فؤآد النمري يبحث عن سوبرمان (2)


وليد مهدي
2011 / 6 / 8 - 14:20     

(1)

لعل جوهر الماركسية المكنون هو المستقبل ..
فهي ، و حسب شرحها من قبل ماركس نفسه ومن قرأوها من بعده وفسروها كتطبيقات كانت نظرية علم اجتماع واقتصاد في آن معاً ترصد مسار التحول الاجتماعي التاريخي في المستقبل اعتماداً على شكل هذا التحول في الماضي ..
لذا فقد فتميزت على سائر المعارف والنظريات العلمية والسياسية الاخرى بهذه " الاداة الاستدلالية " التي ترمي نحو المستقبل ..
اذ ترسم مساراً افتراضياً لحركة التاريخ ومآله القادم .. برؤيتها للتناقض في العلاقات الإنتاجية والمراحل التي من الممكن ان يمر بها المجتمع الإنساني في المستقبل ..
لكن ، هل حقاً هذه هي فقط مجالات تطبيق الماركسية ؟
وهل يمكن حصر " الماركسية " كنظرية معرفة بماركس و انجلز ولينين وستالين ..كما يذهب الاستاذ فؤاد النمري في مقاليه قيد دراسة هذه السلسلة ( حاجة العالم للينين ) ، ( ماركسيون بلا ماركس ) ... ؟
الماركسية كمنهج معرفة ، اوسع شمولاً من الرؤيا التي تعاطى بها ماركس نفسه لأنها منهج بحث ودراسة تصلح لأي متغيرات تاريخية في اي مجال ..
وهي لذلك خبرة تراكمية بشرية قابلة للتوسعة والتصحيح ..
لا شيء يهمنا اليوم في ماركس سوى النظرية العلمية الجدلية ( الديالكتيكية ) ، المادية التاريخية ، فنحن لا نرى من ماركس إلا نظرية ...
النظرية اداة انتاج معرفي صنعت لنا ماركس كما يعرفه السيد النمري ، لكنه لم يصنع النظرية ولم يكتشفها وحده ، النظريات تكتشف ولا تخترع ..
النظريات موجودة قبل وبعد مكتشفيها ، ماركس يبقى مجرد ومضة ضوء عابرة ستاتي من بعدها آلاف الومضات ، الماركسية " سياق من قانون " طبيعي كان قبل ان يكون ماركس في الوجود ، وهي كما نعرفها صنعت بجهود كثيرين ، لكنها تحمل اسم ماركس لأنه كان بداية الاكتشاف لا اكثر .. كان الومضة الاولى ..
لستُ أنا من اقول بان ماركس كان خلية في جسد اكبر ، حجر في بناء ، شعاع في حزمة ضوء الماركسية ..
الماركسية نفسها ، وعبر اداتها الاستدلالية المستقبلية ، التي ترسم التاريخ بين الماضي والحاضر وتوقع المستقبل هي التي تقول بانها وإن كانت ابنة ماركس ، لكنها ليست ماركس !
فاذا نجحت النظرية في رؤية التحولات الاجتماعية الإنتاجية عبر مسار مستقبلي افتراضي ينطلق من الماضي السحيق مروراً بالحاضر نحو " الحتمية " الشيوعية في آخر التاريخ ..
ما الذي يمنعها ان ترى التحول في " البيولوجيا " من كائنات احادية الخلايا ( البكتيريا ) مروراً بكيان متعدد الخلايا نسميه الإنسان و إنتهاءاً بالكيان الحضاري الاكبر الذي نسميه المجتمع ؟
بل يمكن للماركسية كمنهج علم منتج للنظريات ان ترينا الكيان الكلي القادم ما بعد المجتمع البشري ..، وهو مجتمع " الإنسان – روبوت " ربما بعد الف او الفي سنةٍ لا اكثر !
، في الرصيد الثقافي البشري كما تدرسه الانثروبولوجيا ، يمكن للماركسية أن تدرس " التحولات " في الدين بدءاً من غابات افريقيا و بين النهرين والنيل والصين مروراً بالبيت الابيض في واشنطن ، و وصولاً إلى المستقبل ..
وهو ما حاولت التنبؤ به باستخدام هذه الاداة الفكرية في دراسة موسعة بكتيب :
الفكر الاجتماعي , نظرية في تحولاته التأريخية
( المنشور في مكتبة الحوار المتمدن )
ستبرز لنا مثل هذه الاستدلالات ما هو الشكل القادم التحولي من الدين ... مثلما اعطتنا الاشكال التحولية القادمة من علاقات الإنتاج ..
الدين وفق هذا المنظار لا يعتبر منزلاً من قبل الآلهة التي خلقت الكون ، الدين كشكل من اشكال الثقافة الحضارية ، الهوية الجمعية المميزة لامة من الامم ...
( وهو ما يوجب علينا احترامها مع اننا لا نؤمن بها كاعتقاد يقيني ايماني ونسعى لتقليم اضفارها بالنقد واشاعة روح احترام للدين باعتباره بشرياً .. لا الهياً )
هذه هي الماركسية كنظرية معرفة وإن لم يقدر عظمتها ماركس نفسه ..
فكيف بلينين وستالين وسواهم ؟

