللجنة المركزية. ماذا يريد خوجة حيال هذه الوضعية؟ وما هو الموقف الثوري الصحيح الذى يجب إتخاذه: هي يجب الإنتظار حتى يقتنع الإنتهازيون بضرورة الثورة الثقافية ( وهي الثورة الموجّهة ضدّهم) أم يجب تأييد وتأطير التحرّكات الثورية التي بدأت جماهير الشبان والعمال فى القيام بها؟ إنّ أنور خوجة لا ينظر للمسألة إلاّ من خلال جانبها الشكلي البيروقراطي. تماما مثلما كان موقف ليوتشاووتشى وجماعته أمّا ماو الذى فهم بأنّ الصراع الطبقي داخل المجتمع ،فقد عرف بأنّ الحزب الشيوعي ذاته فى خطر وأنّه لا يمكن أن يبقى حزبا ماركسي-لينينيا ( حزب الطبقة العاملة) إلاّ إذا عرف الشيوعيون داخله كيف يشنّون الصراع ومتى يعلنون المواجهة العنيفة ضدّ ممثلى البرجوازية ،وكيف يأطّرون المبادرات الثورية الخلاّقة فى سبيل تدعيم سلطة البروليتاريا ذلك أنّ ماو يعرف جيّدا بأنّ الطبقة العاملة لا يمكن أن تقوم بدورها القيادي فى حين أنّ حزبها يشكو من إنخرام هياكله وتسرّب الإنتهازيين وسيطرتهم على بعض المواقع. لهذا فإنّ الثورة الثقافية لم تكن فقط تستهدف ممثلى البرجوازية والقوى الرجعية المكشوفين ، بل كانت تستهدف أيضا وفى نفس الوقت أولئك الذين كانوا يرفعون راية البروليتاريا والشيوعية لتحطيمها. وهذا لم يستطع فهمه أنور خوجة وأمثاله من الذين يتصوّرون أنّ الحزب الشيوعي لا يمكن أن يكون إطلاقا إلاّ حزبا " صافيا" و " لا يأتيه الباطل" بأي شكل من الأشكال( والحقيقة أنّ انور خوجة لا يتصوّر ذلك بل يدّعى ذلك ، لأنّه أكثر الناس علما بوضعية حزب العمل الألباني و التصفيات التي قادها بنفسه ضد المعارضين له). والأغرب من كلّ هذا أنّ أنور خوجة يهاجم الحزب الشيوعي الصيني ( قبل وفاة ماو) و يعتبره حزبا إنتهازيّا ويدعى أنّ ماو نفسه لم يكن شيوعيّا بالمرّة ولكنه فى نفس الوقت يتحسّر ويتباكى على حلّ بعض الهياكل الحزبية والجماهيرية خلال الثورة الثقافية. فإذا كان الحزب الشيوعي الصيني فى تلك الفترة ليس حزبا ماركسيا-لينينيّا وإذا كانت الثورة الثقافية ليست ثورة وليست بروليتارية ، كان من الأجدر لأنور خوجة أن ينشرح لذلك الأمر. ولكنّه فعلا يتحسّر لأنّه يعلم ، كما يعلم الإنتهازيّون جميعا بأنّ الثورة الثقافية قد حلّت الهياكل المنخرمة التي كانت تمثّل بؤرا لنفوذ التحريفية ،و بالمقابل دعمت الهياكل التي كانت تمثّل الخطّ الثوري. بل خلقت هياكل جديدة ثورية وخير مثال على ذلك وجود الحرس الأحمر الذى كان يتكوّن من المثقفين الثوريين وقد لعب دورا هاما فى دفع العمّال و الجماهير إلى الثورة ،و كذلك مثلا المنظّمات الثورية التي إنطلقت من شانغاي وسمّيت بجماعات " التمرّد الثوري" والتي كانت نموذجا فى المساهمة الجماهيرية خلال الثورة الثقافية وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أعداء الثورة الثقافية كانوا يغيّرون تكتيكهم حسب تغيّر المعطيات ، ففى حين حاولوا فى البداية إيهام الجماهير بأنّ الحرس الأحمر هو تنظيم رجعي معاد للطبقة العاملة إضطروا بعد ذلك ونظرا لنجاح الحرس الأحمر فى الإلتحام بالجماهير ، إلى محاولة إيجاد تنظيمات موازية رجعية مثل " مجموعات العمل" و " فيالق الدفاع الأحمر عن العمّال ". وكانت هذه التنظيمات تحاول أن تبدو ثورية فى مظهرها ولكنّها فشلت فى إستقطاب الجماهير إليها ،ممّا دفع التحريفيين إلى محاولة عرقلة الثورة الثقافية عن طريق الأعمال الفوضوية والتخريب. ولكن الشيوعيين تصدّوا لذلك وأعلنت مجوعات " التمرّد الثوري" فى شنغاي مثلا فى جانفى 1967 عن ضرورة " القيام بالثورة مع تطوير الإنتاج" فى نفس الوقت. وقد ساند ماو وجميع الشيوعيين هذا الموقف و نادوا الجماهير فى بقيّة الجهات إلى إتباع المنهج النموذجي الذى سار عليه الثوريّون فى شنغاي. وهكذا إستطاع الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماو أن يتفاعل بصفة حيوية مع المنظمات الجماهيرية والمبادرات التي كانت تقوم بها رغم المناورات التي كان يشنّها ليو تشاوتشى ثمّ لين بياو وغيرهما من الإنتهازيين المندسين داخل الحزب وداخل المنظمات الأخرى وأجهزة الدولة.
