من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين


ماهر الشريف
2011 / 6 / 17 - 08:17     

1 2 3 4
الحلقة الأولى
استلمت قبل فترة دعوة من "مركز أبحاث الشرق الأوسط"، التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية، في عمان، للمشاركة في ندوة دولية ينظمها المعهد في العاصمة الأردنية، يومي 7 و 8 حزيران 2011، وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لصحيفة "فلسطين"، التي أصدرها "عيسى العيسى" في مدينة يافا في عام 1911.

وقد اقترحتُ على اللجنة المنظمة لهذه الندوة أن أشارك فيها بمساهمة تتناول الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين إبان عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وشرعت، بعد موافقة اللجنة على مقترحي، في التحضير "للورقة" التي سأقدمها، وذلك بالرجوع إلى عدد من الصحف والمجلات الشيوعية التي كانت مودعة في  الأرشيف السري للكومنترن الخاص بفلسطين، الذي اطّلعت عليه في موسكو، عام 1989، ثم جمعته وأصدرته في كتاب عام 2004، عن دار المدى بدمشق، بعنوان: "فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن".

إن هدف هذا البحث، الذي سينشر على حلقات، هو إلقاء الضوء على الدوريات التي أصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني –أو موّل إصدارها- إبان عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، من حيث الأهداف والموضوعات، ومن حيث الصياغات وأساليب السرد، ومن حيث الحجم والإخراج، ومن حيث التوزيع والانتشار، ومن حيث العلاقة مع الصحف الأخرى غير الشيوعية.

ومن أهم هذه الدوريات "مجلة حيفا"، وصحيفة "المنبّه"، ومجلة "إلى الأمام"، وصحيفة "الجبهة الشعبية"، بالإضافة إلى عدد آخر من الدوريات التي كانت تصدرها منظمات الحزب الرديفة، مثل "اتحاد الشباب"  الشيوعي، أو منظماته المساعدة مثل "جمعية المساعدة الحمراء"،  و"الكتلة العمالية" المعروفة بـ "الفركتسيا".

وسأبدأ، في هذه الحلقة الأولى، اطلالتي على مجلة "حيفا"، وهي المجلة، التي وصفّها الإعلامي والباحث الفلسطيني محمد سليمان، في الكتاب الذي أصدره مؤخراً عنها، بأنها "أول صحيفة يسارية عربية" تصدر في فلسطين، ما بين 1924 و 1925. ولكنني قبل أن أفعل ذلك، سأحاول الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي ميّز الصحف والمجلات التي أصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني، في تلك الفترة، عن غيرها من الصحف والمجلات الفلسطينية؟

تميّز الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين
يمكننا القول إن الصحافة الشيوعية العربية التي صدرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين قد تميّزت عن غيرها بما يلي:
أولاً، صدور هذه الصحافة في ظروف السرية الشديدة التي طبعت نشاط الحزب، وفي ظل الملاحقات المستمرة التي تعرض لها قادته وجهازه الحزبي والفني.
وهذا ما يؤكد عليه مقال نشرته مجلة اللجنة المركزية  للحزب الشيوعي الفلسطيني، "إلى الأمام"، في الذكرى العاشرة لتأسيس الحزب بعنوان" ما هو أهم نجاحنا؟"، ومما جاء فيه: "الحزب الشيوعي تمكن من إصدار نشرات مطبوعة باللغة العربية واليهودية. جميع أعداءنا يطبعون في صورة علنية جرائدهم ولكن علينا أن نصدر نشراتنا في صورة سرية. البوليس يفتش على مطبعتنا لأننا الوحيدين  في فلسطين الذين يصرحون الطبقات العاملة عن الحقيقة ويدعوهم إلى الجهاد. في مدة عشر سنين تمكن الحزب بفضل إخلاص أعضاءه أن ينوّر كثير من العمال والفلاحين ويفهمهم طلباتهم. وقد تمكنا أن ندفع عنا الأكاذيب والتضليلات التي ينشرها عنا أعداءنا. واليوم كل عامل وفلاح في فلسطين يعرف بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني هو يريد تحرير البلاد من الاستعمار الانكليزي، ويريد تحرير العمال من استغلالهم الشديد ويريد بأن يشتغلوا العمال ثمانية ساعات وتكون أجرتهم طيبة، ويريد بأن يحرر الفلاحين من ثقل الأعشار والويركو والعربون وتقسيم أراضي الأغنياء بين الفلاحين..." (1).

وإلى جانب الملاحقات البوليسية التي كان يتعرض لها قادته وأعضاؤه بشكل دائم، كانت أجهزة الحزب الفنية تتعرض أحياناً إلى غارات يشنها عليها البوليس البريطاني، أو إلى هجمات تقوم بها قطاعات من الجمهور العربي الواقعة تحت تأثير الدعاية المعادية للشيوعية. فخلال أحداث "هبة البراق"، في آب 1929، قام عدد من الفلاحين العرب بالهجوم على مطبعة الحزب السرية وتدميرها، وهو ما اعترفت به رسالة سرية أرسلتها قيادة الحزب إلى موسكو، في 28 آب 1929، وورد فيها: "لقد عانى جهازنا الحزبي معاناة شديدة، حيث دمرت المطبعة والأرشيف الحزبي، ولم نتمكن سوى بالصدفة من إنقاذ الرفيق العامل بالمطبعة" (2).

وفي رسالة أخرى، وصلت إلى القسم الشرقي للكومنترن، في 28 كانون الأول 1931، أشارت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى أنها قد تلقت " ضربة قاسية " جديدة، عندما " وقعت المطبعة والشقة الحزبية في أيدي الشرطة" (3).

ويبدو من رسالة ثالثة، مؤرخة في 1 كانون الثاني 1933، أن الحزب بقي، حتى ذلك التاريخ، يعاني من الضربة التي وجهها البوليس البريطاني لجهازه الفني، حيث جاء في تلك الرسالة:  "من المعلوم لديكم أنه بعد سقوط المطبعة للمرة الثانية في أيدي الشرطة، أعدّنا ترتيب أمورنا على أسس جديدة وبتنا على وشك الانتهاء من ذلك، علماً بأننا لم نتمكن بعد من العودة إلى النشر المنتظم..." (4).

ثانياً، تحديد رسالة هذه الصحافة  في نشر الوعي الطبقي بين الفئات العربية الكادحة، من العمال والفلاحين، والدفاع عن مصالحهم، والنطق باسمهم.

وقد برز هذا التوجّه بوضوح منذ العدد الأول من "مجلة حيفا" ، التي صدرت، في 21 تشرين الأول 1924 ، بصفتها "مجلة العمال"، المعبّرة عن مواقف الحزب الشيوعي الفلسطيني. ففي افتتاحية ذلك العدد، حدد صاحبها ومحررها، إيليا زكا، توجهات المجلة وأهدافها بقوله: "طالما نوينا على إصدار هذه المجلة بأسلوب نتمكن معه القيام بخدمة هذه البلاد وأهلها الخدمة الخالصة من كل شائبة ليرتاح إليها ضميرنا التعب وقلبنا الخفاق إلى ما وصلت إليه حالتنا الحاضرة من البؤس والشقاء والاستعباد والاستبداد "، مضيفاً بأن الباب الذي ستلجه " مجلة حيفا" هو " باب إيقاظ العامل البائس من ثباته العميق وتثوير أفكاره، بعبارة بسيطة وألفاظ سهلة يفهمها، ليتمكن من معرفة داءه ودواءه وعليه الاتّكال في كل حال". وهي، على هذا الأساس، ستتميّز عن الصحف والمجلات الأخرى  في فلسطين، التي غايتها "  الاهتمام بالوجهاء والأعيان والسراة "، في كونها ستهتم " فقط بالعمال وما يقاسونه من الأتعاب والمشاق في حياتهم التعيسة الطافحة من الصعوبات والإهانة والذل والمسكنة رغماً عن الانقلابات الفجائية العظيمة المدهشة التي وقعت في أنحاء العالم مع تلك الطبقة التي كانت ترزح تحت نير العبودية وترسف بقيود الاستبداد منذ أجيال مضت..." (5).

ويبدو  أن هذا التوجه الجديد لـ "مجلة حيفا"، والذي لم تعهده فلسطين من قبل في صحافتها، قد أثار حمية بعض الفئات المثقفة المتعاطفة مع قضايا العمال، وهو ما نلمسه في الرسالة التي أرسلها محاميان فلسطينيان، هما نجيب الحكيم ومعين الماضي، إلى صاحب المجلة، يعربان فيها عن رغبتهما في مشاركته في تحقيق " هذه المهمة الشريفة السامية"، مهمة "خدمة العمال والفلاحين المستبد بهم وبحقوقهم المقدسة"، وذلك من خلال التبرع " بالمحاماة عن كل عامل وفلاح مظلوم تجاه أصحاب الأعمال ورؤساء الأموال " (6).

وفي افتتاحية عددها الخامس عشر، الصادر في 30 نيسان 1925، بعنوان: "اعتذار وبيان من إدارة المجلة"، عاد محرر المجلة، بعد الاعتذار عن توقفها عن الصدور " خمسة وعشرين يوماً لداع صحي ودواع حكومية"، إلى التأكيد على توجهاتها وأهدافها بقوله: " نعود الآن إلى خدمتنا المقدمة، خدمة العمال والفلاحين الذين نعتقد بعد التجارب والاختبارات سنيناً طوال في معالجتنا القضية الوطنية أنهم وحدهم القادرين على خلاص هذا الوطن من براثن الأغراب... وعلى هذا خصصنا مجلتنا هذه للأخذ بيد العامل والفلاح ورفعهما عن أرض الشقاء والفقر المادي والمعنوي إلى مستوى الحياة، وإفهامهما حقيقة وجودهما ونفض غبار الاستسلام على حقوقهم المهضومة ويسيرون بالقضية والبلاد نحو الغاية المتوخاة " (7).

وشدّدت مجلة "إلى الأمام" السرية، في افتتاحية عددها الأول، الصادر في آذار 1929،  على أنها " الجريدة الوحيدة في هذا القطر التي ستوجه كل اهتمامها إلى الدفاع عن مصلحة طبقة العمال والفلاحين الواقعين تحت ظلم طبقة الرأسماليين والملاكين على اختلاف أجناسهم في هذه البلاد من جهة، ومن جهة أخرى تحت اضطهاد الاستعمار الانجليزي "، آملة أن تكون "المرآة" التي تنعكس عليها حياة العامل والفلاح، و " المصباح الذي ينير لكم الطريق الذي يجب أن تسيروا عليه لأجل تحريركم من الذين يظلمونكم ويستغلونكم " (8).

ثالثاً، لجوء هذه الصحافة إلى لغة سهلة وبسيطة، تمكنّها من الوصول إلى جماهير كادحة، يغلب عليها الجهل والأمية، وابتكارها أساليب جديدة لنشر الوعي بين هذه الجماهير.

ففي ملحق العدد المزدوج، الثاني والثالث، من مجلة "إلى الأمام"، الصادر في أيار 1929، توجهت المجلة إلى جماهير العمال بالقول:  "أنتم شايفين أن الجرائد تكتب باللغة الفصيحة وشايفين أيضاً أن أكثرية مكتوب في الجرائد لا تفهمون منه شيء. والسبب في ذلك يا عمال أن أصحاب الجرائد والجماعة الذين يكتبون فيها لا يكتبون إلا للأغنياء وأولادهم المتعلمين فقط، أما أنتم فلا يحسبون لكم حساب لأنهم يعتقدون أن الأمة هم الأغنياء فقط وأما العمال والفلاحين فهم جهلاء ما خلقوا إلا للخدمة فقط. ولذلك يا عمال فالحزب الشيوعي الفلسطيني الذي يخدم العمال والفلاحين ويحارب أعداءهم الأغنياء والمستعمرين وأذنابهم أصحاب الجرائد أخذ عليه واجب تفهيمكم والكتابة إليكم بلغة سهلة لتفهموا وتقرأوا الحوادث والأخبار التي تهمكم" (9).  

وعلى الرغم من ركاكة هذه اللغة، وما شابها من أخطاء نحوية، إلا أن قيادة الحزب كانت فخورة بأنها تتوجّه إلى العمال والفلاحين بلغة هي اللغة التي يتداولونها في حياتهم اليومية. ففي رسالة وجهتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى الدارسين العرب في جامعة كادحي شعوب الشرق بموسكو، بتاريخ 10 تموز 1929 ، ورد ما يلي: "شرعنا في إصدار لسان حال الحزب المركزي "إلى الأمام"، حيث صدر منها إلى الآن أربعة أعداد... كما نصدر ملحقاً شهرياً لصحيفة "إلى الأمام"، تكتب مقالاته بلهجة عامية ويتضمن رسوماً كاريكاتورية، ونوزعه من دون مقابل " (10).

ومن ناحية أخرى، وبهدف الوصول إلى أكبر عدد من العمال الأميين، ابتكرت "مجلة حيفا" أسلوب التخاطب المباشر مع هؤلاء العمال. فبمناسبة عيد الأول من أيار سنة 1925، دعت إدارة المجلة، بعد أن أكدت  أن دورها يتمثّل في " الأخذ بيد العامل والفلاح ورفعهما عن أرض الشقاء والفقر المادي والمعنوي إلى مستوى الحياة "، جماهير العمال العرب لحضور "حفلة حية"  تتكلم فيها " مجلة حيفا"  في بستان الانشراح، " حيث يقف الخطباء ويتكلمون كل في موضوع من المواضيع التي تطرقها المجلة، فيُبتدأ بالافتتاحية وما بعدها، وما بعدها، حتى تتم مواد المجلة ، حيث يؤلف من ذلك عدد ناطق كما يحدث غالباً في المدن الأوروبية الراقية ومن ثم يطبع هذا العدد ويكون ممتازاً "، مضيفةً بأنه " ستتخلل الخطب مناظر سينما "، وأن ريع الحفلة سيخصص  لإعانة " جرحى ومصابين [في] حادثة دمشق  أثناء زيارة بلفور صاحب الوعد المشؤوم لها "، وأن الدخول إلى الحفلة " مباح لأي شاء من العمال مجانا" (11).

رابعاً، قيام هذه الصحافة بنشر خطاب سياسي جديد يشتمل على مصطلحات وعبارات سياسية واجتماعية جديدة لم يعهدها الأدب الصحافي الفلسطيني من قبل. وهذا ما أشار إليه الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني، في التقرير الذي قدمه إلى هيئة رئاسة الاجتماع الموسع السابع للجنة التنفيذية  للكومنترن، في كانون الأول 1926، والذي ورد فيه: "خلافاً للحركات العمالية في أوروبا، ظهرت الحركة العمالية العربية في فلسطين منذ البداية بوصفها حركة شيوعية. فلأول مرة، صدرت صحف عمالية باللغة العربية، وبرز الشيوعيون باعتبارهم باعثي الحركة العمالية بين العرب. وهذا الواقع فرض علينا ابتكار مصطلحات جديدة، حيث إن مصطلحات من نوع الصراع الطبقي غير موجودة في اللغة العربية، وذلك بالرغم من الغنى الشديد لهذه اللغة. وأنصح الرفاق المهتمين بتطور حركتنا أن يطّلعوا على محتوى الصحف الأولى التي أصدرناها، مثل "حيفا"...، وذلك كي يكوّنوا فكرة عن الطريق الوعرة التي قطعها وعي العامل العربي الطبقي عبر تطوّره. وليس هناك من كلمات قادرة على وصف مشاعر الحماس التي استقبل بها سكان الصحراء العرب صحفنا في المناطق النائية وفي مضارب البدو" (12).

حيثيات صدور "مجلة حيفا"
تشكّلت النواة الأولى للحزب الشيوعي الفلسطيني، باسم "حزب العمال الاشتراكي"، في تشرين الأول 1919، على  أيدي ثوريين يهود، قدموا إلى فلسطين في إطار الهجرات الصهيونية، وكان عليهم أن ينشطوا في بيئة غريبة عنهم، لا يعرفون لغة شعبها ولا عاداته ولا تقاليده، وأن يعملوا على تأسيس حزب شيوعي، فرضت عليه قيادة الكومنترن أن يتحرر من تأثيرات الفكرة الصهيونية، وأن يسعى إلى "تعريب" نفسه، على صعيد العضوية والتوجهات.

ففي أحد التقارير التي قدمت في سنة 1922 إلى قيادة الكومنترن في موسكو، أشير إلى أن من بين أسباب ضعف الحركة الشيوعية في فلسطين، "استنادها عملياً إلى العنصر اليهودي "،  و"تخلف مستوى التطور الثقافي والاقتصادي للجماهير الكادحة العربية الخاضعة للتأثيرات الدينية"، وانتشار "مشاعر عدم الثقة التقليدية تجاه اليهود"، و" غياب أي نوع من الأدبيات الاشتراكية باللغة العربية، وعدم اطّلاع الأوروبيين على لغة الجماهير العربية ونمط حياتها " (13).

وبهدف تجاوز هذه الظروف الصعبة، صار الشيوعيون الفلسطينيون، وبخاصة بعد قبولهم شروط الانضمام إلى الكومنترن والاعتراف بحزبهم، في شباط 1924، بوصفه فرعاً رسمياً له في فلسطين، صاروا يلحون على قيادة الكومنترن كي ترسل إليهم "رفاقاً " يتقنون اللغة العربية وأدبيات سياسية باللغة العربية، كما صاروا يبحثون عن الوسائل التي تمكنّهم من التواصل مع جماهير العمال والفلاحين العرب. وبالطبع، فقد كانت الصحيفة، التي تطرح أفكار الحزب وتعمّمها، وتشكّل أداته للتعبئة والتنظيم، هي من أهم هذه الوسائل.

وعليه، وخلال وجوده في موسكو للمشاركة في أعمال اللجنة التي كلفتها قيادة الكومنترن ببحث مسألة انضمام الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى صفوفه، طلب ممثل الحزب مساعدة مالية شهرية تضمن "  توفير صحيفة سرية باللغتين العبرية والعربية، وشراء آلتي طباعة، واحدة بالعبرية والثانية بالعربية " (14). وعادت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني لتؤكد، في المذكرة التي أرسلتها، في الأول من آذار 1924، إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن، على ضرورة "تأمين دعم  مادي "، يمكّن الحزب " من إصدار صحافة دورية، وإقامة صندوق مالي للدعاية" (15).

وفي رسالة أخرى أرسلتها إلى موسكو في 18 تموز 1924، أشارت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى أن أمينها العام "أبو زيام" نجح، خلال وجوده في برلين في " ابتياع لوازم للطباعة، التي نرجو أن تكلفوا ممثلكم في برلين بإرسالها إلينا في أسرع وقت، علماً بأننا سنقوم بتسديد التكلفة بصورة فورية " (16).

بيد أن إصدار صحيفة دورية باللغة العربية لم يكن، في ذلك الوقت، بالمهمة السهلة بالنسبة لثوريين يهود يجهلون هذه اللغة، ويفتقرون إلى كادر حزبي عربي قادر على الاضطلاع بهذه المهمة. ولهذا، فقد ارتأت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني أن تتعاقد مع الصحافي والناشر المخضرم "إيليا زكا"، الذي كان يصدر صحيفة "النفير"، ويمتلك ترخيصاً باسم مجلة  كان  قد أصدرها في عام 1921 ، باسم "مجلة حيفا"، قبل أن تتوقف فجأة، ارتأت أن تتعاقد معه كي يحوّل مجلته إلى منبر علني للحزب الشيوعي الفلسطيني، على أن تقوم قيادة الحزب بتمويلها.

ومع أن الباحث محمد سليمان يرجّح ، بالاستناد إلى بعض المصادر التاريخية وإلى تقارير البوليس البريطاني، أن يكون إيليا زكا قد انتسب إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، ووافق على هذا الأساس على تحويل "مجلة حيفا" إلى منبر علني للحزب (17)، إلا  أن التقارير السرية المودعة في أرشيف الكومنترن، لا تدعم هذا الرأي، بل تشير إلى أن قيادة الحزب قد ابتاعت، في تلك الفترة، ترخيص إصدار "مجلة حيفا"  من إيليا زكا، وصارت تشرف هي على إصدارها.  

ففي التقرير الذي أرسل إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن، عن نشاط  الحزب الشيوعي الفلسطيني في النصف الثاني من عام 1924، اعتبرت قيادته أن الإنجاز الأكبر الذي حققه الحزب  في تلك الفترة، في ميدان الطباعة الحزبية والتحريض والدعاية باللغة العربية، تمثّل  "في إصدار مجلة نصف شهرية "حيفا"، ابتاع ترخيص إصدارها من محرر عربي، وتقوم اللجنة المركزية للحزب بتحرير هذه المجلة التي حملت اسم "مجلة العمال"، وراحت تعالج مسائل متعلقة بحياة العمال. ويقوم محرر عربي بتنقيح مواد هذه المجلة من الناحية اللغوية. وقد لاقت ترحيباً واسعاً من العمال الفلسطينيين ومن الأوساط الوطنية، وأبدت الصحف الوطنية تعاطفاً معها". وتابع التقرير بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني "عقد اتفاقاً مع الحزبين الشيوعيين السوري والمصري يرسل بموجبه أعداداً من هذه المجلة إليهما" (18). وفي تقرير لاحق، أعقب صدور العدد الثاني من "مجلة حيفا"، ذُكر بأن قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني قررت " أن ترسل  إلى الحزب الشيوعي المصري 500 نسخة من المجلة، على أن يتكفل بتأمين محرر لها، إلى أن تتوفر للحزب الإمكانات المادية " (19).

وفي رسالة أخرى، مرسلة إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن في 28 تشرين الأول 1924، أشير إلى أن قيادة الحزب تستمر في إصدار " مجلة حيفا"  " على الرغم من الصعوبات المادية ومن غياب رفاق يتقنون اللغة العربية ومن الرقابة القاسية "، وأن هذه المجلة، التي تكلف في الشهر " 28 جنيهاً مصرياً"، قد استقبلت " بارتياح كبير" من جانب العمال العرب (20).

ويبدو أن السعي إلى الحصول على تراخيص رسمية لإصدار دوريات علنية كان نهجاً متفقاً عليه بين الشيوعيين في المشرق العربي في ذلك الحين. ففي القترة نفسها تقريباً، التي ابتاع فيها الحزب الشيوعي الفلسطيني من إيليا زكا ترخيص إصدار "مجلة حيفا"، قام الحزب الشيوعي المصري، في آذار 1925، ومن خلال الصحافي الشيوعي رفيق جبور، باستئجار رخصة جريدة "الحساب" من صاحبها إبراهيم الصيحي، وجعلها منبراً علنياً له، على  أن يبقى الصيحي هو "مدير سياسة الجريدة المسؤول" (21).

"مجلة حيفا" من ناحية الشكل والمضمون
على الرغم من غياب أعداد "مجلة حيفا" عن الأرشيف السري للكومنترن في موسكو، ربما لكونها غير سرية، أو لكونها غير ناطقة صراحة باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، إلا أنني كنت قد اطّلعت، على 10 أعداد من أعدادها، عن طريق الباحث الأردني هاني الحوراني، الذي كان أول من عرّف بها في مقال مطوّل نشره عام 1976 في مجلة شؤون فلسطينية، التي كانت تصدر في بيروت، تحت عنوان: "قراءة في سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، مجلة حيفا 1924-1926". وقد استندت إلى هذه المجلة، خلال تحضيري رسالة الدكتوراه، التي صدرت، في عام 1980، بعنوان: "الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928". ثم قمت بنشر مقالين من مقالاتها ضمن ملاحق الكتاب، الذي أصدرته في عام 1981، بعنوان: "الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948". وكان الباحث الفلسطيني موسى البديري قد جعل من هذه المجلة مصدراَ من مصادر كتابيه عن الحزب الشيوعي الفلسطيني وعن الحركة العمالية العربية في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، ونشر عدداً من مقالاتها. وقبل أشهر قليلة، أصدر الباحث الفلسطيني محمد سليمان –كما ذكرت سابقاً- كتاباً خاصاً عنها، استعرض فيه محتويات أربعة عشر عدداً من أعدادها، المودعة في أرشيف الجامعة العبرية في القدس، تغطي الفترة الواقعة مابين 21 تشرين الأول 1924، تاريخ صدور العدد الأول منها، و 26 تشرين الثاني 1925، تاريخ صدور عددها الثالث والعشرين.
وبحسب محمد سليمان نفسه، يبدو أن "مجلة حيفا" قد صدرت في 23 عدداً، على مدى فترة  23 شهراً، توقفت خلالها مرتين. ومع أنها قد صدرت كمجلة نصف شهرية، في البداية، ثم كمجلة أسبوعية، وفيما بعد شهرية، إلا أن صدورها لم يكن منتظماً دائماً (23). وقد عرّفت المجلة نفسها بأنها "مجلة العمال"، ثم صارت تعرّف نفسها بأنها "مجلة العمال والفلاحين". وقد اشتملت ترويسة الصفحة الأولى من عدد المجلة  السابع عشر، والتي جعلها محمد سليمان غلافاً لكتابه، على المعلومات التالية: في الوسط: حيفا-مجلة العمال والفلاحين (أسبوعية)؛ إلى اليمين: صاحبها ورئيس تحريرها إيليا زكا؛ العنوان البريدي: صندوق البوسطة رقم 44، حيفا-فلسطين؛ العنوان البرقي: "حيفا": حيفا؛ إلى اليسار: بدل الاشتراك عن سنة كاملة في فلسطين 25 غرشاً، وفي الخارج تضاف أجرة البريد؛ الإعلانات: أجرة السطر الواحد 7 غروش، وإذا تكرر النشر تُخابر الإدارة؛ وفي أسفل الترويسة: العدد 17، حيفا: يوم الخميس في 14 أيار سنة 1925- 20 شوال سنة 1343، السنة الأولى.

وكانت "مجلة حيفا" تطبع في "مطبعة حيفا"، التي امتلكها إيليا زكا نفسه، والتي كانت تطبع أحياناً بعض النشرات والكراريس الصادرة عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومنها، على سبيل المثال، كراس: "الشهاب الساطع لإنارة طريق العامل والصانع"، الذي أصدره "مركز لجنة عمال الفركتسيا" (الكتلة العمالية الشيوعية) في 13 صفحة، وبثمن 5 مليمات.