(2)

رداً على المقال السابق يقول الرفيق الاستاذ فؤاد النمري :
{{ أخشى عليك حقاً من ثقل الحمل الذي تهم بحمله دون ما يستدعي ذلك فتعتقد أن الإنسان ابن خلقته أي أنه خلق ليكون إنساناً يرث الأرض وما عليها كما يدعي أهل الدين!!ـ
تصور أن الحيوانات الشبيهة بالإنسان كانت قد أفلحت في تحاشي الإنقراض دون أن تهم بالإنتاج فهل كانت ستتأنسن فتثير اهتمام -الله- في السموات البعيدة فيرسل لها الرسل والإنجيل والقرآن !! هل للقطط أو القردة أناجيل وقرائين !؟
الإنسان كسائر الحيوانات الأخرى هو ابن علاقته مع الطبيعة لكنه الحيوان الوحيد الذي أقام علاقته مع الطبيعة من خلال أدوات للإنتاج. الإنسان هو فيزيائياً وسيكولوجياً وثقافياً وبمختلف تجليات إنسانيته هو الإبن الشرعي لأدوات الإنتاج }}

في الحقيقة ، هناك سوء فهم ربما من قبل الاستاذ النمري في تقييم ما اكتب ، اذ فوجئت بدخول " الله " على خط نقاشنا فجأة جالباً معه انجيله وقرآنه ...
وأسال السيد النمري :
من هذا " الله " ..؟
انا لا اعرفـــــــــــــه في نقاش علمي موضوعي ...
قضية نقاشنا تدور في الحضور الفيزيقي الصرف ، لم اطرق جدلاً في الميتافيزيقيا ابداً ولا ينبغي لمثل موضوعنا هذا ..

نعم الإنسان بن خلقته ، موروث ثقافي اجتماعي ، وموروث تربوي سيكولوجي ، وموروث بيولوجي حيوي ممثلاً في شريط الحامض النووي DNA ..
الإنسان بن خلقته ، بن هذه الطبيعة وقوانينها الفيزيقية الاساس ، وليس بن آدم الخليفة المنصب من قبل ربٍ لا حضور له إلا ما وراء الطبيعة ولا يمكن الدخول في محاورة معه البتة ..
ومسالة " دون ان يستدعي ذلك " كما قالها الرفيق فؤاد يؤشر على حقيقة الازمة المعرفية التي تعاني منها قراءات الماركسية التي لا تبالي بتطور المعرفة والعلوم في عالم اليوم وتداعيات هذه التطورات على الوعي الجمعي الإنساني لدى اجيال النشيء الجديد من الشباب التي ترى في الماركسية نظرية ديناصورية متحجرة بسبب هذه اللامبالاة ..
فتجد نفسها في عالمنا الإسلامي مضطرة لقبول الليبرالية مأخوذة بروبوغندا الحداثة والتنوير التي تروج لها الإمبريالية ، أو ترتد رجوعاً للفكر الإسلاموي باعتباره حافظاً للهوية والانتماء التاريخي لامة ..