إنّ الإختلاف الجوهري بين رؤية ماو الماركسية-اللينينية ورؤية ليوتشاوتشى وجميع التحريفيين لعلاقة الحزب بالجماهير يتضح حتى من خلال مستوى علاقة الفرد بالحزب. لقد كان ليوتشاوتشى يطرح المسألة من منظار الأنانية والفردية و يدعى بأنّه ليس مضرّا أن ينخرط الإنسان فى الحزب الشيوعي قصد الحصول على شغل... او التخلّص من سيطرة العائلة والهروب من زواج إلزامي...أو دفع أقلّ ضرائب او بدافع الأمل فى أن يصبح ذا نقوذ فيما بعد ، أو لأن له أقارب أو أصدقاء مكّنوه من الدخول إلى الحزب " ( جلبار موري – من الثورة الثقافية إلى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني ، الجزء الأوّل ، ص 48).
إنّ ليوتشاوتشى يعتبر كلّ تلك الدوافع وغيرها من الأهداف الشخصية أمرا عاديّا . وفى نفس الوقت نجده يدعو إلى ضرورة إنصياع الفرد داخل الحزب إنصياعا حديديّا أعمى. إنّ هذا الموقف التحريفي متكامل فى الحقيقة إّذ أنّ هدف ليوتشاوتشى وأماله هو أن يملأوا الحزب بالعناصر الإنتهازية او العناصر المتذبذبة الطيعة التي لا تقدر البتّة على أن تكون ثورية وأن تقوم بمبادرات جماهيرية ثورية . إذن فهدف ليوتشاوتشى هو القضاء على الحزب الشيوعي ذاته و تحويله إلى أداة طيّعة بين يدي ممثّلى البرجوازية كوسيلة أساسية لتقويض سلطة البروليتاريا. فى مقابل هذه النظرة التي يساندها انور خوجة ( من خلال تعاطفه مع الهياكل التي وقع حلّها ومن خلال إنتقاده للمبادارات الجماهيرية التي قامت بها التنظيمات الثورية وساندها فى ذلك الشيوعيون) نجد موقف ماو الماركسي-اللينيني الذى يؤكّد على أنّ الحزب الشيوعي ليس منظّمة مهنيّة وأنّه ليس أيضا منظمة كنائسية تقوم على الإنصياع الأعمى بل هو طليعة الطبقة العاملة الواعية والمسلّحة بالفكر الماركسي- اللينيني والملتحمة بالجماهير الواسعة . إنّ المناضل الثوري ليس ذلك الذى يحتلّ مكتبا داخل الحزب ويتلقّى الأوامر فينفّذها بكلّ بيروقراطية حبّا فى الظهور وطمعا فى الحصول على ترقية ، بل هو الإنسان المتشبّع بالفكر والممارسة الثوريين ، الإنسان المناضل الفاعل داخل الحزب ، الإنسان الذى يذوب فى المجموعة ويفنى من أجل مصلحة الطبقة العاملة ، الإنسان الذى يلتحم بالجماهير الكادحة " مثل السمكة فى الماء". هذا هو النمط من المناضلين الذين إنصهروا بالطبقة العاملة وأطّروا تحركاتها خلال الثورة الثقافية ممّا أضفى الطابع الجماهيري عليها ومكّن من كشف و دحض الكثير من الإنتهازيين داخل الحزب والسلطة أمثال ليوتشاوتشى و لين بياو...
وبذلك أكّدت التجربة الصينية أنّ الثورة الثقافية كانت فعلا صراعا جماهيريا خاضته الطبقة العاملة و المثقفون الثوريون و الجماهير الكادحة عموما من أجل حماية و تدعيم الإشتراكية و سلطة البروليتاريا والحزب الشيوعي.
3- شمولية الثورة الثقافية:
لقد كانت الثورة الثقافية إذن تستهدف بالأساس تطهير أجهزة السلطة والمؤسسات الجماهيرية والحزب من العناصر التحريفية التي كانت تسعى إلى تدعيم مواقعها من أجل إجهاض الإشتراكية.
إذن فقد كان المحور الأساسي للثورة الثقافية ، ككلّ ثورة ،هو السلطة ولكن هذا لا يعنى ، كما يدعى أنور خوجة ، بأنّ الثورة الثقافية كانت مجرّد صراع كتل من أجل السلطة . ذلك أنّ الثورة الثقافية لم تكن عملا إنقلابيّا فوقيّا ، كما أنّها لم تكن مجرّد تغييرات إصلاحية فى مجال الثقافية بالمعنى الذى يستعمله اليوم الإصلاحيون عندما يتحدّثون عن ضرورة " ثورة ثقافية" تمهّد ل " التغيير الإجتماعي" ...بل إنّ الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى كانت ثورة إجتماعية بالمعنى الجذري والواسع للكلمة، حيث شملت جميع المستويات: المستوى الفردي ( الإنسان) ، والمستوى الجماهيري الواسع عبر المؤسسات الإجتماعية ( الحزبية وغيرها) ، الإيديولوجيا والسياسة والثقافة ,الإنتاج وتنظيم العمل ،الريف والمدينة إلخ.