وقد عانت "مجلة حيفا"، من الناحية الفنية، من "بدائية" تبويبها، ومن "عفوية" و "سذاجة" إخراجها، ومن "هبوط" عربية لغة مقالاتها، التي خلت من "تواقيع كتابها بأسماء صريحة، والاستعاضة عن ذلك بتواقيع ترميزية" (24). وباستثناء ما ورد في التقرير الحزبي المذكور سابقاً، المرسل إلى موسكو، والذي أشار إلى أن الحزب الشيوعي الفلسطيني قد اتفق مع الحزب الشيوعي المصري على أن يرسل له 500 نسخة من المجلة ، لم ترد في وثائق الكومنترن، معلومات دقيقة عن عدد النسخ التي كانت تطبع من "مجلة حيفا" ولا عن الأعداد التي كانت توزع منها فعلاً.

أما أسباب توقف المجلة عن الصدور، فتعود إلى عجز قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني عن الاستمرار في تمويلها، حيث  يستفاد من رسالة بعث بها أمين عام الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى موسكو، في 12 آب 1925،  أن " مجلة حيفا قد توقفت عن الصدور نتيجة عجز قيادة الحزب عن تسديد  الضرائب المترتبة عليها " (25).

وعلى صعيد المضمون، يمكننا توزيع الموضوعات التي تناولتها أعداد مجلة "حيفا"، خلال فترة صدورها القصيرة، على المحاور الرئيسة التالية:
أولاً، محور خاص بقضايا العمال وتنظيمهم واتحادهم، وهو الذي استأثر بالاهتمام الأكبر.
ثانياً، محور خاص بقضايا الفلاحين العرب ومعاناتهم ودورهم.
ثالثا، محور خاص بقضايا التوعية والتحريض الوطنيين والتضامن  الأممي.
فقد اهتمت "مجلة حيفا" اهتماماً خاصاً بقضية تنظيم العمال العرب في نقابات، حيث نشرت مقالات عديدة تتضمن دعوات إلى العمال العرب كي يقوموا بتأسيس نقابات تدافع عن حقوقهم، وتجعل منهم "كتلة قوية" في مواجهة "الموسرين والرأسماليين". وفي هذا السياق، أشادت المجلة بقيام عمال بلدية يافا بإنشاء جمعية لهم، كما رحبت باعتراف حكومة الانتداب بـ "جمعية عمال سكة الحديد والبوسطة والتلغراف"، باعتبارها أول نقابة يُعترف بها رسمياً، في حين أعربت عن أسفها لانحلال "جمعية عمال مدينة الناصرة"، داعيةً عمال هذه المدينة إلى "تأليف الجمعيات والنقابات" التي تأخذ على عاتقها الدفاع عن حقوقهم في مواجهة "المقاولين والرأسماليين اللصوص" الذين سرقوا وما زالوا يسرقون أتعابهم (26).

كما خصصت "مجلة حيفا" مقالات عديدة للدفاع عن حقوق العمال، وتشجعيهم على النضال كي تتبنى الحكومة قوانين تضمن تحسين ظروف حياتهم. وفي هذا السياق، سعت المجلة إلى تعريف العامل العربي، الذي كان يعاني من تدني مستوى وعيه الطبقي، بالحقوق التي يجب أن يتمتع بها ، حيث شدّدت على ضرورة تحديد ساعات العمل اليومي بثماني ساعات، وعلى أن يتمتع العامل بإجازة سنوية مدفوعة، وأن يدفع له تعويض مناسب عندما يفصل من عمله، أو عندما يتوقف عن العمل بسبب المرض، وأن يمنع العمل الشاق والليلي عن النساء والأولاد، وأن تدفع الأجرة كاملة للمرأة الحامل عند اضطرارها لترك العمل، وأن يمنع تشغيل الأولاد الذين هم بسن الدراسة، وأن يتم تجهيز المعامل وكافة دوائر الأشغال بالأجهزة الصحية والعملية، وأن يعطى لعائلة العامل الذي يفقد حياته أجرته الكاملة مع كافة مصاريف الجنازة (27).

ومن منطلق قناعتها بأن ضمان هذه الحقوق لا يمكن أن يتحقق من دون نضالات حامية يخوضها العمال، بما فيها اللجوء إلى سلاح الإضراب، شجعت "مجلة حيفا" العمال العرب على اللجوء إلى سلاح الإضراب وعلى دعم العمال المضربين والتضامن معهم. فعندما أعلن عمال مصنع الياجور إضرابهم عن العمل، الذي استمر أسابيع عديدة، في مواجهة أصحاب العمل البلجيكيين، نشرت المجلة مقالاً بعنوان: "حمية وغيرة ومروءة"، أشارت فيه إلى أنها، وبعد أن أدركت أن العمال المضربين باتوا "على شفار وهدة العوز والجوع "، وجدت  أن  "من أقدس واجباتها أن تستعطف حمية وغيرة ومروءة رفاقهم وأبناء طبقتهم العمال كافة أن يمدوا رفاقهم بما يتمكنون من المساعدة "، مناشدة " كل من يريد التبرع بشيء أن يرسله لإدارة هذه المجلة التي ستنشر بمنتهى الإعجاب قوائم التبرع "، التي شملت إلى الآن، كما أردفت،  "13 عاملاً من اليهود والعرب تبرعوا بـ  140 غرشاً، بينما تبرعت إدارة المجلة بـ 100 غرش" (28).

وانسجاماً مع سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، القائمة، في تلك الفترة، على أساس العمل داخل الاتحادات النقابية "الإصلاحية" الصهيونية، كالهستدروت، والسعي من أجل الوصول إلى قيادتها، دعت "مجلة حيفا" العمال العرب إلى الانضمام إلى النقابات التابعة للهستدروت، والنضال، من داخلها، مع العمال "الثوريين" اليهود  ضد "أعدائهم الطبقيين" المشتركين. وقد دار على صفحات المجلة سجال طويل حول هذه القضية، التي برزت بعد أن قام عدد من العمال العرب، بتشجيع من الشيوعيين، بالانتساب إلى نقابة عمال سكة الحديد  في حيفا التي كانت تتبع للهستدروت، وهي الخطوة التي لقيت معارضة شديدة من بعض الأوساط الوطنية العربية، والتي عارضتها بشدة  القيادة الصهيونية كذلك.

ففي مقال نشر باسم عامل وبعنوان: "القومية واللاقومية"، أشارت "مجلة حيفا" إلى أن انتساب عدد من العمال العرب إلى نقابة عمال سكة  الحديد  قد أقلق " من يدعون أنفسهم "محبي الشعب"، وهم الوطنيون الناهضون"، كما أقلق الزعماء الصهيونيين الذين " نسبوا للعمال اليهود الخيانة لمصالحهم والازدراء بمقاصدهم القومية ". واستغربت المجلة كيف أن الزعماء الصهيونيين والعرب قد تكاتفوا  "في الجهاد ضد اتحاد وتضامن العمال"، مؤكدة أن الوسيلة الوحيدة لضمان حقوق عمال فلسطين هي " الاتحاد الدولي والتضامن المختلط بين كافة عمال البلاد، ولا يسأل أحدنا الآخر عن اعتقاده أو دينه أو قومه أو جنسه بل يسأل عن طبقته فقط..." (29).

ويبدو أن الضغط الشديد الذي مورس على العمال العرب الذين انضموا إلى تلك النقابة قد دفعهم إلى الانسحاب منها بعد فترة قصيرة، وهو ما تسبب في قيام أحد عمال النقابة بنشر مقال بعنوان: "هل يجب أن ينسحب العمال من نقابة سكة الحديد؟"، ردّ فيه على من أرجع سبب ذلك الانسحاب إلى اكتشاف العمال العرب كون النقابة "نقابة صهيونية"، مميّزاً ما بين طبيعة النقابة وما بين طبيعة قيادتها، ومما جاء في ذلك المقال: "إن نقابة السكة الحديد ليست صهيونية ولا يمكن أن تكون صهيونية لأنها جمعية عمال تسعى لتحسين الأجرة وتنظيم العمل اليومي والحصول على قوانين رسمية للرفق بالعامل ... أما حقيقة الأمر فهي أن أصحاب الإدارة الحالية يبدلون ويزورون مقاصد الجمعية ". وأكد كاتب المقال أن انسحاب العمال العرب من النقابة سيتركها " بأيد صهيونية تعمل لخداع العمال إلى ما شاء الله وتوسع الهوة بين عمال العرب واليهود" (30).

ولم يتوقف السجال حول هذه النقطة عند هذا الحد، بل تواصل وذلك عندما قام عامل عربي في مصلحة سكة الحديد، باسم ج. د . ، بنشر مقال جديد، بعنوان: "الأسباب التي دعت العمال العرب لأن يؤلفوا نقابة مستقلة في حيفا"، بيّن فيه الأسباب التي دفعته ورفاقه إلى الانسحاب من النقابة وقيامهم بتأليف نقابة مستقلة. وبحسب وجهة نظره، وجد العمال العرب أنفسهم مضطرين إلى تأسيس نقابة عربية مستقلة باسم "جمعية الخير"، ضمت "ما ينوف عن المئة والخمسين عاملاً"، بعد أن فشلت مساعيهم للتفاهم مع النقابة التابعة للهستدروت، وذلك " نظراً لما شاهدوه من مراوغة وخداع زعمائها السائرين في إدارة شؤون النقابة على خطة صهيونية لا يمكن للعمال الموافقة عليها" (31).

بيد أن هذا التبرير لأسباب انسحاب العمال العرب من النقابة التابعة للهستدروت لم يكن، على ما يبدو، كافياً لإقناع العمال الشيوعيين الذين كانوا يدعون إلى الاتحاد الطبقي "الأممي" بين كل عمال فلسطين، حيث قام أحدهم، باسم م. أ. و،  بالرد على مقال العامل الذي دعا إلى تشكيل نقابات عمالية عربية بمقال آخر نشرته "مجلة حيفا" في عددها السابع عشر، بعد أن قدمت له بالمقدمة التالية: "كنا نشرنا في العدد 15 من هذه المجلة مقالاً عنوانه: "الأسباب التي دعت العمال العرب لأن يؤلفوا نقابة مستقلة في حيفا". واليوم أتانا من أحد العمال في مصلحة سكة الحديد رداً على ذلك المقال ننشره مسرورين لأن مجلتنا إنما أُنشئت لتكون لسان حال العامل والفلاح وصفحاتها مفتوحة لكل من شاء البحث في المواضيع العائدة لمنفعتهم ". ومما ورد في ذلك المقال: "عجباً، لماذا ينفصل العمال العرب عن العمال الآخرين، ولماذا يؤلفون لهم نقابة على حدة؟ أليس هم يعملون في مصلحة واحدة تحت شروط واحدة ويقاسون عذاباً واحداً وشقاءً وآلاماً واحدة؟ أو ليس من الخير لهم لو كانت نقابة واحدة تدافع عن مصالحهم التي هي واحدة؟". وتعليقاً على من يقول إن النقابة "صهيونية"، أكد كاتب المقال أن النقابة "ليست صهيونية"، وإن كان فيها " بعض الزعماء المتحمسين للصهيونية"،  معتبرا أن النضال ضد الصهيونية يكون أكثر جدوى من داخل النقابة وليس من خارجها، وهو نضال قائم ومستمر –كما تابع- " بين العمال المخلصين المستقيمي المبدأ، الذين يدافعون بدمائهم عن كيان نقابة مشتركة بين العمال وعن حقوق العمال، وبين السماسرة الصهيونيين المتزعمين ". وأنهى العامل مقاله هذا بانتقاد الزعماء القوميين العرب الذين " يقلدون الصهيونيين بمواعظهم وأقوالهم أن تؤسس "نقابات مستقلة"، وحلّ عليهم اليوم الروح الصهيوني الفاسد المائل لتأسيس (طوائف قومية) "، داعياً العمال العرب إلى الانضمام من جديد إلى النقابة، والعمل " بجد ونشاط في سبيل تأليف جبهة متحدة قوية ضد الصهيونية..." (32).

وقد انتقدت "مجلة حيفا" بشدة، في هذا السياق، الصحف العربية التي كانت تعارض اتحاد العمال العرب واليهود ضمن اتحادات نقابية مشتركة، حيث عاتبت، في مقال نشرته بعنوان:  "حول مسألة التفاهم والاتحاد بين العمال"، أحد العمال العرب من القدس الذي طلب من صحيفة "فلسطين"، " لسان حال المتمولين العرب "، كما عرّفتها "مجلة حيفا"، أن تبدي رأيها " في مسألة الاتحاد والتفاهم بين العمال العرب والصهيونيين "، مشيرة إلى أن عتبها على ذلك العامل ينبع من سببين، الأول هو أن العامل العربي وجّه سؤاله المتعلق بمسألة العمال العرب إلى صحيفة "معادية" للعمال، كانت  " قد حملت حملة شعواء عنيفة على عمال المخابز في يافا عندما أعلنوا الإضراب مطالبين بحقوقهم"، والثاني أن سؤال العامل العربي لم يكن "دقيقاً"، لأنه استخدم عبارة  "عمال صهيونيين"، بينما كان من الأجدر به أن يستخدم عبارة  "الاتحاد مع العمال اليهود"، وذلك على اعتبار أنه يوجد في فلسطين "عمال يهود ذو مبدأ صهيوني، ولكن ليس كل العمال اليهود صهيونيين "، وأن الاتحاد المشترك بين العمال العرب والعمال اليهود " هو من الشروط الأساسية لجهادنا"، لا سيما وأن والعامل العربي " لا يستطيع أن يقاوم جبهة الرأسماليين المتحدين "، إلا من خلال " جبهة متحدة مؤلّفة من كافة العمال على السواء"، قادرة على " التغلب على أعدائنا الصهيونيين والملاكين العرب النفعيين وطلاب السيطرة الأوروبيين " (33).

أما فيما يتعلق بمحور اهتمامها الثاني، فقد  تطرقت "مجلة حيفا"، في بعض أعدادها، إلى المشكلات التي كان يعاني منها الفلاحون العرب، ومن أهمها مشكلة طردهم من الأراضي التي يعملون فيها بعد أن يقوم المتمولون الصهيونيون بابتياعها من كبار الملاك العرب، وما كان ينجم عن عمليات الطرد تلك من صدامات بين الفلاحين العرب والمستوطنين اليهود، كالصدامات العنيفة التي اندلعت في قرية العفولة، في نهاية تشرين الثاني 1924، بعد قيام أحد كبار الملاكين من عائلة سرسق ببيع أراضيه لأحد المتمولين الأميركيين الصهيونيين. ففي عددها الخامس، الصادر في 15 كانون الأول 1924، وفي مقال بعنوان: "حادثة العفولة"، اعتبرت "مجلة حيفا"، في تعليقها على تلك الصدامات، أن "الفلاحين والعملة من عرب ويهود تهدر دماؤهم الزكية بجريرة التملك والسيادة واستثمار منافع تلك القوة المقيّدة والمستعبدة بهرق الدماء"، ودعت الفلاحين العرب والعمال اليهود، الذين تجمعهم "أخوة البؤس والشقاء"، إلى تأليف "نقابات الصداقة والأخوة" فيما بينهم، " ليتمكنوا من الحصول على حقوقهم المهضومة في الأرض التي هي محط آمالهم" (34).

أما المشكلة الثانية التي كان يعاني منها الفلاحون العرب، والتي توقفت عندها المجلة، فكانت مشكلة الديون والضرائب المجحفة المفروضة عليهم، وبخاصة ضريبة الأعشار. فبعد أن أعلنت سلطات الانتداب البريطاني عزمها على تخفيض هذه الضريبة، نشرت "مجلة حيفا" مقالاً بعنوان: "تخفيض الأعشار. هل أخفضت حقيقة"، رأت فيه أن المطلوب هو إلغاء هذه الضريبة وليس تخفيضها، وهو أمر لا يمكن الاتّكال فيه على السلطات البريطانية، وإنما يجب أن يكون الاتّكال على الفلاح  نفسه، الذي يجب عليه " أن يشكّل لجاناً في القرى تحت اسم "لجنة إلغاء ضريبة الأعشار"، وعلى الفلاحين كافة أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على هذه الضريبة العاتية..." (35).

وقد شجعت "مجلة حيفا" الفلاحين العرب على الانخراط في العمل السياسي، وحثتهم على لعب دور مميّز داخل الحركة الوطنية العربية، والسعي من أجل تشكيل حزب فلاحي-عمالي جماهيري، يكون قادراَ على "تصدّر النهضة الوطنية في البلاد"، لا سيما وأن الطبقات الاجتماعية، في فلسطين، "عديدة، فهناك طبقة أصحاب الأملاك الواسعة وطبقة التجار وطبقة الفلاحين والعمال وغيرها، ولكل طائفة من هذه الطوائف مقاصد ومرامي ومصالح مختلفة كانت السبب بتأليف الأحزاب المتنوعة". وبعد أن أشارت المجلة إلى أن الأحزاب التقليدية في فلسطين "تستند في عملها على اللوردات والأمراء والملوك وليس منها من يستند على الشعب"، أعربت عن استعدادها للمساعدة في إقامة حزب شعبي جديد، مقترحةً عقد اجتماع خاص لهذا الغرض يدعى إليه "المجاهدون المخلصون الأمناء والغيورون على حرية فلسطين واستقلالها". أما القواعد الأساسية التي كان يجب أن يقوم عليها برنامج هذا الحزب الجديد، فقد كان من أهمها، في نظر المجلة: "الاهتمام بحاجيات الفلاح الفقير ورفع مستوى العامل المأجور... والجهاد في سبيل استقلال فلسطين والحصول على المطاليب السامية الديمقراطية، وتنظيم هيئات تشريعية ينتخبها العمال والفلاحون والمأجورون للعمل الذين يمثّلون السواد الأعظم من الشعب"(36).

ومن ناحية أخرى، شدّدت "مجلة حيفا" على أهمية قيام تنظيمات وروابط  نقابية بين صفوف عمال الزراعة العرب ، حيث دعت، في مقال نشرته في عددها الخامس، بعنوان: "ضرورة اتحاد عمال الزراعة"، العمال الزراعيين، الذين يشتغل معظمهم " تسعة أشهر من السنة بالأجرة، ويفلحون الأرض مدة الثلاثة أشهر الباقية على حسابهم الخاص"،  إلى الاتحاد وإلى العمل على تشكيل " المنظمات والرابطات لهم"، بما يضمن تكتلهم في النضال من أجل تحقيق المطالب التالية: أن تكون مكافأة عمال الزراعة على عملهم بالنقود وليس بالمحصولات الطبيعية؛ أن تعيّن لهم مدة العمل اليومي؛ أن يتم الاهتمام بظروف حياتهم وتقديم المساعدة الطبية لهم؛ أن ترفع الضرائب والأعشار عنهم؛ أن يتم تسليفهم النقود بفوائد صغيرة؛ أن يجري العمل على تحسين تربة أراضيهم وإمدادهم بالوسائط اللازمة لذلك؛ أن يسعى لتهذيبهم وتدريبهم مجاناً؛ أن ترفع الأشغال الإجبارية عنهم (37).

وفي محور التوعية والتحريض الوطنيين والتضامن الأممي ، اتّخذت "مجلة حيفا" موقفاً حازماً ضد الحركة الصهيونية ومشروعها،  عبّرت عنه لدى زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين، في نيسان 1925، حيث أدانت تلك الزيارة بشدة، ورأت فيها "مظاهرة إنجليزية ضد النهضة الوطنية العربية"، وكانت في موقفها هذا منسجمة مع سياسات الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي استغل زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين للتعبير عن وقوفه  إلى جانب الحركة الوطنية العربية في نضالها ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، حيث ساهم ، مساهمة فعّالة، في تنظيم المظاهرات والإضرابات التي اندلعت في المدن الفلسطينية احتجاجاً على تلك الزيارة (38). وتجلّى موقف المجلة، المناهض لمشروع الحركة الصهيونية، في نشرها مبادرة الحكومة السوفيتية، الرامية إلى إقامة وطن قومي لليهود في القرم، حيث أشارت إلى "أن حكومة العمال والفلاحين أعطت مبلغ 400 ألف روبل ذهب لأجل مشروع توطين الإسرائيليين في القرم. وهذا هو القسط الأول من المليون الذي وعدت بدفعه في سبيل هذا المشروع. إن الحكومة الروسية هي الوحيدة التي اعترفت منذ الابتداء بخطر الفكرة الصهيونية على فلسطين وعمالها وفلاحيها، خصوصاً أنها بذلت ولا تزال تبذل كل ما لديها من الوسائط المادية والمعنوية من أجل إحباط المساعي الصهيونية" (39).

كما انتقدت "مجلة حيفا"، وانسجاماً مع مواقف الحزب الشيوعي الفلسطيني كذلك، السياسات المهادنة التي كانت تتّبعها قيادة الحركة الوطنية العربية، ممثّلة في اللجنة التنفيذية العربية، داعيةً هذه القيادة إلى التخلي عن هذه السياسات، والاقتراب من الشعب وطلب "المساعدة من جماهير العمال والفلاحين"، الذين يمثّلون "أقوى زعيم وأبلغ قائد في الجهاد نحو سبيل الحرية والاستقلال" (40).

ومن ناحية أخرى، سعت "مجلة حيفا" إلى تعريف العمال العرب الفلسطينيين بنضالات العمال في العالم وبنضالات شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، ومن ضمنها شعوب البلدان العربية. ففي أكثر من مقال لها، تطرقت المجلة  إلى عيد العمال العالمي في الأول من أيار، "عيد عمال كافة الشعوب، عيد جهادهم  في سبيل الحرية والمجتمع والأخوة المشتركة الأممية"، وهو العيد الذي لم يسبق لعمال فلسطين –كما أشارت- أن احتفلوا به لأن  "حياتنا اليومية الشقية كانت تحول دون الاجتماع المنظم في هذا العيد للتفكير بالجهاد في سبيل نوال حقوقنا " (41).

وانسجاماً مع سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي أعلن منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية في عام 1925، وقوفه الحازم إلى جانب الثوار السوريين، أكدت "مجلة حيفا"، في مقال لها بعنوان: "جهاد سورية نحو الحرية"، أن جميع العرب "سواء كانوا تحت الحكم البريطاني أو تحت الانتداب، أو كانوا أحراراً، يعتبرون جهاد الدروز وقتالهم أنه جهاد لهم" (42). كما أعارت المجلة  اهتمامها لنضال الشعب الصيني، حيث نشرت، بمناسبة وفاة الزعيم الوطني الصيني سن يات سن ، قراراً أصدره، كما زعمت، عمال مدن عديدة في فلسطين، أعربوا فيه "عن أملهم في أن الحزب (الكومندان) سيتمم العهد الذي خلفه له زعيمه العظيم الذي جاهد في سبيل الحرية، وأنه سيتابع جهاده الشريف في سبيل حرية الصين خصوصاً والشرق عموماً "، مؤكدين أن شعوب المستعمرات المظلومة كافة " ستتبع، متكاتفة مع العمال الثوريين في أوروبا، خطة سون يات سن في الجهاد للانتصار على السيطرة في العالم أجمع..." (43).

الهوامش
1-إلى الأمام، العدد 2-3، مايو (أيار) 1929، ص 7-8؛ وسنحافظ على لغة النص كما هي، على الرغم من الأخطاء النحوية التي احتوتها.
2-الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 235.
3- المصدر السابق، ص 327.
4-المصدر نفسه، ص 344.
5-أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين، ص 81-82.
6-في المصدر السابق، ص 90.
7-في المصدر نفسه، ص 96.
8-إلى الأمام، العدد الأول، مارث (آذار) 1929، [الافتتاحية، من دون ترقيم].
9-المصدر السابق، ملحق العدد 2-3، مايو (أيار) 1929، ص 1.
10-الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 235.
11- أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين، ص 95-96.
12- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 163.
13-المصدر السابق، ص 47-48.
14-المصدر نفسه، ص 83.
15-المصدر نفسه، ص 89.
16-المصدر نفسه، ص 102.
17-سليمان، مجلة حيفا، ص 23-24.
18- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 119.
19-المصدر السابق، ص 114-115.
20-المصدر نفسه، ص 108.
21-السعيد، المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، ص 352-353.
22-العدد 58، حزيران 1976، ص 139-178.
23-سليمان، مجلة حيفا، ص 25-26 و ص 100.
24-المصدر السابق، ص 99-100.
25-الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 25.
26- سليمان، مجلة حيفا، ص 70-71.
27- أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص 88-90.
28-في المصدر السابق، ص 94-95.
29- عامل، "القومية واللاقومية"، مجلة حيفا، العدد الرابع، الاثنين في أول كانون الأول 1924، ص 26؛ وكذلك: محفوظ، "نقابة سكة الحديد فرع حيفا"، العدد نفسه، ص 28-29.
30-أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص 91-92.
31- مجلة حيفا، العدد 15، 30 نيسان 1925، ص 117-118.
32- م. أ. و، عامل بمصلحة سكة الحديد، "أيضاً وأيضاً نقابة عمال سكة الحديد"، مجلة حيفا، العدد 17، 14 أيار 1925، ص 135-137.
33- أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص 110-111.
34- مجلة حيفا، العدد 5، 15 كانون الأول 1924، ص 34-35.
35- مجلة حيفا، العدد 17، 14 أيار 1925، ص 137-138؛ وكذلك: "يجب إلغاء  الأعشار"، مجلة حيفا، العدد 22، 7 تشرين الثاني 1925، ص 176-177.
36-" كيف تنهض الأمم"، مجلة حيفا، العدد 7، 15 كانون الثاني 1925، ص 49-50؛ "أسسوا حزباً صحيحاً نافعاً"، المصدر نفسه، العدد 18، 21 أيار 1925، ص 141-142؛ "ما علّمنا الاحتفاء ببلفور في فلسطين"، المصدر نفسه، العدد 15، 30 نيسان 1925، ص 113-115؛ "قوة النهضة"، المصدر نفسه، العدد 13، 13 آذار 1925، ص 97-98.
37- أورده البديري، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص 84-85؛ سليمان، مجلة حيفا، ص 84.
38-"بمناسبة قدوم اللورد بلفور إلى فلسطين"، مجلة حيفا، العدد 14، 20 آذار 1925، ص 105-106؛ سليمان، مجلة حيفا، ص 53-54.
39-سليمان، مجلة حيفا، ص 41.
40-المصدر السابق، ص 51.
41-أورده البديري ، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص 97-98 و ص 100.
42- مجلة حيفا، العدد 22، 7 تشرين الثاني 1925، ص 174-175.
43- أورده البديري ، في: تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين،  ص ص 99-100.