(3)

حقيقة الامر ، ما اثار دهشتي في تعليقات السيد النمري هو امرين :

الاول :

اعتباره رايي في الماركسية " مثالي " يسعى إلى تحميلها ما لا يمكن ان تحتمله من قيم ، يلمح للأخلاق باعتبار الإنسان مخلوقاً مقدساً سامياً ...نصبه الله في الارض خليفة ..؟!
لم اقل هذا الكلام في معرض قراءتي في ذلك المقال , وعلى العكس تماماً من هذا الراي ..
ذكرته بصورة استشهاد في متوازية تاريخية بين " الإنسان والروبوت " في مقالين يحملان هذا العنوان ، حيث إن ديانات التوحيد تدعي إن الإنسان مخلوق على صورة الرب ، ومن سخرية القدر إن الإنسان يتجه في تطوير ادوات الإنتاج نحو تصنيع روبوت على صورته هو ...
ما يؤكد إن الدين استلهم ( بوعي معكوس ) من صناعة الإنسان لتماثيل على شكله معتبراً اياها آلهة ان يعتقد بان الإله خلق الإنسان على شكله هو ، ويبقى دأب الإنسان في انتاجه محاكاة جسده كأول اداة انتاج وصولاً لصناعة الروبوت .. كأداة انتاج جديدة ..
لم اقل عن القصة الاولى حقيقية ، ولم اتطرق لشيء في خضم تحليلاتي المختلفة للماركسية كنظرية تأملية في مسار تطور البيولوجيا والسيكولوجيا وهندسة الآلات والبرمجيات اضافة لدمغتها الماركسية الاولى في الصراع الاجتماعي الطبقي ..
لا اعتبر إن الإنسان خليفة الله , والمسالة تناقش خارج سياق أي اعتقاد ايماني ، القضية قضية علمية بحته تناقش ميل الإنسان للفرادة من جهة في حالة الرخاء ...
وميله للقطيعية ( من القطيع ) او " الكلانية " والشعور الجمعي عند الخوف والشدائد والازمات .. والجوع والحرمان من جهة اخرى ..
تعاملي مع القضية الإنسانية برمتها مؤسس على اساس هذا الاستقطاب بين الفردية والجماعية
وهو استقطاب استنبطته من قراءتي العلمية للماركسية كنظرية معرفة عامة تنطبق على كل العلوم ..
وفي علم الاجتماع فهي التي ارشدتني لمآل الاشتراكية حين يمكن تطبيقها ، وطبقت بالفعل بسبب النزوع الجمعي الذي سببه الحرمان والاضطهاد والظلم بتوافر جهد تنظيري طبعاً للينين والماركسية .. ولا انكر دور لينين في تلك الحقبة ولا دور ستالين ..
لكن ، وبعد أن تراخى الافراد في الدول الاشتراكية مثل الاتحاد السوفييتي وبرزت فرديتهم فإن عوامل الترابط الاجتماعي القوية بدأت تضعف تدريجياً ومن السهولة ان يتفكك الاتحاد ويرصد تراجع حاد في انتاجه آخر عقدين ، حتى لو كانت هناك مؤامرة واستنزاف ، لم تكن المؤامرة لتشق طريقها لولا وجود الخلل البنيوي الاساس في المجتمع السوفييتي وليست ميول نيكيتا خروتشوف ومن ساروا باتجاهات مغايرة للينين وستالين إلا مظاهر للتعبير عن " التحول " التاريخي الفكري والاجتماعي في اجيال جديدة ..
وهنا تحديداً يبرز دور " ضعف " امكانيات القيادة الشخصية لقائد تاريخي مهما كانت حنكته ومثابرته أمام معضلة هيكلية في جسد التاريخ مثل هذه لم تكن في الحسبان ..
فمعالجة مثل هذه المشاكل لا ينفع معها حتى سوبرمان .. خصوصاً حينما لا تشخصها أو تكون في تصور القيادة السياسية ..
بل تذهب إلى ابعد من هذا بتعليق هذه الاخطاء على مليون شماعة وشماعة ، كعدم قبول الخطة الخمسية لستالين قبل موته من قبل خروتشوف ..
أو كما قال الاستاذ الرفيق مهدي علوش في تعليقه على المقال السابق :
{{ كل التغيرات والثورات في التاريخ ،وخصوصا الفاصلة منها ، وبغض النظر عن الفئات والطبقات التي تشارك في صنعها ، تؤول السلطة فيها ،في نهاية المطاف الى مصلحة طبقة محددة (الثورة الفرنسية مثلا) .نكوص الثورة عن تحقيق المبادئ المعلنة سابقا هونتيجة تكشف حقيقة الطبقة الجديدة وتكشيرها عن انيابها بعد استباب الامور ، وليس بروز دور الفردية او الشخصانية.هذا كما اظن لم يكن غائبا بحال عن فكر كلاسيكيي الماركسية }} .

