الحريات الديمقراطية والاشتراكية- 1


حميد كشكولي
2011 / 7 / 8 - 21:47     

من الذكريات العالقة في ذهني أن في السبعينات من القرن الماضي، و بعد عقد الجبهة الوطنية والقومية بين حزبي البعث و الشيوعي العراقي، أصبح الأخير يمارس العمل السياسي العلني و يصدر جريدته العلنية و ينشر أدبياته وكتبه الحزبية . و أتذكر حين وقعت عيني على كراس مؤسس الحزب فهد ” حزب شيوعي.. لا اشتراكية ديمقراطية " وأنا غر ّ و حديث على مسائل السياسة والفكر الشيوعي والتقدمي، كان العنوان حقا غير مفهوم لي ، و غالبا ما فهمت عبارة ( اشتراكية ديمقراطية) ككلمتين ، لا صفة واحدة لنوع من الاشتراكية ، و كانت العبارة تبدو لي على شكل أن الحزب الشيوعي لا يريد الاشتراكية ، بل يريد الديمقراطية ، حيث لم يكن لي أي إطلاع على الاشتراكية الديمقراطية و قد فهمنا الديمقراطية خلال المجلات والنشرات التي وصلتنا من الصين والاتحاد السوفييتي وأقماره كملحق في أسماء تلك البلدان ( ألمانيا الديمقراطية ، كوريا الديمقراطية الشعبية ، الخ ) ، فاضطررت أن استفسر من صديقي الكادر الطلابي "الشيوعي" حول مغزى الكراس و معنى لا اشتراكية ديمقراطية، فرد صاحبي بأننا نقوم بتطبيق الديمقراطية أولا و ثم نقوم ببناء الاشتراكية ، فعلمت من رده أنه أكثر جهلا مني وان كل ما يعرفه هو قضايا السياسة اليومية و شيء من أخبار الحزب و قادته لا أكثر.

استرجعت هذه الذكريات بعد أن بات السؤال بعد الثورات الشعبية في تونس و مصر و كردستان العراق ملحا عن الهدف المرحلي للشيوعيين والاشتراكيين في مرحلة الثورة التي نعيشها . لقد كان شعار اليسار التقليدي في العالم الثالث في مراحل الثورات هو إقامة جمهوريات شعبية ديمقراطية وفق نموذج الديمقراطيات الشعبية في أقمار الاتحاد السوفييتي، أو النموذج الماوي رغم أن أغلب اليسار التقليدي فترتئذ و لحد اليوم يعلنون عدم صلتهم بالماوية وأفكار ماو تسي تونج، إذ كانوا يعتبرون أي توجه اشتراكي عمالي لا ينسجم مع مصالح البرجوازية الصغيرة التي سوف ترعاها جمهورياتهم الديمقراطية الشعبية تطرفا يسارويا وصبيانيا وخروجا عن الماركسية اللينينية ، ومعاداة الاتحاد السوفيتي " اشتراكيته الواقعية".
كانت الساحة السياسية للمعارضة اليسارية التقليدية تتزاحم بمقولات وطروحات شبه ماركسية من قبيل " أن المرحلة تتطلب ثورة ديمقراطية لا اشتراكية ، وأن" التناقض الرئيسي في هذه المرحلة ليس بين العمل ورأس المال ، بل هو بين الشعب والامبريالية".

و رغم أن البرجوازية الوطنية في الشرق الأوسط وأغلب العالم الثالث لم تعمر طويلا إلا أن البرجوازية الصغيرة المعادية للامبريالية والصهيونية كانت جزء من" هذا الشعب " معبود البرجوازية الصغيرة بكل طبقاته ، وكانت مهمة "ماركسيي" المدرسة السوفيتية الستالينية هي مراعاة مشاعرها الوطنية والقومية.

وهكذا كان يتم تبرير المساومة والتفهم للقمع والإرهاب الذي يقع على الشيوعيين والماركسيين بأنها تتم لمصلحة " الشعب"، ويتم القبول بدور البرجوازية الصغيرة وبقيادتها للدولة والمجتمع..