المصادر
أولاً، المؤلفات
البديري، موسى، تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين. مقدمة تاريخية ومجموعة وثائق 1919-1948، بيروت، دار ابن خلدون، 1981.
السعيد، رفعت، المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.
سليمان، محمد، مجلة حيفا 1924-1925، أول صحيفة يسارية عربية، رام الله، إصدار شبكة أمين الإعلامية، 2011.
الشريف، ماهر، الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928، بيروت، دار ابن خلدون، 1980.
الشريف، ماهر، الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948، بيروت، مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1981.
الشريف، ماهر (جمع وتقديم)، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004.
ثانياً، الدوريات
مجلة إلى الأمام.
مجلة حيفا.
مجلة شؤون فلسطينية



الحلقة الثانية
في عام 1925، قررت منظمة الحزب الشيوعي الفلسطيني في مدينة يافا، التي كانت أول منظمة عربية للحزب، إصدار صحيفة سرية باسم "المنبّه"، صارت تصدر بصورة غير منتظمة. ويبدو أن توقف "مجلة حيفا" عن الصدور، كمنبر علني للحزب الشيوعي الفلسطيني، نتيجة عجز قيادة الحزب عن الاستمرار في تمويل إصدارها، من جهة،  ورغبة بعض أعضاء الحزب العرب في وجود صحيفة مركزية للحزب  باللغة العربية، من جهة ثانية، قد دفعا  قيادة  الحزب إلى اتخاذ قرار بتحويل "المنبّه" إلى صحيفة ناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي  الفلسطيني. وكان ممثل منظمة القدس "عارف"، قد أكد في "الرابور" الذي قدمه أمام "المجلس الأول" لأعضاء الحزب العرب، المنعقد في  17 و 18 حزيران 1926، ضرورة العمل على إصدار "جريدة مركزية"، تتكلم "باسم الفلاح والعامل العربي"، وبخاصة بعد أن أصدر الحزب  "جريدة المنبّه في يافا ". وتجاوباً مع هذا المقترح، تقرر، في نهاية أعمال المجلس الحزبي، أن تصبح "المنبّه" هي الصحيفة المركزية للحزب، على أن  تتشكّل لها هيئة تحرير يشارك فيها  "ثلاثة رفقاء من كل بلد واحد، القدس ويافا وحيفا، يكون واجبهم تنظيم وتحضير الأدوات اللازمة وتوزيع الصحافة بين الصنّاع العرب " (1).  وفي الرسالة الموجهة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى القسم الشرقي للكومنترن، في 27 تموز 1926، أشير إلى أن من أهم قرارات مجلس "الكادر" الحزبي العربي، المنعقد في 17 و 18 حزيران، "تشكيل لجنة خاصة لتوزيع الصحافة الحزبية، السرية والعلنية" و "بذل كل الجهود من أجل تطوير الصحيفة العربية وضمان انتظام لسان حال الحزب "المنبّه""، و"الشروع في إصدار نشرة داخلية باللغة العربية" (2).

"المنبّه"، من ناحية الشكل والمضمون
لقد توفرت لي فرصة الاطّلاع، في الأرشيف السري للكومنترن الخاص بفلسطين، على أربعة أعداد من صحيفة "المنبّه" الصادرة عن لجنة يافا الحزبية (الأعداد: 2، 3-4، 5، و 4)، وعلى عددين من الصحيفة نفسها بعد أن باتت ناطقة بلسان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني (العددان: 15 و 16).

فالأعداد 2، و 3-4، و 5 من السنة الأولى، الصادرة  "منطرف الحزب الشيوعي الفلسطيني بيافا (قسم القومنترن)"، اشتمل كل واحد منها على صفحتين (بحدود 30 سم طول  و 21 سم عرض)، كُتبتا بخط اليد، بلغة ركيكة  ومليئة بالأخطاء النحوية، وتصدر صفحته الأولى شعار: "يا عمال العالم اتحدوا". أما العدد 4 (أو نمرة 4)  من السنة الثانية، فقد شهد تطوّراً، حيث اشتمل على 8 صفحات مكتوبة بخط اليد، بالإضافة إلى صفحة "الغلاف"، التي تصدرها شعار: "يا عمال العالم كافة اتحدوا"، رُسمت تحته نجمة خماسية، كان على يمينها رسم "بدائي" يمثّل شمساً ساطعة تبسط أشعتها على بناء تعلوه قبة وعلى شجرة نخيل، وعلى يسارها  رسم آخر يمثّل المنجل والمطرقة. وتحت اسم الصحيفة "المنبّه "، في الوسط، كُتبت عبارة: "لسان حال من هيئة اليافاوي من الحزب الشيوعي الفلسطيني (قسم من الدولة الشيوعي)"، وتحتها: الفهرس وعناوين مقالات العدد الأربعة.

وقد تضمن العدد 2 من "المنبّه"، الذي حمل تاريخ الجمعة 5 رجب 1343 [شباط 1925 حسب التقويم الميلادي وفق حساباتي]، مقالاً واحداً بعنوان: "ما هو الاعتصاب؟"، سعى كاتبه إلى تعريف العامل العربي بمعنى "الاعتصاب"، أو الإضراب عن العمل، كسلاح يلجأ إليه للدفاع عن حقوقه وتحسين شروط عمله في مواجهة أصحاب الأعمال.

فجواباً عن السؤال التالي: " لماذا يعتصب العامل يا ترى ويُضرب عن العمل؟"، أشار كاتب المقال [سنحافظ على لغة النص كما وردت] إلى  أن " الملاكين دائماً يقولون للعمال لماذا تعملون هكذا إن كل شيء بإرادة الله عز وجل وهو سبحانه وتعالى الذي يرزق الغني والفقير. وإذا كانت حالتكم صعبة فما عليكم إلا أن تخضعوا لإرادة الله وتشتغلوا. وعدا عن ذلك يقولون للعمال يجب عليكم أن تشكرونا كوننا نعطيكم شغل وبسببه يمكنكم أن تستحصلوا على قوتكم ويمكنكم أن تعيشوا. والحال أن كل هذا كذب، وهل من الحق أن البعض يشتغل ويكد ويعيش عيشة صعبة  وبالجوع، والباقي لا يتعب ويعيش عيشة هنية... انتبهوا! ما كان لملاك أن يعمل جميلاً مع العامل إلا لأجل أن يربح من ظهره ". وبالاستناد إلى تجربة العمال في أوروبا، رأى كاتب المقال أن العامل " فهم أن الملاك لا يُحسّن حالة العامل من تلقاء نفسه، إنما على العامل بنفسه أن يجبر الملاك لذلك، والواسطة التي يجبر بها العامل الملاك هي الاعتصاب"، والذي لا يمكن أن ينجح " إلا بالاتحاد وبالثبات وبالصبر".

واستشهد، في هذا السياق، بتجربة الإضراب الذي أعلنه الخبازون اليهود في يافا، والمكاسب التي حققوها بفضل اتحادهم  وانتظامهم في نقابة، وكيف أن هذا النجاح قد حفز الخبازين العرب العاملين في "فرن أبو نصار"، و "فرن جمعة"، على تقديم طلب إلى نقابة الخبازين " يطلبوا فيه انضمامهم للجمعية وأن تساعدهم على تحسين حالتهم مع تطبيق الشروط الجارية على الخبازين عليهم أيضاً. فلبت الجمعية طلبهم وقالت لهم إنها تقبلهم في الجمعية وتساعدهم بتنفيذ الاعتصاب كونها جمعية عمومية بغض النظر عن الديانات... والآن يوجد من العمال اثنين فقط يشتغلون. وإن النقابة تساعد المعتصبين من رأسمال الاعتصاب الموجود في الصندوق الذي يدفعه العامل كل شهر، وهو خمسة غروش. وقد مضى على الاعتصاب  أسبوعين والعمال حالتهم حسنة وهم متأملين بأنهم ينجحوا ويستحصلوا على شروط أحسن، ولا يشتغلوا في الليل والنهار كالحمير لأجل غناء الملاكين".

وخلص كاتب المقال إلى " أن النجارين والحدادين والخبازين [العرب] إلخ، يلزمهم أن ينتظموا في نقابات حسب حرفهم وصناعاتهم "، وأن " ينظّموا صندوق لرأسمال الاعتصاب"، وذلك كي يتمتعوا بالحقوق التي يتمتع بها العمال اليهود الذين " لا يشتغلوا أكثر من 8 ساعات في اليوم، ويأخذوا أجرة حسنة، ليس لأن الملاكين اليهود أحسن بل لأن العمال اليهود منظمين بنقابات ".

في عددها 3-4، الصادر في يافا، يوم الجمعة 19 رجب 1343، نشرت "المنبّه"  مقالين اثنين، تطرقت في الأول منهما، بعنوان:  "حيوانات معظّمة، وآدميين مساكين"، إلى المعاناة التي يعانيها "الجمّالة"، والتي دفعتهم إلى "الاعتصاب" احتجاجاً على الرسوم الباهظة المفروضة عليهم من قبل دائرة البوليس، والتي تراعي الجِِمال أكثر من مراعاتها لأصحابها، وذلك عندما تفرض "جزاءاً كبيراً" على الجمّال " لأجل جرح صغير في جملِه "، ينجم ، عادة، عن اضطرار الجمّال إلى الاشتغال بصورة دائمة كي يحقق " مرابح قليلة جداً ". وهذا الواقع، يدفع "الفعّال" الفلسطينيين إلى  أن يحسدوا البهائم " لأن لهم نظامات  تحافظ عليهم حتى لا تحمل البهيمة أكثر من طاقتها، ولكن الفاعل المسكين ليس له من يشفق عليه بشغله الشاق. إن الدابة المريضة ممنوع تشغيلها، ولكن الفاعل يشتغل طالما يمكنه القيام على رجليه. ومتى وقع وعجز عن الشغل حُكم عليه بالإعدام جوعاً".

ومن جهة أخرى، فإن " انكلترة الرحيمة والمتمدنة التي تحافظ جيداً على الحيوانات"–كما يتابع كاتب المقال-  قد " شيدت لسكان فلسطين سجون ومخيمات لتعذيبهم، ومن هم المساجين؟ إن أكثر المساجين ليسوا من الجناة بل من الفلاحين الأبرياء الذين ليس بطاقتهم دفع العشر الفاحش أو من الفعّال المساكين المديونين بعض الشلنات وغير قادرين على وفاءهم... وتراهم يعذبوا بحالة يأبى أي شخص أن يعذب دابته بهذه الصورة. حتى الأولاد في سن العشر سنوات يعذبهم الانكليز في السجون ". وتختم الصحيفة مقالها بالتساؤل: "ما قولكم بعد كل ذلك ألم تكن حياة الحيوان في فلسطين أحسن من حياة الإنسان؛ حيوانات معظمة وآدميين مساكين".

وفي مقالها الثاني، المنشور بعنوان: "محاكمة الاشتراكيين"، عالجت "المنبّه" موضوع القمع الذي يتعرض له الشيوعيون الفلسطينيون على أيدي سلطات الانتداب البريطاني، حيث تحدثت عن محاكمة تسعة أشخاص، بينهم سيدة، أمام محكمة الصلح بتل أبيب، وذلك بعد اتهامهم بتوزيع مناشير للحزب الشيوعي الفلسطيني تدعو العمال العرب واليهود إلى الاتحاد في مواجهة  "الأفندية والانكليز والصهيونيين". وأكد كاتب المقال  أن مطاردة البوليس البريطاني للاشتراكية، التي "تزيد كل يوم من يوم في فلسطين"، لن تثني الشيوعيين عن الاستمرار في تعليم " العمال والفقراء الاتحاد إن كانو يهود أو إسلام أو مسيحيين على السواء حتى يقاوموا الأغنياء ويهدموا سلطتهم وأن يشكلو لهم حكومة عمال وفلاحين كحكومة روسيا".

العدد 5 من "المنبّه، الصادر يوم الجمعة في 27 رجب 1343، احتوى مقالين، الأول بعنوان: "البلديات والحكومة"، والثاني عبارة عن رسالة موجهة إلى: "حضرة الفاضل صاحب جريدة فلسطين المحترم".
وقد ركّز المقال الأول على حرمان شعب فلسطين من حقوقه المدنية، وبخاصة حقه في انتخاب بلدياته بصورة ديمقراطية، حيث علّق كاتبه على قانون أصدرته حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين يخوّل الحاكم الإداري أن يعيّن أو أن يوقف عن العمل أي مجلس بلدي كان، حيث رأى أن البلديات في فلسطين، التي "لم تنتخب من الأهالي كما هو في سائر جميع العالم"، لا "منفعة" من وجودها، وذلك لأن الأهالي عموماً، الذين يدفعون الأموال اللازمة لتنفيذ مشاريعها، يظلون محرومين "من حقوقهم المدنية"، علماً بأنهم " هم وحدهم يفهمون الضار والنافع لهم أكثر من الانكليزي الغريب اللسان والجنس وحتى الوجه عنهم".

أما المقال الثاني من العدد نفسه، فقد انتقد موقف إدارة صحيفة "فلسطين" من دعوة الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى اتحاد العمال العرب واليهود في نقابات مشتركة، حيث توقف كاتبه عند مقال نشرته "فلسطين" بعنوان : "الروح الخبيثة"، حذّرت فيه العمال العرب " من  الاشتراك مع عمال اليهود في اعتصاباتهم او في أي عمل من أعمالهم"، لأنهم بذلك يضرون  "بالقضية العربية"  ويطعنون "القومية في الصميم"، الأمر الذي يدفع أبناء بلدهم إلى نعتهم "بالخائنين". وقد توجّه كاتب المقال إلى محرر "فلسطين" بالقول: " قل لي بالله عليك عن السر الذي جعلكم وجريدة (دوار هايوم) الصهيونية كل منكم يضرب على الوتر نفسه. إن (دوار هايوم) صهيونية تقاوم العمال ولكن هل (فلسطين) العربية من مبداءها أن تقاوم العمال أيضاً"، وأضاف: " حضرة الفاضل. إننا لا نعبأ بهذه النغمات مهما كانت لأننا نسعى لغرض شريف يقره العدل  والمنطق وإننا نقاوم الظلم والحيف النازلين بنا وإننا نرمي إسعاد طبقات الأمم جمعاً وإفهام العالم إننا وسائر البشر من طينة واحدة وإننا لم نخلق لنقضي حياتنا كلها في الغباوة والنصب والشقاء. دعنا نشترك سوية في السعي لإيجاد حركة حقيقية  لتحرر العامل  على قواعد الوحدة  دون [كلمة غير واضحة] ومن عدا العنصر واللون والعقيدة لنعمل معاً  في تحرير العمال والفلاحين مسلوبي الحق".

العدد الرابع من "المنبّه" صدر، في 30 آذر 1926، متضمناً أربعة مقالات، طغت عليها الأحداث العربية.

فقد بيّن المقال الأول منها، والذي كان بعنوان:  "القتال في سبيل التمثيل البرلمان في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين"، أن الشيوعيين الفلسطينيين كانوا، في تلك الفترة، من أنصار التمثيل البرلماني الحر، والمعبّر عن إرادة الشعب، باعتباره "حقاً طبيعياً" من حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى، والخطوة الأولى على طريق الاستقلال الوطني، حيث تطرق كاتبه إلى النضالات التي كانت تخوضها الشعوب العربية من أجل أن تتمتع بحقها في انتخاب برلمانات حرة، معتبراً أن الدول الأجنبية التي احتلت البلدان العربية "اغتصبوا من الوطنيين [في] هذه البلاد حتى حقوقهم الطبيعية التي لا يخلو منها كل إنسان في بلاد العالم"، ومن هذه الحقوق "أن ينتخب الشعب لنفسه برلمان"، ولذلك "قامت الآن  في جميع البلاد العربية حركت عظيمة كي يسترجعوا حقوقهم هذه التي سلبتها إياهم السلطة الأجنبية". ففي مصر، أعلنت الأحزاب، مثل "حزب الأحرار الدستوري، الذي يرأسه عدلي باشا، وحزب الوطني الذي يرأسه الوفد ورئيسه سعد باشا زغلول"، الجهاد المقدس "حتى يتشكّل البرلمان النظامي". وفي سورية، كان الطلب الأول "الذي طلبه سلطان باشا الأطرش هو تشكيل برلمان، ولكن الافرنسويين لم يوافقون على هذا، ومضى على ثورة سورية سبعة أشهر وجميع الجيش الفرنساوي لم يكفي لإخماد الثورة". وفي لبنان، "يوجد هناك برلمان ولكنه غير منتخب ولا يمثّل جميع الشعب، [بل] تشكّل باختيار الحكومة الأفرنسية، وإن اللبنانيين أيضاً يطلبون توحيدهم إلى سورية وأن يكون لهم ممثلين بالبرلمان السوري". وفي الآونة الأخيرة، ظهرت " حركت ترمي إلى تأسيس برلمان في بلادنا أيضاً، وقد صرحت لنا الحكومة الانكليزية قبل أربع سنوات بمجلس نيابي على أن يكون معين طرف الحكومة الانكليزية لا منتخب". والآن، فإن جميع الأحزاب في فلسطين " ينادون ويطلبون تشكيل مجلس نيابي وطني منتخب"، يكون "هو الخطوة الأولى لطريق الاستقلال".

أما المقال الثاني والثالث، من العدد نفسه، فقد عبّرا عن تضامن الحزب الشيوعي الفلسطيني مع الثورة السورية، التي اندلعت عام 1925، ووقوفه إلى جانبها في مواجهة قمع السلطات الاستعمارية الفرنسية، وهو التضامن الذي لم يقتصر، في ذلك الحين، على الدعم المعنوي وعلى تنظيم حملات التضامن الأممي، بالتعاون مع الكومنترن ومع الحزب الشيوعي الفرنسي، بل تعدى ذلك ليشمل أشكالاً عديدة من الدعم المادي، بما فيها تهريب الأسلحة إلى الثوار السوريين.

فتحت عنوان: "كيف  يحاربون  الدروز الشجعان في الجبل"، كتب محرر "المنبّه": " لقد مضى على ثورة الدروز ثمانية أشهر وهم يحاربون الجيوش الافرنسية بشجاعة زائدة. وفي طرف هذه المدة قتل من جنود الافرنسية ما ينوف عن العشرة الاف جندي عدا الجرحاء. وإذا قسنا قتلة الدروز بهذا العدد نرى طفيفاً جداً. لذلك يتسائل الانسان ويتعجب كيف أن أمة كالدروز محرومة من الوسائل التي يتسلح بها الجيش الافرنسي ويقفون أمامهم وهم دولة قوية ويحاربون جيوشها وينتصرون عليهم". وأرجع كاتب المقال سبب ذلك إلى أن " الجنود الافرنسية تحارب بأجر ومعاش لأنهم عبيد مأجورين، ومن منكم لا يعرف أن الجندي المأجور لا يحب أن يموت بإرادته... أما الثوار فإنهم رجال أحرار يحاربون لأجل مبدئهم وعائلاتهم ولأجل حريتهم... فهذه الشجاعة التي يتحلى بها الثوار سبب من أسباب انتصارهم في حروبهم مع الأفرنسيين".

وفي مقال بعنوان: "القبض على الشيوعيين بسوريا "، أشار كاتب المقال إلى أن الفرنسيين ، "لشدة ما لحقهم من الانكسار وهزيمتهم "، راحوا " ينتقمون من كل شيء ، حتى أنهم في المدة الأخيرة ألقو القبض على جماعة من الشيوعيين وجزوهم في السجن... ومع جملة المساجين كان محرر جريدة "الإنسانية" المدعو يوسف يزبك وأيضاً أحد كتاب جريدة "العهد الجديد" المدعو نصر الدين [ناصر الدين] وأحد عمال الدخان فؤاد الشمالي وكثر من العمال الوطنيين والثوريين". وقد لجأت السلطات الاستعمارية الفرنسية –كما تابع الكاتب -  إلى " جميع أدوات التعذيب مع المساجين السياسيين "، معتقدةً  أن  " إرهاب وسجن العمال والفلاحين واضتهادهم ينسيهم عن طلب حريتهم وحقوقهم المشروعة، ولكن هذا العمل الذي تستعمله السلطة الأفرنسية لا يأتي بفائدة ما، حتى أن صفوف العمال لا يمر يوم إلا ويزدادون، وفي مصر وسورية وفلسطين تكثر جميع الحركات الثورية ويعملون على تنظيم صفوفهم ".

ونشرت الصحيفة، في العدد نفسه، مقالاً بعنوان: "ونحن نقول دائماً من هو الأجنبي ومن هو المضر بالوطن"، تعرضت فيه إلى أحد أوجه القمع الذي كانت تمارسه سلطات الاستعمار البريطاني بحق الشيوعيين الفلسطينيين، وهو أسلوب نفي الشيوعيين اليهود من فلسطين ، حيث كانت حكومة الانتداب " تنفي كل رجل تشتبه أنه من الشيوعيين"، وتدّعي " أنه مضر للوطن "، وذلك في إطار "مناورة" هدفها "التخلص من عدوها الحقيقي في البلاد".

وبعد أن اعتبر كاتب المقال أن الأجنبي "هو الذي حضر لهذه البلاد للاستعباد والظلم، والوطني هو الذي يحارب لأجل حريت شعوب الفقيرة وتخليصهم من نير الاستعمار"، دعا إلى اتحاد جميع العمال في فلسطين "لا تفرّق بينهم الأديان"، وإلى توحدهم "مع كل الذين يدافعون عن الوطن [حتى] نطرد من بلادنا جميع الأجانب المسيطرين الذين هم أعداء لاستقلال العرب وأعداء حزب طبقة العمال والفلاحين".  

في 10 كانون الأول 1926، صدّر "المنبّه"، باسم "لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني (قسم من الدولية الشيوعية)"، يتصدره، إلى اليمين، رسم الشمس المشعة على عبارة "فجر الحرية"، وعلى شعار "يا عمال العالم اتحدوا"، والذي رُسم تحته رسم المنجل والمطرقة. وحمل هذا العدد الرقم  15 (أو نمرة 15)، واشتمل على 6 صفحات مكتوبة بخط اليد، غطتها ثلاثة مقالات، تعالج قضايا محلية وعربية ودولية.

فالمقال الأول، الذي صدر بتوقيع "عامل شيوعي عربي"، بعنوان:  "حول القرض الفلسطيني"، ندّد كاتبه بالتبعية الاقتصادية المفروضة على فلسطين من قِبل الحكومة الاستعمارية البريطانية، حيث رأى في القرض الذي أقره البرلمان البريطاني لحكومة فلسطين، والبالغ  أربعة ملايين وخمسمائة ألف جنيه، قيداً جديداً لفلسطين " يقيدها بأيدي الرأسماليين الاستعماريين الانكليز". وشدّد على أن التحرر من هذه التبعية لا يمكن أن يتحقق إلا بوحدة الشعب الفلسطيني ونضاله ضد الاستعمار البريطاني، حيث تساءل: "لمن نشكو" هذه الحالة الصعبة التي نحن فيها، " أنشكو لله ولجمعية الأمم ولمحكمة الهاي [لاهاي]؟ "، وذلك قبل أن يجيب: " كلا! لقد تعلمنا أن هذا لا يجدي نفعاً إن لم نشكُ الأمة للأمة، نشكو إليها التنازع والتنابذ والأنانية. فيا شعب سورية الجنوبية الكريم! أفق، انتبه، فكر، اتحد –حتى مع اليهود الاصهيونيين [اللاصهيونيين]- احتج، اعمل، وأخير ثر، ثر وإلا فالسلام عليك وعلى مبادئك ومستقبلك".

وعبّر المقال الثاني، من جديد، عن تضامن الشيوعيين الفلسطينيين و "شعب سورية الجنوبية" مع الثوار السوريين في نضالهم ضد السلطات الاستعمارية الفرنسية. فقد تضمن ذلك المقال، الذي نُشر، بمناسبة زيارة المندوب السامي الفرنسي إلى فلسطين، بعنوان: "حول خبر عزم المسيو بونسو زيارة فلسطين"، دعوة إلى الشعب الفلسطيني "للقيام بدوره بواجبه نحو سورية الشمالية"، التي "زلزل زلزالها لقدوم بلفور"، وذلك  من خلال "الاحتجاج الشديد ضد زيارة [المندوب السامي] بونسو ليرى العالم كله كيف وكم نكره السلطتين الاستعماريتين الفرنسوية والانكليزية، ورفع صوتكم بإعلان تأييكم للثورة السورية العربية".

أما المقال الثالث، فقد أشاد بنضالات الصينيين، الذين أعطوا " برهاناً جديداً حياً للاستعماريين على نهضة الشرق، ومثالاً أعلى لشعوبه المظلومة "، داعياً "معشر العرب" إلى السير على الطريق التي سار عليها الصينيون، وأخذ العبرة من نهضتهم الحديثة. ومما ورد فيه: "أن نُسرّ للصين نحن معشر العرب، هذا حسن، وحسن جداً، أما مرور الزمن طاوياً صفحات تاريخ النهضة الصينية الحديثة من أمامنا بدون أن نعتبر، [فـ]هذا هو الموت نفسه".

العدد السادس عشر من "المنبّه"، صدر، في 14 كانون الثاني 1927، عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني كذلك، مشتملاً على 8 صفحات بخط اليد، ومتضمناً أربعة مقالات.

فالمقال الأول،  الذي نشر بمناسبة مرور ثلاث سنوات على رحيل لينين، تحت عنوان: " لينين والأمم الشرقية"، ركّز على التعريف بمؤسس الدولة السوفيتية، وبالدعم الذي تقدمه هذه الدولة لنضالات الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة، وبحاجة العرب إلى التحالف معها. فقد رأى كاتبه في لينين "الزعيم الكبير للعمال الدولية منظم ثورة اكتوبر الروسية باني المملكة الأولى للعمال والفلاحين ولم ينسى ولا دقيقة واحدة الأمم المظلومة في المستعمرات، لا للرحمة ولا للتألم هو لم ينساهم ولكن لأن نظره السياسي والثوروي كان بعيداً ".

