كيف تتحرك الأشياء؟


عبد السلام أديب
2011 / 6 / 28 - 17:23     

الوعي الطبقي

من الدروس الجميلة التي أفرزتها انتفاضات الربيع العربي هو ذلك الوعي الطبقي الذي اجتاح الجماهير فجأة، رغم أن هذا الوعي كان يطهى على نار هادئة استغرقت أجيالا بكاملها ولعبت فيها جميع انتكاسات البروليتارية دورا استراتيجيا. ففي مدينة سيدي بوزيد عندما احرق الشهيد محمد البوعزيزي ذاته كرد فعل على الاحتقار والاضطهاد الذي عانه من ممثلي السلطة المحلية، جاء رد الفعل الجماهيري قويا مدويا بدون الاستشارة أو الرجوع للقيادات الحزبية والنقابية المنبطحة، بل رجعوا الى ضمائرهم فقط والى رصيد الوعي الطبقي الذي خزنوه منذ خروج الاستعمار واحتلال المافيات الكومبرادورية لمواقع القيادة للبدء في مرحلة استغلال واضطهاد جديدة للجماهير.

ان الوعي الطبقي لا يأتي للبروليتارية من خارجها سواء من قيادات حزبية أو من تنظيمات سياسية أو من الطلائع الثورية، بل يتكون لديها عبر تجارب ومراحل طويلة في مواجهة الاستغلال والاضطهاد. فتلاقح المواقف الصحيحة والتحليلات الصائبة للأفراد والجماعات والثوار يفرز وعيا طبقيا جماعيا في مواجهة الهجوم البرجوازي الطبقي ومحاولة إخضاع الكادحين لإرادتها عبر نشر الوهم الإيديولوجي والوعض والارشاد الديني المزيف وعبر القمع والترهيب. لكن وسائل القمع والتخدير الإيديولوجي البرجوازية تصبح عديمة الفائدة أمام الوعي الطبقي المتنامي لدى البروليتاريا وعموم الجماهير المضطهدة. وقد رأينا كيف ان الرصاص الحي وقتل المتظاهرين في تونس ومصر واليمن وسوريا، لم يجد نفعا أمام إصرار المتظاهرين على إسقاط النظام.

لقد حاولت بورجوازية الأنظمة المتعفنة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط اغتيال النشطاء والفعاليات والزج بهم في السجون اعتقادا منها ان ذلك يكفي لكبح جماح الشباب والكادحين وردع الانتفاضة، لكن الأمر زاد من اشتعال الوضع وأصبحت حركات التمرد أكثر عنفا، ليس لأن هناك قيادات بديلة بل بالضبط لانعدام وجود القيادات وحيث الثوار لا يعتبرون انفسهم قيادات بل مجرد مناضل بروليتاري، وحيث يصبح كل بروليتاري قائدا لنفسه ومنسجما مع باقي الكادحين ويتملك من الوعي الطبقي ما يكفي لإدراك المهام السياسية التاريخية الجماعية للبروليتاريا وهي التخلص من نظام الحجر والاستغلال والظلم والاضطهاد والذي أصبح باليا في عالم يصحوا من جديد لينشر قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية والاشتراكية بدون ان تكون هناك وصاية لطرف على طرف آخر بل لكي يشرع الجميع في بناء اشتراكي ديمقراطي جماعي.

إذن فتحرر البروليتارية من القيادات الزائفة المصطنعة هو تحرر من الوصاية والتمثيلية الشكلية وكان ذلك هو أول نتائج الوعي الطبقي الجماعي، أما مهام الطليعة الثورية البروليتارية فلم يعد هو تقمص دور الزعاماتية وقيادة جماهير سلبية تأتمر بأمره، بل بالعكس أصبح دورها هو تأكيد هذا الوعي الجماعي وترسيخه لدى الجميع ورغبة الجميع في صنع تاريخ جديد لا مكان فيه للاستعباد والاضطهاد والاستغلال.


