النقد والنسف في العلم والفلسفة


هشام غصيب
2011 / 6 / 29 - 08:19     

أين يكمن الخلق والإبداع في عملية الاكتشاف العلمي؟ هل هي عملية خلاقة في جوهرها؟ أم إنها مجرد نتيجة حتمية ميكانيكية لعمل منهجي منظم وتقانة دقيقة متطورة؟

في بحوث سابقة لي، بينت أن عملية الاكتشاف العلمي هي جزء جوهري من عملية إنتاج المعرفة. وهذه الأخيرة هي بطبعها خلاقة. فالمنتوج العلمي لا يكون بطبعه جاهزاً بصورة مسبقة في الذهن قبل عملية الإنتاج، بعكس منتوجات الصناعات الأخرى، ومن ثم فهو لا ينتج إلا بالخلق والإبداع. ومن دراستي تاريخ العلم تفصيلياً، يبدو لي أن العاملين الرئيسيين في عملية الاكتشاف العلمي هما: التغيير المبدع في زاوية النظر والتطوير الخلاق في منهج البحث. فاكتشاف الجديد قلما يتم بغير هذين العاملين. فالمنهج هو مفتاح لجانب من الواقع. ولا يتم الكشف عن الجانب المعني إلا باتباع المنهج اللازم المبتكر. كما إن هذا الجانب لا يرى إلا بتغيير زاوية النظر بصورة مناسبة. ويأتي هذا التغيير عادة بفعل عملية نقد لزوايا النظر والمناهج السائدة. ولكن ماذا نعني بالنقد؟

إن النقطة الجوهرية في النقد هي عدم قبول فكرة أو رأي أو مقولة أو قضية على علاتها، وإنما إعادة النظر فيها وفحصها مجدداً. ويهدف هذا الفحص إلى الكشف عن مكونات الفكرة وبنيتها الداخلية وحدودها وآفاقها وافتراضاتها وجذورها ودينامية حركتها وتناقضاتها الداخلية والخارجية. وهو ينطوي على تفكيك الفكرة وإعادة تركيبها وتحليلها واختبارها ودراسة روابطها الداخلية والخارجية. والنقد سمة أساسية من سمات الحداثة، أي الثقافة الحديثة التي انبثقت في أوروبا منذ عصر النهضة الأوروبية، أي بانبثاق الرأسمالية الأوروبية.

وقد أدى النقد دوراً جوهرياً في إنتاج المعرفة وتطورها. ويمكن القول إن كل فتح أساسي في تاريخ المعرفة والفكر جاء نتيجة نقد جذري للفكر السائد. إذ تكونت أول نظرية شاملة في الكون والطبيعة، وهي نظرية الفيلسوف الإغريقي، أرسطوطاليس، على أساس النقد الذي وجهه أرسطو صوب جميع الأفكار الإغريقية السابقة، ابتداءً بطاليس وفلاسفة أيونيا، ومروراً بديموقريطس والذريين الإغريق، وإنتهاء بأستاذه الكبير، أفلاطون.

وقد دشن الحسن بن الهيثم علم الضوء بنقده المفصل لنظريات أفلاطون وأرسطو وإقليدس في الضوء. كذلك، فقد دشن غاليليو مشروع العلم الحديث ونظرية الحركة الكلاسيكية بنقده الجوهري لنظرية أرسطو في الحركة والكون،ذلك النقد الذي قوض أركان العلم القديم إلى غير رجعة. أما نيوتن، فقد أقام صرح الفيزياء الكلاسيكية، أول نظرية علمية رياضية إجرائية شاملة في التاريخ، بنقده المفصل لفلسفة ديكارت في الطبيعة.

وقد دشن الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط ، المثالية الألمانية، بنقده المفصل لمفهومي العقل البحت والخبرة الواعية، كما سبق أن تبلورا لدى العقلانيين (ديكارت واسبينوزا وليبنتز وفولف) ولدى الإمبريقيين (بيكون وهوبز ولوك وباركلي وهيوم).