وفي الحقيقة ، هذه رواية الإنسان التبريرية للتاريخ ، وتفسيراته للحوادث تماماً مثل تفسيراته للخليقة في فجر الحضارة بصيغة " قيم " للخير والشر والعدل والظلم ..
الماركسية كنظرية معرفة ترسم مسار البنية الكلية للتاريخ فتحلل " القيم " الشريرة والخيرة مرجعة اياها إلى اصلها التجردي الخاضع لموازين التحول الموضوعي ..
الطبقة هنا تصبح موضوعة " الاسطورة " وما يعتمل في داخلها من شر وانياب تكشرها .. تحال إلى قيمة " مجردة " جديدة ..
هل الانياب المكشرة إلا تعبير " ايجابي " عن الفردية بمثال الثورة الفرنسية الذي ذكره الرفيق مهدي ؟
هل " الخوف " من هذه الانياب من قبل المنضوين في اسفل الهرم إلا تعبير سلبي عن الفردية والحسية والخوف على الحياة الشخصية بمبانيها الاجتماعية ، حيث الخوف من فقدان الدعة والسرور في حالة الانفصال عن النظام الاجتماعي السياسي او الخوف على الكيان الحيوي الجسدي من القتل والتعذيب ..؟
وهل التضحية والمقاومة إلا تعبير ايجابي عن " الكلية " ، حيث الحرمان والفاقة هي الدافع العام غالباً لمواجهة هذه الطبقة التي تمجد القائد التاريخي الملهم الفذ ( السوبرمان ) ...؟؟
هذه كلها تكشف إن ميول الطبقات والشرائح والفئات لا يمكن عدها اسباباً .. بل هي نتائج لأسباب اكثر استبطاناً في بنية المجتمع والإنسان في الاتحاد السوفييتي .. وهو مالم يتمكن من رؤيته القادة والمنظرين من الحرس البلشفي القديم ومنهم رفيقنا المعلم النمري ..
مشكلة الخصائص الانسانية الاساس لا يمكن فهمها دون علم الاجتماع الماركسي .. والانثروبولوجيا الماركسية ..
هذه العلوم ، كمباني منهجية مؤسسة على فلسفة متابعة المسار والمستقبل على ايقاع الماركسية الاجتماعية الاقتصادية ، تتفوق على الانثروبولوجيا التقليدية وعلم الاجتماع التقليدي ..
انا لم اختلق شيئاً ، ولست انوء جاهداً بهذه الاحمال كما يتصور الرفيق فؤاد ، هذه هي الماركسية التي كانت وسوف تكون كنظرية كلية شاملة منذ بدء الزمن .. ولابد للأجيال ان تكتشفها عاجلا او آجلا ، فهي " حتمية معرفية " لأنها تمثل حلاً شافياً لرؤية المستقبل ..
فهي ترينا صورة مجردة تقع للخارج من معمعة الحراك السياسي في داخل الاتحاد السوفييتي والسياسات الداخلية والخارجية له التي هي نتائج كما قدمنا لبنية الإنسان الدفينة..
صورة رمزية تؤشر على مصير الحتمية المستقبلي الذي قوامه الاساس هو الإنسان + ادوات انتاجه + منتجاته .... وليس ادوات الإنتاج فقط ..
ومن هذا كله اعود لاسأل الرفيق فؤاد :
اين يمكنني ان ارصف " الله " بين كل هذا ؟
ومتى يذكر الله عندي في أي جدال علمي موضوعي بعيد عن أي معتقد ايماني ؟
الصاق الايمان بي ، والصاقي بالايمان مسالة شخصية بحتة تبتعد عن الحوار العلمي الموضوعي ..