إنّ الثورة الثقافية إنطلقت أوّلا فى مجال الآداب والفنون. ولم يكن ذلك بالطبع بمعزل عن الصراع الإيديولوجي و السياسي، بل يمكن القول بأنّ الصراع فى المجال الأدبي والفنّي لم يكن سوى إستمرار للصراع بين الخطّين داخل الحزب وفى المؤسسات الخرى. وكما سبق القول ، فإنّ التحريفيين كانوا يسيطرون بصفة خاصة فى المجال الأدبي والفنّي ( المسرح ، السينما، الصحافة) كذلك فى مجال التعليم . وكانوا يحاولن إستغلال مواقعهم تلك لتوجيه ضرباتهم السياسية و الإيديولوجية تحت ستار العمل الفنّي والأدبي. لقد كانت الإذاعة فى فترة سيطرة ليوتشاوتشى وزمرته تذيع مثلا تحقيقات دعائية عن صونغ فاي كنغ ( رجل الأعمال الرأسمالي الذى ورد ذكره) متحدّثة عن خصاله إلخ ...وكانت الصحافة أيضا تحت سيطرة أعوان ليو تشاوتشى ،لا تتردّد فى إفتتاحياتها عن رفع شعارات مثل " إعمل بقوّة بكي تكوّن ثروة" او " أنتج أكثر لكي تصبح ثريّا" ... ولم تكن مثل هذه المواقف مجرد إنحرافات بسيطة ، بل كانت فى إطار رؤية كاملة سطرها ليوتشاوتشى الذى كان يقول منذ 1949 : " إنّ الصحف مليئة يوميّا بالأخبار المرّة المتعلقة بالعمّال ،ولكنّها غير لطيفة تجاه الرأسماليين " مضيفا" : " لقد قال الرأسماليون بأنّ صحافتنا ليست حسنة . وأنا أقول فعلا بأنّها ليست حسنة جدّا ، و أعترف بهذا الخطإ : إنّ صحافتنا متحيّزة نوعا ما ..." ( المصر السابق ص 84) وهكذا كان ليو تشاوتشى وأعوانه يحاولون بإسم عدم التحيّز الوهمي أن يجعلوا من الصحافة والإذاعة وبقية المؤسسات الفكرية أداة لبثّ سمومهم التحريفية ووسيلة للدعاية البرجوازية من خلال " الحياد" و " الموضوعية" فى الصحافة والأدب و الفنّ ، أي من خلال النظرية البرجوازية التي تدعى بأنّ المؤسسات الأدبية والفكرية عموما يجب أن تكون خارج الصراع الطبقي ،وهي ليست فى الحقيقة سوى نظرية إنتهازية لتغطية الطبيعة الطبقية لتلك المؤسسات حتى يسهل للقوى الرجعية السيطرة عليها.
إذن فقد حاول التحريفيون إستغلال مواقعهم تلك فى الميدان الأدبي والفني كخندق أمامي لتسديد ضرباتهم. وقد تجلّى هذا التكتيك بوضوح بعد إجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني فى سنة 1960، ذلك الإجتماع المعروف بإجتماع لوشان ( الدورة الثامنة للجنة المركزية الثامنة للحزب فى لوشان) وقد دار الصراع خلال هذا الإجتماع بين العناصر الإنتهازية التي كانت تريد العودة إلى الملكية الفردية والإقتصاد الحرّ وخاصّة فى القطاع الفلاحي،وبين الشيوعيين الذين كانوا متمسّكين بإقرار نظام الكمونات الإشتراكي. وقد كانت نتيجة ذلك الصراع لصالح ممثّلى الخطّ الماركسي-اللينيني . وتمّ إقصاء تاه هيواي ( أحد رموز الخطّ اليميني) عن وظيفته. وكردّ فعل تحركت الزمرة التحريفية فى المجال الأدبي و الصحفي معتمدة على رموز تاريخية ذات دلالة واضحة. فكتب فى هان مسرحية نشرت بعد عام فقط من إجتماع لوشان ،محورها شخصية هاي جواي الذى كان موظّفا كبيرا ( قبل الثورة) وأقصي من وظيفته. و قد حاول المؤلّف أن يجعل من هذه الشخصية التاريخية رمزا لكلّ من يقع الحكم عليه "ظلما"، محاولا أن يستدرج الجماهير الصينية إلى مساندة العناصر الإنتهازية التي يقع كشفها وإقصاؤها من مواقع النفوذ. كما خصّص تانغ تويا فى نفس الفترة ركنه الصحافي لتمجيد أحد أحزاب المعارضة الذى وجد فى فترة قديمة من تاريخ الصين ، وذلك لتمجيد العلماء الذين وجدوا قبل الثورة داعيا إيّاهم " لإحتلال مواقع قيادية" كما كان هذا الصحفي أيضا يردّد " أغنية " التحريفيين السوفيات حول " الإنفراج" السياسي و الإيديولوجي...