وبعد أن أشار إلى أن روسيا السوفيتية، التي " [لم ] يكن بانيها ومؤسسها غير لينين وحزبه حزب العمال البلشفيك صارت الصديق الأمين والوحيد والمساعد للأمم الشرقية في الصين والهند وجاوه وتركيا وسوريا "، وأن على الوطنيين في البلدان العربية " أن يفهموا أخيراً ... أن الدولة الشيوعية حزب لينين العالمي الحزب الشيوعي الروسي الرابطة السوفيتية هم المنابع الذي يمكن أن يستند عليهم كل ابن عرب ثائر "، ختم مقاله بالعبارات التالية: " لينين هو علم لجميع المستعبدين، لينين هو النجم الساطع في الليل الدامس ، لينين يدعوا إلى الحرب في سبيل تحرير جميع الأمم المظلومة ".

أما المقال الثاني، بعنوان: "من هو كارل ليبكنخت وروزه لوكسنبرج"، فقد نشر بمناسبة مرور ثماني سنوات على إعدام زعيمي الحزب الشيوعي الألماني، كارل ليبخنت وروزا لوكسمبورغ، اللذين قتلا " بصورة فظيعة بواسطة ضباط القيصر في برلين في سنة 1919"، واللذين " بدون تعب حتى الساعة الأخيرة من حياتهم حاربوا لمصلحة العمال ضد الارستوقراطيين والقيصريين والرأسماليين "، وقاما بتأسيس الحزب الشيوعي في ألمانيا، الذي "خوّف جميع الرأسماليين والقيصر"، وشجعا العمال على تأسيس " سوفيت كعمال روسيا "، وذلك قبل أن يقوم ممثلو المتمولين وأتباعهم " الذين تعهدوا للعمال بتأسيس حكومة عمال ولكن بعد ذلك أرجعوا السلطة بيد الرأسماليين والأغنياء والاروستقراطيين ".

في المقال الثالث من هذا العدد، الذي حمل عنوان: "السيد عيسى "صديق " العمال"، انتقلت صحيفة الحزب الشيوعي الفلسطيني، "المنبّه"، من مرحلة السجال مع صاحب جريدة "فلسطين" ومحررها، عيسى العيسى، إلى مرحلة الهجوم المباشر عليه، وذلك لوقوفه ضد "حركة إيحود" (الاتحاد)، التي أطلقها الشيوعيون في مؤتمر، عُقد ما بين 17 و 19 كانون الأول 1926، بمساهمة 80 مندوباً، كان في عدادهم 20 عاملاً عربياً، وذلك  للنضال من أجل تحويل الهستدروت إلى اتحاد نقابي "أممي"، عن طريق ضم العمال العرب إليها، وإعادة العمال اليهود الشيوعيين، من أعضاء "الكتلة العمالية" (الفركتسيا)، الذين كانت قد فصلتهم قيادتها الصهيونية، إلى صفوف النقابات التابعة لها (3).

ففي ذلك المقال، استغرب كاتبه، في البداية، "التوافق" الذي حصل، في الموقف من "حركة إيحود"، بين الزعماء الصهيونيين، الذين اعتبروا "أن اتحاد العمال العرب واليهود هو موت للصهيونية"، وبين "طبقة الأغنياء العرب"،  التي اعتبرت "أن هذا الاتحاد هو خطر على مصالحها ". وبعد أن انتقد قيام صاحب جريدة "فلسطين" بمساعدة  " الصهيونيين في محاربتهم ضد اتحاد العمال العرب واليهود"، أكد أن العمال العرب " يعرفون السيد عيسى العيسى ولم ينتبهوا لكلامه، وخصوصاً لما سمعنا أن صاحب فلسطين "صديق العمال" منع عماله الذين يشتغلون عنده في المطبعة من دخول جمعية عمال المطابع العربية الطاهرة! ما هذا إننا نرى أن السيد عيسى يقاوم العمال وجمعياتهم وإن جميع أقواله لم يأتوا إلا حسب رغبة طبقة الأغنياء ".

المقال الرابع، الذي كان أيضاً عن "حركة اتحاد العمال في فلسطين" (إيحود)، ونُشر بتوقيع "عامل شيوعي عربي"، عالج كاتبه موضوعاً مهماً، كان يظهر ملتبساً أحياناً في سياسة قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني في ذلك الحين، وهو موضوع الترابط الجدلي بين النضال الوطني والنضال الاجتماعي في ظروف البلدان المستعمرة. فبعد أن عبّر كاتب المقال عن سروره لانعقاد المؤتمر الأول لـ "حركة اتحاد العمال"، أعرب عن أسفه لأن ذلك المؤتمر لم يهتم بمسألة " الجهاد المشترك للعامل العربي واليهودي ضد السيطرة وفي سبيل تحرير البلاد"، معتبراً أن معنى الاتحاد "هو اتحاد طبقة العمال للقتال في سبيل النجاح للانقلاب الاشتراكي، والابتداء في القتال ضد المحتلين الأجانب في سبيل حكم ديمقراطي في البلاد". ثم خاطب رفاقه من أعضاء "حركة الاتحاد" بقوله: "عليكم أن تقاوموا الاستعمار في فلسطين الذي هو أساس ظلم العامل".  
    
"النداء "، صحيفة اللجنة المحلية للحزب في القدس
إلى جانب صحيفة "المنبّه"، أصدر الحزب الشيوعي الفلسطيني ولجانه المحلية ، ما بين عامَي 1926 و 1927، كما يبدو، عدداً من الصحف غير الدورية، من بينها صحيفة "النداء"، التي صدرت في القدس في 6 صفحات بخط اليد (34 سم طول و 5،18 سم عرض)، عن "العمدة المحلية من الحزب الشيوعي الفلسطيني-قسم من الدولية الشيوعية". وقد اطّلعت على عدد واحد من هذه الصحيفة، صدر في 20 شباط 1927، من دون رقم، وتصدرته عبارة "القوة بالمعرفة! يا عمال العالم اتحدوا!"، متضمناً أربعة مقالات، عالجت قضايا طبقية ووطنية ، وغلب عليها طابع التوعية.

ففي مقال بعنوان: "تقسيم الاجتماعية إلى قسمين"، حاول كاتب المقال أن يفسّر للعمال العرب، وبعبارات بسيطة، أسباب انقسام المجتمع الإنساني إلى طبقات اجتماعية، حيث كتب: "لقد تعودنا أن نفتكر دائماً عن أن كل الناس متساويين لأنهم كلهم يخدمون المجتمع خدمة متساوية، ولكننا [عندما] نبحث بتدقيق نجد شيئاً آخر. نواجه من الناس لابسي الثياب البالية الذين يَنفقون في أعمالهم تحت الحر الشديد والبرد القارص من شروق الشمس حتى غروبها وهم ملتحفين بكوفياتهم بدون أن يأخذوا لهم راحة ما... إن أكلهم رغيف وبصلة وبضع حبات زيتون، ومساكنهم مظلمة بدون منافذ للهواء والشمس... وبذات الوقت نرى قسماً آخر من المجتمع هم أولئك اللابسين الألبسة النظيفة الطيبة، الآكلين في أحسن مطاعم والساكنين في أحسن مساكن، وذلك بدون أن يقرروا عملاً ما، أي أن من الواجب على أناس آخرين أن يقدموا براحتهم وواجبهم يبنون لهم أحسن القصور ويقدمون لهم أفخر المآكل ويحضرون لهم أغلى الألبسة". وهكذا، فإن  المجتمع الإنساني ينقسم –كما تابع الكاتب- إلى  طبقتين: الأولى " تشتغل بشغل شاق وتجعل كل شيء في العالم بدون أن تستفيد شيء ما"، والثانية " لا تعمل عملاً ولها كل إنتاج أولئك يسلبونه في سبيل إشباع أطماعهم [و] تعيش بكل انبساط وانشراح، وهي عكس الطبقة الأولى التي تعيش في الفقر والجوع والشقاء ".

وفي مقال يستكمل المقال الأول، نُشر بعنوان: "الحرب التي يعلنها الأغنياء على الفقراء في أوروبا"، تطرق كاتبه، بالعبارات البسيطة نفسها، إلى الصراع الطبقي الذي يدور بين العمال وأرباب العمل، شارحاً كيف أن العمال الأوروبيين، الذين انتظموا في النقابات، استطاعوا "بعد قتال طويل" مع  أصحاب الفبارك أن يكسبوا " الطلب الأول من طلباتهم أي أن لا يشتغلوا أكثر من ثمانية ساعات مع زيادة أجرة العامل والسلوك الحسن وقانون للتعويضات"، لكن أصحاب الفبارك والأغنياء " ابتدأو في الحرب ضد العمال، أي أن يرجعوا أجرة العمل وأن يزيدوا ساعات العمل "، مما دفع العمال إلى اللجوء إلى الإضراب، حيث " كان اعتصاب في انكلترا فيه أكثر من مليون عامل وهم عمال مناجم الفحم، فإنهم بقوا متعصبين خمسة أشهر. وفي ألمانيا وفرنسا لم يترك العمال مجالاً للمتسلطين لكي ينقصوا لهم أجرة العمل، وكذلك في كل بلدان أوروبا موجودة محاربة شديدة بين هذين القسمين من المجتمع الإنساني ". وخلص كاتب المقال إلى أن الشرق سيشهد كذلك " هذه المحاربة"، حيث إن العامل الشرقي الذي "كان لحد الآن في ظلام سينتبه ويرفع عالياً قبضة يده لأغنياء المتمولين، وسينادي كل العمال بالنداء هذا: يكفينا شقاء وبزغت الشمس للكل بالمساواة! "، مخاطباً العامل الفلسطيني بقوله: " يجب عليك [أنت أيضاً] أن تستعد للحرب في سبيل تحسين حياتك المرة من هذا الشقاء".

المقال الثالث، في "النداء"، بعنوان: "ماذا يصنع الانكليز في فلسطين"، اعتبر كاتبه أن الوطن هو، في المقام الأول، لأبنائه من الكادحين، مؤكداً  أن على الانكليز، الذين "يمتصون من هذا الشعب الفقير نقطة الدم الأخيرة، ويسلبونه كل قرش حصّله بعرق جبينه"، أن يخرجوا من فلسطين، لأن الوطن " يجب أن يكون لهئلاء [لهؤلاء] الذين يشتغلون، الذين يعيشون من عملهم"، ولأن على الشعب "  أن يحكم نفسه بنفسه في البلاد ".

وفي سياق الهجوم المستمر على الاستعمار البريطاني وممارساته في فلسطين، أشار كاتب المقال الرابع، بعنوان: "الانكليز يتكلمون باسم الشعب"، إلى خطاب كان قد ألقاه المندوب السامي البريطاني، اللورد بلومر، في احتفال نُظّم في القدس، بحضور "راغب بك النشاشيبي"، لوضع الحجر الأساس لدائرة الصحة، وتكلم فيه ليس بصفته "مندوباً سامياً، بل باسم الشعب المقدسي"، معتبراً أن الانكليز، وباسم الشعب، قد حوّلوا فلسطين إلى مستعمرة، وصاروا "يسجنون الثورويين من الشعب، ويضعون رسوماً باهظة وأعشاراً فاحشة، [و] يكثرون من الشرطة أو من بوليس التحري على حساب ترقية المدارس ومساعدة دائرة الصحة، ولا يدعون حرية للأفكار، يفرقون الاجتماعات ويقيدون بالسلاسل والحديد العاطلين عن العمل، وكل شيء يصنعونه باسم الشعب".

الدوريات الصادرة عن المنظمات الرديفة والمساعدة للحزب
إلى جانب الدوريات الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني وعن لجانه المحلية، وبخاصة في مدينتَي يافا والقدس، كانت المنظمات الرديفة للحزب، مثل اتحاد الشبيبة الشيوعية، أو المنظمات المساعدة له، مثل "جمعية المساعدة الحمراء" أو "الكتلة العمالية" (الفركتسيا)، تصدر دوريات خاصة بها.

ويشير التقرير الذي أرسلته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن في موسكو، عن نشاط الحزب في عام 1924، إلى أن الحزب قد حقق " نجاحات ملحوظة في العمل بين صفوف الشباب والنساء، حيث تشكّلت مجموعات نسائية في كلٍ من يافا والقدس، كما تشكلت مجموعات شبابية في كلٍ من يافا والقدس وحيفا، وتأسست منظمة للشبيبة تعمل تحت قيادة رفيق مجرب. ويشارك في مجموعتي يافا وحيفا رفاق من الشباب العربي" (4).

وكان قد صدر في نيسان 1924 العدد الأول من دورية "شبيبة" (طبعة جمعية كوم)، مشتملاً على صفحتين (5،29 طول و 21 سم عرض) كتبتا بخط اليد وبلغة ركيكة، وقد تضمن هذا العدد، الذي تصدر صفحته الأولى شعار: "يا عمال العالم اتحدوا"، مقالين اثنين، الأول بعنوان: "من كان لنين"، والثاني بعنوان: "العمال المصريون ناهضون".

وقد عرّف المقال الأول، الذي نُشر بمناسبة رحيل لينين، قائد الثورة الروسية بكونه "أكبر قائد للشعب العامل في عصرنا هذا. وكانت عائلته تعد من الأغنياء ولكن ميله الشديد للعامل المظلوم كان سبب تركه الحياة الرفيهة والتمتع بثروة أهله ليأخذ على عاتقه المنصب الأول في حركة العمال الروسيين ويجاهد في سبيل تحريرهم". ومع أن حزبه كان "ضعيفاً جداً" في البداية، وكان يواجه قوى معادية " قوية وعديدة "، إلا أنه استطاع أن يسقط " بقوته وقوة الشعب العامل الذي كان هو قائده الحكومة والدولة الروسية الملكية. لذلك يكون لنين مؤسس روسيا الجديدة السعيدة تحت سلطة العمال والفلاحين فقط. وفي الحال ينعيه جميع فلاحين وعمال روسيا وجميع العالم لأنه كان أكبر محب للعامل والفلاح وأهم وأعظم قائد للعامل الشيوعي".

أما المقال الثاني، فقد تطرق إلى خيبة الأمل التي أصيب بها العمال المصريون بعد اكتشافهم حقيقة مواقف حكومة سعد زغلول الوفدية منهم، وبخاصة بعد لجوئهم، بغرض تحسين شروط عملهم، إلى سلاح الإضراب. فمع أن عمال مصر كانوا قد نصروا "زغلول باشا وحزبه مدة طويلة، لأنهم كانوا متأملين استقلال البلاد من السلطة البريطانية بواسطته"، إلا أن هذا الأخير "عندما مسك زمام الحكم في مصر عقد هدنة صلح مع أعدائه الانكليز ليستطيع أن يرمي العبودية على ظهر العمال المصريين"، وأرسل " البوليس ليقبض على العمال ويرموهم في السجن، فبان حينئذٍ للعمال بأن زغلول باشا وحكومته المؤلفة من حزب وطني لا يريدوا أن يحرروا العامل والفلاح"، الأمر الذي صار يفرض على عمال مصر " أن يسعوا لتحرير أنفسهم بذاتهم".  

وأصدر اتحاد الشبيبة الشيوعية في خريف عام 1926 دورية جديدة، باسم " أحداث الشيوعيين"، صدر العدد الأول منها في 7 تشرين الثاني 1926، عن " اللجنة المركزية لاتحاد أحداث الشيوعيين الفلسطينيين (قسم من الدولية الشيوعية)"، مشتملاً على 8 صفحات (5،29 طول و 21 سم عرض) كُتبت بخط اليد.  وأشير، على الصفحة الأولى من هذا العدد، إلى أن هذه الدورية ستظهر مرة كل أسبوعين، وتضمن فهرسه عناوين خمسة مقالات، عالجت موضوعين اثنين، هما: الثورة الروسية وانعكاساتها على الشرق، وبطولات الثوار والشبان السوريين.

ففي المقال الأول، بعنوان: "الانقلاب الروسي والشرق"، ، أشير إلى أن حالة العالم "تغيّرت بعد انقلاب 1917 في روسيا، الذي نجح فيه العمال على الإقطاعيين والمتمولين"، حيث صارت الجمهورية السوفياتية "تقاوم كل استبداد من أي أمة كانت، وتطلب الحرية والاستقلال التام لعموم الأمم المظلومة"، وباتت هي "الصديق الوحيد للأمم الشرقية"، لا سيما وأن مؤسسها لينين كان "الشخص الأول الذي رأى ضرورة اتحاد العامل والفلاح لمحاربة مشتركة ضد السيطريين والسلابين، والذي رأى أيضاً ضرورة اتحاد عمال أوروبا مع الأمم المظلومة في الشرق ضد سيطرة الظالمين".

وبينما أشاد المقال الثاني، بعنوان: "7 تشرين ثاني"، الذي نُشر في الذكرى التاسعة لثورة اكتوبر، بالإنجازات التي حققتها حكومة السوفيات "التي لا يوجد فيها صاحب شغل وعامل، سالب ومسلوب، فقير وغني"، قارن المقال الثالث، بعنوان:  "سيروا في طريق الأحداث الثورويين في روسيا"، بين أوضاع شباب فلسطين، " الواقعين تحت سلطة الأجانب والمتمولين المحليين"، وأوضاع شباب روسيا السوفيتية، " الذين حكومتهم عمال وفلاحين "، وما حققوه من مكاسب، داعياً الأحداث الفلسطينيين إلى السير "في طريق الانقلاب الروسي".

أما المقالان الرابع والخامس، بعنوان: "7 تشرين الثاني في منطقة الثورة السورية"، و"شجاعة أحداث الفلاحين في جبل الدروز"، فقد أشادا  ببطولات الثورة السورية، التي أظهرت " القوة العظيمة الموجودة عند الأمة العربية إذا ما غضبت غضبتها المضرية الحربية من أجل حريتها"،  والتي " تعلمنا أن الأمة العاملة تستطيع أن تنجح على السيطريين "، كما أشادا بالشجاعة التي يبديها " أحداث الفلاحين في جبل الدرور" خلال معارك هذه الثورة.

وفي يافا، أصدرت " اللجنة المركزية للأحداث الشيوعيين في فلسطين"، في مطلع عام 1927، دورية أخرى باسم "الشاب الشيوعي"، تضمن العدد الثاني منها، الصادر في 17 آذار [مارس ] 1927، في 11 صفحة (5،29 طول و 21 عرض) مكتوبة بخط اليد، موضوعات عديدة تميّزت بطابعها التعبوي والتحريضي.

ففي المقال الأول المنشور في هذا العدد بعنوان: "انتخابات البلدية والشبان"، جرت المقارنة بين الحقوق التي يتمتع بها الشبان في روسيا السوفيتية، حيث " لكل شخص من سن 18 سنة فما فوق الحق في أن ينتخب، وأن يكون منتخَباً لهيئات الحكومة والبلديات "، وبين أوضاع الشبان في البلدان المستعمرة، مثل فلسطين، حيث " لا يُعطى حق الانتخاب إلا لمن كان عمره فوق الخامسة والعشرون، ولا يجوز الإنسان أن يكون منتخَباً ما لم يكن عمره فوق الثلاثون سنة، وذلك لهيئات البلديات الوهمية ".

أما المقال الثاني، بعنوان: "إلى الاتحاد"، فقد استعرض كاتبه، في البداية، الأوضاع "السيئة والشاقة" التي يعيش في ظلها شبان فلسطين،  حيث "احتل الأجانب بلادنا وسفكوا دماء آباءنا وأخواننا، وأصبحوا هم الحاكمين بأمرهم في بلاد لا شأن لهم فيها، وهم لا يشركوننا في الحكم مع أننا أصحاب البلاد من قرون وأجيال، [كما] لم يشأ الأجانب المحتلون إنشاء مدارس في المدن والقرى لتعليم الشبيبة لأنهم يريدون إبقائها في الجهل". ثم توجّه إلى الشبان والشابات في فلسطين يسألهم: "هل تقبلون بهذا الاستعباد؟"، وذلك قبل أن يجيب: "كلا ثم كلا! إننا سنعمل كما يعمل جميع رفاقنا في الشرق، كالصين ومصر وسوريا، سنوحد صفوفنا وننظمها لنؤلف منها قوة كبيرة لمحاربة عدونا المشترك".

أما كاتب المقال الثالث، الذي صدر بعنوان: "نداء إلى تلاميذ المدارس"، فقد خاطب التلاميذ الفلسطينيين "رجال المستقبل" بقوله: "ما لي أراكم قد استرسلتم إلى اللهو واللعب وتناسيتم الواجب المفروض عليكم تجاه وطنكم؟.. ألم يئن الأوان لإعلانكم الحرب على الاستعماريين!". ثم دعاهم إلى تنظيم صفوفهم وتوحيد قواهم "لأجل محاربة المسيطرين،  فإما حياة سعيدة وإما موت تحت أنقاض الوطن المقدس".

المقالات الأخرى في العدد نفسه كانت عبارة عن أخبار عن "نجاح الجنود الوطنية في الصين"، وعن "المؤتمر الانكليزي للأحداث الشيوعيين في بريطانيا"، الذي أصدر قراراً  يدعو إلى "محاربة الاستعماريين الانكليز في سبيل تحرير الأمم المظلومة"، وعن المؤتمر الدولي لعصبة مكافحة الاستعمار الذي انعقد في مدينة بروكسل بمشاركة  "185 مندوباً " يمثلون الحركات الوطنية للشعوب المظلومة وممثلي العمال الثوريين في أوروبا وأمريكا، والذي أصدر، من ضمن قراراته، قراراً  " بشأن جهاد سوريا وثوارها الشجعان" ، يشجع فيه المجاهدين في سبيل حرية الشعب السوري ويعدهم بمساعدة المؤتمر، وعن  "موت الرفيق ماك مانوس"، زعيم الحزب الشيوعي الانكليزي، الذي  " اشتُهر خصوصاً بالدعاية في سبيل تحرير الأمم المظلومة وفي سبيل عقد معاهدة أخوية بينها وبين العمال في العالم "، وعن ظروف العمل في "مصنع سجاير مبروك"، الذي يشغّل عمالاً أكثريتهم  " من سن الثمان سنوات إلى الخامسة عشرة سنة، وهم يشتغلون إحدى عشرة ساعة في النهار ويتناولون معاشاً يومياً من قرش ونصف قرش إلى ثمانية قروش على الأكثر"، وعن "اعتصاب تلاميذ المدارس في ويلس-قضاء في انكلترا"، الذين "قرروا الإضراب عن تلقي دروسهم لأن إدارة المدارس لم تشأ أن تعفي أبناء العمال العاطلين عن العمل من النفقات".

أما الدوريات التي كانت تصدرها "الكتلة العمالية"، المعروفة بالفركتسيا، فقد أتيحت لي فرصة الاطّلاع على واحدة منها، صدر العدد الأول منها، في 2 كانون الأول 1926، باسم "عمال سكة الحديد" -لسان  حال مركز العمل للقسم البروفنترني-الدولية الحمراء الفنية الصناعية)، مشتملاً على 4 صفحات، مكتوبة بخط اليد (33 سم طول و 21 سم عرض). وتحت شعار: "يا عمال العالم اتحدوا"، الذي تصدر صفحته الأولى، رُسم، بصورة بدائية، قطار يسير على سكة حديد. أما صفحته الرابعة، فقد ذُيّلت برسم المنجل والمطرقة.  

وقد تضمن ذلك العدد عدة مقالات، طغت عليها القضايا النقابية، حيث علقّ الأول منها على "قانون حماية العامل لسكة الحديد"، الذي أصدرته حكومة الانتداب، " بعد سني جهاد وتضحيات كثيرة"، وذلك "لاستقبال الكولونيل فيجيبود، أحد  أعضاء حزب العمال البريطاني"، وهو القانون الذي "جسّم القرون البائدة والاستبداد الانكليزي". أما المقال الثاني، فينتقد "اللجنة الإصلاحية"، المسيطرة على نقابة عمال سكة الحديد، التي "حوّلت إرادة العمال في الجهاد ضد بعضهم البعض بدلاً من أن تكون متوجهة إلى إدارة السكة". وبينما تطرق المقال الثالث إلى "صورة نادي سكة الحديد"، تحدث الرابع عن المؤتمر المرتقب  لـ "حركة إيحود"، وعن الدور الذي يجب أن يلعبه عمال سكة الحديد، الذين يعانون أكثر من غيرهم من عمال فلسطين " لتفرق القوات ولعدم وجود جمعية صناعية متحدة تدافع عن مصلحتنا ضد ظلم الحكومة".

الهوامش
1- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 142 و ص  145-146.
2- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 159.
3-الشريف، الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928، ص 192-194.
4-الشريف، فلسطين في الأرشيف، ص 116.

المصادر
أولاً، المؤلفات:
الشريف، ماهر، الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928، بيروت، دار ابن خلدون، 1980.
الشريف، ماهر، فلسطين في الأرشيف اسري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004.

ثانياً، الدوريات:
- أحداث الشيوعيين.
- الشاب الشيوعي.
- شبيبة.
- عمال سكة الحديد.
- المنبّه.
- النداء.
الحلقة الثالثة
في آذار 1929، صدر العدد الأول من مجلة "إلى الأمام" السرية، بوصفها " لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني (فرع الدولية الشيوعية). ومع أنه كان من المفترض أن تصدر هذه المجلة بصورة دورية، مرة كل شهرين أو كل شهر، إلا أن صدورها لم يكن، في الواقع، منتظماً، بل كان يخضع للظروف الصعبة التي كان يعمل في ظلها الجهاز الفني للحزب، والتي كانت تفرض عليه، في أحيان كثيرة، أن يوقف إصدارها. فكما مرّ معنا سابقاً، توقف صدور "إلى الأمام" خمسة أشهر (من آب إلى كانون الأول 1929) بعد قيام عدد من الفلاحين العرب المنتفضين، خلال أحداث "هبة البراق" في آب 1929، بتدمير مطبعة الحزب، التي كانت مقامة في شقة سرية في أحد الأحياء اليهودية. كما توقف صدورها مرتين، في عامَي 1931 و 1932، إثر وقوع المطبعة في أيدي البوليس البريطاني. وبهدف تجاوز هذه الظروف الصعبة، اقترح أحد قادة الحزب العرب، وهو "سعدي" أو نجاتي صدقي، في تقرير عن أوضاع الحزب الشيوعي الفلسطيني، قدمه في موسكو في أيلول 1933، أن يتم "نقل مطبعة الحزب للأحياء العربية مع إيجاد عمال عرب يشتغلون فيها، وذلك لكي يسهل نقل المطبوعات وتوزيعها، ولكي لا يحطمها الفلاحون كما حطموها في سنة 1929" (1).