لماذا الشباب؟

من بين الدروس الجميلة أيضا في ربيع الثورات العربية هي تبلور الوعي الطبقي في وسط الشباب وبالتالي كان هؤلاء الشباب هم السباقين إلى الخروج إلى الشارع ومواجهة أزلام الأنظمة البالية والإصرار على إسقاطها مهما مارست عليهم هذه الأخيرة من قمع وتنكيل وحشي فعناد الشباب يدفعهم دائما إلى الأمام. وهذا أمر طبيعي نظرا لأن الكهول والشيوخ الذين يهيمنون على التنظيمات السياسية والنقابية المعارضة والتي عمرت عقودا مستفيدة من المركز الاجتماعي الذي يبوئها موقعا القيادي أصبحت برجوازية صغرى متكلسة وتلعب دورا مضادا للثورة رغم زعامتها لمركزيات نقابية أو احزاب "شيوعية" التحريفية والمتكلسة أيضا. فأغلبية الشباب الثائر هم من أبناء البروليتارية أو جزء من أبناء البرجوازية الصغرى ترفض أن تواصل حياتها على هامش التاريخ بدون مستقبل وبدون معنى سواء كانت شبيبة عاملة أو عاطلة أو لا زالت في طور الدراسة. فهؤلاء الشباب استوعبوا ان النظام المتعفن القائم وحيد الاتجاه بمعنى أنه يخدم مصالح التحالف الطبقي المهيمن وعائلاتهم المافيوزية وهي عبارة عن عائلات من الملاكين العقاريين والفلاحين الكبار أو برجوازيين التابعين للرأسمال الدولي أو كومبرادور، وقد استطاعوا مراكمة ثروات هائلة نتيجة استغلالهم للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وعموم الكادحين وأبنائهم لعقود طويلة، وعندما داهمتهم الأزمة عمقوا استغلالهم للكادحين لزيادة أرباحهم المتناقصة باستمرار فكانت النتيجة توسع الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وتدمير المرافق العمومية كالتعليم والصحة ... الخ.

فوعي الشباب بهذه الحقائق وبحقائق البنية السياسية الدستورية الاستبدادية والتي لا تسمح حتى بالتعبير عن الرأي والفكر الحر عدا المشاركة في الانتخابات المزورة المفصلة على المقاس وإجراء مقارنات بين أوطانهم وباقي الأوطان الشبيهة وتلك التي تمكنت من تحقيق تحولات جذرية في أسلوب الحكم وتدبير الاقتصاد وحققت نتائج باهرة لشبابها، جعلتهم يضعون نصب أعينهم هدفا سياسيا استراتيجيا واحدا لصالح الطبقات المضطهدة التي ينتمون اليها وهي تخليصها أولا من الأنظمة البرجوازية التبعية المتعفنة التي تضطهدها وتستغلها ابشع استغلال منذ أكثر من ستين سنة ثم ثانيا تمكين الطبقة البروليتارية من الاستيلاء على السلطة لأنها هي من يشكل الأغلبية الساحقة المنتجة.

وبطبيعة الحال فإن هذا الهدف الاستراتيجي للشباب لا يمكنها أن تحققه في ظل التشبث الأعمى للكومبرادور بالسلطة واستعداده لإبادة كل من يتهدد بقائه واستمراره في امتصاص دماء الجماهير. لذلك فحتى المظاهرات السلمية المطالبة بجزء من الحقوق والحريات وإسقاط الفساد والاستبداد يتم اطلاق النار عليها ويتم قمعها بالقوة من اجل اجتثاث أحلام الشباب بالحرية والارتقاء وإحباط إمكانية تحقق أهدافهم الاستراتيجية المتمثل في الاشتراكية الديموقراطية. لكن الوعي الجماعي المركب من الهدف الاستراتيجي والعراقيل التي تقف أمام تحقيق هذا الهدف والمتمثلة في إصرار الكومبرادور على الاستمرار في استعباد واستغلال الجماهير عبر لجوئه المتزايد لاستعمال العنف والقوة، يؤدي إلى تحدي جماعي أكبر للأنظمة المتعفنة رغم العنف المفرط كما تفعل الأنظمة في ليبيا واليمن والجزائر وسوريا حاليا.