و كانت كلّ هذه التحركات فى المجال الأدبي والفنّي والصحفي تقع بصفة منسقة. وهكذا كان من الضروري أن يتحرّك الشيوعيون الصينيون لدحض الهجوم التحريفي فى هذا المجال . وقد تجسّد الصراع بين الخطين بوضوح من خلال تقريرين متناقضين تماما : تقرير بأنّ تشان رئيس بلدية بيكين وأحد رموز العصابة التحريفية وتقرير كيانغ تسنغ الشيوعية، وعنوانه " تقرير عن المحادثات حول العمل الأدبي والفنّي" . و قد جاءت هذه الوثيقة الثانية لدحض وتعرية المواقف التحريفية الصارخة التي كان يروّج لها التحريفيون الصينيون والتي تضمنها التقرير الأوّل. وقد أكّد تقرير كيانغ تسنغ على أنّ " أدبنا و فنّنا يخدمان بالطريقة نفسها أوسع الجماهير الشعبية وفى مقدّمتها العمّال والفلاحون والجنود... إنّ هذا الدرس الذى أعطاه الرئيس ماو و أنار السبيل أمام الثوريين و مكنهم من الوصول إلى الإعتقاد الصارم بأنّ توجههم كان سليما و دفع بهم إلى الثورة ضد أوبرا بكين القديم " ( نفس المصدر السابق ص 72).
وفعلا قد كان تثوير أوبرا بيكين أوّل إنتصار حققته الثورة الثقافية. يقول ماو تسى تونغ: " إنّ الشعب هو الذى يصنع التاريخ، ولكن الأوبرا القديمة تماما مثل كلّ الآداب القديمة المنعزلة عن الشعب ، ليست سوى طين. إذ يسيطر فوق الركح الأسياد من نساء وفتيان وصبايا . والآن فقد صححتم هذه الرؤية للتاريخ وأعدتم الإعتبار للحقيقة التاريخية..." ( رسالة موجهة إلى مسرح أوبرا بيكين فى ينان، المصدر السابق ص 73).وكان تثوير أوبيرا بكين مصحوبا بنقد جذري للأطروحات البرجوازية والرجعية فى الفنّ وخاصة أطروحات ستانيسلافسكى ، رجل المسرح الروسي الرجعي الذى كان فى فترة 1905 يدعى بأنه فى العمل الفنّي " هناك الذات و لا شيئ غير الذات" و غير ذلك من المغالطات الرجعية التي كان التحريفيون الصينيون و السوفيات يحاولون إحياءها. و قد تمكّن الثوريون الصينيون منذ إنطلاق الثورة الثقافية من دحض تلك المغالطات و اكّدوا على الطابع الطبقي للفنّ و الأدب ،كما أكّدوا على ضرورة إخضاع الأعمال الفنية لتوعية و تحريض الجماهير و فى مقدّمتها العمّال. وفى مقابل الشخصيّات الرجعية والسلبية التي كانت تسيطر على المسرحيات و الافلام، أكّد الماركسيون –اللينينيون فى الصين على ضرورة تقديم شخصيّات إيجابية، أي تقديم البطل الثوري ، البروليتاري. كلّ ذلك فى إطار مقولة ماو : " إنّنا نطالب بالوحدة بين السياسة والفنّ ، الوحدة بين المضمون و الشكل،الوحدة بين مضمون ثوري وشكل فنّي متقن إلى أقصى الحدود. فالأعمال التي تنقصها القيمة الفنية تبقى غير مجدية مهما كانت تقدمية من الناحية السياسية". ( المصدر السابق ص 72).
وهكذا توصل الشيوعيون الصينيون ، إنطلاقا من النظرية الماركسية-اللينينية إلى خلق فنّ جماهيري بأتمّ معنى الكلمة ، لا فقط من حيث أنّه يتوجّه إلى الجماهير الكادحة ويتناول قضاياها ،ولا فقط من حيث أنّ الممثلون يعيشون ضمن الجماهير بدون إمتيازات خاصة ،ولكن أيضا من حيث مساهمة الجماهير الواسعة فى العمل الفنّي ، بل وخاصة فى نقد المسرحيات والأفلام إلخ... فمنذ إنطلاق الثورة الثقافية برز شعار : " السبع مائة مليون صيني كلهم نقّاد" . و فعلا فقد تمكّنت الجماهير الواسعة وفى مقدّمتها البروليتاريا من إبداء آرائها النقدية فى الأعمال الفنية رغم معارضة ليوتشاوتشى وزمره. وأخذ الشعار يتعمّم فإذا بنا أمام عملية نقد جذري لكلّ الرواسب القديمة : " إننا ننقد ممثلى البرجوازية ، علماء وأجهزة البرجوازية ، ننقد الرؤية البرجوازية للتاريخ ، النظريات الأكاديمية البرجوازية ، ننقد العالم القديم والإيديولوجيا القديمة و الثقافة القديمة والتقاليد والعادات القديمة التي تستعملها الإمبريالية وجميع الطبقات الإستغلالية لتسميم الجماهير الكادحة..." ( إفتتاحية رينمان ريباو 8-1-66) . و قد كان إنتشار المعلّقات الحائطيّة فى الجامعات و المعامل و الشوارع خير تعبير عن مشاركة الجماهير الواسعة فى الإدلاء بآرائها و نقدها لكلّ المظاهر السلبية و الرجعية سواء منها المتعلّقة بالتراث و التقاليد القديمة أو المتعلّقة بالحاضر و الأحداث الراهنة ، لقد بلور الشيوعيون خلال الثورة الثقافية النظرة الماركسية-اللينينية للتراث. فلم يكن نقد التراث و العادات القديمة رفضا قطعيّا و شاملا لكلّ ما هو قديم ، بل كان ذلك يتمّ فى إطار مقولة ماو الماركسية-اللينينية " الجديد يبرز من القديم" . فنقد التراث لا يعنى القول بأنّ كلّ ما هو قديم رجعي وكلّ ما هو جديد ثوري. إذ هناك جوانب مضيئة وإيجابية فى التراث الإنساني عموما دعمتها وطورتها الماركسية-اللينينية لأنها تعبّر عن الروح الثورية للجماهير الشعبية فى نضالاتها التاريخية المتواصلة ضد أعدائها.وبقدر ما يجب التأكيد على وجود هذه الجوانب المضيئة وإستلهامها خلال الصراع الراهن، بقدر ما يجب التركيز على نقد العادات والتقاليد السلبية الموروثة عنها. فى هذا الإطار كانت حركة نقد كنفيشيوس ذلك المفكّر الصيني الرجعي القديم الذى صار رمزا للتراث الرجعي. لقد إستطاع الشيوعيون فى الصين أن يجسّدوا نقدهم المتجذّر للجوانب المظلمة من التراث عبر حركة نقد كنفيشيوس، و تمكّنوا من تحطيم البناء الفكري الرجعي الذى أقامه هذا المفكّر القدير ،والذى تواصلت مظاهره حتى بعد الثورة الصينية و تمكّنت الجماهير الواسعة عبر ذلك التجسيد الحيّ ( أي حركة نقد كنفيشيوس) من إستيعاب المبادئ العلمية فى التعامل مع التراث والأفكار والعادات القديمة.