ويُتبيّن من تقرير آخر، قُدم في موسكو عن نشاط الحزب الشيوعي الفلسطيني ما بين تشرين الأول  وكانون الأول 1934، أن الحزب قد نجح " في إقامة مطبعة علنية في يافا، تصدر عنها صحيفة "النور" باللغة العربية، وصحيفة "غارو" باللغة العبرية " (2).

"إلى الأمام" من حيث الشكل والطباعة والتوزيع
كانت مجلة "إلى الأمام" من أرقى الدوريات السرية التي أصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني إبان عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. وشكّلت مرآة عكست توجّه قيادته الحازم للسير على طريق "التعريب"، وهو الأمر الذي جعل هذه القيادة تفاخر، في رسالة وجهتها إلى موسكو في 1 آذار 1930، بأن الإعلام القومي العربي في فلسطين، الذي " يشن حملة مسمومة معادية للشيوعية، حيث تنتقد الصحافة العربية أدبيات الحزب ومطبوعاته"، صار يمتنع "بصورة  تدريجية عن الزعم بأن الحزب الشيوعي هو حزب يهودي. وهكذا، توجب على أعدائنا الإقرار بالنجاحات التي حققناها في مجال التعريب، والاعتراف بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني بات يمثّل خطراً عليهم" (3).

وقد أتيحت لي فرصة الاطّلاع على 8 أعداد من هذه المجلة، كانت مودعة في الأرشيف السري للكومنترن الخاص بفلسطين، تغطي الفترة الواقعة ما بين آذار 1929 و حزيران 1931، علماً بأنه يتبيّن من وثائق هذا الأرشيف أن "إلى الأمام"  استمرت في الصدور، بصورة متقطعة، حتى عام 1934. وهذه الأعداد الثمانية، التي كان يتفاوت عدد صفحاتها من عدد إلى آخر، هي: العدد 1، مارث (آذار) 1929، في 18 صفحة (5،29 طول و 21 عرض)؛ العدد 2-3، مايو (أيار) 1929، في 16 صفحة وملحق من 10 صفحات؛ العدد 4، يوليو (تموز) 1929، في 18 صفحة؛ العدد 5، يناير (كانون الثاني) 1930، في 8 صفحات؛ العدد 9، سبتمبر (أيلول) 1930، في 10 صفحات؛ العدد 12، أبريل (نيسان) 1931، في 6 صفحات؛ العدد 13، يونيو (حزيران) 1931، في 8 صفحات. ومن ناحية أخرى، كان موسى البديري قد نشر، في ملاحق كتابه عن: "تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين"، بعض محتويات عددين آخرين من أعداد هذه المجلة، هما: العدد 7، الصادر في الأول من مايو (أيار) 1930 (4)، والعدد 11، الصادر في يناير (كانون الثاني) 1931 (5).  

كانت "إلى الأمام" تُطبع على الآلة الكاتبة وتُسحب في مطبعة الحزب الشيوعي الفلسطيني السرية. وكان إخراجها أفضل من إخراج الدوريات التي سبقتها، كما طرأ تحسن على أسلوب صياغة مقالاتها، التي لم تكن موقّعة بأسماء كتّابها عموماً، وإن لم يخلُ بعض هذه المقالات من الأخطاء اللغوية. بيد أن تبويبها ظل بدائياً وغير مستند إلى قواعد، حيث خلت بعض أعدادها من الأبواب الثابتة (العدد 1، آذار 1929)، بينما تضمنت أعداد أخرى مثل هذه الأبواب الثابتة: باب: "أخبار داخلية"، وباب "أخبار خارجية"، وباب "روسيا السوفياتية"، وباب "صحيفة الشبان"  (العدد 4، تموز 1929). وفي كل الأحوال، فقد غاب عن المجلة باب الثقافة والأدب، حيث لم تتضمن الأعداد العشرة المذكورة سوى قصيدتين، الأولى كان قد أرسلها إلى هيئة تحرير المجلة "أديب عامل ثائر مصري" (نُشرت في العدد 7)، والثانية بعنوان "أنشودة للعمال" وبتوقيع "عامل" (نُشرت في العدد 9)، كما تضمنت نشيداً واحداً بعنوان: "نشيد أول مايو" (نُشر في العدد 2-3).
  
وتصدّر الصفحة الأولى من صفحات المجلة شعار: "يا عمال العالم اتحدوا"، ورسم المنجل والمطرقة، بالإضافة إلى "فهرس العدد"، وإلى ثمن العدد البالغ "نصف غرش". وأحياناً كانت الصفحة الأولى تُذيّل بعبارة "اقرأها واعطها لغيرك". ولم تعتمد هيئة تحرير المجلة كثيراً على وسائل إيضاحية، كنشر الصور والرسومات، حيث لم تتضمن الأعداد التي اطّلعت عليها سوى صورة واحدة، نُشرت في الصفحة الأخيرة من العدد الأول، هي لـ "الرفيق عبد الفتاح العزيز"، العامل من مدينة طنطا في سكة الحديد المصرية، وعضو الحزب الشيوعي المصري، الذي " ألقي القبض عليه في العام الماضي وأبعد للأقصر حيث مات غدراً بأن وضع له البوليس السم في الطعام "، ورسماً واحداً، نُشر في الصفحة الأخيرة من ملحق العدد المزدوج الثاني والثالث، يعبّر عن عبودية العامل لرب العمل، ذُيّل بالعبارة التالية: " "كلما تطئطئ راسك يا عامل يزيد عليك الغني أثقال الظلم".

ومن حيث عدد النسخ المطبوعة وتوزيعها، كان يُطبع من "إلى الأمام" ، لدى صدور أعدادها الأولى، 500 نسخة من كل عدد، التزمت منظمة يافا وحدها، في الاجتماع الحزبي الموسع للجنتَي تل أبيب ويافا الحزبيتين، المنعقد في 16 كانون الثاني 1930، " بأن توزع 100 نسخة جديدة منها" (6).

بيد أن أعداد النسخ المطبوعة من المجلة لم يكن ثابتاً كما يبدو، حيث أشار تقرير عن أوضاع الحزب الشيوعي الفلسطيني، حمل تاريخ 1 آب 1930، إلى أن الحزب "يطبع من صحيفته العربية 300 نسخة" (7).

وفي تقرير مرسل إلى موسكو عن المطبوعات السرية التي أصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني في عام 1933، أشير إلى أن الحزب كان يطبع 500 نسخة، وأحياناً 700 أو 800 نسخة، من مجلة "إلى الأمام" (8).

وفي تقرير لاحق عن مطبوعات الحزب السرية في عام 1934، ذُكر أن الحزب كان يطبع من المجلة نفسها نسخاً يتراوح عددها ما بين 500 و 700 نسخة (9).

"إلى الأمام " من حيث المضمون
صدرت "إلى الأمام" في ظروف تحوّل "يساري انعزالي" شهدته سياسات الكومنترن تجاه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الرأسمالية، من جهة، وتجاه قيادات الحركات الوطنية والقومية في المستعمرات وشبه المستعمرات، من جهة ثانية.

ففي مؤتمره العالمي السادس، المنعقد بموسكو في صيف عام 1928، تخلى الكومنترن عن  شعار "الجهة المتحدة المعادية للامبريالية"، واتّخذ، في ضوء تجربة الثورة الصينية و"خيانة" قيادة حزب الكومنتانغ،، موقفاً "انعزالياً" من البرجوازية الوطنية، في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، ينظر إليها باعتبارها قوة " مضادة للثورة"، و "مهادنة للامبريالية". وعلى أساس هذا الموقف الجديد، دعا المؤتمر الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان إلى مجابهة سياسات البرجوازية الوطنية "الخيانية"، وضمان هيمنة الطبقة العاملة على قيادة الثورة الوطنية التحررية، والسعي إلى إقامة "حكومة العمال والفلاحين". وقد تجسد التزام  قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني بهذا التوجّه "الانعزالي-اليساري"،  اعتباراّ من ذلك التاريخ، في تصاعد هجومها على العناصر "القومية الإصلاحية" الواقفة على رأس الحركة الوطنية العربية في فلسطين، والمتهمة بالتواطؤ مع سلطات الانتداب البريطاني، وفي سعيها إلى تعزيز مواقع العناصر "القومية-الثورية" بين صفوف هذه الحركة (10).

وكان من الطبيعي أن ينعكس توجّه الحزب الشيوعي الفلسطيني الجديد هذا على مضمون المقالات التي صارت تنشرها لسان حال اللجنة المركزية للحزب، والتي توزعت على محاور أربعة رئيسية، هي: محور شيوعي، ومحور وطني، ومحور اجتماعي، ومحور عربي ودولي.
ففي المحور الأول، نشرت المجلة مقالات تعرّف بالحزب الشيوعي الفلسطيني وأهدافه وحملات القمع التي يتعرض لها أعضاؤه، كما تعرّف بالحركة الشيوعية العالمية وقادتها البارزين، وبإنجازات روسيا السوفيتية، وبأيام النضال والتضامن الأمميين.

فبهدف التعريف بالحزب الشيوعي الفلسطيني، نشرت المجلة، في عددها الأول، مقالاً بعنوان: "ماذا يريد الحزب الشيوعي؟"، أشار إلى أن الشيوعيين يريدون "تغيير نظام العالم الفاسد"، خلف شعار: "لتسقط العبودية والأسياد، ليسقط الاستغلال، ليتحرروا المظلومين المستغلين"، بحيث تنشأ هيئة اجتماعية جديدة " يكون فيها عمال دون أغنياء، أي دون أن يكون فيها ناس يعيشون على أكتاف الغير". كما أن الشيوعيين، الذين يدركون أن الحكومة ليست "سوى آلة في أيدي الأغنياء لتحافظ على أملاكهم وعلى سلطتهم على العمال والفلاحين"،  يريدون "أن   يكسروا حكومة الأغنياء وسلطتهم ويؤسسوا حكومة العمال والفلاحين ".

وفي رده عن سؤال: "هل يتمكن  العمال والفلاحين الجهلاء البسطاء أن يؤسسوا لهم حكومة ويديروا شؤونها؟"، أجاب كاتب المقال، بأسلوب قريب من أسلوب الحكاية الشعبية: " نعم! وإليكم المثل: يوجد وراء البحار مدينة كبيرة يعد سكانها (150) مليون نفس، وكان في تلك البلاد ملك ظالم وله ملايين من العساكر والموظفين، فقام فيها الحزب الشيوعي المسمى هناك بلشفيك تحت قيادة الزعيم لينين، وصار يقاوم القيصر الظالم... ورغم أن كثير من العمال لاقوا في حمل المبادئ الاضطهاد والسجن والقتل والشنق فإنهم نجحوا أخيراً. وفي سنة 1917 كسروا حكومة القيصر وطردوا الأغنياء وأسسوا حكومة العمال والفلاحين.

وقد مضى 12 سنة والعمال يديرون حكومتهم في الروسيا ". وأنهى الكاتب مقاله بالتوجّه إلى جماهير العمال قائلاً: "ليس لديكم شيء تخافون عليه من الضياع إذا قمتم لتحرير أنفسكم. فإذا قمتم فإنكم لا شك ستفقدون جوعكم وبؤسكم واضطهادكم وقيودكم فقط فهذا كل ما لديكم، وستربحون حريتكم أي تربحون العالم"  (11).

وفي مقال آخر بعنوان: "من هم أعداء الحزب الشيوعي الفلسطيني؟"، نُشر في العدد الأول نفسه، أشير إلى أن الحزب الشيوعي الفلسطيني هو فرع "من الفروع العديدة للدولية الشيوعية (الكومنتيرن) التي يبلغ عدد فروعها الشيوعية 40 فرع منتشرة في جميع أقطار العالم في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا"، لكنه حزب  يعمل " في جو صعب وحالة قاسية تقف في طريقه عدة صعوبات، منها أن العمال عددهم قليل، لا يوجد فبارك تشتغل فيها مئات العمال بمحل واحد، وأكثرهم يشتغلون في شغل موسمي وفي مصانع صغيرة يصعب عليهم أن يجتمعوا ويتفاهموا مع بعض"، وذلك في الوقت الذي يواجه فيه الحزب " أعداء لا يحصوا "،  تتقدمهم الحكومة الانكليزية المستعمرة، والصهيونيون، والرأسماليون العرب، بالإضافة  إلى "الخائنين والجواسيس والبوليس"، وإلى "جهل" العمال والفلاحين، والذي يمثّل "العدو الأكبر" للحزب.

ويتميّز الحزب الشيوعي الفلسطيني عن غيره من الأحزاب –كما يتابع كاتب المقال- في أنه ليس "حزب أفراد، بل حزب طبقة العمال وقائدها، وهو يتألف من أحسن وأنشط العمال وأخلصهم، لا يشتري ناس بالدرهم ولا يبيع نفسه بالدرهم". ومع أن عدد أعضائه "قليل"، وبخاصة بين الرفاق العرب، وصفوفه "رقيقة"، وقواته "صغيرة"، إلا أن هذا " لا يضعف عزائمنا، فإن مبادينا سامية وقواتنا لا تقاس بعددنا هنا، نحن جند عالمي مجاهد، صفوفنا تقف متضامنة متآخية في الجهاد، لنا رفاق وميالين وأقرباء في كل محل يوجد فيه عمال في جميع العالم من أدناه إلى أقصاه. [فيا] أيها العامل اقرأ جرائدنا، ادرس برنامجنا، انضموا للحزب الشيوعي الفلسطيني " (12).

وبمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، نشرت المجلة، في عددها الثاني والثالث، مقالاً استعرض المسيرة التي قطعها الحزب خلال عقد كامل، منذ أن قامت "جماعة من عمال اليهود، بعدما قنعوا بأن الصهيونية هي خداع وهي فكرة مضرة للعمال اليهود والعرب"، بتأسيس "حزب ثائر"، طرح أمامه مهمة العمل "على تفهيم العمال اليهود والعرب ضرورة التآخي والاتحاد المشترك ضد أعداءهم من الأغنياء العرب واليهود والصهيونية والاستعمار"، وتحوّل "في الجهاد المستمر ضد أعداءه وتحت تأثير نجاح ثورة عمال في روسيا" إلى "حزب شيوعي رسمي"، وانضم، في سنة 1924، "رسمياً إلى الدولية الشيوعية".
وبعد أن رأى كاتب المقال أن السنوات العشر الفائتة كانت " من أقسى أيام الحزب"، حيث تكالب على الحزب "جميع أعداء العمال، [فـ]شرطة المستعمرين سجنت الشيوعيين وأهانتهم، والمعلمين طردوهم من العمل، والصهيونيين طردوهم من جمعية العمال اليهود، والصحف الخائنة، مثل "فلسطين"، حملوا على الحزب حملات شديدة"، اعتبر أن الحزب قد "غرم جميع الاعتداءات والاضطهادات"، ونجح في زيادة تأثيره وتوسيع صفوفه، بحيث بات حزباً أممياً حقيقياً، لم يعد يتكوّن " من عمال يهود فقط، بل في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني يجاهدون الآن عمال عرب ويهود جهادهم المشترك، وهذا أحسن دليل على أن للعمال العرب واليهود مصالح مشتركة". وهو اليوم الحزب "الوحيد" في فلسطين الذي "يتجرأ على التظاهر ضد الحكومة المستعمرة وفي طلب الاستقلال التام" (13).

في العدد التاسع من المجلة، نُشر مقال تصدّى فيه كاتبه  لـ "التهمة" التي تلصق بالشيوعيين بأنهم "خائنون للوطن"، مميّزاً  بين مفهوم "الوطن والوطنية" لدى "أصحاب الأموال والأملاك"، ومفهومهما لدى العمال والفلاحين، ومعتبراً "أن الاستعماريين والرأسماليين في أي بلد كانوا، والجرائد العربية عندنا، يتهمون الشيوعيين أنهم خائنين للوطن، وفي الحقيقة إن مسألة الوطن عند الشيوعيين تحتاج إلى تفسير كبير، ولكن بالاختصار نقول إن الشيوعيين غير خائنين للوطن بل بالعكس". فالرأسماليون، اتّخذوا كلمتَي وطن ووطنية  "لخداع واستثمار الطبقات العاملة والفقيرة استثماراً وحشياً، لأنهم لا يعرفون بالحقيقة غير مصالحهم الشخصية واستثمار رؤوس أموالهم، وإن مصالحهم أقرب للاتفاق مع المستعمرين من مصالح العمال والفلاحين"، الذين يعيشون " في عناء وشقاء ويبذلون جهودا كثيرة ليحصلوا على قوتهم اليومي وإلا ماتوا جوعاً".

بينما نحن جماهير العمال والفلاحين-كما تابع- : " نعرف حقوق وطننا أحسن منكم، ولكن لا يكفينا أن يكون لنا وطن وأن يكون وطننا عامراً وفيه المعامل والفبارك والسرايات والقصور ونحن لا ننال من هذا كله شيئاً. تطلبون منا أن نضحي ونهلك أنفسنا في أشغالكم تحت ستار الوطنية، وأن لا نتحد مع زملائنا العمال الثائرين الأجانب لأن ذلك ما يضر بمصلحتكم أنتم فقط. ولذلك تتهمونا بالخيانة الوطنية، ولكن حيلتكم ما عادت تنفع. تقولون أشغال وأعمال وطنية بقصد إرهاقنا وإضاعة حقوقنا ولا يستفيد من هذه الأعمال غير أنتم، ولكن نحن نفهم الوطنية بالعكس وهي أن يكون العمل في منفعة الجميع ولا يكون في منفعتكم أنتم وحدكم، فليس ما يجبرنا بعد الآن على التضحية في أعمالكم" (14).

وفي مجال فضح عمليات القمع التي كان يتعرض لها الشيوعيون الفلسطينيون، نقل العدد الرابع، ضمن باب :"أخبار داخلية"، خبر اعتقال خمسة من العمال العرب واليهود، في مدينتَي يافا والرملة، بتهمة "توزيع مناشير شيوعية"، وخبر نفي عضوين من أعضاء الحزب اليهود خارج فلسطين، كما تطرق إلى معاناة السجناء الشيوعيين في سجن يافا، "المقفل الأبواب والنوافذ، المحاط بالأسلاك وبالجنود المسلحة"، حيث "يجبرون العمال الثوار على الركوع والوقوف دغري... ولكن هؤلاء العمال الثائرين على نظام الوحشية يرفضون الرضوخ والذل فتنهال عليهم عندئذٍ السياط وأكعاب البنادق ويرفعون من شعرهم لفوق ثم يطرحون على الأرض ويعاد نفس الأمر إلى أن "تدب الرحمة" في قلب الضابط الانجليزي "المتمدن"، فيعفو عنهم".  كما نُشر في العدد نفسه خبر تعدي الصهيونيين على العمال اليهود الثوريين وطردهم من " مجمع نواب اليهود في فلسطين"، بعد  قيامهم بإلقاء كلمات تندد بالاستعمار الانجليزي "الذي يستعبد فلسطين"، بالتعاون مع " أعوانه الصهيونيين الذين يطردون مع الملاكين العرب الفلاحين الفقراء من أراضيهم"، وتطالب " بتحرير فلسطين من نير الاستعمار البريطاني"، وتحقيق  "الاتحاد الأخوي ما بين العمال العرب والعمال اليهود في جهادهم المشترك ضد الاستعمار والصهيونيين والزعماء الخائنين" (15).

وبما أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كان فرعاً من فروع الكومنترن، فقد كان من الطبيعي أن تخصص "إلى الأمام" بعض مقالاتها للتعريف بهذا "الحزب الشيوعي العالمي" وفروعه، حيث نشرت، في عددها الثاني والثالث، مقالاً يحيي الذكرى العاشرة لتأسيس الكومنترن (الدولية الشيوعية)، التي باتت " تعد أربعة ملايين مع جمعيات الشبان الشيوعيين "، وتمكنت " من قيادة الحركات الثورية من العمال والفلاحين ضد المستعمرين في المستعمرات وربط هذه الحركات مع حركات العمال الثائرة في أوروبا "، وعملت على "تنوير" عمال العالم الذين "أصبحوا لا يمكنهم السكوت والرضاء بعبوديتهم"، وباتوا أقدر على بلوغ "حريتهم وحقوقهم الضائعة المسلوبة تحت القيادة العليا للدولية الشيوعية التي تقودهم بشجاعة في طريق التحرير والبناء الاشتراكي" (16).

وفي حقل التعريف بقادة الحركة الشيوعية البارزين، نشرت "إلى الأمام" في عددها الخامس مقالاً افتتاحياً عن لينين، في الذكرى السادسة لرحيله، أشار فيه كاتبه إلى أن لينين الذي رحل في كانون ثاني سنة 1924، " لم يكن ذلك الرجل العملي الثائر فقط، بل كان فيلسوفاً نظرياً قضى على كل خصوم البلشفية بسلاحه المتين، سلاح المنطقية المادية"، ووضع "عدة مؤلفات نفيسة تعد المرجع الأكبار لشيوعيو العالم، ومن جملة مؤلفاته (ما العمل؟)، و(الاستعمار آخر مرحلة للرأسمالية)، و (الحكومة والثورة)، و (المسألة الوطنية)"، وهو الذي قال: "إن النظرية الثورية لا تجدي نفعاً إن لم تدعم بعمل ثوري".

كما كان هو الذي قال: "إن العمال في كافة أنحاء العالم لا يمكنهم أن يتحرروا إن لم يتضامنوا معاً على كسر السلطة الرأسمالية والاستعمار، [و]يجب مساعدة الوطنيين في المستعمرات ما داموا ثوار في حربهم ضد الاستعمار ولحد محدود، ولكن إذا مالوا لطرف المستعمرين فيجب مقاومتهم وفضح أعمالهم".

وختم الكاتب مقاله بالتأكيد على أن لينين رحل بعد أن "ترك  ورائه أعمالاً خالدة وأثراً لا يمحى وتعاليم حية، ترك وراءه أول حكومة عمال وفلاحين في التاريخ-الحكومة السوفيتية، ترك وراءه الدولية الشيوعية الهيئة العاليا لكافة الأحزاب الشيوعية والثورة العالمية"، وهو لذلك سيبقى حياً " في قلب كل عامل ثائر" (17).

وفي العدد الخامس نفسه، نشرت المجلة مقالاً تعريفياً بستالين، كما نشرت نص تحية وجهها له أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني العرب بمناسبة مرور خمسين سنة على ميلاده.

فقد كان ستالين، بحسب كاتب المقال، "من أكبار مساعدين لينين على تثبيت الحكم السوفياتي، وفي سنة 1920 انتخب كسكرتير عام لحزب الاتحاد السوفياتي الشيوعي، وهو يشغله حتى هذا الوقت". وبعد رحيل لينين "أخذ الرفيق ستالين قيادة الحزب بيده، وكان خليفة أمين لتعاليم لينين، فطهّر الحزب من جميع المعارضات اليمنى واليسرى التي رأى فيها الخطر على موقف الحزب والحكم السوفيتي".

وفي رسالة التحية، خاطب الشيوعيون الفلسطينيون العرب ستالين بقولهم: "نأمل أن قواك وعقلك التي عرفت لجماهير الشيوعيين في سائر أقطار العالم كمنفذّة لتعليم زعيمنا الأكبار لينين تزداد نشاطاً لما بقي أمامنا من المستقبل في خدمة الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي والدولية الشيوعية".

وأضافت الرسالة: "إننا وضعنا خطتك اللينينية البلشفية كمثل كبير دائمي أمامنا في نهضتنا العظيمة وفي جهادنا لتحرير البلاد العربية من الاستعمار الأجنبي وللقيام بالانقلاب الاشتراكي على الرأسمالية المحلية" (18).

واحتلت المقالات التي تتطرق لإنجازات روسيا السوفيتية موقعاً مهماً على صفحات "إلى الأمام"، التي كانت تقارن دوماً بين نجاحات عمال روسيا في ميدان البناء الاشتراكي وبين الظروف الصعبة التي يعيشها العمال في الدول الرأسمالية.

فمنذ عددها الأول، قارنت المجلة بين مكاسب عمال روسيا السوفيتية، وبخاصة تحديد ساعات العمل اليومي بسبع ساعات فقط، "لأجل أن يكون للعمال وقت للقراءة والرياضة والتنزه والراحة"، وبين معاناة عمال الدول الرأسمالية من الشقاء والجوع، في ظل وجود "سبعة ملايين ونصف مليون من العمال عاطلين عن الشغل في ثلاث ممالك رأسمالية، في أميركا 4 ملايين، في ألمانيا مليونين، في انكلترة مليون ونصف، هؤلاء العمال إذا أضفنا إليهم عائلاتهم يبلغون بين عشرين وخمسة وعشرين مليون نسمة قضى عليهم النظام الرأسمالي بالشقاء" (19).

وفي عددها الرابع، وتحت عنوان: "كيف تعيش شبيبة العمال والفلاحين في روسيا السوفيتية"، نشرت المجلة مقالاً قدّر فيه كاتبه "أن الشروط التي تشتغل وتعيش بها الشبيبة العاملة في روسيا السوفياتية، حيث أسقط العمال والفلاحين سلطة القيصر والإقطاعيين والرأسماليين وأسسوا حكومة منهم، تعد من أحسن الشروط التي تشتغل بها شبيبة عمال باقي بلدان العالم". وبعد أن استعرض الكاتب هذه الشروط، ومنها أن الشاب لا يعمل "بأي عمل كان حتى يبلغ عمره الخامسة عشر سنة، ويجب على الأولاد الذين لم يبلغوا بعد هذا العمر أن يذهبوا للمدارس حيث يتعلموا ويأكلوا ويلبسوا على حساب الحكومة"، خلص إلى أن حكومة العمال والفلاحين في روسيا "تهتم بأن يكون الشبان كاملين التربية جسماً وعقلاً، بالعكس عن الحكومات الرأسمالية وخصوصاً في المستعمرات حيث يهلكوا العمال الشبان من الظلم والاستغلال بصورة وحشية، بينما أولاد الأغنياء الرأسماليين يعيشوا في القصور والنعيم" (20).