(4)

في تعليق الرفيق فؤاد ، يبدي رؤيته الماركسية الكلاسيكية إن ادوات الإنتاج خلقت الإنسان , ربما يقصد حضارة الإنسان ، مثلما الدجاجة بنت للبيضة ، لكنها امٌ لها في الوقت نفسه .. !
الإنسان تربيه الحضارة .. ويربيها ..
الحضارة في هذا السياق تمثل الإنسان + ادوات الإنتاج + منتجات ، كوحدة واحدة لا فصل بين أي جزء من اجزائها ..
كما يعتقد الاستاذ النمري بانني اسعى لتجديد الماركسية بقيم اخرى , يعتقد بانني ابحث عن إنسانية الإنسان , بما هو انسان القيمة الرومانسية المعروفة في أديباتنا المعاصرة ..
ربما فهم الرفيق النمري إنني ادعو إلى قيم دينية اشتراكية على غرار المنحى الاشتراكي الإسلاموي لبعض المفكرين .. مثل الاستاذ جمال البنا ، وحقيقة ابارك للبنا هذا المسعى واعتبره جزء من الحل ، لكنه ليس الحل كله ..
ماركسية المنهج غير ذلك تماماً ...
اذ تسعى إلى الفصل بين الهوية الدينية كثقافة والدين بما هو اعتقاد يقيني راسخ .. فتبقي على الاول وتستبعد الثاني لانه غير علمي ولا يمكن اتخاذه كموضوعة معرفة .
بمعنى ، اعتبار الدين كهوية وثقافة لا غير مصيرها الذوبان والتلاشي في قيم وهوية تحولية جديدة في صيرورة المجتمع ، وهي هوية سيفرضها النمط الحضاري ومستوى تطور وسائل الإنتاج المادية ... والمعنوية الممثلة بالافكار واسلوب تفكير العقل الإنساني وركام التجربة التاريخية لعموم الجنس البشري ..
علماً انني لا اسجل سبقاً بهذا المنحى , كما تبدى من استغراب الاخ محمد حمدان في تعليقه على المقال السابق عن " احترام واجلال الثقافة الإسلامية " ..
الصين الشيوعية اليوم بعودتها لاحترام الثقافة الكونفوشية فهي انما تنحو نحو ماركسية المنهج المعرفي بصورة تلقائية غير مخططة ..
تقوم بالتعامل مع الجماهير على إنها " قاصرة " عن ادراك كامل الحقيقة , وتتعامل معها بمفهوم " تربية الجمهور " والتدرج معه لإيصاله بسلام وامان للمجتمع الشيوعي دون ان تمس بهويته وتترك له حرية " التحول " القيمي الثقافي السلس البطيء الممتد في اجيال نحو قيم وثقافة المجتمع الاشتراكي والشيوعي ... وليس بالقسر ..
ما ادافع عنه من قيم اسلامية او مسيحية او يهودية او أي مكون ثقافي آخر من مكونات الثقافة الشرقية ينحو بهذا المنحى " التوافقي " بين الشيوعية كثقافة وافدة والثقافة الاصلية للبلاد كخلفية تكوينية اصيلة .. لا غير ..