لقد كانت عمليّة النقد تتمّ من خلال دراسة المادية الجدلية فتكوّنت المجموعات العديدة من العمّال لدراسة الفلسفة ،و المساهمة فى تحرير الكتب العلمية...وهكذا مكّنت الثورة الثقافية من تحطيم ذلك الحاجز القديم بين العلم والجماهير الواسعة ، بين المؤسسات العلمية والجامعية وابناء العمّال والفلاحين، بين الإنتاج الفكري والعمل اليدوي... وإذا كان المثقفون الثوريون الشبان من تلامذة وطلبة ومدرسين هم الذين قاموا بالمبادرات الأولى فى إطار الثورة الثقافية فإنّ ذلك لا يعنى ، أوّلا بأنّ كلّ المثقّفين هم ثوريون ويساندون فعلا الثورة الثقافية وليس أدلّ على هذا من رفع شعار " إعادة تثقيف المثقفين". ولكن كما يشير ماو فإنّ: " الأغلبية أو الأغلبية الكبيرة من الذين تعلموا فى المدرسة القديمة يستطيعون الإندماج مع العمّال والفلاحين والجنود... ولكن – وتحت قيادة الخطّ الصحيح- يجب أن تقع إعادة تثقيفهم من قبل الفلاحين والعمّال والجنود حتّى يتخلّصوا تماما من إيديولوجيتهم القديمة. إنّ العمّال والفلاّحين والجنود سوف يستقبلون مثل هؤلاء المثقفين بصدر رحب" ( جلبار موري ، نفس المصدر ، ص 90). إذن فالثورة الثقافية لم تقف عند حدّ المبادرات الأولى والهامّة التي قام بها المثقفون الثوريون الشبان ، وخاصة من خلال تكوين الحرس الأحمر الذين أخذوا يجوبون الصين طولا و عرضا لدفع الجماهير الواسعة إلى الثورة.
إنّ الثورة الثقافية لم تقف عند ذلك الحدّ بل إنّ تثوير التعليم والمؤسسات العلمية ( المدارس والجامعات...) لم يكن يقع بصفة جذرية وفعلية إلاّ عندما دخلت الجماهير الواسعة وعلى راسها العمّال إلى تلك المؤسسات وبذلك كرست الطبقة العاملة فعلا قيادتها للثورة الثقافية فى هذا المجال،وبذلك أيضا تحقّق الإلتحام الفعلي بين المثقفين الثوريين والجماهير الكادحة. ولم يكن تحقيق هذه الأهداف بالأمر الهيّن، فمن جهة هناك العناصر الإنتهازية التي كانت تسعى إلى التسرّب ضمن القوى الثورية رافعة نفس الشعارات، لا قصد تكريسها ولكن قصد تمييعها ( مثلا: سيطرة التحريفيين على " مجموعات العمل" التي تكوّنت داخل الجامعة فى بداية الثورة الثقافية والتي حولوها إلى مجموعات بيروقراطية قصد منع النقد الجذري للتعليم والمؤسسات العلمية). ومن جهة أخرى فإنّ العديد من المثقفين الشبان كانوا ، إلى جانب خصالهم المتمثّلة فى الإندفاع الثوري والقيام بالمبادرات الخلاّقة إلخ يتميّزون بصفات سلبية مثل عدم القدرة على الإنضباط وعدم القدرة على مواصلة النضال بنفس طويل إلخ... هذه النقائص التي لا يمكن تجاوزها إلاّ بالبلترة والإنصهار الكامل فى الجماهير ولم تكن مجابهة كلّ تلك الصعوبات ممكنة لولا تدخّل الجماهير الواسعة وعلى رأسها العمّال إلى المؤسسات العلمية وقد كان الشيوعيون داخل الحزب الشيوعي الصيني هم الذين باركوا دخول الجماهير إلى تلك المؤسسات بعد أن أعلن ماو تسى تونغ أنّ " الطبقة العاملة يجب أن تكرّس قيادتها فى كلّ شيئ" وبفضل ذلك وقع تثوير التعليم من حيث الأساليب والمحتويات والأهداف وعلاقات الأساتذة بالطلبة والتلاميذ، ومن حيث المقاييس المضبوطة لمتابعة الدراسة و الدخول إلى الجامعة إلخ... فى هذا الإطار تحقّقت الإنجازات العظيمة التي جاءت بها الثورة الثقافية فى ميدان التعليم الذى صار فعلا تعليما ثوريا من حيث محتوياته وأهدافه وديمقراطيّا من حيث تسييره والأساليب والمناهج والمقاييس التي تفتح الأبواب قبل كلّ شيئ أمام أبناء العمّال و الجماهير الكادحة. و بذلك أيضا أصبحت الجامعة فعلا شعبية ،و بإختصار تحطّم ذلك السور الحصين الذى كان يعزل الجامعة عن الجماهير و عمّا يدور فى المجتمع. لقد صار التعليم كالهواء منتشرا فى كلّ مكان، لا فى المؤسسات العلمية فحسب، و إنّما فى المصانع و الحقول... و هكذا أيضا تحطّم ذلك الحاجز الوهمي الذى يفصل العمل الفكري عن العمل اليدوي و الذى يجعل من المثقف إنسانا صاحب إمتيازات تخوّل له البقاء فى الأماكن المريحة و إصدار الأوامر بدون تلويث يديه بالأعمال اليدوية.