وفي العدد الرابع نفسه، وفي باب "روسيا السوفياتية"، نشرت "إلى الأمام" مقالاً بعنوان "رقي الزراعة هنا وهناك"، قارن كاتبه بين أوضاع الزراعة في البلدان الخاضعة للحكم الرأسمالي، مثل فلسطين، وبين أوضاعها في روسيا. ففي الحالة الأولى، حيث "الأغنياء الرأسماليين هم المستوليين على الحكومة والفبارك والأراضي"، يتحقق "رقي" الزراعة " بواسطة ظلم واضطهاد العمال والفلاحين ".

فإذا أراد صاحب الأرض في فلسطين تحسين محصولاته "فهو يأتي بالماكينات ليشغلها على الأرض فيستغني بذلك عن عدد كبير من الفلاحين الذين لا يوجد لهم مورد للمعيشة غير هذه الأرض"؛ وإذا أراد تحويلها إلى بيارات للبرتقال، أو بيعها للصهيونيين، "فنفس الشيء أيضاً النتيجة تكون طرد مئات الفلاحين من الأراضي وإفقارهم". أما في الحالة الثانية، حيث الحكم " ليس بيد الرأسماليين والملاكين بل بيد العمال والفلاحين، فنرى كل شيء بعكس ما هو جار هنا". فالأرض في روسيا "مقسمة ما بين الفلاحين الفقراء، ويشتغلون بالتعاون مع حكومتهم التي تمدهم دائماً بالمساعدات المالية وبالماكينات وتنشئ لهم المستشفيات والمدارس، وبهذه الصفة تترقى الزراعة هناك وبالوقت نفسه تتحسن حالة الملايين من الفلاحين" (21).

وتحت عنوان: "نتف عن الاتحاد السوفياتي"، كانت المجلة تنشر أخباراً قصيرة عن نجاحات البناء الاشتراكي في روسيا. ففي عددها الثالث عشر، نشرت المجلة مقالاً عن  نجاح عمال باكو، بإنهائهم "خريطة [خطة] الخمس سنوات في مدة سنتين ونصف"، بحيث وفّروا لبلادهم "21 مليون و 700 ألف طن بترول كانت مقدرة لآخر سنة 1933"، وقدموا بذلك "أحسن مثل عن كيفية إمكان الطبقة العاملة أن تبني سعادتها بسرعة عندما تصبح هي صاحبة فباركها ومالكة لنتيجة شغليها". كما نشرت خبراً عن تزايد عدد "شركات التعاون" بين الفلاحين، والتي صارت تساهم "حتى تاريخ أول مايو سنة 1931 ب 6،84 بالماية من كل اقتصاديات الفلاحين في الاتحاد السوفياتي"، وهو ما "يدل على قدر ما يجد الفلاحون هناك من الحماس في الانضمام لشركات التعاون وما يلاقونه فيها من الراحة ومن فضائل الحياة الاشتراكية" (22) .

وركّزت "إلى الأمام"، في إطار تعريفها بأيام النضال والتضامن الأمميين، على الأول من أيار، عيد العمال العالمي، وعلى الأول من آب، وهو اليوم الذي قررت قيادة الكومنترن أن يكون يوماً عالمياً للنضال ضد خطر الحرب وللتضامن مع الاتحاد السوفيتيي.

فقد عرّف المقال الافتتاحي للعدد  الثاني والثالث، بعنوان: "أول أيار"، العمال العرب الفلسطينيين  بعيد العمال العالمي، الذي " تضرب فيه العمال عن الشغل في كل ممالك الأرض وتمشي في المظاهرات الساخطة يظهروا اتحادهم الدولي واستعدادهم للجهاد "، وحرّضهم على المشاركة في هذا اليوم، على الرغم من "عددهم القليل" ومن كونهم " مشتتين في المصانع والمشاغل الصغيرة جداً "، وذلك لأن قوة طبقة العمال " لا تقاس بعدد أفرادها فقط بل بقيمة ما يعمله هؤلاء الأفراد للمجموع"، ولأن عمال فلسطين يناضلون " بين صفوف الملايين المجاهدة من إخوانهم العمال في العالم ". وبعد أن أشار كاتب المقال إلى أن الثورة تحتاج  " إلى تمرين وتدريب"، توفرهما المظاهرات والمصادمات مع البوليس، دعا، باسم العمال الشيوعيين والمتنورين، عمال فلسطين " من يهود وعرب إلى الإضراب عن الشغل، وينظموا المظاهرات ويصطدموا مع البوليس ولا يبالوا بعددهم القليل في المظاهرات وغرضهم من هذا تنوير وتشجيع بقية العمال على الجهاد" (23).

وتضمن ملحق العدد الثاني والثالث نفسه أخباراً عن احتفالات الأول من أيار في عدد من بلدان العالم، ومن بينها فلسطين، حيث "مثل العادة في كل سنة في أول أيار فرّق الحزب الشيوعي نشراته ومناشيره ودعى العمال العرب واليهود إلى الاتحاد والإضراب عن الشغل والتظاهر... وقد عيّد هذا اليوم تقريباً كل العمال اليهود لأنهم جاؤوا من أوروبا ويعرفون قيمة أول أيار، ولكن مع الأسف العمال العرب لم يعيّدوا والسبب هو أن الأغنياء العرب يخدعوا العمال بأن هذا اليوم هو عيد اليهود وليس عيد العمال في كل الدنيا..." (24).

كما نُشر في العدد الثالث عشر من "إلى الأمام" مقال بتوقيع "شيوعي" عن " أول مايو في جميع العالم وفي فلسطين ". ففي القسم الاشتراكي "الهني" من العالم "استقبل العمال والفلاحون أول مايو-عيد عمال العالم الثوروي-وكلهم نشاط وكلهم حماس في جدهم لبناء الحياة الجديدة التي يمكن للعامل والفلاح أن يعيش فيها –وفيها فقط- حراً، والتي هي الحياة الاشتراكية". أما في القسم الرأسمالي من العالم، فقد "كان يهيئ العمال والفلاحون أول مايو فيستعدون للنضال مع معلميهم لتحسين حالتهم للتخلص من الجوع أو على الأقل لتخفيفه"، حيث كان العامل يسعى لإقناع "رفيقه العامل بضرورة كسر القيود التي وضعها لهم الرأسماليون وبضرورة السير يوم أول مايو متظاهرين مناضلين في سبيل لقمة خبزهم، في سبيل حريتهم في التنظيم في الاجتماع في النشر في الحياة".

أما في مصر وسوريا وفلسطين، حيث "لا يملك العمال والفلاحون تنظيمات طبقية مثيلة، وحيث لم تقدر الأحزاب الشيوعية بعد أن تقنع الجماهير بصورة كافية بضرورة الكفاح الثوروي في سبيل مطاليبه"، فلم يقدر العمال والفلاحون، باستثناء عدد قليل منهم، "أن يكسروا القيود التي وضعها لهم البوليس ولا أن يخرجوا للسوق في عيدهم الطبقي ينادون بحقهم ويطالبون بلقمتهم" (25).

أما يوم الأول من آب أو "اليوم الأحمر"، فهو، كما ورد في مقال نُشر في العدد الرابع من المجلة، اليوم الذي أعلنه الكومنترن يوماً "لمكافحة الحرب الاستعمارية" الجديدة، التي " تعمل على تحضيرها الدول الاستعمارية"، ويوماً للتضامن مع الدولة السوفيتية، التي " يريد الاستعماريون الهجوم عليها". وهو يوم، يكتسي –كما أضاف الكاتب- أهمية خاصة في فلسطين، حيث " نرى هنا بأعيننا كيف [أن] الاستعماريين يتحضرون للحرب فهم يريدون جعل فلسطين مركز حربي للمحافظة على قنال السويس وكنقطة دفاع عن طريق الهند. وأما بناء ميناء حيفا فمن المؤكد أن ليس الغرض منه رقي البلاد الاقتصادي بل ليكون مركز حربي للأسطول الانجليزي" (26).

في المحور الثاني، نشرت إلى الأمام" مقالات تهاجم سياسات الاستعمار البريطاني، وتندد بمشروع الحركة الصهيونية، كما تفضح "خيانة" قيادة الحركة الوطنية العربية في فلسطين، وتحيي ذكرى أبطال النضال المعادي للاستعمار، وبخاصة شهداء "هبة البراق".

ففي عددها التاسع، نشرت المجلة مقالاً بعنوان: "السياسة الاستعمارية في فلسطين وخيانة الوطنيين"، يفضح أهداف بريطانيا من وراء استعمارها فلسطين، حيث اعتبر فيه كاتبه "أن موقع فلسطين الجغرافي لهو من الأهمية للاستعماريين بمكان، وخصوصاً للاستعمار الانكليزي، لغرض المحافظة على قناة السويس التي هي عرق الحياة الممتد بين بريطانيا ومستعماراتها في الشرق الأقصى والهند". كما أن فلسطين تحتل موقعاً مهماً في مخططات بريطانيا الاستعمارية الرامية  "إلى مد نفوذها وسيطرتها داخل البلاد العربية والاستيلاء على منابع ثرواتها وفتح أسواق جديدة للتجارة البريطانية".

وبهدف ضمان سيطرتها على فلسطين، اتكأت بريطانيا –كما تابع- على نظام الانتداب، الذي "هو نوع من الاستعمار الغاشم الذي اخترعته لنا السياسة الاستعمارية"، وعلى "السياسة الصهيونية والوطن القومي للصهيونيين في فلسطين". كما استفادت "من خيانة الوطنيين المتزعمين، كاللجنة التنفيذية [للمؤتمر الوطني الفلسطيني] وما شاكلها"، الذين حوّلوا ثورة 1929، كي "يرضوا السياسة الاستعمارية [عن] مجراها الاقتصادي والسياسي إلى مجرى ديني" (27).

وفي العدد نفسه، نشرت المجلة مقالاً عن "السياسة الاستعمارية في فلسطين وحادثة وادي الحوارث"، التي تمثّلت في الهجوم على فلاحي وادي الحوارث وإخراجهم بالقوة، "على أسنة الحراب والرماح البريطانية "، من أرض " امتلكوها سنين عديدة وأجيال قديمة وورثوها عن آبائهم وأجدادهم بطرق وأساليب وحشية "، وهو ما يدل "على فظاعة المستعمرين وخيانة اللجنة التنفيذية [العربية]" (28).

وفي عددها الخامس، نشرت المجلة مقالاً يدعو العمال إلى محاربة الصهيونيين، الذين ثبت أنهم "أمناء للاستعمار الانكليزي، لا يريدون الاستقلال والحرية لفلسطين بل يريدون لها الاستعمار والانتداب". ولا يكتفون بذلك –كما تابع كاتب المقال- بل يطردون الفلاحين الفقراء من أراضيهم، كما يزاحمون العمال العرب، من خلال سياسة "الكبوش أفودا" أو "الاستيلاء على العمل"، ويقومون بطرد العامل العربي "حتى من تلك المحلات التي يحصل فيها على خبزه فقط بالشروط الفظيعة" (29).

وانتهزت "إلى الأمام" النتائج التي تمخض عنها المؤتمر الوطني العربي الفلسطيني السابع، الذي انعقد عام 1928، كي تشن هجوماّ لاذعاً على قيادة الحركة الوطنية العربية، وذلك في مقال نشرته في عددها الرابع، بعنوان: "البرجوازية العربية تعلن خيانتها، فلتحيى حكومة العمال والفلاحين". ففي ذلك المقال، رأى كاتبه أن قرارات المؤتمر الوطني السابع، "بشأن الاتفاق مع الاستعمار وتأسيس مجلس تشريعي وحسن التفاهم والسير على السياسة الإيجابية"، تعكس، في الواقع، "الاتفاق الاقتصادي الذي وقع تدريجياً" بين المستعمرين الانكليز، من جهة، والزعماء الوطنيين، الذين يتكوّنون "من التجار وأصحاب البيارات وأصحاب الأراضي"، من جهة ثانية. وهو الأمر الذي جعل الحزب الشيوعي الفلسطيني –كما تابع- "يترك شعار الثورة الوطنية في البلاد (لأنها غير ممكنة الوقوع) كأول خطوة للثورة الاشتراكية، ويسير الآن رأساً لتحقيق ثورة الجماهير العاملة على الاستعمار والبرجوازية الوطنية في وقت واحد، تحت شعاره الجديد: حكومة العمال والفلاحين في فلسطين" (30).

وفي مقال آخر، بعنوان: "الخيانة الجديدة للجنة التنفيذية العربية"، نُشر في عددها الثاني عشر، هاجمت "إلى الأمام" بشدة اللجنة التنفيذية العربية، التي تدّعي أنها "ممثلة الأمة العربية"، متهمةً أعضاءها بأنهم لا يهتمون "بمآرب القوم ولا بأمر طرد الفلاحين من أراضيهم ولا بحوائج العمال العرب"، وإنما يهتمون فقط بالحصول "بواسطة المفاوضات مع الحكومة [على] بعض كراسي في المجلس التشريعي". وبعد أن أخذ كاتب المقال على اللجنة التنفيذية العربية استمرارها "بعلاقات دايمة مع السيطرة البريطانية"، واعترافها "بالانتداب البريطاني"، دعا العمال والفلاحين العرب إلى الانفكاك  من "تأثير" هذه اللجنة، والسير "في طريق المحاربة الثورية" (31).

وتضمن العدد الثالث عشر من "إلى الأمام" مقالاً، بعنوان: "17 يونيو"، يدعو العمال العرب لإحياء " ذكرى القتلاء الفدائيين"، شهداء "هبة البراق" عام 1929،  فؤاد حجازي، وعطا الله الزير، ومحمد جمجوم ، الذين  "هلكوا من يد أكبر أعداء العمال والفلاحين، من يد الاستعمار الغاشم"، لكنهم "تقدموا للموت مرفوعي الرأس ثابتي العزيمة". وبعد أن أكد كاتب المقال على أن ذكرى استشهاد هؤلاء الأبطال لا يجب أن تكون  ذكرى "للتبرك أو للحزن "، بل لمتابعة "خطتهم"، من خلال مواصلة "الجهاد والكفاح ضد الانكليز"، عبّر عن ثقته بأن عمال فلسطين سيبرهنون للعالم "أنهم سوف يجاهدون إلى أن يفوزوا"، وسوف يفهمون الاستعمار الانكليزي "أنهم لا يتركون غايتهم ولا ضحاياهم أن تموت سدى" (32).

في المحور الثالث، عالجت "إلى الأمام" على صفحاتها قضايا تتعلق بمعاناة العمال العرب وشروط عملهم القاسية ومطالبهم، وكذلك بمعاناة الفلاحين العرب المعرضين دوماً لخطر الطرد من أراضيهم.
فقد تضمن العدد الأول من المجلة مقالين اثنين عن معاناة عمال فلسطين، الأول يتطرق إلى حالة عمال البرتقال، الذين أصبحوا "في حالة يرثى لهم"، على الرغم من كونهم يشتغلون "من 12 إلى 14 ساعة في اليوم"، وذلك بعد أن تدنت أجورهم اليومية من 30 قرشاً، قبل خمس أو ست سنوات، إلى 13 قرشاً؛ والثاني يعرض قساوة شروط عمل عمال مصنع مبروك للدخان، الذين " لا يوجد لهم قانون لحمايتهم ولا توجد لهم نقابة يمكنها بالفعل أن تنظمهم وتدافع عن حقوقهم " (33).

كما تضمن العدد الثاني والثالث من المجلة مقالات عدة تتحدث عن معاناة عمال بعض المنشآت، مثل عمال " محددة وآكنر"، الذين هُددوا بالطرد لأنهم طالبوا بزيادة أجورهم، وعمال  أحد مخازن الخشب في ميناء يافا، الذين تعرضوا للضرب على يد الشرطة الانكليزية، لأنهم حاولوا منع دخول عدد من العمال الجدد، الذين استقدمهم صاحب العمل ليحلوا محلهم، بعد أن أضربوا عن العمل مطالبين بزيادة أجورهم (34). وفي العدد الرابع، عرضت المجلة معاناة عمال "شركة شل" الانكليزية، التي "تتاجر ببيع الكاز والبنزين والزيت"، والتي افتتحت لها فرعاً في مدينة حيفا " من مدة كم سنة، كانت سنوات شقاء وعذاب للعمال الذين اشتغلوا بها"، والذين يعانون من قسوة العمل، وطول ساعاته اليومية، ومن قلة الأجور، ومن محدودية الدقائق المخصصة للغذاء، والتي لا تتجاوز العشر، ومن منعهم من "الخروج لبيت الراحة أثناء العمل" (35).

وتضمن العدد التاسع مقالاً عن "ضحايا العمل. بمناسبة تعدد حوادث الموت"، يشير إلى سقوط 15 عاملاً "صرعى الموت"، أثناء عملهم في مرفأ حيفا، الذي تريد الحكومة الاستعمارية أن تجعله ميناءً حربياً للأسطول الانكليزي، ويدعو العمال إلى أن يدركوا بأن العمل في هذا الميناء يكلفهم، في كل يوم، "قرابين بشرية"، وأن كل شبر من أرضه بات مروياً "بدماء إخوانهم من العمال الذين سقطوا ضحايا العمل فيه هدراً وضحايا مجانية دون أقل تعويض ما" (36).

وأجمل مقال نُشر في العدد الثاني عشر من "إلى الأمام"، بعنوان: "المطالب في أول مايو في فلسطين"، مطالب عمال فلسطين، السياسية والاقتصادية، فيما يلي: في الشق السياسي: إلغاء الحكم الاستعماري بواسطة ثورة شعبية وإنشاء حكومة عمال وفلاحين، وإلغاء وعد بلفور والانتداب وكافة امتيازات الصهيونيين ومقاومة طرد الفلاحين من أراضيهم ومقاومة طرد العمال العرب من محلات عملهم، وتحرير المساجين السياسيين، وعقد حلف حر بين اتحاد جمهوريات العمال والفلاحين العربية، ومقاومة كل اعتداء على حكومة العمال في اتحاد جمهوريات السوفيات؛ وفي الشق الاقتصادي: تحديد يوم العمل بثماني ساعات لجميع العمال وبست ساعات للشباب الصغار، ورفع أجور العمال ومساواة الأجرة بين العامل اليهودي والعامل العربي، وتوفير ضمانات للعمال، الذين يتعرضون لإصابات العمل، وللعاطلين عن العمل، على حساب الحكومة أو صاحب العمل، وإعطاء العمال الحرية التامة في تنظيم النقابات الصناعية (37).

وبخصوص معاناة الفلاحين العرب، تضمن العدد الأول من "إلى الأمام" مقالاً عن فلاحي "وادي الحوارث"، المهددين بالطرد من الأراضي التي باعها كبار الملاك العرب من "آل تيان" إلى المستوطنين  اليهود، والذين "توجهوا إلى الزعماء الوطنيين الذين لم يحركوا ساكناً من أجل نصرتهم"، لأنهم "ينتمون إلى طبقة الملاكين من أشكال آل تيان [الذين] يستغلون الفلاحين وسيطردونهم في المستقبل إذا وجدوا من يدفع لهم الجنيهات الكثيرة". بينما عزم الحزب الشيوعي الفلسطيني على نصرتهم، ودعا العمال إلى "أن يشدّوا أزر إخوانهم الفلاحين"، وأن يقفوا معهم "كالبنيان المرصوص ضد أي طرد أو اعتداء يقع [عليهم] من طرف الحكومة والملاكين والصهيونيين" (38).

وفي مقال آخر بعنوان: "الفلاحون والثورة"، نُشر في العدد الخامس من المجلة، عرض كاتبه موقف الفلاحين العرب خلال أحداث هبة عام 1929، حيث أشار إلى أن الفلاحين العرب عندما "هجموا على المدن والمستعمرات لم يكن واضح لهم الأمل، ولم يكن لهم غاية معينة"، وإنما هبّوا وانتفضوا "لأنه تراكم عندهم الحقد ضد ظلم مواطنيهم الملاكين الإقطاعيين، وضد نير المرابين شاربي الدماء، وضد ضغط الاستعمار الانكليزي السافل وضد احتيال  واغتصاب الصهيونيين المستعمرين للأراضي" (39).

في المحور الرابع، الذي عالج الشؤون العربية والدولية، ركّزت "إلى الأمام"، بوجه خاص، على الأحداث الجارية في مصر وسورية، فنشرت في عددها التاسع مقالاً عن انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1929 على الأوضاع الاقتصادية في مصر، أشار فيه كاتبه، في البدء، إلى أن "الأزمة الشديدة" الصناعية والزراعية، التي يعاني منها العالم الرأسمالي، والتي تسببت في "أزمة زراعية" خطيرة في الشرق، " لم تأت عن طريق الصدف أو غير منتظر حدوثها "، ولم تكن  "أول أزمة"  تصيب العالم الرأسمالي "المبني على الاستثمار الوحشي والفوضى في الإنتاج والملكية الفردية "، معتبراً أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر، لا سيما بعد تراجع أسعار القطن في الأسواق العالمية، ما هي  "إلا قسم من الأزمة العالمية، رغم تعليل بعض البرجوازية [المصرية] بأنها أزمة محلية... أو أزمة قطنية فقط يمكن الخروج منها بحسن سلوك الحكومة مع المزارعين". وبهدف تجاوز هذه الأزمة العالمية، ستسعى الدول الاستعمارية –كما أضاف- إلى اتّباع نهجين: "الهجوم على أجرة العمل (تخفيض الأجرة وزيادة ساعات العمل) في المتروبول"، من جهة، و "استثمار المستعمرات والأمم المستعبدة استثماراً وحشياً، كتخفيض أسعار المواد الخامية إلى الحد الأدنى، كالقطن والحبوب والكاوتشوك والحرير والمعادن والنفط، والاستيلاء على مشاريع البلاد والامتيازات المختلفة بأبخس الأثمان"، من جهة ثانية (40).  

في عددها الثالث عشر، الصادر في حزيران 1931، نشرت المجلة مقالاً، بعنوان: "الثورة في مصر"، يعرض أخبار الصدامات الدامية التي وقعت بين المتظاهرين، من " العمال والفلاحين وفقراء المدن"، وبين البوليس، والتي أدّت إلى "وقوع عشرات القتلي ومئات الجرحى". وبعد أن رفض كاتب المقال ادّعاء الصحف الوطنية بأن نضال عمال مصر وفلاحيها هو من أجل نصرة حزب الوفد، الذي "برهن بكل مواقفه أنه ضد كل ثورة على الاستعمار، وعلى الأخص ضد ثورة العمال والفلاحين المصريين في سبيل مطاليبهم الحياتية"، أعرب عن تشاؤمه من احتمال نجاح هذه الثورة في تحقيق أهدافها، وذلك لكونها "لم تسر تحت إدارة طبقية مدركة، ولم ينظمها حزب العمال الحقيقي"، الذي "لم يزل ضعيفاً وضعيفاً جداً "، نتيجة حملات القمع التي تستهدفه، في الوقت الحاضر، من قبل "بوليس صدقي باشا"، والتي استهدفته، في الماضي، من قبل "جواسيس الوفد يوم كان في كراسي الحكم" (41).

وبخصوص الأوضاع في سورية، نشرت "إلى الأمام" في عددها التاسع مقالاً يشيد بنجاحات الحزب الشيوعي السوري، الذي يقود بعزم وثبات، و "بقطع النظر عن الإرهاب والمقاومة وتعديات الاستعماريين وخيانة الزعماء"، خطة ثورية، جعلت الشيوعية "تعم البلاد السورية تقريباً"، وجعلت هذا الحزب يتحوّل إلى "الحزب الوحيد القائد للحركات الثورية في وقتنا الحاضر للبلاد السورية، وذلك رغماً عن أنف السياسة والحكومة الاستعمارية الأفرنسية التي سجنت أحسن رفاقه وأعضائه العاملين" (42).

كما نشرت في عددها الثالث عشر مقالاً، بعنوان: "الحالة السياسية في سوريا"، يشيد "بيقظة" جماهير العمال والفلاحين في سورية ولبنان، التي تزايد سخطها، في السنوات الأخيرة، على المستعمرين الفرنسيين، "من جراء انحطاط الحالة الاقتصادية"، وخاب أملها في "الكتلة الوطنية"، المكوّنة "من كبار الملاكين والتجار"، وباتت مقتنعة بأنه لا يمكنها الاعتماد، في نضالها، سوى على الحزب الشيوعي السوري، الذي يناضل من أجل "طرد المستعمرين الأفرنسيين وإقامة حكومة العمال والفلاحين في سوريا المتحدة"، إلى جانب نضاله من أجل "تنظيم العمال وتدريبهم على الكفاح ضد أرباب العمل"، ومن أجل "تقسيم أراضي الملاكين الكبار والشركات على الفلاحين" (43).

وركّزت "إلى الأمام"، في باب الشؤون الدولية، بوجه خاص، على الأحداث التي كانت تدور في الهند، حيث نشرت في عددها الأول مقالاً عن المذابح الدينية بين الهندوس والمسلمين في الهند، التي يعمل المستعمرون البريطانيون على إشعالها وتأجيجها بهدف  "إيجاد الفرقة دائماً بين العمال والفلاحين من الهندوس والمسلمين والحيلولة دون اتحادهم كي يتسنى لهم دائماً ظلمهم دون مقاومة "، لأنهم يدركون "أنه لو اتحد العمال والفلاحين من الطرفين لأخرجوا المستعمرين من البلاد" (44).