وقد أقام ألبرت آينشتاين رؤيته ومنهجه الجديدين في الفيزياء على أساس النقد العميق الذي سبق أن وجهه ديفد هيوم وإرنست ماخ وأنري بوانكاريه لميكانيكا نيوتن.

وقد أقام بور وهايزنبرغ صرح ميكانيكا الكم (الكونتم) بنقد الفيزياء الكلاسيكية من جذورها وأسسها الأولية. وقد تلا ذلك أكبر معركة نقدية في تاريخ العلم، والتي كان قطباها ألبرت آينشتاين ونيلز بور؛ تلك المعركة التي ما زالت نيرانها مستعرة حتى الآن. ومن جهة أخرى، فقد تطورت المثالية الألمانية بالنقد الذي وجهه فخته وشلنغ وهيغل صوب فلسفة كانط النقدية. وتوجت هذه المسيرة النقدية العظيمة بنظام هيغل الفلسفي المهيب.

لكن حركة النقد هذه لم تتوقف. إذ سرعان ما نشأت في ألمانيا بعد موت هيغل حركة نقدية عاتية أخذت تعرف بحركة الهيغليين الشباب. وقد وصلت هذه الحركة أوجها في فويرباخ وماركس وإنغلز، الذين نقدوا هيغل من منظور مادي طبائعي. وقد أقام ماركس وإنغلز علماً جديداً هو المادية التاريخية على أساس هذا النقد. وسخر ماركس هذه الأداة الفكرية الجديدة (المادية التاريخية) من أجل نقد الاقتصاد السياسي البريطاني (آدم سمث وديفد ركاردو بصورة خاصة). وأقام على أساس هذا النقد الشامل نظرية جديدة في الرأسمالية (تجسدت في كتابه المعروف، “الرأسمال”) ما زال حضورها بارزاً حتى يومنا هذا.

أما الفيلسوف الألماني، فريدريش نيتشه، فقد وجه نصل نقده الحاد صوب جميع السرديات الدينية والفلسفية الكبرى المؤثرة في عصره على الساحة الثقافية الأوروبية (السقراطية والأفلاطونية والمسيحية ومشروع العلم الحديث والكانطية والهيغلية والاشتراكية والليبرالية)، وحاول أن ينشئ على أنقاضها فلسفة جديدة تؤكد أخلاقية جديدة والحياة اللحظية والسوبرمان.

وفي مطلع القرن العشرين، أقام الفيلسوف الإنجليزي، برتراند راسل، صرح الفلسفة التحليلية، التي هيمنت على الشهد الفلسفي الأنجلو أميركي طوال القرن العشرين، بنقده الهيغلية البريطانية والتصورات الكانطية للمنطق والرياضيات. كذلك، فقد أقام الفيلسوف الألماني، إدموند هوسرل، فلسفة الظاهراتية، التي هيمنت على المشهد الفلسفي الأوروبي طوال القرن العشرين، بنقده المدرسة النفسانية المؤثرة آنذاك. ولا ننسى هنا الفيلسوف النمساوي المعروف، لودفيغ فتغنشتاين، الذي وضع في شبابه فلسفة محكمة في العالم والمنطق واللغة، وعاد في كهولته لينقد فلسفته المبكرة هذه بلا رحمة حتى قوض أركانها وأقام على أنقاضها فلسفة جديدة في اللغة وعلائقها بالعالم والحياة.

والشيء ذاته ينطبق على الوضعيين المناطقة والماركسيين وهيدغر وسارتر وفلاسفة ما بعد الحداثة.

إن العقل النظري، أي منظومة العلوم القائمة على قاعدة الفلسفة، يقوم ويتحرك ويتطور بالنقد. فالنقد يقود إلى تغيير زاوية النظر ومنهج البحث كليهما، ومن ثم إلى الإكتشاف والفتح النظري.