لقد فسخت الثورة الثقافية مثل هذه التقاليد الرجعية ، فإذا بالمهندسين يندفعون مع العمّال للقيام بالأعمال اليدوية المتنوعة ، وإذا بالأطبّاء يجوبون الأرياف بأبسط الأدوات لتقديم خدماتهم للفلاحين ومساعدتهم أيضا فى أعمالهم( و قد أطلق عليهم نعت " الأطباء ذوى الأقدام الحافية) وهكذا أيضا أخذت تتقلّص تلك الحواجز المصطنعة بين الريف والمدينة ،ولم يكن تلاشي هذه الحواجز فقط نتيجة الإنجازات الثورية التي تحقّقت فى مجال التعليم ودخول الفلاحين مع العمّال والجنود إلى المؤسسات الجامعية ،ولا فقط نتيجة إنتشار المثقفين والحرس الأحمر فى الجهات الريفية،وإنّما تجلى ذلك أيضا من خلال ما قدمته الثورة الثقافية فى مجال الإقتصاد وعلاقة الإنتاج بالسياسة ،وتنظيم إدارة المؤسسات الإقتصادية إلخ...
يقول ماو :" إنّ الخطّ الإيديولوجي والسياسي هو المحدّد فى كلّ شيئ" . من هنا المنظار توصلت الثورة الثقافية إلى دحض و تجاوز الأطروحات الإقتصادوية و القيم البرجوازية التي كان يروّجها ليوتشاوتشى و لين بياو و غيرهما.
لقد كان لين بياو ، رغم مزايداته اليسراوية يلتقى جوهريّا مع الإنتهازيين اليمينيين داعيا إلى تقديس ما يسميه ب " الحريات الأربعة" ( حرية ممارسة الربا، حرية إستئجار الأراضي، حرية بيع و شراء الأراضي ، حرية تكوين المؤسسات) وزاعما بأنّ التناقض الرئيسي فى الصين الإشتراكية ليس التناقض بين البروليتاريا والبرجوازية وإنّما التناقض بين القطاعات المتأخّرة فى الإنتاج والقطاعات الحديثة. ( نشرة بيكين عدد 22 بتاريخ 2 جوان 1975). لقد كان هؤلاء التحريفيين عموما يسعون من أجل إنتشار الملكية الفردية الصغيرة للأراضي ،و تنمية السوق الحرّة التجارية البحتة و تعدّد المؤسسات الفردية الصغيرة. كما كانوا يحاولون نشر المقاييس و القيم البرجوازية التي تدعو إلى تطوير الإنتاجية من المنظور الفردي و القيم البرجوازية التي تدعو إلى تطوير الإنتاجية من المنظور الفردي قصد تكوين الثروة الشخصية و كذلك القيم التكنولوجية التي تجعل من التقنيات هي المحدّد فى الإنتاج ممّا ينجرّ عنه عرقلة المبادرات الجماهيرية الخلاّقة. و أخيرا و ليس آخرا، فإنّ التحريفيين الصينيين مثل غيرهم كانوا يحاولون دائما تقوية نفوذهم عن طريق الأجهزة و العلاقات البيروقراطية التي تهدف إلى تدجين العمّال و الفلاحين و تحويلهم إلى مجرّد إمتداد للآلة ، ينفذون القرارات الفوقية بكلّ طواعية...