كما نشرت في عددها الخامس مقالاً " عن مؤتمر الجامعة الهندية الوطني"، الذي عقده "الوطنيون الإصلاحيون" الهنود، في أواخر كانون الأول 1929، بعد "تلميح حكومة العمال "الديقراطية" [في لندن] باستعدادها لإعطاء الهند حكم الدومنيون، أي الاستقلال تحت الرعاية البريطانية بدلاً من الحكم الاستعماري المباشر"، وقرروا فيه الموافقة على العرض البريطاني، لأن فيه "منفعتين" رئيسيتين  لهم: "خداع الجماهير العاملة الهندية وتخدير أعصابها بتفسيرهم لهم الدومنيون كاستقلال تام للهند"، من جهة، و "الوصول لمنصة الحكم والتربع على الكراسي والتنعم والتفخفخ على ظهور العمال والفلاحين الهنود"، من جهة ثانية (45). وعادت "إلى الأمام"، في عددها الثاني عشر، إلى الموضوع نفسه، حيث نشرت مقالاً  يفضح "خيانة" الزعيم الوطني الهندي غاندي، الذي خان "الحركة التحريرية الهندية"، لأنه بالحقيقة " ليس ممثل العمال والفلاحين في الهند بل هو ممثل التجار والأغنياء"، الذي "يدّعي التكلم بلسان الشعب الهندي، ولكنه في الحقيقة اعتنى واهتم فقط في شؤون طبقة الملاكين"، والذي رفض اللجوء إلى الكفاح المسلح، واكتفى بانتهاج نهج "المقاطعة"، التي تعود بالنفع " قبل كل شيء على أصحاب الفبارك الهندية" (46).

نشرة "جمعية المساعدة الحمراء"
كانت "جمعية المساعدة الحمراء"، المعنية بشؤون السجناء السياسيين في الأساس، من أنشط الجمعيات المساعدة للحزب. وقد أصدرت لجنتها المركزية نشرة باسم "المساعدة الحمراء"، أتيحت لي فرصة الاطّلاع على عدد واحد منها، صادر في نيسان (أبريل) 1929، مشتملاً على 16 صفحة على الآلة الكاتبة،  طبع في مطبعة الحزب الشيوعي الفلسطيني السرية على الأرجح. وقد تصدر الصفحة الأولى من هذا العدد  رسم  يعبّر عن شعار الجمعية، باللغتين العربية والعبرية، وهو عبارة عن يدين تخرجان من وراء القضبان وترفرفان بمنديل.

وفي افتتاحية هذا العدد، جرى التعريف بالجمعية بوصفها " الجمعية الوحيدة في كل العالم التي تساعد إخوانها العمال والفلاحين المحبوسين الذين يحربون [يحاربون] ضد الأغنياء... إنها تبعث الأكل الطيب للمحابيس الثوار لأنهم يأكلون أعطل الأكل في السجون، وتوقف لهم محامياً للدفاع عنهم، وتساعد عائلاتهم ".

وأشير إلى أن هذه الجمعية، التي تضم  " تحت لوائها الملايين من العمال الذين يعملون فيها بصورة فعلية وعشرات الملايين من المعاضدين والمناصرين لها"، موجودة في فلسطين كذلك " من سنة 1925 وهي تساعد كل العمال الثوار المحبوسين الذين يحربوا [يحاربون] ضد الظلم والاستغلال الآتي عليهم من الأغنياء ومن الاستعمار الانكليزي"، وهي جمعية "دولية"  لا تفرّق " بين الجنسيات والأديان"، الأمر الذي يفرض على " كل عامل وفلاح في فلسطين أن يدخل في صفوف الجمعية ويساعدها في عملها الجيد..." (47) .

وفي مقال آخر بعنوان: "هل جمعية المساعدة الحمراء هي جمعية خيرية؟"، بيّن كاتب المقال، في البدء، الاختلافات بين الجمعيات الخيرية التي يؤسسها الأغنياء " ليظهروا أمام العمال بمظهر الإنسانية والشفقة "، بينما هم " يظلمون العمال ويمتصون دماءهم دون شفقة وإنسانية"، وبين جمعية المساعدة الحمراء التي " غايتها مساعدة كل عامل وفلاح وقع بين مخالب الحكومة الظالمة وهو يطالب بحقه ويدافع عنه"، وذلك قبل أن يوجّه دعوة إلى العمال والفلاحين في فلسطين، يدعوهم فيها إلى الانضمام إلى جمعية المساعدة الحمراء، كي يشاركوا في مساعدة إخوانهم المكافحين " في سبيل فوز العمال والفلاحين المظلومين على أعداءهم الظالمين" (48).

كما تضمن العدد نفسه مقالين عن السجناء السياسيين في فلسطين ومطالبهم، حيث عرض المقال الأول، والذي كان بعنوان: "أقوال المسجونين السياسيين"، شهادات لسجناء من أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني، معتقلين في سجون سلطات الانتداب، ومنهم العامل "بوكسباوم"، الذي " أوقف ثلاثة وتسعين يوم في سجن عكا"، حيث يحرم المساجين " من الهواء، [و] تزرق أبدانهم وتنتفخ من البرد الشديد، [و] يداوون المساجين المرضا  بالكرباج"، والعامل "توسكار"، المسجون في قلعة عكا،  " لا لأجل سرقة أو سلب "، وإنما بتهمة أنه " من جمعية لجنة العمال (الفركتسيا) التي تسعى لإيجاد نقابات دولية للعمال في فلسطين "، والعامل "لوك"، الذي "انحكم ستة أشهر لاشتراكه في مظاهرة أول أيار سنة 1926" (49).

بينما تضمن المقال الثاني، بعنوان: "نحن نطلب"، مطالب السجناء السياسيين، ومنها  "إلغاء الوقوف "دغري" والركوع وتقييد المحابيس بالكلبشات أثناء نقلهم من السجن إلى المحكمة وبالعكس ومن سجن إلى آخر"، و " إلغاء معاقبة الجلد "، و " إخراج "الجردل" من غرف المحابيس والسماح لهم بـ "استعمال بيت الماء "، وتأمين " معاملة إنسانية " للسجناء ومجازاة الموظفين "الذين يضربون ويشتمون ويهينون المساجين"، وتوفير " أكل أحسن ويكون كافي للمعيشة"، و"التمييز بين محابيس عاديين وسياسيين "، و "عدم إلباس ألبسة السجن للمحابيس السياسيين"، و "السماح بإدخال الكتب والجرائد ومواد الكتابة والألعاب المسلية (شطرنج، طاولة زهر، ضامة) "، والسماح  "بالنزهة  مرتين باليوم ساعة كل مرة "، و "السماح لحضور الزائرين مرة بالأسبوع والسماح بإدخال الأكل من الخارج "، و "عدم إجبار المحابيس للشغل" (50).

السجال مع الصحافة غير الشيوعية
تابعت مجلة "إلى الأمام" السجال مع بعض الصحف العربية واليهودية التي كانت تتبنى توجهات متناقضة مع توجهاتها، أو كانت تساهم في الحملة التي كانت تستهدف الشيوعيين.

فمنذ عددها الأول، الصادر في آذار 1929، ردّت "إلى الأمام" على مقال نشرته "فلسطين"، ونعتتها بالجريدة "الخائنة" التي تلصق "التهم والأكاذيب" بالشيوعيين لأنهم يكشفون للعمال والفلاحين "عن خيانة الزعماء الذين تنطق بلسانهم "، ولأنهم يحملون على "الحكم الاستعماري الذي تخدمه".

وتابعت "إلى الأمام" بأن من الطبيعي أن تحارب جريدة "فلسطين"، التي "تخدم الاستعمار الانجليزي"، الحزب الشيوعي لأنه من "  ألد أعداء الاستعمار في فلسطين، فلذلك ترى جريدة فلسطين الخائنة أن من واجباتها تجاه المستعمرين محاربة هذا الحزب" (51).

وفي مقال بعنوان: "وادي الحوارث"، نشر في العدد نفسه، وتطرق إلى عملية طرد فلاحي وادي الحوارث من أراضيهم التي بيعت للمتمولين الصهيونيين، هاجمت "إلى الأمام" الجرائد العربية " التي طالما أسمعتنا الكلمات المزخرفة عن (الوطنية) والجهاد في سبيل مصلحة الشعب، وطالما كتبت الأعمدة الطويلة ترجو الاستعمار الانكليزي بطلب كرسي البرلمان للزعماء تحت حماية الانجليز باسم الوطنية والإنسانية"، لكنها "سكتت" عن عمليات طرد الفلاحين في وادي الحوارث، بل  " وحملت على الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي دعا العمال العرب واليهود لمناصرة الفلاحين بأنه تهييج وتحريض غير مشروع، وما كلام الجرائد الخائنة بهذا إلا تشجيعاً للملاكين والحكومة وللشركات الصهيونية بطرد الفلاحين من أراضيهم..." (52).

وفي عددها المزدوج الثاني والثالث، الصادر في أيار 1929، نشرت "إلى الأمام" "كتاباً مفتوحاً"، مرسلاً إليها من " فريق من الوطنيين المتطرفين العرب"، ينتقد فيه مرسلوه أصحاب الصحف العربية، وبخاصة "فلسطين" و "الجامعة"، الذين يحملون على الشيوعيين، لأنهم "ينبهون الفلاحين ويفتحون عيونهم ويحثونهم على عدم تسليم الأراضي التي يعيشون منها للصهيونيين"، ويدعون حكومة الانتداب إلى العمل "على استئصال شافة الحركة الشيوعية وقمعها قبل أن يستفحل أمرها لأنها تبث روح الثورة بين الفلاحين ".

وتوجه مرسلو "الكتاب المفتوح" إلى أصحاب الصحف العربية بالقول: "أيغضبكم أيها الحاملين لواء الوطنية والآخذين على عواتقكم إرشاد الأمة أن تتشبع بنيها بروح الثورة فيهبون في وجه الظلم والاستعمار ليتخلصوا من نيره، أم أنتم تفعلون ذلك لتجعلوا الحكومة راضية عنكم. ألا يكفي البرهان الساطع أن الشيوعيين هم أصدقاء الأهالي بأن الحكومة تطاردهم وتطهدهم وتعذبهم... وأقل ما كان يمكنكم عمله أن تقفوا على الحياد يا أصحاب الصحف ممن طلقوا الضمير والشرف لقاء وجاهة أو منفعة خاصة ليتلاعبوا مقابلها في مقدرات أمة تتوقف حياتها على إشباع وتعميم روح الثورة بين جميع طبقاتها" (53).

وعادت المجلة نفسها، في عددها الرابع الصادر في تموز 1929، إلى موقف الصحف العربية من مسألة تنظيم العمال العرب، حيث انتقدت، في مقال بعنوان: "يشفقون على العمال"، صحيفة "فلسطين"، التي دعت إلى أن يتولى حركة تنظيم العمال " محام أو دكتور ممن لا يشتبه في انتمائهم إلى الشيوعيين"، معتبرةً أن إدارة هذه الصحيفة، بدعوتها هذه، تظهر أنها تؤيد بالفعل تنظيم العمال العرب، " لكن على شرط أن يكون هؤلاء العمال تحت نفوذهم وسلطتهم، ويتولى رئاستهم محام أو دكتور أو صحافي (تكلم بصراحة) لأجل أن يستغلوهم بصورة منظمة ويدفعوهم في طريق الخيانة والغش والخداع"، وذلك خلافاً لموقف الشيوعيين، الذين يريدون تنظيم العمال " لا لأجل أن [يكونوا] آلة بيد الرأسماليين بل [ليكونوا] ضدهم" (54).

وبالتوازي مع حملتها على الصحف العربية "المعادية" للشيوعية، كانت "إلى الأمام" تنشر، بين الحين والآخر، مقالات تحذّر العمال العرب من الانخداع بما تكتبه الصحف الصهيونية الصادرة باللغة العربية، مثل صحيفة "صوت العامل"، التي أصدرها، المدعو  م. كابليوك، وهو " أحد رجال حزب البوعالي تسيون"، الذي أحس "بمسئولية تجاه الحركة الصهيونية فأصدر نشرة باللغة العربية... [لم] نعثر على شيء مفيد فيها"، وصحيفة "السلام"، التي غرضها الأساسي "إقناع" العمال والفلاحين العرب " بأن يعبدوا الانتداب والصهيونية اللذان أتيا بالخير والرقي والعمران للعامل والفلاح العربي؟ "، والتي "تبث الأفكار الرجعية تحت ستار الدفاع عن العامل والفلاح" (55).

السعي للتعاون مع بعض الأوسط الوطنية
بيد أن السجال مع الصحافة غير الشيوعية، والذي كان يتخذ طابعاً حاداً أحياناً، لم يمنع الشيوعيين الفلسطينيين من السعي إلى التعاون، في ميدان الصحافة، مع بعض الأوساط القومية العربية، وذلك انسجاماً مع توجهات اللجنة التنفيذية للكومنترن، التي شجعت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، منذ مطلع صيف عام 1926، على "الإعداد لإصدار صحيفة عربية غير حزبية تكون ذات اتجاه قومي-ثوري واضح" (56). وعادت وأكدت، في قرار جديد لها أقرته في الرابع من شباط 1927، ضرورة " إصدار صحيفة عربية غير حزبية، تكون ذات توجهات قومية ثورية "، مبديةً استعدادها، في هذا الصدد، ولدى البحث " في ميزانية الحزب الشيوعي الفلسطيني، أن تأخذ في الاعتبار التكلفة اللازمة لإصدار مثل هذه الصحيفة" (57).

ويبدو أن الشيوعيين الفلسطينيين قد تحمسوا لهذا المشروع، وسعوا إلى وضعه موضع التنفيذ، معتبرين أن مثل هذه الصحيفة ستكون بمثابة "الأرضية الحقيقية" لتعاونهم مع "القوميين الثوريين" العرب في فلسطين. وفي هذا الاتجاه، طلبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني، في 24 تموز 1926، من قيادة الكومنترن أن تفي بتعهدها، وأن ترسل لها المبالغ المالية اللازمة لإصدار هذه الصحيفة، مقدّرةً  أنها " ستحتاج  في الشهور الثلاثة الأولى إلى مبلغ وقدره 1700 جنيه" (58).

ويستفاد من أحد التقارير الحزبية المرسلة من فلسطين إلى موسكو أن الحزب قد تعاون فعلاً، في تلك الفترة،  مع بعض القوميين العرب في إطار صحيفة "الاتحاد العربي"، إلا أن هذا التعاون لم يستمر طويلاً، حيث توقفت هذه الصحيفة  بعد فترة قصيرة عن الصدور " بسبب افتقارها إلى الأموال". ومع أن قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني نجحت في إقامة "صلات مع جريدة أخرى أوسع نفوذاً من الأولى "، إلا أنها بقيت تشكو من ضعف إمكانياتها المادية، وتؤكد حاجتها " إلى 320 روبلاً في الشهر "، كي تستمر في متابعة هذا الجهد (59).

وبعد هبة "البراق" في عام 1929، طرحت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني فكرة إصدار صحيفة مشتركة على حمدي الحسيني، الذي كان يُنظر إليه باعتباره أحد أبرز ممثلي الجناح "القومي الثوري" في إطار الحركة الوطنية العربية في فلسطين. ففي أحد التقارير السرية الواردة إلى موسكو من قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، نقرأ ما يلي:  "بعد انقطاع طويل عن مجموعة حمدي الحسيني، نجحنا في إعادة الاتصال معها. وقد وافق حمدي الحسيني مبدئياً على فكرة الصحيفة، لكنه طلب أن نمهله شهراً أو شهرين" (60).

ويبدو أن مشروع إصدار هذه الصحيفة، والذي لم يرَ النور آنذاك، بقي مسيطراً على تفكير قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي أرسلت في مطلع أيلول 1933 تقريراً إلى موسكو، تؤكد فيه أنها لا تزال تنتظر من الكومنترن " الرد السريع على مقترحنا بشأن حمدي الحسيني وخطته لإصدار صحيفة علنية" (61).

وبعد عامين على ذلك التقرير، أعاد الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني "يوسف"، أو رضوان الحلو، بعد رجوعه إلى فلسطين من موسكو، حيث شارك في أعمال المؤتمر العالمي السابع للكومنترن، أعاد طرح فكرة إصدار هذه الصحيفة، وهو ما يتبيّن من الرسالة التي أرسلها إلى موسكو، في 21 تشرين الثاني 1935، والتي ورد فيها: "خلال وجودي في موسكو، تحدثنا عن موضوع إصدار صحيفة سياسية تغطي البلدان العربية كافة... وقد شرعنا من جانبنا في العمل لإنجاز هذا المشروع، وبنينا آمالنا على المساعدة المادية التي قررتم منحها لنا بعد اطّلاعكم على رسالة حمدي الحسيني، وبعد النقاشات التي دارت حول المقترحات التي تقدمنا بها، أنا والرفيق رمزي [خالد بكداش]. وقد تسلمت إلى الآن مبلغاً بسيطاً من المال (4000 فرنك) لا يكفينا سوى لشهر ونصف الشهر... وبالطبع، فأنتم تعلمون أن حمدي الحسيني، الذي سيضطلع بمهمة إنجاز هذا المشروع، لن يتمكن من مواصلة العمل ما لم نقدم له المبلغ في الوقت المناسب. بل سيكون من الصعب علينا نحن مواصلة نشاطنا في إطار الحركة الوطنية إذا لم نلتزم بوعدنا.

وأود إعلامكم أن تحقيق فكرة إصدار هذه الصحيفة قد لا يحتاج إلى ستة أشهر من العمل التمهيدي، بل يمكن الشروع فوراً في إصدارها لأن الظروف مؤاتية، ولا يحول بيننا وبين ذلك سوى افتقارنا إلى المال.

وقد بدأنا بالعمل التحضيري لذلك، وقررنا أن ندفع لحمدي الحسيني 30 جنيهاً فلسطينياً في الشهر (أي حوالي 2200 فرنك). ومن هنا، فأنا أرجوكم بإلحاح أن تبعثوا إلينا بالمبلغ اللازم لإنجاز هذا العمل" (62).

بيد أن الأحداث التي شهدتها فلسطين في عام 1936، وبخاصة بعد اندلاع الإضراب العربي العام، قد قضت نهائياً، على ما يبدو، على هذا المشروع.

الهوامش
1- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 397.
2- المصدر السابق، ص 411.
3-المصدر نفسه، ص 257.
4-البديري، تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين، ص 181-186.
5-المصدر السابق، 187-190.
6- الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 251.
7- المصدر السابق، ص 282.
8-المصدر نفسه، ص 398-400.
9-المصدر نفسه، ص 406-408.
10-الشريف، الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين، ص 69-72.
11- إلى الأمام، العدد 1، آذار 1929، ص 2-5.
12-المصدر السابق، العدد 1، ص 6-8.
13-المصدر نفسه، العدد 2-3، ص
14-المصدر نفسه، العدد 9، ص 5-7.
15- المصدر نفسه، العدد 2-3، ص 5-7.
16-المصدر نفسه، العدد 4، ص 13-15.
17-المصدر نفسه، العدد 5، ص 2.
18-المصدر نفسه، العدد 5، ص 8.
19- المصدر نفسه، العدد 1، ص 13-14.
20-المصدر نفسه، العدد 4، ص 11-12.
21-المصدر نفسه، العدد 4، ص 17.
22-المصدر نفسه، العدد 13، ص 6-7.
23-المصدر نفسه، العدد 2-3، ص 2-3.
24-المصدر نفسه، ملحق العدد 2-3، ص 4.
25-المصدر نفسه، العدد 13، ص 2-3.
26-المصدر نفسه، العدد 4، ص 6-7.
27- المصدر نفسه، العدد 9، ص 1-2.
28-المصدر نفسه، العدد 9، ص 7-8.
29-المصدر نفسه، العدد 5، ص 5.
30- المصدر نفسه، العدد 4، ص 2-4.
31- المصدر نفسه، العدد 12، ص 3.
32-المصدر نفسه، العدد 13، ص 7-8.
33- المصدر نفسه، العدد 1، ص 11-13.
34-المصدر نفسه، العدد 2-3، ص 3، و ص 11.
35-المصدر نفسه، العدد 4، ص 12-13.
36-المصدر نفسه، العدد 9، ص 4.
37-المصدر نفسه، العدد 12، ص 1-2.
38-المصدر نفسه، العدد 1، ص 1.
39-المصدر نفسه، العدد 5، ص 3.
40-المصدر نفسه، العدد 9، ص 2-3.
41-المصدر نفسه، العدد 13، ص 3-4.
42-المصدر نفسه، العدد 9، ص 5.
43-المصدر نفسه، العدد 13، ص 4-6.
44-المصدر نفسه، العدد 1، ص 14-15.
45-المصدر نفسه، العدد 5، ص 4.
46-المصدر نفسه، العدد 12، ص 5-6.
47-المساعدة الحمراء، أبريل (نيسان) 1929، ص 1-3.
48-المصدر السابق، ص 13-15.
49-المصدر نفسه، ص 6-9.
50-المصدر نفسه، ص 16.  
51-إلى الأمام، العدد 1، مارث (آذار) 1929، ص 10.
52-المصدر السابق، العدد 1، آذار 1929، ص 1.
53-المصدر نفسه، العدد 2-3، مايو (أيار) 1929، ص 12-13.
54-المصدر نفسه، العدد 4، يوليو (تموز) 1929، ص 9.
55-المصدر نفسه، العدد 5، يناير (كانون الثاني) 1930، ص 6.
56-الشريف، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، ص 156.
57-المصدر السابق، ص 171 .
58-المصدر نفسه، ص 159.
59-المصدر نفسه، ص 183.
60-المصدر نفسه، ص 286.
61-المصدر نفسه، ص 385-386.
62-المصدر نفسه، ص 438.

المصادر
-المؤلفات
البديري، موسى، تطوّر الحركة العمالية العربية في فلسطين. مقدمة تاريخية ومجموعة وثائق 1919-1948، بيروت، دار ابن خلدون، 1981.
الشريف، ماهر (جمع وتقديم)، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004.
-المجلات والنشرات
مجلة إلى الأمام.
نشرة المساعدة الحمراء.
الحلقة الرابعة
قبل اندلاع الإضراب العربي العام في فلسطين، في نيسان 1936، كان الكومنترن قد تخلّى، في مؤتمره العالمي السابع المنعقد بموسكو في صيف عام 1935، وأمام تصاعد خطر الفاشية، عن نهجه "اليساري الانعزالي"، وطرح أمام جميع فروعه الوطنية مهمة العمل على إقامة جبهة شعبية موحدة معادية للفاشية وللحرب، كما دعا الأحزاب الشيوعية في المستعمرات وشبه المستعمرات إلى السعي من أجل توحيد كل القوى المناضلة في سبيل التحرر الوطني، في إطار "جبهة موحدة معادية للامبريالية"، والمساهمة في كل النضالات الوطنية التحررية، حتى ولو كانت تجري تحت قيادة العناصر "القومية الإصلاحية".

وانسجاماً مع توجهات الكومنترن هذه، تبنت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني سياسة "الجبهة الشعبية الموحدة"، التي توحد كل القوى الوطنية العربية الفلسطينية في النضال ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، وأصدرت، بالاستناد إلى هذه السياسة الجديدة،  في 5 حزيران 1936 ، العدد الأول من صحيفة: "الجبهة الشعبية".

صحيفة "الجبهة الشعبية " من حيث الشكل والمضمون
وقد أتيحت لي فرصة الاطّلاع على 15 عدداً من هذه الصحيفة، تغطي الفترة الواقعة ما بين 12 حزيران و 16 تشرين الأول 1936. وكانت الأعداد الستة الأولى من "الجبهة الشعبية"، التي لا يُعرف بالتحديد متى توقفت، قد صدرت بوصفها لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم راحت تصدر، اعتباراً من العدد السابع، كلسان حال الحزب الشيوعي الفلسطيني. وتراوح حجم هذه الصحيفة، التي كتبت مقالاتها بخط اليد وبلغة عربية سليمة إلى حد كبير، من عدد إلى آخر، حيث اشتمل بعض أعدادها على صفحتين فقط، بينما اشتملت أعداد أخرى على أربع صفحات.

وعلى الصعيد الفني، عانت الصحيفة من ضعف إخراجها، ومن غياب الرسوم والصور عنها. وفي الوقت الذي غاب عنها رسم المنجل والمطرقة وشعار: "يا عمال العالم اتحدوا"، تصدرت الصفحة الأولى لبعض أعدادها عبارات، مثل:  " قوموا بواجبكم نحو الثوار وقدموا الذخائر"، " ساعدوا المنكوبين وعائلاتهم"،  "ساعدوا الثوار بالذخيرة والمؤن"، بينما تذيّلت بعض صفحاتها عبارات، مثل: " اقرأها واعطها لغيرك"، "انشرها بين إخوانك"، " اعطها لأصدقائك".

وبخصوص التوزيع، يستفاد من تقرير أرسلته قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى موسكو، في 1 تشرين الثاني 1937، أن الحزب كان يصدر ويوزع  3000 نسخة من كل عدد من صحيفة "الجبهة الشعبية"، كانت تساعده في توزيعها " عناصر وطنية أخرى" (1).  

أما موضوعات المقالات، التي تنوعت كثيراً، فقد عالجت، في المقام الأول، القضايا المحلية، وبخاصة أحداث الثورة الفلسطينية، وإلى حد ما القضايا العربية والدولية.
فالعدد الثاني من "الجبهة الشعبية"، الصادر في 12 حزيران 1936، تضمن أربعة مقالات، تستعرض إنجازات الثورة الفلسطينية بعد ستة وخمسين يوماً على اندلاعها، وتدعو إلى إحياء ذكرى شهداء "هبة البراق" الثلاثة : فؤاد حجازي، وعطا الله الزير، ومحمد جمجوم ، الذين استشهدوا في 17 حزيران، وتنقل أخبار المعارك الدائرة بين الثوار والجنود الانكليز.

