عرض الفصل الرابع من كتاب الماركسية السوفياتية


نايف سلوم
2011 / 6 / 4 - 22:20     

يقول ماركوز: "إننا لا نقيل الفرضية القائلة ، أن الماركسية السوفياتية مجرد عقيدة مفروضة من فوق ، مهمتها تدعيم النظام ، كما لا نقبل الفرضية المعاكسة القائلة ، إن المجتمع السوفياتي مجتمع اشتراكي بالمعنى الماركسي للكلمة . وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نفسر هذه المفارقة ، بأنها مجرد تناقض محض ، بين العقيدة والواقع ، بل يبدو بالأحرى ، أن هذه المفارقة تعكس بناء المجتمع السوفياتي ، في شروط التعايش "الشاذة" " ص 75
.. فما دامت رقابة وسائل الإنتاج ، وتوزيع الإنتاج ليس في يد "المنتجين المباشرين ، أي طالما أنه ليست هناك رقابة ومبادهة "من تحت" فإن التأميم لا يكون إلا أداة سيطرة فعالة ، ووسيلة لزيادة إنتاجية العمل، والتحكم بها في إطار المجتمعات الجماهيرية. ويتبع المجتمع السوفياتي ، من هذه الزاوية ، الاتجاه العام للمجتمع الصناعي في مرحلته الحديثة .." ص 75
إنني أتحفظ هنا على المماثلة التي يقيمها ماركوز بين فعل التأميم في السياق السوفياتي وفعل التصنيع ؛ مماثلة بين فعل اجتماعي بامتياز وفعل تقني ، وهذا الأخير قائم في مجتمعات متباينة اجتماعياً . فالطبيعة الاجتماعية للاقتصاد الصيني مختلفة عن طبيعة الاقتصاد الياباني على الرغم من وجود تشابهات تقنية . فمجتمع يخضع للتأمميم "الشامل" يخضع لمفاعيل مختلفة عن آخر تحكمه الشركات الاحتكارية ذات الطبيعة الرأسمالية ؛ مبدأ وها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، تعاضدها الدولة الرأسمالية الاحتكارية(الدولة الإمبريالية).
يقول ماركوز: "إن مذهب "الاشتراكية في بلد واحد" الذي قدم للماركسية السوفياتية إطارها العام ، طوال الفترة الستالينية يفيد أيضاً في تبرير الوظيفة القمعية للدولة السوفياتية تاريخياً" ص 76
.. إن عزلة الثورة البلشفية في البداية ، وانحصار الاشتراكية في مناطق متأخرة ، وتوطد الرأسمالية على صعيد القارات قد حملت مسؤولية التناقضات الداخلية والخارجية على حد سواء ، التي تثقل كاهل المجتمع السوفياتي ."
يعتبر المذهب الستاليني أن التناقضات (الداخلية) يمكن أن تُحلّ من قبل - وفي - الاتحاد السوفياتي بفضل الدور "القيادي" الذي تتحمله الدولة ، في حين أن التناقضات (الخارجية) لا يمكن تصفيتها نهائياً إلا عن طريق التطور الدولي (للصراع الطبقي) ، أي الثورة في العالم الرأسمالي" . 76 .. إلا أن التناقضات الخارجية في الواقع ، تطيل أمد التناقضات الداخلية ، وبالعكس، بحيث أن التمييز بينهما يفقد قيمته [بخصوص مسألة الاشتراكية الماركسية] .. إن "الاشتراكية في بلد واحد" تنحل بفضل تطورها الخاص في تصور أوسع يعيد توطيد الصلات الأساسية بين بناء المجتمع الاشتراكي وتطور الرأسمالية.." 76 ..ما أن تنجز الدولة العمالية مهام التحديث الصناعي والاجتماعي حتى نصل إلى هذا التصور الأوسع الذي يؤكد السمة الدولية للصراع الطبقي القومي في عصر الإمبريالية الرأسمالية. وهذا يقودنا إلى قول ماركس: من أن صراع الطبقات ، دولي بماهيته.
يبذل المفهوم الماركسي السوفياتي ذو النزعة القطرية جهده ليلائم النظرية الماركسية بخصوص صراع الطبقات وبناء الاشتراكية . يقول ماركوز: يبذل المفهوم الماركسي السوفياتي جهده ليلائم النظرية الماركسية عن صراع الطبقات ، مع تلك الواقعة التاريخية المتمثلة في "تجميده" في البلدان الصناعية المتقدمة ..
إن هذه الملاءمة مرتبطة بمذهب المعسكرين..إن النزاع بين مصالح البروليتاريا الواقعية (التاريخية/ السياسية) ، ومصالحها المباشرة (النقابية/ المطلبية) ، هذا النزاع الذي كشفت عنه النظرية الماركسية منذ البداية ، يصبح الآن نزاعاً بين تجمعين دوليين ، والمفروض بـ بروليتاريا البلدان المتخلفة "الخارجية" أن تقاتل من أجل المصالح الواقعية ، وتأخذ على عاتقها الرسالة التاريخية للبروليتاريا العالمية . هذا التغير في التناحرات، يترافق بتغير في مضمون الصراع الطبقي وإستراتيجيته. إن هذا الصراع يصبح نزاعاً دائراً حول المكان والسكان ، وتصبح المشكلات الاجتماعية تابعة للمشكلات السياسية (والدبلوماسية). والمصالح الطبقية للبروليتاريا الغربية ، لا تلقى التأييد من السياسة السوفياتية إلا بقدر ما لا تتعارض مع مصالح الاتحاد السوفياتي السياسية .
وعلى هذا فإن صراع الطبقات لم ينتقل إلى الصعيد الدولي - كما تدعي الماركسية السوفياتية- بل تحول إلى صراع سياسي دولي .. وباتت مصالح البروليتاريا الواقعية في الغرب (وفي باقي العالم الرأسمالي ) مرهونة بمصالح البيروقراطية السوفياتية.. (راجع ص 78 )
هكذا ، يقود الصراع الدولي إلى آلية لتثبيت الوضع والبنية في الاتحاد السوفياتي ، ولاحقاً إلى تعفن هذه البنية وانهيارها.
إن هذا التحول لصراع الطبقات ، لم يعد قادراً على حل النزاع الداخلي في الاتحاد السوفياتي بين القوى المنتجة المتطورة والطابع القمعي لتنظيمها واستخدامها. 78 . وكان ماركس يؤكد أن الأفراد لا يستطيعون أن يكونوا أحراراً إلا إذا أشرفوا على عملية الإنتاج .. 78 .. فإذا لم تقلب الثورة الاجتماعية .. دفعة واحدة العلاقة بين الشغيل وأدوات عمله ، أي إذا لم تسلم الأول الرقابة على الثانية ، فإن مبرر وجودها لا يكون مختلفاً كثيراً ، عن مبرر وجود المجتمع الرأسمالي .. وعلى هذا فإن إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، مرتبط من الأساس، بنقل الرقابة عليها إلى الشغيلة أنفسهم . وما لم يتم هذا النقل ، فإن الثورة تجازف بأن تخلق من جديد ، التناحرات نفسها ، التي تبذل جهدها للتغلب عليها .. ومن أشكال هذه التناحرات:
1- الاستخدام القمعي لوسائل الإنتاج المؤممة
2- التباين بين مستوى الإنتاجية ومستوى الاستهلاك
3- النزاع بين حاجات المجتمع وحاجات الفرد
4- النزاع بين ملكية الدولة والملكية الخاصة ونصف الخاصة(التعاونية)
5- النزاع بين مصالح الاتحاد السوفياتي ومصالح الأحزاب الشيوعية الأجنبية
6- النزاع بين أهداف الأمن "القطري" للاتحاد السوفيالتي وأهداف السياسة الاشتراكية أو مصلحة الصراع الطبقي العالمي.
لقد زعم ستالين عام 1938 أن التناقضات الداخلية قد حلت بفضل نجاح بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي . وفي عام 1952 أشار إلى أن هذه التناقضات الداخلية ، تعاود الآن الظهور من جديد على مستوى آخر.." 79
هكذا فإن الوضع التاريخي ، يدفع إلى غياهب العدم بالتصور الستاليني عن "الاشتراكية في بلد واحد " ، هذا التصور القائل إن التناقضات الداخلية يمكن أن تحلها الدولة السوفياتية ، في حين أن التناقضات الخارجية ستظل قائمة.." 80 فالماركسية السوفياتية ترى أن "التطويق الرأسمالي" يفرض التعزيز المستمر للمؤسسات السياسية والعسكرية القمعية ، ويمنع الاستخدام الحر للقوى المنتجة لإشباع الحاجات الفردية . لكن هذا التعزيز المستمر للمؤسسات السياسية والعسكرية السوفياتية ، يطيل بدوره أمد "التطويق الرأسمالي" ، بل يؤدي إلى توحيده على مستوى القارات..
إن الماركسية السوفياتية ، مرغمة على الاعتراف (بقول ماركس ولينين) بالارتباط القائم بين سلسلتين من التناقضات ، تجعلان المشكلات الاجتماعية(الطبقية) تحدد المشكلات السياسية (والدبلوماسية) . وحين يكف التنافس الدولي ، عن أن يكون تنافساً مسلحاً ، يستهلك قسماً كبيراً من الإنتاجية السوفياتية ، بحيث يعاد توجيه قدرة إنتاج الدولة السوفياتية لتوضع في خدمة حاجات مواطنيها..(وفي خدمة الصراع الطبقي الدولي) ، وليس في خدمة المصالح الضيقة للبيروقراطية .
لقد كتب ماركوز تنظيراته هذه سنة 1961 .
وعندما فعل غورباتشوف شيئاً يشبه ذلك من بعيد سنة 1985 ، عبر إعلانه وقف الحرب الباردة من طرف واحد ، لم يكن ذلك من موقع المبادئ الماركسية ، بل ترافق هذا الإعلان مع تخلي الدولة السوفياتية قبل تفككها عن أيديولوجيتها (الماركسية السوفياتية) وعن مهماتها الدولية ، لأنها مع إعادة التوجيه لم تعد بحجاجة إليهما . ومع هذا التخلي عن الأيديولوجية تفككت الدولة السوفياتية بعد أعوام خطة خمسية واحدة.
1 - "الماركسية السوفياتية"، تأليف: هربرت ماركوز . ترجمة: جورج طرابيشي ، دار الطليعة بيروت ط1 أيار 1965 .عنوان الفصل: ؛"الاشتراكية في بلد واحد"..
2- مجتمع ألغيت فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، وتخضع فيه عملية الإنتاج بما فيها التوزيع لرقابة المنتجين المباشرين.
3- تعود الصياغة الستالينية الأصيلة لهذه الفكرة إلى سنة 1925 ، مع ظهور نتائج المؤتمر 14 للحزب الشيوعي السوفياتي.