الأجيال الراهنة لم يعايشوا هذه الأوضاع إلا أنهم يعيشون اليوم واقعا آخر، فمنذ أكثر من 20 عاما يهيمن الخطاب اللبرالي على بقية الخطب الأخرى ، ويتم الهجوم على الشيوعية والفكر الاشتراكي بنهج وأسلوب مختلفين اختلافا كبيرا عن نهج وأسلوب فترة ما قبل الحرب الباردة، فبعد صعود اللبرالية الجديدة على المسرح العالمي و بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإعلان منظري البرجوازية انتصار الرأسمالية النهائي ، و نهاية التاريخ و انتصار اللبرالية ، تم الاستغناء عن مقولات "مصالح الشعب العليا" لتبرير الدفاع عن مصالح البرجوازية الصغيرة و البرجوازية الوطنية ، لأن الخطاب اللبرالي أخذ يبشر بقدسية " الطبقة الوسطى" باعتبارها بطل الحداثة و الديمقراطية وما بعد الحداثة ، فلم يعد ضروريا الحديث عن الامبريالية و نهب النفط والتخلف والتبعية لكي يستوجب إقامة نظام ديمقراطي في سبيل الحداثة و رأسمالية وطنية مستقلة .
تم تصوير الرأسمالية والملكية الخصوصية واقتصاد السوق كألهة أو أديان مقدسة وأزلية وأبدية في الخطاب اللبرالي و بعدما هيمنت اللبرالية الجديدة على العالم تعتبر الرأسمالية كنموذج عالمي وحيد للنمو والتطور الاقتصادي والرفاهية إلى درجة لم يعد ثمة حاجة للبحث عن نموذج آخر .


يدور الخطاب اللبرالي حول قطبين ما وراء طبيعيين ووراء تاريخيين " التقليد والحداثة" ووحدة المجتمع المدني، فيختفي الصراع الطبقي لكي يتم تبرير السلام الطبقي والوفاق الاجتماعي و عقد مصالحة بين المصالح الطبقية المتناقضة.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة و الثورات المخملية والملونة لم تعد معاداة الشيوعية والاشتراكية أو تشويههما بحاجة إلى خطابات شبه ماركسية ، من النوع الذي ساد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

إن السؤال المصيري الذي يواجه الشيوعيين و الاشتراكيين و الماركسيين والطبقة العاملة هو:
أي نظام ينبثق من رحم الثورات العربية الراهنة يمكنه ضمان الحريات الديمقراطية للمضي صوب الاشتراكية؟
سؤال جوهري و مهم أهمية قصوى ، لكن غالبا ما يأتي الجواب من اليسار التقليدي مغلوطا أو مبتورا. تاريخيا كان الهدف المعلن لليسار التقليدي هو إقامة نظام لبرالي ديمقراطي علماني كهدف مرحلي للشيوعيين والاشتراكيين في بلدان المنطقة.
تقول الماركسية إن مهمة الماركسيين ليس أن يبدوا انطباعهم عن الأشياء بل عليهم استخدام المنهج الماركسي لتحليل الوضع في سبيل التغيير.

إن مقولة ( طريق الاشتراكية لا بد أن تمر عبر الديمقراطية) صحيحة ، لكن للشيوعيين والاشتراكيين الماركسيين تفسير مختلف عن تفسير اليسار القومي والتقليدي . فمنذ 160 عاما يدافع الماركسيون عن هذه الفكرة على عكس الفوضويين و التيارات المعارضة الفورية والمغامرة. الماركسيون باتوا ينادون دوما انه بدون الحريات السياسية و بدون حرية الرأي والتعبير و التجمع و التنظيم و حرية الإضراب و الاحتجاج لا يمكن على ارض الواقع تعبئة جماهير الطبقة العاملة للنضال في سبيل الاشتراكية. وإنني أرى تكرار هذا الحكم البسيط والصحيح مفيدا ، ففي الإعادة إفادة ، لكن طرح الفكرة بمعنى أن الهدف المرحلي للاشتراكيين هو إقامة نظام ديمقراطي علماني أمر مغلوط ، ولا يلائم الفكر الماركسي والشيوعية.