لقد توصّلت الثورة الثقافية إلى دحض كلّ هذه المفاهيم التى كان التحريفيون يسعون إلى ترويجها بإسم تطوير الإقتصاد الإشتراكي و الإشتراكية منهم براء. و لم تكن الثورة الثقافية فقط دعوة إلى تدعيم و تعميم الكمونات الصناعية و الفلاحية و إتباع مقاييس توزيع الأجور حسب العمل ، و إلغاء الإمتيازات و المكافآت بالنسبة للكوادر و دفعهم إلى المشاركة فى العمل اليدوي إلى جانب العمّال و عموما العمل من أجل تحديد رواسب النظام القديم التي لا يمكن إلغاؤها دفعة واحدة/ مثل نظام الأجور حسب العمل ( رفع شعار " الذى لا يعمل لا يأكل" " ومن كلّ حسب طاقته ، لكلّ حسب عمله") و كذلك التعامل بالنقد الذى يجب تحديد تأثيراته السلبية فى مجتمع إشتراكي عن طريق مراقبة الدولة.و فى هذا المجال يقول لينين: " بدون حصر واسع و مراقبة تنفذها الدولة فيما يخصّ الإنتاج و توزيع المنتوجات لا يمكن أن تستمرّ سلطة العمّال و حريتهم و تصبح العودة إلى سيطرة الرأسمالية أمرا حتميّا" ( المهام العاجلة لسلطة السوفياتات) .
لم تكن الثورة الثقافية تعنى كلّ هذا فحسب بل أكثر من ذلك حقّق العمّال و الفلاّحون فى إطار الثورة الثقافية إنجازات عظيمة بفضل الضغط على القيم و المقاييس القديمة و تقليص تأثيراتها السلبية و بفضل تطبيق المبادئ الإشتراكية العلمية مثل الربط الجدلي بين السياسة و الإقتصاد و بين العمل الفكري و العمل اليدوي،و الإعتماد على القوى الذاتية و على المبادرات الجماهيرية الخلاقة و التسيير الجماعي و الربط بين مختلف مجالات الإنتاج إلخ... و للتدليل على كلّ ذلك يكفي الوقوف أمام مثالين إثنين إعتبرا بمثابة نموذجين : أحدهما فى الميدان الصناعي ،وهو المتعلّق بصناعة النفط فى تاكنغ و الثاني فى الميدان الفلاحي وهو متعلّق بمجموعة تاتشاي. إنطلاقا من المقولات الماركسية-اللينينية التي تؤكّد على ان " وجهة النظر العلمية يجب أن تكون هي وجهة النظر الأولى و الأساسية فى نظرية المعرفة" (لينين) و " أنّ حركة التغيير فى الواقع الموضوعي لا نهاية لها ،و أنّ الإنسان لا يكفّ أبدا عن معرفة الحقيقة خلال عملية الممارسة" ( ماو " فى الممارسة ") و إنطلاقا أيضا من شعار الإعتماد على القوى الذاتية ، توصل العمّال الصينيون إلى تحطيم الأسطورة التي كان يروّجها " الأخصائيون" الغربيون و القائلة إنّ الصين بلد فقير من الناحية البترولية و لا يمكن أن يتطوّر فى هذا المجال... لقد توصّل العمال إلى تحويل تاكنغ من منطقة جليدية " فقيرة" إلى منطقة صناعية نفطية كبيرة ،و صار إنتاج الصين من النفط الخام سنة 1970 يمثّل 5 مرّات ما كانت تنتجه سنة 1965. و الأهمّ من هذا هو ذلك السلوك الإبداعي الذى كان يمارسه العمّال و العاملات فى تاكنغ ،وهو ما يسمّى ب " روح تاكنغ". و قد كان الشعار الذى رفعه ماو : " على الصناعة أن تقتدى بمثال الصناعة النفطية فى تاكنغ" إنعكاسا للروح الخلاقة التي كان أظهرها العمال الذين لم يتردّدوا أمام الصعوبات العديدة التي كان يعتمدها التحريفيون لعرقلة مسيرة الإقتصاد الإشتراكي. لقد تجاوز العمّال تلك العراقيل التقنية و الصعوبات الطبيعية إعتمادا على المبدأ العلمي القائل بأنّ " العامل الحاسم هو الإنسان و ليس الأدوات"، و تجاوزوا كذلك العراقيل البيروقراطية و المقاييس الإدارية الرجعية التي كان التحريفيون يريدون إقرارها بإسم المركزية و النجاعة الإقتصادية إلخ، و تجاوزوا ذلك الفصل الإعتباطي بين السياسة و الإنتاج و بين العمل اليدوي و العمل الفكري،و بين الصناعة و الفلاحة ، إنطلاقا من مقولة ما وفى 7 ماي 1966 حول " روح تاكنغ" سوف يكرّس العمّال أنفسهم بصفة أساسية للإنتاج الصناعي ،و فى نفس الوقت يثقفون أنفسهم فى الميدان السياسيو العسكري و الثقافي و عليهم كذلك أن يساهموا فى حركة التربية الإشتراكية و نقد البرجوازية ،و كلّما كانت الظروف ملائمة سوف يعملون أيضا فى ميادين الإنتاج الفلاحي و ميادين الإنتاج الفرعية إقتداء بمثال عمّال الإستغلال النفطي فى تاكنغ" ( جلبار ميرى، نفس المصدر السابق ص 111) . و فعلا فقد صارت تاكنغ بمثابة " القرية الحضرية و المدينة الفلاحية" فى نفس الوقت. لم تكن الجماهير الكادحة فى تاكنغ منقسمة بصفة ميكانيكية إلى عمّال و فلاحين ، لقد كان العمّال الذين يشتغلون عادة فى الفلاحة يساهمون فى الإنتاج الصناعي بعد إنتهاء الموسم الفلاحي و كان عمّال الصناعة أيضا يساعدون العمال الفلاحيين عند الحاجة. و صارت تاكنغ منطقة صناعية – فلاحية متطوّرة لا فقط من حيث إنتاج النفط و الإنتاج الفلاحي ، بل أيضا من حيث التطوّر التقني و إستغلال حتى الفواضل من أجل إنشاء صناعات متفرّعة إلخ... و هكذا أكّد العمّال أنّ مواكبتهم و مساهمتهم فى المجال السياسي و الإيديولوجي لا تكون على حساب الإنتاج بل تحثهم على تطوير الإقتصاد الإشتراكي كمّا و نوعا نظرا لأنهم يصيرون هم الفاعلين الرئيسيين فى بنائه. كما أثبت العمّال أنهم بفضل الوعي الحاصل لديهم يستطيعون تفتيت تلك الحواجز الموروثة عن المجتمع القديم بين الصناعة و الفلاحة و العمل اليدوي و العمل الفكري و التي كان يروّج لها التحريفيون بإسم " التقسيم العلمي للعمل".