فمن يرفع اليوم التحدي في وجه الأنظمة المتعفنة رغم القمع الوحشي والقهر هم الشباب الثائر والذي استوعب جيدا دوره التاريخي ودور الكادحين عموما في التغيير الجدري لتلك الأنظمة. وفي هذا الإطار يحدث التنافر حتى داخل الحزب الواحد بين القيادة المتكلسة وشبيباتها، فإذا كانت القيادات الحزبية الساعية دائما للتوافقات مع النظام للحفاظ على مصالحها البرجوازية الصغرى من خلال الحفاظ على استمرارية النظام القائم فإن شبيباتها الحزبية سرعان ما تنقلب عليها مائة وثمانين درجة، وهذا ما لاحظناه في المغرب وسط حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فبينما القيادة المتكلسة التي فقدت جماهيرها جراء الانبطاحات المتكررة تدعوا الشعب المغربي للتصويت بنعم على الدستور الممنوح والذي يكرس نفس الحكم الاستبدادي القائم فإن شبيباتها أعلنت العصيان وقررت مقاطعة هذا الدستور لأنه سيكرس عبودية جديدة قد تدوم لمدى أجيال عديدة مقبلة.


الثورة المضادة

من المعلوم أن لكل ثورة ثورة أخرى مضادة، ثم إن الكومبرادورية المهيمنة في الأنظمة المتعفنة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط لن تتخلى عن طيب خاطر عن سلطتها وهيلمانها لصالح الكادحين الذين يشكلون سبب اغتنائها وثرائها. فالكومبرادور لن يسمح بتمريغ سمعته في المحافل الدولية وإسقاطه من طرف الطبقة العاملة التي ظل يستعبدها على الدوام عندما كانت تفتقد للوعي الطبقي، لذلك نجده يعمل على القضاء على كل تمرد شبيبي في المهد. وحتى وان استطاعت حركة تمرد الشباب والكادحين تحقيق انتصارات وأسقطت رموز النظام فإن الأذرع المتعددة للكومبرادور المهيمن ستحاول الالتفاف على نتائج التمرد للحفاظ على هيمنة القوى المتحكمة وإخضاع الكادحين من جديد لعهد جديد من الاستغلال والاضطهاد. فمجهودات الكومبرادور الإيديولوجية والسياسية والقمعية قبل الإطاحة بالنظام القائم أو بعد الإطاحة به هو ما نسميه بالثورة المضادة. ووعي الكادحين والشباب خاصة باستراتيجيات الثورات المضادة كفيل بإبداع أساليب مواجهتها وإحباطها.

وتبدو أساليب الكومبرادور لمواجهة حركات التمرد في وسط الكادحين والشباب واضحة من خلال التجارب الغنية في حركات التمرد الأخيرة في تونس ومصر والجزائر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا والمغرب. فالمظاهرات السلمية الأولى للشباب والكادحين في تونس كرد فعل على الاضطهاد الذي يواجه به النظام البروليتارية الرثة وأبنائها والذي أدى بمحمد البوعزيزي إلى إحراق نفسه، ووجه بعنف لا مثيل له سقطت على اثره أرواحا جديدة وبدلا من أن يؤدي هذا القمع إلى إخماد جذوة التمرد زاد من إشعالها ودفع شرائح جديدة من الكادحين وأبنائها من الشباب إلى النزول إلى الشارع وإعلان التمرد والعصيان المدني، فأصبح استعمال العنف في تونس سببا لمزيد من اشتعال التمرد والعصيان والعنف الثوري واتساعه وسط الشباب والجماهير الكادحة. وقد حاولت وسائل الإعلام التونسية شيطنة حركات التمرد ووصفتها بعناصر تخريبية وإرهابية ومثيرة للشغب وحاولت الأجهزة السرية تجسيد هذا الاتهام عبر التنكر في زي المخربين ومن تم السطو على الأبناك وتصوير كل ذلك بالفيديو وتقديمه على شاشات التلفزة لتقدمه كدليل على التوجه التخريبي لحركة التمرد. لكن الشباب والجماهير الواعية فهمت بسرعة أن ذلك كان من ألاعيب النظام المعتادة، بل زاد الأمر وضوحا خطأ الأجهزة السرية عند قيامها بتلك العملية وهي تلبس قبعاتها الخاصة المكتوب عليها رمزها والتي ظهرت على شاشات التلفزة. فزادت هذه العملية من اشتعال غضب الجماهير والمطالبة بإسقاط النظام.