فالماركسيون بخلاف اللبراليين يحددون الجوهر الديمقراطي لأي نظام سياسي لا بشكله السياسي بل بمحتواه الاقتصادي والاجتماعي. في مراحل تاريخية مختلفة كانت مهمة الشيوعيين العمل على اغناء محتوى التغيرات في أية ثورة ، والتي تضمن الحريات الديمقراطية ، وتثبيتها لصالح الطبقة العاملة.

إن شكل النظام الديمقراطي والعلماني الذي يعد اليوم النموذج الكامل للحكم عند اللبراليين هو تاريخيا ثمرة وصول البرجوازية إلى الحكم عقب عدة ثورات في القرنين 18 و19 في فرنسا، لكن صيغة الحكم هذه كانت ذات محتوى ديمقراطي فقط في فترات محددة بين 1879 - 1848..لأن في هذه الفترة كان انتصار اللبرالية التقدمية في الرأسمالية الصناعية في أوربا الغربية رهنا بالنضال ضد المؤسسات السياسية والاجتماعية الإقطاعية و ممارسة البرجوازية لسلطاتها، إلا أن تحولات اقتصادية وسياسية عديدة وضعت حدا لهذه المرحلة التاريخية ، يمكن تلخيصها في :
"صعود الحركة السياسية للطبقة العاملة ( كومونة باريس عام 1871 و انتفاضة عمال باريس المقموعة بالعلاقات الرأسمالية وسيادتها التي أنهكت طبقة النبلاء التي اضطرت إلى الانسحاب في مواجهتها للبرجوازية ، واشتداد المنافسة بين الدول الاستعمارية بالتناظر مع توسع الرأسمالية الصناعية ، التي تعرضت إلى أول أزمة اقتصادية عالمية في العقد السابع من القرن التاسع عشر ما وضع نهاية للمنافسة الحرة و نتج عنه صعود الامبريالية الحديثة.
وأخذت " الديمقراطية اللبرالية" في هذه الفترة تتبلور ، وتستقر في البلدان الأوربية الغربية التي لا تزال تحتفظ بالديمقراطية الفارغة من محتواها الاقتصادي مثل الحياة البرلمانية والانتخابات النيابية ، وفيما بعد منح الشعب حق الاستفتاء العام على قضايا حاسمة.

لقد سار تطور العلاقات الرأسمالية واستقرارها عكسيا مع المحتوى الاقتصادي للحريات الديمقراطية و النظام الديمقراطي. وليس بالضرورة أن تتصاحب الحداثة و النمو الاقتصادي وقيام علاقات رأسمالية مع الحريات الديمقراطية، هذا ما يبنه تاريخ " العالم الثالث" في القرن العشرين وخصوصا في سبعينات القرن الماضي ، إذ صاحبت التنمية دكتاتوريات فردية و قمع و تضييق على الحريات. يمكن النظر في هذا المجال إلى تونس حيث جرت تنمية حقيقية و برزت مظاهر حداثة ، لكن برقيبة مارس حكما فرديا وتشبث بكرسيه وهو في أرذل العمر إلى تم انزاله منه " بالدفرات" حسب اللهجة العراقية. و نموذج مصر عبد الناصر لا يمكن أن يشك في دكتاتوريته أحد رغم بعض المنجزات في البناء و الاعمار ...
إن ما قام في بعض بلدان العالم الثاني والثالث وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة والثورات المخملية والملونة ن وأطلق عليه بعض المنظرين اللبراليين " الموجة الثانية والموجة الثالثة للدمقرطة" أي استقرار نماذج للحكومات الديمقراطية اللبرالية لا يمكن اعتباره حتى ديمقراطية شكليا و بمعايير اللبرالية ، بل يمكن أن نطلق عليه ووفق بعض منظري اللبرالية منهم روبرت دال اصطلاح أدق وهو " الكتروكراطي" ( الانتخاباتية .. أترجمه هكذا و لا أدري مدى صحته) . فهذه الديمقراطية الشكلية و الخاوية، ليست لها أية صلة باحتياجات الطبقة العاملة للحريات الديمقراطية الحقيقية لتطوير وسائل النضال في سبيل الاشتراكية.
‏08‏/07‏/2011
للبحث صلة