أمّا المثال الثاني فهو يتعلّق بمجموعة تاتشي . لقد كان ماو يقول:" على الفلاحة أن تقتدي بمثال مجموعة الإنتاج فى تاتشي" هذه المنطقة الجبلية التي جسّد فيها العمّال الصراع ضد الطبيعة فى أروع مظاهره فحوّلوها إلى منطقة خضراء ، داحضين بذلك مزاعم التحريفيين القائلة بأنّه يجب الإهتمام فقط بالأعمال الإقتصادية الكبيرة و لا يجب الإهتمام بالمناطق الحدودية بإسم الخطر الخارجي نو أنّه يجب الإعتماد فقط على مساعدة الدولة و إنتظار الأوامر و القرارات من الهيئات المركزية إلخ... لقد أطلقت الثورة الثقافية العنان للمبادرات الخلاّقة الجماهيرية ،و أكّدت انّ الجماهير الكادحة و على رأسها العمّال تحت قيادة الحزب الشيوعي ليس فقط هم الذين يحفرون قبر الرجعية و التحريفية ، بل أيضا هم القادرون على إخضاع الطبيعة لمصلحة الإشتراكية أي مصلحة العمّال و الجماهير الكادحة.
وتجدر الإشارة إلى أن تاكنغ و تاتشي ليسا إلاّ مثالين ممّا أنجزه العمّال بفضل و خلال الثورة الثقافية التي فعلا خلقت نماذج جديدة لتدعيم المجتمع الإشتراكي و تدعيم سلطة البروليتاريا و علاقة الحزب الشيوعي بالجماهير الكادحة. و لم تكن تلك الإنجازات قابلة للتحقيق إلاّ فى إطار الصراع ضد التحريفية ، هذا العدوّ المقنّع الذى لا يمكن مقاومته فقط بالشعارات العامّة ( مهما كانت درجة " يساريتها") ، و الذى لا يمكن القضاء عليه دفعة واحدة بعصا سحرية و إنّما يستوجب ذلك نضالا مستمرّا و جماهيريا مثلما حصل فى إطار الثورة الثقافية بل و كما أشار ماو فإنّ مقاومة التحريفية و الرجعية تستوجب العديد من الثورات الثقافية و العديد من الإنتفاضات الإجتماعية العنيفة التي ترجّ الرواسب القديمة البالية و تمنع تسرّب الإنتهازيين و سيطرتهم على مواقع فى الحزب و السلطة، و تحثّ الجماهير الكادحة على التسلّح بالفكر العلمي و اليقظة الثورية و القيام بالمبادرات الخلاّقة، و تدعّم إنصهار المثقّفين الثوريين ضمن العمّال و الجماهير الكادحة عموما.
لقد كانت الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى مثالا على المقاومة العنيفة الضرورية التي تخوضها الجماهير تحت قيادة العمّال و تأطير الشيوعيين فى مجابهة الأعداء الطبقيين و التقاليد البالية.و لم تكن هذه المجابهة سهلة ، بل كان عنيفة و دموية أحيانا نظرا لتشبّث التحريفيين و الرجعيين عموما بمواقعهم.
و ختاما ، فرغم أنّ هاته القوى الإنتهازية تمكّنت بواسطة الإنقلاب الذى قاده دنك سياو بينغ و هواو كوفنغ من إفتكاك السلطة و السيطرة على الحزب فى الصين و تحطيم الإقتصاد الإشتراكي بها، فإنّ الدروس التي قدمتها الثورة الثقافية للشيوعيين و الجماهير الكادحة فى كلّ البلدان ما زالت صالحة و حيّة فى الأذهان.
فقد كانت الثورة الثقافية إضافة هامة فى الفكر العلمي و الممارسة الثورية ،مؤكّدة مرّة أخرى صحّة المبادئ الماركسية-اللينينية و حيويتها، و قدرة الجماهير على مجابهة التحريفية والرجعية و التقاليد البالية و العراقيل الطبيعية و غيرها ، شريطة أن يلتحم بهم الشيوعيون مثل السمك فى البحر ، فلا تتحوّل الماركسية –اللينينية إلى شعارات فضفاضة بل تتسرّب كالهواء النقيّ ضمن الجماهير خلال صراعها اليومي ضد اعدائها الطبقيين داخليّا و خارجيّا و ضد الطبيعة و ضد كلّ ما يعرقل تحرّرهم الشامل.
تونس 09-07-2011