بينما تضمن العدد الثالث، الصادر في 19 حزيران 1936، مقالين، يدين الأول منهما مخطط السلطات البريطانية الرامي إلى هدم البلدة القديمة في مدينة يافا، بينما يفضح ثانيهما "دعايات الاستعمار والرجعية ضد الشيوعية"، حيث أشار كاتبه إلى أن المستعمرين والرأسماليين، في البلدان الديمقراطية، يحاربون الحركة الشيوعية  "باسم الديمقراطية والحرية، زاعمين أن الشيوعية تقضي عليهما"، بينما يزعمون في بلدان الشرق "  أن الشيوعيين يحاربون الأديان ويهدمون الجوامع والكنائس ويقضون على العائلة والشرف"، كما يشيعون أن الحركة الشيوعية هي "لا قومية ولا وطنية"، حتى " بلغ بهم الحقد المميت على الشيوعيين أن خيالهم الواسع في الكذب والدس أوصلهم إلى جعل الحركة الشيوعية فرعاً للحركة الصهيونية". ويعلّق الكاتب، على هذا "الاتهام" الأخير، فيكتب: " ليس هناك من يجهل أن الصهيونية هي جزء لا يتجزأ من الاستعمار البريطاني. فهي رأسمالية يهودية-انكليزية في فلسطين، فكيف يمكن أن تتفق مع الشيوعية التي تناضل للقضاء على الاستعمار والرأسمالية! فإذا كانت الحركة الشيوعية فرعاً للصهيونية،  فلماذا يسلّط الاستعمار البريطاني في فلسطين إرهابه الوحشي على الشيوعيين؟... إن الشيوعيين في البلاد العربية يناضلون لأجل استقلال البلاد العربية وضم أجزائها في وحدة عربية...".
في عددها السادس، الصادر في 10 تموز 1936، عادت "الجبهة الشعبية" إلى المخطط البريطاني الرامي إلى هدم البلدة القديمة في مدينة يافا، حيث أشارت، في مقال لها بعنوان: "أضاليل الاستعمار"، إلى أن حكومة الاستعمار زعمت " أنها تريد التنظيم والتجميل في مدينة يافا القديمة فنسفت المنازل بالديناميت"، وكشفت بذلك أهداف سياساتها "الهدامة"، التي "كانت هذه الجريدة المتواضعة أول من كشف النقاب عن وجه[ها]". كما تضمن العدد نفسه العديد من الأخبار عن " أعمال السرقة والنهب" التي ارتكبها الجنود الانكليز في مدينة يافا القديمة، وعن المعارك الجارية بين الثوار الفلسطينيين والجنود الانكليز.

واشتمل العدد الثامن، الصادر في 25 تموز، على أخبار "من ميادين القتال"، ومن شرق الأردن، كما تضمن مقالات ثلاثة، الأول بعنوان: "اللجنة الملكية مناورة استعمارية"، يؤكد فيه كاتبه أن المستعمرين البريطانيين قد عمدوا إلى تحطيم ثورات الشعب الفلسطيني التحررية بسلاحين: " سلاح التقتيل والتدمير والظلم والإرهاب، وسلاح التضليل باسم "اللجان""، داعياً الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية " إلى مقاطعة اللجنة الملكية والاستمرار في الجهاد". أما المقال الثاني، فقد نشر بمناسبة مرور 100 يوم على إعلان الإضراب العام " الذي تجلت فيه روح التضحية والإخاء والتضامن واتحاد الأمة المتين في جبهة شعبية متراصة الصفوف". بينما استغرب كاتب المقال الثالث "مكابرة" زعماء الحركة الصهيونية، الذين  "يتظاهرون بأن الإضراب الشعبي لم يؤثر عليهم".

وضمن كادر في وسط الصفحة الرابعة، من العدد نفسه، عرضت "الجبهة الشعبية" مبادئ ميثاقها، وهي: " مقاومة الاستعمار والصهيونية ومحاربتهما بلا هوادة ورحمة؛ النضال الثوري لتحرير فلسطين واستقلالها ضمن الوحدة العربية؛ والدفاع عن حقوق العمال والفلاحين".

في العدد التاسع، الصادر في 1 آب 1936، نشر مقال افتتاحي بعنوان: "اليوم الرهيب"، استعرض كاتبه النضالات التي خاضها الشعب الفلسطيني، بمناسبة مرور 100 يوم على اندلاع ثورته، حيث  "استقبلت الأمة يوم المائة للجهاد الشعبي بقلوب تلتهب حمية وشجاعة وبرهنت على أنها مستعدة لخوض غمار مائة أخرى، بل ومئات أمثالها. عمّ  جهاد الشعب في هذا اليوم جميع المناطق وهاجم المجاهدون جنود الظلم وقاتلوهم حيث وجدوهم وأفنوا منهم عدداً كبيراً. وهوجمت دوائر البوليس ومراكز الجند وأكثرية المستعمرات الصهيونية...".

كما نشرت الصحيفة، في العدد نفسه، أخباراً عن أحداث الثورة في غزة، وطبريا، وشرق الأردن، وأخبار المعارك في قافون، وباب الواد، وعنبتا، بالإضافة إلى مقال يستعرض كاتبه كيفية "توغل" الصهيونية في فلسطين، حيث " أبدى الصهيونيون نشاطاً عظيماً في استيلائهم على كمية كبيرة من أخصب الأراضي وأحسنها، كما تمكنوا من احتلال الأعمال وطرد العمال العرب منها". وقد ساعدهم على توغلهم هذا " أصحاب الأراضي الشاسعة الذين باعوا وطنهم قبل أن يبيعوا أراضيهم، كما ساعدهم الاستعمار البريطاني في طرد الفلاحين".

في منتصف الصفحة الأولى من عددها الصادر في 7 آب 1936، وضمن إطار مستطيل الشكل، نشرت "الجبهة الشعبية" مبادئ ميثاق الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي: " النضال الثوري التحريري ضد الاستعمار والصهيونية؛ العمل لاستقلال فلسطين استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية؛ مصادرة أراضي الشركات الصهيونية وأراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين الفقراء توزيعاً عادلاً؛ تأهيل المعامل والفبارك والمواصلات البرية والبحرية والجوية ووضعها تحت سيطرة سلطة الشعب؛ ومصادرة كل أملاك وعقار المهاجرين البعيدين".

وتضمن العدد نفسه أخباراً عن نابلس "الثائرة"، وعن "الثوار في جبل النار"، وعن قتل أحد "الخائنين" و عن محاكمة بعض الشيوعيين اليهود الذين هتفوا " أمام القضاء بسقوط الاستعمار والصهيونية وبحياة فلسطين عربية حرة مستقلة".
العدد الحادي عشر من الصحيفة، تاريخ 14 آب 1936، تضمن مقالاً افتتاحياً عن الذكرى الثامنة لثورة 1929، " تلك الثورة التحريرية التي أهرق الشعب فيها دماء المئات من أبنائه في سبيل استرجاع حريته التي هو ثائر من أجلها الآن". كما تضمن مقالاً جديداً يفضح دور "لجنة بل" البريطانية بعنوان:  ""اللجنة الملكية" خدعة استعمارية!!"، بالإضافة إلى مقالات إخبارية عن معارك الثوار الفلسطينيين، وعن مظاهرات عمال تل أبيب المطالبة بالخبز، وعن إضراب عمال سكة الحديد في حيفا، ومحاولة الحكومة البريطانية كسره من خلال استقدام بعض العمال "من المجدل وغزة ليحلوا مكان المضربين". وقد وجهت الصحيفة نداءً إلى العمال الذين "أغرتهم  الحكومة، لتحطيم الإضراب ومقاومة الأمة بأسرها، أن لا يكونوا أداة هدامة في أيدي المستعمرين".

في عددها الثاني عشر، الصادر في 21 آب  1936، عادت "الجبهة الشعبية" إلى الذكرى   الثامنة لثورة 1929، لتؤكد على أن " التاريخ يعيد نفسه"، حيث عاد الاستعمار البريطاني ليلعب الدور نفسه إزاء ثورة الشعب الفلسطيني الحالية: " فبعد أن عجزت قوته الجهنمية عن خنق الثورة والوقوف في وجه الشعب الثائر، وصد تياره الجارف، التجأ إلى المورفين السياسي ليخدر أعصاب الأمة ويقضي على ثورتها"، وهذا " المورفين السام، وهذا المخدر الخطر"، تمثّل في لجنة التحقيق الملكية، التي قاطعتها الأمة بعد أن تيقنت بأنها لن تنال حقوقها "كاملة غير منقوصة" إلا عبر "النضال الثوري ومقاتلة المستعمرين ".

وفي باب الشؤون الدولية، تضمن العدد نفسه المقال الأول من سلسلة مقالات ستنشرها "الجبهة الشعبية" تباعاً عن "الثورة الفاشيستية في اسبانيا" وعن المواقف المختلفة حيالها .

العدد الثالث عشر، تاريخ 28 آب 1936، تضمن مقالاً رئيسياً  ينبّه إلى ضرورة التيقظ والحرص على جميع  حقوق الشعب ومطالبه في مواجهة تدخل " بعض الشخصيات البارزة من البلدان العربية الشقيقة للعمل والتوسط بين اللجنة [العربية] العليا والحكومة لإنهاء الإضراب وإيقاف الثورة وإجابة مطاليب البلاد"، ويدعو اللجنة العربية العليا لفلسطين إلى " نشر كل ما يدور حول قضيتنا العامة والشروط التي تكفل ضمان إجابة مطاليب البلاد، [وأن] تقف موقفاً حازماً يضمن تحقيق مطاليب البلاد بحذافيرها، وأن تؤدي الأمانة التي ائتمنت عليها خير أداء". كما نُشر فيه مقال مهم  آخر، ينفي فيه كاتبه عن الشيوعيين "تهمة" قتل ممرضتين يهوديتين في مدينة يافاً، ويحمّل مسؤولية ذلك إلى " رجال الاستعمار الانجليزي، بالاتفاق مع الهيئات الصهيونية " وذلك " لكي تتمكن السلطة الاستعمارية من تشويه حركتنا التحريرية وصبغها بلون إجرامي فظيع تلوّح  به أمام الرأي العام العالمي". وقد اختتم هذا المقال بالتأكيد على أن الشعب العربي الفلسطيني "يسمو على انتهاج هذه الطرق الوضيعة وهو يحارب جيشاً مسلحاً بأحدث آلات الفتك والدمار". كما تضمن العدد مقالاً عن المؤتمر القروي الكبير، الذي انعقد، بمساهمة بارزة من الحزب الشيوعي، في قضاء بني صعب لإعلان التمسك الحازم بمطالب الثورة.

العدد الخامس عشر، الصادر في 11 أيلول 1936، ركّز في كل مقالاته على فضح سياسة الحكومة الاستعمارية إزاء الثورة ومطالبها، داعياً إلى أن يكون رد الشعب على هذه السياسة من خلال لجوئه إلى الخطوات التالية: " التعبئة العامة والانضمام سريعاً إلى جيش الثوار؛ عرقلة المواصلات البرية والبحرية والبرق في كل مكان؛ عدم تموين الجيش وبيعه أي شيء كان؛ النضال المستميت لا للمطالب الثلاثة فقط [وقف الهجرة؛ وقف انتقال الأراضي؛ تشكيل حكومة وطنية] بل للاستقلال [أيضاً]".

وإزاء المخاطر الداخلية التي صارت تواجهها الثورة، نبّهت "الجبهة الشعبية"، في عددها السادس عشر الصادر في 18 أيلول 1936، الشعب العربي الفلسطيني إلى ضرورة "متابعة النضال وتشديده "، باعتبار  ذلك هو "الطريق الوحيدة لنيل المطاليب"، ودعته إلى توحيد صفوفه والاستمرار في إضرابه وثورته  و"الضرب على يد كل من تحدثه نفسه أن يتلاعب بتضحيات الشعب أو يستهين بدماء شهدائه".

كما انتقدت، في مقال آخر، موقف اللجنة العربية العليا لفلسطين، وردها "الهزيل" على سياسات الحكومة الاستعمارية، وهي التي  " أخذت على عاتقها مشاركة الشعب في جهاده والعمل على تحقيق الدستور الذي وضعته الأمة". وهاجمت الأغنياء الفلسطينيين، الذين "تخلفوا" عن الصفوف"، وباعوا "أرض الوطن إلى الصهيونيين"، ودعتهم إلى "التكفير عن سيئاتهم"، من خلال تقديم بعض أموالهم لمواساة " اليتامى الذي فقدوا آباءهم في ميادين الجهاد"، و " لمساعدة المجاهدين الذين جادوا  ويجودوا بأرواحهم ودمائهم لتخليص الوطن من براثن الاستعمار والصهيونية".

وفي باب الشؤون العربية، تضمن العدد السادس عشر مقالاً بعنوان: "كل من سار على الدرب وصل"، يشيد كاتبه بالانتصار الوطني الذي حققه الشعب السوري، والذي تمثّل بتوقيع معاهدة عام 1936 مع حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا، معتبراً  أن الحرية التي سيرفرف "علمها في أرجاء القطر الشقيق"، ستبعث في الشعب الفلسطيني " روح الأمل والثبات والتضحية". كما تضمن خبراً عن انضمام مجاهدين من لبنان إلى صفوف الثورة الفلسطينية.

وفي باب الشؤون الدولية، نشرت المجلة، في العدد نفسه، مقالاً بعنوان: "العمائم السوداء في خدمة الاستعمار والفاشيستية"، يحذّر فيه كاتبه من خطر الفاشية على السلام العالمي، ولا سيما بعد أن بدأ زعماؤها الاستعداد " لإشعال نيران حرب استعمارية لإعادة تقسيم المستعمرات والهجوم على الاتحاد السوفياتي، وطن العمال، واستعباد الأمم الضعيفة". كما ينتقد فيه المواقف التي اتّخذتها حاضرة الفاتيكان التي "تهرول أمام الفاشيستية وتمهد لها طريق حرب ضروس لا تبقي ولا تذر"، وتصدر أوامرها لأتباعها، حتى في فلسطين، كي " يقدحوا بحق الشيوعيين ونعتهم بأقبح الصفات"، كما فعل "المونسيور مغبغب" راعي الكاتدرائية الكاثوليكية بالقدس، الذي هاجم المبادئ الشيوعية بدلاً من أن يبحث " عن الوسائط الفعالة للقضاء على الاستعمار البريطاني والصهيونية المجرمة...".

وفي العدد السابع عشر، الصادر في 25 أيلول 1936، نشرت الصحيفة "تحية من سوريا"، تؤكد على أن  سوريا وسائر الأقطار العربية " لا يمكن أن تعزز استقلالها ولا أن تطمئن على مصيرها إلا بانتصار فلسطين العربية على الاستعمار البريطاني والصهيونية ألد أعداء أماني العرب الاستقلالية". كما نشرت، إلى جانب بعض أخبار حوادث الثورة، مقالاً يشيد بدور الطلاب الفلسطينيين، "عنصر البلاد القوي ومصدر حيويته"، الذين أرادتهم الحكومة الاستعمارية  " قوالب تنفث بها سموم برامجها الاستعمارية الأثيمة"، فأبوا إلى أن يكونوا "في  صفوف المناضلين عن حقوق الأمة"، فساروا في  مختلف الميادين  " تاركين وراءهم الشهداء والضحايا ممن تركوا مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات ليلتحقوا بأبطال الثورة".

وفي باب الشؤون الدولية، عادت الصحيفة إلى الحرب الأهلية الاسبانية، التي وصفتها بأنها "حرب رجعية فاشيستية ضد الحرية والديمقراطية"، لا تقتصر مخاطرها على الشعب الاسباني وحده، بل " يصيب الشعب العربي منها أوخم العواقب، ولا سيما عرب مراكش الذين بدأوا يشعرون بفداحة الخطأ الذي يرتكبونه في مناصرة الفاشيست الاسبان". وبعد أن أشار كاتب المقال إلى أن الشعب العربي قد " وقف  في سائر أقطاره إلى جانب حكومة الجبهة الشعبية" في اسبانيا، أكد بأن عرب فلسطين " الذين يناضلون منذ أكثر من خمسة أشهر ضد الاستعمار البريطاني وضد الصهيونية الفاشستية لن يقفوا غير موقف إخوانهم العرب في جميع أقطارهم".

في العدد الثامن عشر، الصادر في 2 تشرين الأول 1936، والذي لم تقع بين أيدينا سوى صفحة واحدة منه، نشرت الصحيفة مقالاً بعنوان: "عطف الشعوب العربية والشرقية على فلسطين المفجوعة المجاهدة"، أشار فيه كاتبه إلى أن حركة العطف على فلسطين " آخذة بالاشتداد في جميع الأقطار العربية والشرقية وبين الجاليات العربية في أمريكا الشمالية والجنوبية"، حيث قام كل قطر عربي بتخصيص يوم  سمّاه "يوم فلسطين" ، كما اتسعت مظاهر العطف على فلسطين بين مسلمي الهند وتركيا وإيران والأفغان"، الأمر الذي جعل قلب الصهيونيين ينخلع "رعباً من هذه الحركة العربية والشرقية "، وجعل زعماءهم " يقومون بنغمة جديدة، نغمة التفاهم مع العرب، ويقترحون مؤتمر مائدة  مستديرة، وقد فاتهم أن الشعب العربي في فلسطين وغير فلسطين لا يعترف بالصهيونية ولا بالصهيونيين، ولا يعترف بإنشاء وطن صهيوني داخل وطنه ".
  
العدد التاسع عشر من "الجبهة الشعبية"، صدر في 9 تشرين الأول 1936 بعد الإعلان عن وساطة الملوك والأمراء العرب. لذلك كان من الطبيعي أن يتضمن مقالاً رئيسياً، يؤكد فيه كاتبه أن الحزب الشيوعي الفلسطيني، إذ "يرحب بوساطة الملوك العرب في قضية فلسطين العربية"، يأمل منهم  أن يقدّروا " حق التقدير ما تكبده الشعب العربي في نضاله الشاق من أنواع الألم والحرمان والتضحية"، وأن يقدّروا أيضاً " قوة العطف العظيم الذي يلقاه نضال فلسطين في جميع الأقطار العربية والشرقية، ومبلغ ما عند الشعب [الفلسطيني] من ثبات وعزيمة وتصميم"، وأن يعملوا، وفقاً لهذه الاعتبارات، كي تحقق مبادرتهم للشعب العربي "مخرجاً شريفاً من نضاله البطولي يضمن له تنفيذ مطاليبه الأولية العادلة، في وقف الهجرة الصهيونية، ومنع بيع الأراضي العربية وإنشاء حكومة دستورية وطنية"، كما يضمن له  "العفو العام عن جميع المساجين والمعتقلين والمحكومين بسبب حوادث الإضراب والثورة"، و"إرجاع كل العمال العرب إلى مراكزهم التي احتلها الصهيونيون أثناء الإضراب في كل المشاريع".

وبعد صدور نداء الملوك والأمراء العرب الداعي إلى وقف الإضراب الفلسطيني، نشرت "الجبهة الشعبية" في عددها العشرين، الصادر في 16 تشرين الأول 1936، مقالاً رئيسياً بعنوان: "الأمة تخرج من النضال أصفى جوهراً وأصلب عوداً: لا رجوع إلى عهد المشاحنات الحزبية والعائلية"، أشارت فيه إلى أن الشعب العربي الفلسطيني قد أنهى " نضال نصف عام، ضرب فيه المثل الأعلى للبطولة والكرامة والشجاعة وسجّل أمام العالم كله بدماء أبنائه الطاهرة حقه الخالد في وطنه العزيز وحريته المقدسة". وفي هذا النضال الطويل، " تبلورت عناصر الأمة... وصفت جواهرها، فانسل من بين صفوفها الجبناء الخائرون الأشحاء الذين لا يهمهم من أمر وطنهم غير ما يستثمرون من قوى أبنائه ويمتصون من دمائهم، وثبت الشجعان الكرام الجديرون بهذا الوطن في الصفوف يقاتلون ويناضلون". وبعد الإشادة بدور التنظيم والاتحاد في إظهار قوى الأمة الثورية و "إبراز شجاعتها وكل ما فيها من بطولة وتضحية"، والدعوة إلى الحفاظ على "وحدة الصفوف" و"على  التشكيلات التي قامت أثناء الإضراب"، أكد الكاتب أن "الشباب والطلاب والمثقفين والعمال والفلاحين وكل عناصر الأمة النشيطة التي أبلت في النضال خير بلاء لن تسمح بأن يعود التفكك والانقسام إلى صفوف الأمة، ومن كان لا يطيق تحمل المسؤولية فليتنح بهدوء ويترك المكان لمن هو أوفر استعداداً".

سجال "الجبهة الشعبية" مع الصحافة غير الشيوعية
وواصلت صحيفة "الجبهة الشعبية" ما كانت قد بدأته زميلاتها من الصحف والمجلات، التي أصدرها الحزب الشيوعي الفلسطيني، وانخرطت بدورها في سجالات مع الصحف العربية والصهيونية، التي كانت تتخذ مواقف "معادية" للشيوعية.

ففي عددها التاسع، الصادر في أول آب 1936، وتحت عنوان: "الدساسون"، نشرت "الجبهة الشعبية" مقالاً ينتقد الجرائد الصهيونية، التي اتهمت الشيوعيين بالوقوف وراء حادثة "إلقاء قنبلة" على مدرسة للطلبة اليهود، واقعة على حدود يافا-وتل أبيب، ويأخذ، في الوقت نفسه، على الجرائد العربية "انخداعها" بـ "دعاية الصهيونيين الإجرامية". وفي سياق التبرؤ من "تهمة" إلقاء القنبلة، أكد كاتب المقال " أن المقصود من هذا العمل السافل هو عرقلة الحركة الثورية التحريرية. وبما أن مبدأنا الأسمى يقارع الاستعمار والصهيونية، وقائم على أساس تحرير البلاد واستقلالها ضمن الوحدة العربية، لا يجوز لنا أن نقوم بأي عمل يعرقل سير الحركة التحريرية وتشويه سمعتها. ونحن نبرأ من هذه التهمة الدنيئة ومن هذا العمل الساقط... ونحن مقتنعين بأن الصهيونيين هم الذين دبروا هذه المؤامرة...".

وفي عددها الخامس عشر، الصادر في 11 أيلول 1936، وتحت عنوان: "تجار الكلام"، ردت "الجبهة الشعبية" على  جريدة "الجامعة الإسلامية"، التي نسبت إلى الشيوعيين، بتاريخ 6 أيلول، منشوراً يتهم قيادة الحركة الوطنية العربية  بـ "الخيانة الرهيبة"، مؤكدةً  أن الحزب الشيوعي الفلسطيني " لم يصدر منشوراً كهذا ولا يعلم عنه شيئاً ".

ثم توجهت إلى جمهور قرائها بالقول: "ألا فليعلم هذا الخائن لوطنه أن الشعب المجاهد وجميع الثوار يعرفون جيداً من هو الحزب الشيوعي، ويقدرون جهوده الجبارة في تنمية الحركة الثورية وتقوية صفوف المجاهدين. كما يعرفون أيضاً ماهية جريدتكم المتقلبة ونفوسكم السقيمة، ولو لم يعرفونها لما نسف الثوار اوتومبيلها في الأسبوع الماضي ومزق الشعب أعدادها من أيدي الباعة على قارعة الطريق...".

ونشرت "الجبهة الشعبية"، في إطار الحملة التي نظمتها لفضح الفاشية والتحذير من مخاطرها على النضال الوطني العربي المعادي للاستعمار والصهيونية، مقالات عديدة تحمل طابعاً سجالياً. ففي عددها السادس عشر، الصادر في 18 أيلول 1936، نشرت مقالاً بعنوان: "مأجورون أم جهلاء؟"، استغربت فيه مواقف الصحف العربية، " التي تعاني الأمرين من ظلم المستعمرين وتنطق بلسان شعب مغلوب على أمره وتحاول إنارة الطريق أمامه ليشقها إلى الحرية والاستقلال"، لكنها تتغنى، في الوقت نفسه، " بمحاسن الفاشستية "الدموية" المجرمة"، في اسبانيا وألمانيا، وتقف " موقفاً مزرياً تجاه الشعب الاسباني وحكومة الجبهة الشعبية وتحمل على الشيوعيين هناك حملات عنيفة، وتجري مع تيار الجرائد الفاشستية في ألمانيا وإيطاليا وانجلترا ".

وفي عددها العشرين، الصادر في 16 تشرين الأول 1936، نشرت "الجبهة الشعبية" مقالاً بعنوان:  "الشعب العربي كله ضد الفاشيستية لأنها أبشع وجه من وجوه الاستعمار"، شرح فيه كاتبه، في البداية، أغراض الحملة التي تقودها الفاشستية الألمانية على الشيوعية، ممثلةّ "بشخص الاتحاد السوفياتي، وطن الاشتراكية الظافرة "، وعلى الديمقراطية، ممثلةً "بشخص حكومتي الجبهة الشعبية في اسبانيا وفي فرنسا "، معتبراً أن هناك غرضين اثنين رئيسيين من وراء هذه الحملة: الأول، هو أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها ألمانيا " لا تزال تزداد استفحالاً بصورة مضطردة، وساعد على ذلك إغراق ألمانيا الهتلرية في متابعة تسلحها"؛ والثاني هو "التمهيد  للمجزرة البشرية العالمية التي ينوي هتلر إضرام نيرانها على بعض الدول الصغيرة المجاورة له وعلى الاتحاد السوفياتي وفرنسا الجبهة الشعبية"، وذلك بالتعاون مع " كل الدول الفاشيستيسة وجميع العناصر الرجعية البالية وتجار الأسلحة".

واستغرب كاتب المقال، في هذا الصدد، موقف بعض الصحف العربية، التي " تردد صدى حملات الفاشيستية على الاتحاد السوفياتي وعلى حكومتي الجبهة الشعبية في فرنسا وفي اسبانيا"، متجاهلةً حقيقة أن الشعب العربي  في كل أقطاره وقف " في وجه غارة موسوليني الاعتدائية على الحبشة، ولم ينسَ ولن ينسى ما أنزل الفاشيست الطليان بأبناء طرابلس وبرقة... ومطامع هتلر وموسوليني في بلادنا العربية العزيزة ". وبعد أن تساءل: "كيف يمكن أن يوجد بيننا عربي واحد يعطف على الفاشيستية، والفاشيستية ممثّلة عندنا في شخص الصهيونية الرعناء؟"، تقدم برجاء إلى الصحف العربية " أن تربأ بهذا الشعب وأن لا تسئ إلى سمعته، وأن يراقب رؤساء التحرير المسؤولون ما يحاول بعض المتهورين أن يحشروه في صحفهم من التسميم والتضليل".

الهوامش

1-الشريف، ماهر، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004، ص 451.