ونعود إلى نيوتن ونقول إن منهج نيوتن الجديد ارتكز إلى شبكة من الإجراءات والعمليات المنهجية هي : النقد (نقد ديكارت تحديداً) والتركيب الجدلي ( دمج قوانين كبلر السماوية بقوانين غاليليو الأرضية) والكوننة (وبالذات كوننة غاليليو) وتغيير زاوية النظر (وبالتحديد النظر إلى الحركة الدائرية من منظور الجذب والسقوط الحر) والحسبان (النظر إلى العالم من منظوري اللانهايتين الصغرى والكبرى) والمادية (النظر إلى الكون بوصفه مكاناً لانهائياً يعج بالجسيمات المتفاعلة معاً) وفصل الواقعي على المتعالي( أي إرجاع التغيرات والظاهرات الكونية إلى تفاعلات مادية بين الجسيمات، لا إلى علل أولية متعالية). هذه هي المكونات الرئيسية لمنهج نيوتن.

لقد أسمى نيوتن منهجه الفلسفة التجريبية. وأكد على أنه غير معني بوضع الفرضيات، وإنما هو معني باستخلاص المعرفة من الظاهرات. ومن الواضح أنه ينحاز بذلك إلى غاليليو (وربما فرانسيس بيكون) على حساب أرسطو وديكارت. فهو غير معني بالعلل الأولية، سواء أكانت عللاً غائية وفلسفية (أرسطو) أم عللاً مادية (ديكارت)، وإنما هو معني باكتشاف المبادئ الرياضية التي تحكم الظاهرات والسيرورات الطبيعية. لكنه يذهب أبعد من غاليليو بكوننة هذه المبادئ، وذلك عن طريق الدمج (التركيب) الجدلي. فهو يفعل ذلك بتوحيد المبادئ الرياضية التي تحكم الظاهرات المتنوعة (مثلاً قوانين كبلر السماوية وقوانين غاليليو الأرضية)، والبحث عن المبادئ الرياضية التي تحكم العلل المادية الكونية التي توحد هذه المبادئ. لقد قرأ نيوتن في قوانين غاليليو في القصور الذاتي والسقوط الحر وحركة القذائف على سطح الأرض قانونيه الأول والثاني في الحركة، وهما قانونان كونيان ينطبقان في كل مكان وزمان في كون نيوتن اللانهائي الامتداد. وأدرك أن قانوناً واحداً يحكم علة مادية واحدة مسؤولة عن السقوط الحر وحركة القذائف وحركة الكواكب والأقمار في آن واحد، هو قانون الجاذبية العام. وقد خلق من هذه القوانين منظومة أو ماكنة معرفية قادرة من حيث المبدأ على وصف أي حركة في الكون وتفسيرها ومعرفتها. لقد استطاع يمخياله العلمي الثاقب ومنهجه الجديد أن يفصل الجوهري عن العرضي، كما كان يفعل غاليليو من قبله، وأن يدرك أن حركة القذائف على سطح الأرض وحركة القمر حول الأرض هي حركة واحدة من حيث الجوهر، وأن ما يميزها عن بعضها بعضاً هو مجرد مظهر عرضي (السرعة). إنها حركة واحدة من حيث العلة المادية (الجاذبية العامة)، ولا يميزها عن بعضها بعضاً سوى الشروط الابتدائية (السرعة بصورة خاصة).

إن هذا التصور لمنهج نيوتن يدعمه ما جاء في كتاب نيوتن الرئيسي، “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية”، وفي مخطوطاته الكثيرة غير المنشورة، أي التي لم يعدها للنشر. لكن هناك جانباً آخر لنيوتن قد يكون من المفيد أخذه بعين الاعتبار عند تدبّر منهج نيوتن. وهو جانبه الغيبي المتعلق بالسيمياء والتأريخ التوراتي وعلم اللاهوت. إذ إن نيوتن بذل جهوداً فكرية في هذه المجالات الغيبية تفوق بدرجات ما بذله من جهد في الفيزياء والرياضيات.