نفس الشيء لجأ اليه الدكتاتور حسني مبارك في بداية الاحتجاجات الشبيبية السلمية ومحاولة مواجهتها بالقمع في البداية ثم محاولة تلطيخ سمعتها عبر اتهامها بالإرهاب والتخريب. وبعد استنفاذ هذه الإمكانية لجأ النظام إلى تسخير البلطجية لإخافة الشباب والكادحين وحملهم على الدخول إلى بيوتهم. فسلط مبارك بلطجيته بالجمال والخيول على المحتجين في ساحة التحرير كما أرسل بلطجيته الى بيوت المتظاهرين لبث الرعب في نفوس العائلات على أبنائهم لحملهم على العودة الى بيوتهم وإخلاء ساحة التحرير. لكن كل ذلك لم ينفع بل شكل مرحلة جديدة من الثورة حيث استطاع الشباب والكادحين تشكيل لجان شعبية لحماية الأحياء وحماية ساحة التحرير ومواجهة البلطجية بالعصي والمقاومة المستميتة رغم سقوط العديد من الضحايا.

في الجزائر حاول الدكتاتور عبد العزيز بوتفليقة مواجهة المتظاهرين بالقمع ومحاولة تلبية بعض مطالب الكادحين وعسكرة البلاد ومنع العاصمة على المتظاهرين ومحاولة ربح أقصى مدى ممكن من الوقت للالتفاف على مطالب الشباب وردعهم بالقوة المفرطة. أما في ليبيا فلم يجد الدكتاتور القدافي وأبنائه بدا من مواجهة المتظاهرين بحملة حربية أشعلت حربا أهلية في البلاد كلها جعلت الامبريالية تتسرب من خلالها لدعم الثوار وتوجيههم في اتجاه أفغنة ليبيا. أما في البحرين فتدخلت السعودية بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية لدعم الحكم الكومبرادوري القائم والقضاء على انتفاظات الشباب وتظاهراتهم المشتعلة المطالبة بالديمقراطية والحرية.
نفس العملية قادها الدكتاتور اليمني علي عبد الله صالح عبر اتهام الثوار الشباب الذي ما فتأ يصرخ باعلى صوته الشعب يريد اسقاط النظام، بالقاعدة والمخربين ومواجهتهم بالحديد والنار والتقتيل الى ان اصيب الدكتاتور عقب انفجار قنبلة حمل على اثرها الى السعودية للعلاج ولا زالت عائلته تواجه انتفاضة الشباب المستمرة.
في سوريا حيث لا زال النظام الدكتاتوري يشكل صمام امان بالنسبة لاسرائيل، بلغ النفاق الغربي يجد الأعذار للابادة الجماعية التي يمارسها الدكتاتور بشار الأسد ضد الشعب، وحيث لا زال الشباب الثائر يقود مقاومة وعصيان مدني وانتفاضات وتمردات لم يشهد تاريخ سوريا نظيرا لها.

في المغرب ومنذ ان أعلن شباب 20 فبراير إرادته بإسقاط الفساد والاستبداد وبدأ يطور نضالاته عبر مسيرات سلمية وطنية في أزيد من مائة وعشرون مدينة وقرية، حاولت السلطات مواجهة مطالب الشباب بالقمع الوحشي التي سقط على إثرها ثمانية شهداء كما حاول الالتفاف على هذه المطالب بالإعلان عن إصلاحات دستورية تشكل في الواقع هروبا إلى الأمام بمعنى تعزيز السلطات الاستبدادية للنظام وفرض البرنامج والفكر الوحيد، لكن ذلك لم يثني شباب عشرين فبراير عن مواصلة نضالاتهم والمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد.