هل يؤدي سقوط الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط إلى تقوية التيارات الإسلامية المتطرفة


بهاءالدين نوري
2011 / 6 / 8 - 14:24     

كشف البعض من التصريحات والمقالات المنشورة خلال الأسابيع الأخيرة عن مخاوف الأوساط الغربية من أن يؤدي سقوط الأنظمة الرجعية والدكتاتورية العربية إلى تزايد نفوذ بن لادن والقاعدة في هذه البلدان، ويترتب على ذلك التردد والتخوف من تقديم الدعم المشروع إلى ثورات الشباب الهادفة إلى استبدال هذه الأنظمة بأخرى ديمقراطية حضارية تستجيب لطموحات الشعوب ومتطلبات العولمة.
فهل هنالك مبررات جدية لتلك المخاوف؟ هل يتنامى نفوذ القاعدة والحركات الإسلامية بسبب هذه الثورات وانتصارها؟
كلا وألف كلا، بل على العكس من ذلك تماما. فالنتيجة المنطقية الوحيدة لانتصار هذه الثورات وما تحمله من تغيرات فكرية وسياسية واقتصادية هي إنحسار نفوذ القاعدة وكل التيارات السياسية الإسلامية في هذه البلدان. ولكي نتفهم هذه الحقيقة ينبغي أن نعرف منشأ هذه التيارات وأسباب نموها :
أن البيئة الاجتماعية الخصبة لنشوء ونمو الإسلام السياسي، وبالأخص التيارات المتشددة من الإسلام السياسي، إنما هي الفئات الاجتماعية الأكثر تخلفا من النواحي الفكرية والسياسية والاقتصادية – المعيشية. ذلك لأن الإسلام السياسي يستند في تصوراته الفلسفية – السياسية على منظومة من الأفكار والتصورات التي سادت قبل قرون ويستنبط منها الحلول للمشاكل المختلفة المعقدة التي تواجه الناس في الظروف المعاصرة، جاهلا أو متجاهلا التغيرات الكبرى التي طرأت على الحياة الاجتماعية اليوم، في ظروف تقدم الثورة العلمية – التكنيكية، وكما كان البشر في العصور الغابرة يقدمون القرابين إلى الأصنام أو الكهنة أملا في حل مشاكلهم ونيل مطالبهم، فأن الناس المتخلفين في عصرنا هذا لا يزالون يأملون في الوقت الراهن نيل مطالبهم في العيش الحر المرفه السعيد في الاعتماد على المنظومات الفكرية القديمة والانقياد وراء المروجين لها، دون إتعاب أنفسهم في القيام بتحليلات سياسية معقدة وإستنتاج الحلول منها.
أن الإسلام السياسي، وخاصة التيارات المتطرفة منه، يضمر الطموح – شأن أي حزب سياسي في المجتمع المعاصر – إلى إستلام السلطة. وهو يعتمد في نشاطه على تلك الفئات الاجتماعية التي تشكل قاعدته الاجتماعية وينتقي أساليب النضال السهلة، التي تنسجم مع المستويات الفكرية المتدنية لجماهيره، بما في ذلك أساليب الإرهاب والإغتيالات بالنسبة إلى الجماعات الأكثر تشددا. وعلى مر الأيام، ومع تطور المجتمع علما وتكنيكا وعيشا وثقافة يضطر الإسلام السياسي على إعادة النظر في نهجه وشعاراته، مسايرة للتغيرات الاجتماعية، ولتنامي الوعي السياسي لدى الناس، الذين يزدادون ميلا إلى الإتجاهات السياسية العلمانية. وليس من قبيل الصدف أن اختفت الأحزاب السياسية الدينية في المجتمعات الأوروبية المتطورة، بعد أن كانت الكنيسة مسيطرة على كل شيء في أوروبا القرون الوسطى. ولم يبق من المعالم الدينية لدى الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا – شأن أحزاب مشابهة – سوى كلمة (المسيحي)، إذ أصبح حزبا علمانيا بالكامل. وليس خافيا أن حزب (العدالة والتنمية) الحاكم في تركيا لم يعد ذلك الحزب الديني الذي شكله نجم الدين أربكان الإسلامي في وقت سابق، بل أصبح حزبا مغايرا، يجمع بين المفاهيم الدينية والمفاهيم العلمانية، خصوصا بسبب طموح تركيا في الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي. يتضح ذلك في اختيار اسمه وفي سياسته ومواقفه من الأحداث المحلية والدولية، على العكس مما يفعله التجمع الحاكم المهيمن وقتيا على الحكم في إيران. والأخوان المسلمون في مصر اليوم لم يعودوا طبق الأصل لما شكله (حسن البنا) قبل سبعين عاما. ويمكن القول أن الإسلام السياسي المعتدل في بلدان العالم الإسلامي اليوم، في طريقه إلى أن يتطور، أو يتطور بعض الأجنحة منه نحو أحزاب جديدة دينية، من حيث القشور وواقعية في سياسته، علمانية من حيث المحتوى، استجابة لمتطلبات الظروف المعاصرة وإدراكا بأن التشبث بالمفاهيم والسبل القديمة يؤدي إلى العزلة والإفلاس وليس إلى إستلام السلطة.
إن إلقاء نظرة على أحداث البلدان العربية خلال عشرات السنين الأخيرة يؤكد حقيقة أن الأنظمة العربية الرجعية والدكتاتورية كانت هي التربة الخصبة لنمو الإسلام السياسي بتياراته المختلفة في هذه البلدان. لتنطق الوقائع:
لم يقم في أي بلد عربي حتى الآن نظام ديمقراطي مستقر يجري فيه تداول السلطة عبر صناديق الإقتراع، وبالتالي لا تدعم التجربة أي إدعاء بأن أشاعة الحرية والديمقراطية تشكل مصدرا لتقوية الإسلام السياسي أو تربة خصبة لنموه.
بينما أثبتت الأحداث والوقائع – بما لا يدع مجالا للشك – حقيقة أن الأنظمة الرجعية والدكتاتورية العربية والإدارة الأمريكية شكلت مصدرا لنمو الإسلام السياسي. والجميع يعرفون الدعم المادي المتنوع في أشكاله، الذي قدمته الإدارة الأمريكية والمملكة السعودية والحكومة الباكستانية إلى الحركات الإسلامية في أفغانستان يوم كانت منهمكة في خوض العمل المسلح ضد الشيوعية وضد السوفيت، وفيما بعد الدعم الذي قدموه إلى حركة طالبان وجماعة بن لادن لإزاحة التيارات الإسلامية الأخرى وبسط السيطرة لحركة طالبان منفردة في أفغانستان. لقد كانت تلك غلطة كبرى إقترفتها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها السعوديون والباكستانيون، غلطة دفعوا ثمنا باهضا عنها فيما بعد، ولا يزالون ليومنا هذا يعانون من عواقبها الوخيمة في أفغانستان وفي باكستان وفي السعودية وغيرها.
وفي ظل النظام البعثي الدكتاتوري، الذي كان يحسب ضمن الأنظمة العلمانية، انتعشت الحركات الإسلامية في العراق في اتجاهين مختلفين شكلا ومتشابهين من حيث المحتوى، أولهما هو التيار الإسلامي المتطرف المتمثل بالقاعدة، الذي أرتبط بنوع من التحالف مع نظام صدام، وكان مدعوما ماليا من العراق ومتجانسا سياسيا مع دكتاتور بغداد. وثانيهما كان التيار الإسلامي المطارد من صدام والمدعوم من النظام الإسلامي الإيراني. وقد تنامى هذا التيار الأخير في مجرى نضاله ضد الدكتاتورية وبفضل دعمه من لدن طهران وأصبح، بعد سقوط صدام وبسبب حماقة الأمريكيين، قوة سياسية رئيسية في الشارع العراقي (الشيعي) وفي السلطة الحاكمة.
والنموذج الثاني أمامنا هو ما آل إليه الإسلام السياسي في ظل النظام السوري. لقد إعتمد النظام في بلاده أسلوب القمع والبطش ضد الإسلاميين. وكانت النتيجة تنامي الحركة الإسلامية. وتتخوف الدول الغربية اليوم، في ظروف الثورة السورية المشتعلة، من أن تنتهي الأحداث بسيطرة الإسلاميين على الحكم في دمشق. وفي الوقت الذي سلط النظام (العلماني) السوري الإرهاب الدموي على الحركة الإسلامية للأخوان المسلمين داخل سوريا، فأنه لم يجد حرجا في دعم حركة الأخوان المسلمين – حماس – في فلسطين، ولا في دعم الحركة الإسلامية الطائفية الخاصة بالشيعة اللبنانيين – حزب الله – ولا حرجا من التعاون الوثيق مع النظام الإسلامي الحاكم في طهران. وبررت القيادة البعثية في دمشق هذه السياسة الهوجاء بأنها لعب بأوراق ضد إسرائيل، لكن النتيجة الفعلية لم تكن سوى إشاعة الفرقة في الصف الوطني الفلسطيني واللبناني وخلق المتاعب للنضال التحرري الديمقراطي لذينك الشعبين. ويقال الشيء نفسه عن مصر في ظل نظام مبارك وبعد إنهياره. فالحركة الإسلامية المتمثلة بالأخوان المسلمين ظلت تتنامى ويزداد نفوذها بسبب إضطهاد النظام الحاكم لها طوال عهد مبارك، رغم أنها لم تكن حركة إصلاح حقيقي، بل كانت الوجه الآخر لنفس العملة المباركية الحاكمة.
أما بالنسبة إلى الأنظمة الخليجية، التي يتربع على عروشها ملوك وأمراء من أبناء شيوخ العشائر البدوية السابقين، فإنها لم تحسب ضمن الأعداء بالنسبة إلى الحركات الإسلامية السياسية، بل كانت ولا تزال مصدر التمويل الرئيسي لها، وحتى مصدر الإلهام لها، وخصوصا في كبرى الدول الخليجية، المملكة السعودية التي تسير خاصة في سياستها الداخلية على نهج لا يتقاطع مع نهج الإسلام السلفي. والمشكلة الوحيدة، التي كدرت علاقة السعودية مع الإسلام السياسي، أو مع تيار القاعدة، كانت ناجمة عن مسايرة السعودية لسياسة الإدارة الأمريكية في إسقاط نظام طالبان الأفغاني، أثر تفجير البرج التجاري العالمي في نيويورك في 11 أيلول 2001.
ان الأنظمة العربية والشرق أوسطية الرجعية والدكتاتورية، التي كانت مدعومة من الغرب أو من الشرق، هي المسؤولة عن إنتعاش الإسلام السياسي في هذه البلدان. ذلك لأنها مارست سياسة الكبت والإضطهاد ضد شعوبها وحاربت بكل السبل المتاحة القوى والحركات الديمقراطية وتصدت لحرية التنظيم السياسي والنقابي وحرية النشر والتظاهر والإضراب ودأبت على تزييف الانتخابات وجعلت من نفسها وصية على هذه الشعوب، الأمر الذي أثار سخط الناس وحملهم على البحث عن أي حركة معارضة للنظام لكي يتعاطفوا معها وينتسبوا إليها. وبديهي أن بعض الفئات من بسطاء الناس لم يجدوا أفضل من حركات الإسلام السياسي التي تستغل الدين لأغراضها السياسية، وفي نهاية المطاف لتحقيق طموحهم الأساسي في الوصول إلى السلطة. ولا يحق لأحد أن يعترض على هذا الطموح إذا ما إقترن باختيار السبل والأساليب الديمقراطية المعاصرة في العمل السياسي. لكن زعماء الحركات الإسلامية لا يفضلون الاعتماد – شأنهم شأن كل المستبدين وذوي العقليات المتخلفة من العلمانيين – على الأساليب الديمقراطية وصناديق الإقتراع، بل غالبا ما يفضلون الاقتداء بما كان جاريا قبل قرون من الاحتكام إلى السيف.
هنا تجب الإشارة إلى أن الصراعات غير المشروعة بين الدول الكبرى شكلت على الدوام مصدر دعم للأنظمة الدكتاتورية. فالإدارة الأمريكية كانت تدعم نظام شاه إيران رغم أن الإسلام السياسي كان ينمو في ظله والنظام السوفيتي كان يدعم أمثال صدام حسين وحافظ الأسد، والزعماء الروس الحاليون لا يزالون يدافعون علنا عن دكتاتور سفاح كالقذافي . . . الخ.
أنني لست موافقا على ممارسة القمع البوليسي ضد الإسلام السياسي. وقد أكدت الوقائع أن هذا اللون من التعامل معه لن يزيحه عن الساحة، إضافة إلى أن التعامل بهذه الصورة مع أي حركة سياسية لن يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى تقويتها وكسب المزيد من العطف والتأييد، بالأخص حين يمارس القمع من أنظمة حكم دكتاتورية ورجعية.
إن الطريق الوحيد الصحيح لمواجهة الإسلام السياسي، وبالأخص التيارات المتشددة منه، هو تحقيق كامل الأهداف لثورات الشباب الديمقراطية الإصلاحية بإنهاء الدكتاتورية مكشوفة كانت أم مستورة وإنهاء إحتكار السلطة للعوائل والفئات المتسلطة على الحكم، وإنشاء دولة القانون، التي يفصل في ظلها الدين عن الدولة فصلا تاما وتسودها شفافية حقيقية ثابتة في مختلف مجالات العمل وتعامل فيها الأحزاب والجماعات السياسية كافة، بما في ذلك الأحزاب الإسلامية، وفق المبادئ الديمقراطية والتشريعات الحديثة، دون أي مضايقة لبعض الأحزاب أو منح الامتيازات للبعض الآخر. وفي ظل دولة كهذه يتعذر على أي حزب، علمانيا كان أم دينيا، الحصول على تأييد الجمهور لسياسته في الإخلال بالأمن وإثارة الإضطرابات. فالمعالجة الناجحة إنما تأتي من:
1. إقامة دولة القانون في ظل دستور ديمقراطي حقيقي.
2. التوعية المتواصلة بأسلوب مبرمج مدروس.
3. التنمية المدروسة لتلبية حاجيات البلد والمواطنين.
أن انتصار ثورات الشباب الديمقراطية أمر مؤكد دون استثناء أي بلد عربي أو تركي أو فارسي . . . ولكن الطريق إلى الانتصار قد تتباين من بلد لآخر، سواء من حيث أسلوب الكفاح أو الوقت الذي يستغرقه إنجاز الثورة. ويعود ذلك إلى تباين الظروف الحالية والخصائص التأريخية والسياسية والاجتماعية لتلك البلدان.

ســليمانية 2 / 5 / 2011