(5)

الامر الثاني الذي اثار استغرابي هو إن الرفيق فؤاد واغلب الرفاق المعلقين قد اكتفوا بالفلسفة السياسية الماركسية وحدها لتفسير حركة التاريخ .. تماماً كما لو ان الثورة البروليتارية في روسيا لا تزال مندلعة ، أو انها على وشك الاندلاع مرة اخرى ..
فجو المحاورة ارتكز على " تجربة الاتحاد السوفييتي " وآليات التطبيق .. دون اي التفات لمراجعة البنية النظرية ..
ونعلم تمام العلم في تجاربنا الحوارية مع الإسلامويين الذي يصرون على التطبيق دون اي مراجعة للنظرية ( المقدسة طبعاً ) ، إن العالم المتغير يستوجب نظريات متغيرة حتى ولو كانت تطبيقاتها في زمنٍ ما خاطئة ..
كان موقفهم سلبياً جداً من رؤية العلم للتطور الاجتماعي خلال القرن الماضي ونسوا امراً هاماً طالماً المحت له في معظم كتاباتي عن الإنسان :
الماركسية فلسفة علم ... وكان عليها أن تقوم بتحديث نفسها بموضوعية اكاديمية بحته بعيدة عن التفلسف الفكري السياسي في ظل كل هذه التغييرات التي تشهدها الحضارة البشرية ..
لتواكب كافة مجالات المعرفة العصرية ولا تراوح في علم الاجتماع الاقتصادي فحسب.. ، فهي ارفع من ان تكون كما عرفت في ادبياتها اللينينية مجرد نظرية مادية للتاريخ الاجتماعي السياسي الاقتصادي ..
تفسير الماركسية للصراع الطبقي والعلاقات الانتاجية مجرد اسقاط لمنهج معرفي استدلالي اعمق من مفاهيم تطور وسائل الانتاج والصراع الطبقي ..
لدى الماركسية مقدرة فائقة على تفسير كل العلوم بسياقها الزمني التسلسلي المبني على اساس التطور ..
وقد استعملت هذا المنهج في سبيل الاثبات لدراسة مسار تطور " الجنس " لدى البشر في موضوع " الجنس رؤيةٌ ماركسية " ، وقد وجدت بالصدفة إن كولن ولسون قد اهتدى بضياء الماركسية المعرفية من حيث لا يدري ..
ويمكن تطبيق منهج استدلال الماركسية المبني على صناعة مسار تطوري للوعي والإدراك في الدماغ البشري .... ومثلما طبقت من قبل ماركس في بيان مراحل تطور المجتمع البشري وصولاً للشيوعية ..
يمكن من خلال نفس المشهد ان نرصد " مستقبل " الوعي البشري .. وتحوله من الإدراك الحسي التقليدي إلى الادراك الحسي رباعي الابعاد او الفائق كما كان يدرسه العلماء السوفييت ..
وايضاً استعملت ذات المنهج في التنبؤ بمصير تطور الآلات ( ادوات الإنتاج ) في سلسلة غير مكتملة بعنوان " الإنسان والروبوت " وهي تتنبأ بان الروبوت سيحوز على الوعي يوماً ليدخل في دورة جدلية جديدة ... إنسان آلي / ادوات انتاج ..
وكذلك الحال في علم الإجتماع .. حين نعيد تصويره بزاوية فلسفة المنهج الاستدلالي الماركسي نفسه تتضح لنا صورة انهيار المجتمع السوفييتي بسهولة ..
فبمقابل تحول وتغير ادوات الانتاج ووفرة ما تنتجه ، هناك تحول ثقافي في الوعي الفردي لم تكن الادبيات الماركسية تكفيه حتى يحافظ على الخط اللينيني الستاليني المرسوم بدقة وهي النقطة التي اثارها الاستاذ مهدي علوش في المقال السابق ..
اذ يقول :
{ كل التغيرات والثورات في التاريخ ،وخصوصا الفاصلة منها ، وبغض النظر عن الفئات والطبقات التي تشارك في صنعها ، تؤول السلطة فيها ،في نهاية المطاف الى مصلحة طبقة محددة (الثورة الفرنسية مثلا) .نكوص الثورة عن تحقيق المبادئ المعلنة سابقا هونتيجة تكشف حقيقة الطبقة الجديدة وتكشيرها عن انيابها بعد استباب الامور ، وليس بروز دور الفردية او الشخصانية.هذا كما اظن لم يكن غائبا بحال عن فكر كلاسيكيي الماركسية .}