وكان غارقاً في المسائل الغيبية حتى أذنيه. ويبدو للوهلة الأولى أن نيوتن فصل فصلاً تاماً بين فيزيائه وغيبياته. وعلى أي حال، فلا شك أن أفكاره ونتائجه ومبادئه الفيزيائية الواردة في كتابيه الرئيسيين، ” المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية” و”علم الضوء”، تستمد مسوغاتها ومعناها الموضوعي من الرياضيات والتجربة الدقيقة. لكن ذلك لا يعني أن غيبيات نيوتن لم تؤثر في عمله العلمي، أو أنها لم تؤدِ دوراً مهماً في خلق مفهوماته وأفكاره وتصوراته. لذلك فإنه من المشروع أن نتساءل عن العلاقة الدفينة بين فيزيائه وغيبياته أو لاهوتياته.

إن الدلائل التاريخية والتحليلية لتشير إلى أنه لم يكن هناك علائق مباشرة واعية ومقصودة بينهما، كما هو الحال لدى أرسطو وديكارت، اللذين نبعت فيزياؤهما بشكل جلي ومقصود من مبادئهما الفلسفية واللاهوتية. وبهذا المعنى فقد كان ديكارتياً أكثر من ديكارت، حيث إنه فصل مجريات العالم المادي تماماً عن غيبياته ولاهوتياته. فقد استخلص المبادئ الكونية في فيزيائه من” الظاهرات”، كما عبر عنها هو نفسه، وبالرياضيات والتجربة الدقيقة، وليس من الاعتبارات الفلسفية واللاهوتية. لكن ذلك لا ينفي وجود علائق غير مباشرة ودفينة بين لاهوته وغيبياته وبعض مفهوماته الفيزيائية الأساسية، كمفهوم المكان المطلق ومفهوم الزمان المطلق ومفهوم الكتلة الثابتة المطلقة.

ومع ذلك، فإني أميل إلى الرأي بأن التسويغ الجوهري لهذه المفهومات في نظر نيوتن لم ينبع من الإعتبارات اللاهوتية، وإنما من قدرة هذه المفهومات على توفير أرضية مثمرة لنظرية كونية مريّضة (من رياضيات) قادرة على وصف الظاهرات وتفسيرها، أي من الاعتبارات العلمية. لذلك ظلت هذه المفهومات قائمة، لا بل ترسخت، برغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على الساحة الفلسفية الأوروبية بعد نيوتن. إذ ظلت قائمة ما ظلت الرياضيات والتجربة الدقيقة تدعمها، أو على الأقل لا تتعارض ولا تصطدم معها.

ولكن، مع بروز نظرية المجال الكهرمغناطيسي ونظرية الثيرموديناميكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت تبرز تناقضات مبهمة تلقي ظلالاً من الشك على أسس نظرية نيوتن في الحركة والجاذبية، الأمر الذي دفع أمثال الفيلسوف النمساوي، إرنست ماخ، والرياضي الفرنسي، أنري بوانكاريه، إلى إعادة النظر في أسس فيزياء نيوتن ونقد هذه الأسس جذرياً. وقاد ذلك لاحقاً إلى نسفها على يد ألبرت آينشتاين (نظرية النسبية الخاصة، نظرية الفوتونات في الضوء، نظرية النسبية العامة) وماكس بلانك (نظرية الكم في إشعاع الجسم الأسود) ونيلز بور(نظرية الكم في الذرة) وفرنر هايزنبرغ وإرفن شرودنغر (ميكانيكا الكم).

ومع أن الاعتبارات الفلسفية كان لها دور في عمليتي النقد والنسف هاتين، إلا أن الدور الجوهري كان للاعتبارات العلمية (الرياضيات والتجربة). بذلك قد صمدت أسس نظرية نيوتن ما ظلت قادرة على الوصف الدقيق والتفسير المقداري الوافي والتنبؤ الدقيق. وعندما برزت إشكالات عويصة واستحالات فعلية في هذه الإجراءات العلمية، بدأت هذه الأسس تهتز وتتفسخ، وبدأت ظلال الشك، بكل أصنافه العلمية والفلسفية، تحوم حولها.

ومع ذلك، فقد يكون من المهم أن نلقي بعض الضوء على العلائق غير المباشرة وغير المقصودة بين فيزياء نيوتن وغيبياته. وهذا ما قد نفعله في مقالات قادمة.