هنا بهذه القراءة يتم اهمال المكون الاساس للمجتمع ، الإنسان ..
تهمل تحولات فرديته وتغيراتها والضغط الذي تمارسه على البنية المجتمعية التي يقول عنها الرفيق مهدي :
{ ان نجاح الثورة الاشتراكية يرتبط بمدى نجاح سلطة الطبقة العاملة ، وهو ما يرتبط بالضرورة بالخطط العملية التي ترسمها القيادة من اجل تطوير الطبقة ، وعيها ودورها على حساب باقي طبقات وفئات المجتمع . وهذا، وبسبب من مجموعة من الظروف الذاتية والموضوعية ما تم الانحراف عنه .}
يمكننا ان نلحظ كيف يتم التهوين من شان " امكانية الفرد " ودور ميوله الذاتية في صناعة المجتمع باعتباره لا يستطيع الخروج عن " خطط " القيادة ..
لكن ، وبمنهج الماركسية كفلسفة ومنهج علم وليس كنظرية علم بذاته ، يمكنها ان تخبرنا عبر قراءة المسار في تطور سيكولوجية واجتماع الفرد مع الآخرين عن شكل المجتمع الجديد السوفييتي بعد جيلين او اكثر ممن بدأت النوازع الفردية تستشري بهم بدرجة اكبر من آبائهم وصولاً إلى المجتمع غير المتماسك ..
هذا الاسلوب في القراءة .. ماركسي بحت !
بالتالي فلدينا فلسفة العلم الماركسي , وهي قادرة على إعادة انتاج العلوم المطورة حديثاً والاستفادة من بياناتها ومعارفها لبناء شكلٍ جديد للمجتمع الإنساني ..
وهو شكل لا يرتضيه اساتذتنا الرفاق في الحرس البلشفي القديم بكل تاكيد ..لانه ربما انتج شيوعية معرفية لا ترضي لينين او ستالين ..
لكن ما لم افهمه واهضمه بشكل كامل هو حتى الآن هو :
عهدي بالشيوعية لا يقارن بكل الاخوة المعلقين وطبعاً لا يقارن بالرفيق المعلم فؤاد ، فكيف امكنني رؤية كل هذا بسهولة إلى درجة ان السيد فؤاد النمري ينصحني بترك هذه الاعباء وعدم حمل اكثر من البطيخة بكف واحدة خشية ان اقع من فوق السلم مالم التزم بالتميمة البلشفية المقدسة :
الانسان وليد وسيلة الانتاج .. ؟
هذا يكشف بان الميراث التاريخي للتجربة الشيوعية في العالم والعالم الإسلامي خاصة هو ميراث انطلق اساساً من مباني خاطئة اتجهت بالمسيرة الفكرية إلى عتمة لم تمكن المفكرين الماركسيين من التجرد ورؤية النظريات والقراءات بالمرآة ..!
لم يكلفني حقيقة قراءة الماركسية بهذا النحو أي عبئ ، لان اول اقترابي منها كان مؤسس لاستعمالها في " البحث العلمي " كأداة معرفية جديدة ، وليس كنظرية سياسية..
فانا كما يعرفني الجميع احاول التخصص بالعلم وكل ما يختص بالإنسان ، السياسة عندي هي المحل الثاني ، لم انتم في حياتي لحزبٍ سياسي ..
انتمائي مذ ان رايت النور كان للمعرفة ، وسيبقى ..
بالتالي ، اكتشفت في الماركسية " حقيقة الماركسية " .. التي هي اسمى من ماركس نفسه ..
واسمى من السياسة ..
الماركسية كما عرفتها هي ... علم الاقتراب من الحقيقة ..
وما دامت الحقيقة اسمى من ماركس ، فهو جزءٌ منها ليس إلا ، لا بأس ان يسميني الرفيق النمري اذن :
" ماركسيٌ بلا ماركس " ..
لكن ..
هل يقبل ان اسميه وكل الحرس البلشفي القديم ... ماركسيون بلا ماركسية ؟

للحديث بقية ..

يتبــــــــع