بعد 50 سنة من الديكتاتورية، الشباب المناضل يضع دستورها موضع سؤال


رفيق الرامي
2011 / 5 / 24 - 09:11     

لم ينشأ بالمغرب حزب عمالي قادر على قيادة نضال الطبقة العاملة، ويلف حوله عامة الكادحين، فظلت الجماهير الشعبية بالمغرب ضحية هيمنة قيادة برجوازية نصبت الملك رمزا للاستقلال. سوغت هذه البرجوازية الملكية رغم دورها في إدخال المستعمر و رغم كونها أداة الامبريالية لإجهاض سيرورة التحرر الوطني .

ومنذ إعادة إرساء الحكم المطلق على أسس جديدة، بعد انقضاء مرحلة الاحتلال المباشر، جوهرها ترابط المصالح مع الامبريالية، سعى هذا الحكم المطلق من جهة إلى خداع الشعب بجملة وعود فارغة و تشريعات ومؤسسات زائفة ، ومن جهة أخرى إلى إرهابه بقوة الحديد و النار.

فور عودته من منفاه، وطيلة فترة حكمه، كان السلطان محمد الخامس يغدق الوعود بتزويد البلاد بمؤسسات سياسية تمكن الشعب من الإسهام المباشر في تسيير الشؤون العامة. بل التزم بضعة أشهر قبل وفاته بأن يجعل المغرب ملكية دستورية قبل متم العام 1962. و صدرت تشريعات ذات غشاء ليبرالي ( ظهير الحريات العامة)، و أقيمت مؤسسات لتمويه الطابع الاستبدادي للحكم: المجلس الوطني الاستشاري (نوفمبر 1956)، و الجماعات المحلية (مايو 1960 -1963)، وكان دستور 1962 سيرا على نفس النهج لكنه كشف بجلاء الطابع الفردي للحكم.

كانت كل هذه التنازلات الخادعة في سياق المناخ السياسي للحقبة الممتدة من الاستقلال الشكلي حتى مطلع سنوات 1960، حقبة تميزت بوجود حركة جماهيرية وازنة بدأت بالتبلور غداة تجذر النضال ضد الاستعمار ببروز منظمات النضال المسلح بالمدن وجيش التحرير بالأرياف، وتأسيس النقابة العمالية – الاتحاد المغربي للشغل، علاوة على كون الحكم المطلق كان في طور بناء أسس دولته: الجيش و الشرطة ( ربيع 1956)، كما مارست الثورة الجزائرية ضغطا حدا بالملكية إلى تقديم تنازلاتها الكاذبة.

بموازاة سياسة الارشاء و الإفساد، عمد الحكم المطلق إلى القمع المباشر لكل صبوات الغليان الشعبي (الريف عام 1958)، و التآمر على منظمات المقاومة و جيش التحرير، وتصفية الجناح الراديكالية داخل الحركة الشعبوية ( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية),

هذا ما مكن الحكم المطلق، بعد انتصاره على عصيان 1965، من العودة صوب من اغرتهم بتنازلاتها الخادعة لتصفية حساباته معهم. فحل برلمان 1963، وأعلن حالة الاستثناء، وانفرد بالحكم بشكل مكشوف. و استمر على هذه الحال إلى أن اضطر في سياق بروز علامات انفجار إلى الرجوع إلى خدعه المألوفة. وكان ابرز أمارات الانفجار:

محاولات قلب النظام من قبل الثوريين الشعبويين (1970-1973)

محاولتي الانقلاب العسكري

الغليان بأوساط الشبيبة

ظهور الحركة الماركسية اللينينية

هذا بالإضافة إلى حاجته، بدءا من العام 1974، لدعم المعارضة البرجوازية لسعيه إلى ضم الصحراء الغربية .

هذا السياق اجبر الملكية على العودة إلى التنازلات الكاذبة، متمثلة في دستور 1972 و المؤسسات التي أقيمت بموجبه. و كدستور 62 ، لم يكن دستور 72 غير تعبير فظ عن طابع الحكم الاستبدادي.

ولم تغير تعديلات 1992 و 1996 شيئا من جوهر الدستور: فنظام الحكم ملكية حق الهي مطلقة، حيث الملك أمير المؤمنين [صفة استعملها القضاء في 1970 لمنح الحصانة للظهائر الملكية وعدم قبول الطعن فيها كشطط في استعمال السلطة] . وهو الممثل الأسمى للأمة، شخصه مقدس، لا تنتهك حرمته، كلامه لا يناقش، ينتقل الحكم بالوراثة، و باختيار منه، و النظام الملكي للدولة غير قابل لمراجعة دستورية.

الملك مطلق السلطة وكلي الوجود: إرادة الملك تجعلها الظهائر قانونا، وما يصدر عن البرلمان لا مفعول له إلا بموافقته. ويفرض حالة الاستثناء،وحالة الحصار ، ويحل البرلمان. ويعين الوزير الأول، والحكومة، و يقيلهما، و يرأس مجلس الوزراء، ويعين في كل الوظائف المدنية و العسكرية. وهو القائد الأعلى للجيش. يجري تمويه هذه السلطة المطلقة بجملة مؤسسات تمثيلية لا سلطة فعلية، حيث الحكومة الفعلية هي الملك ومحيطه من المستشارين والخبراء.

وقد تمكن الحكم بعد عقود من الترويض من تدجين المعارضة البرجوازية لتقوم بالأدوار التي يريد في المؤسسات. يمنح كل حزب حصة وتفرض القسمة بالتزوير و الإغراءات و القمع، ويحتفظ دوما بالأغلبية لحزب الملك. و بالمقابل سعي حثيث، ونجاح كبير، في افساد المعارضين الزائفين [ اعترف مؤخرا قيادي اتحادي قائلا:"زعاماتنا في المكتب السياسي لها مصالح لأنها اغتنت من الريع، و راكمت ثروات طائلة " بوبكري محمد. جريدة اخبار اليوم عد 381 – 2 مارس 2011. ]

الدستور: حصيلة ميزان القوى الطبقي

الدستور الذي حكم المغاربة منذ 50 سنة جوهره لم يتغير، إنه أداة حكم فردي مطلق، حكم القرون الوسطى مزوق بمؤسسات زائفة للتمويه و إرشاء القابلين للرشوة من أنصاف الديمقراطيين. هذا الدستور وضعه الحسن الثاني مستعينا بخبراء أجانب، وتم فرضه بالقوة و تزوير نتائج الاستفتاءات، آخره استفتاء 1996 الذي اشرف عليه احد أكبر جلادي المغرب ادريس البصري.

كل من وافق على هذا الدستور يعادي السيادة الشعبية التي يجب ان تجد تعبيرها في مؤسسات منتخبة بحرية و ديمقراطية. وقد لعبت المعارضة البرجوازية – حزب الاستقلال و الاتحاد الاشتراكي وتوابعه- طيلة عقود لعبة دستور الحكم المطلق لأنها كانت ضعيفة عاجزة، بحكم طبيعتها الطبقية بالذات، عن تحقيق ديمقراطية حقيقية، فاكتفت بالسعي الى تقاسم السلطة، من موقع أدنى ، مع الملكية.

دستور موضع سؤال

الآن، بعد ان بدأت موجة نضالات ديمقراطية تهز المنطقة العربية و المغاربية، تاثر شباب المغرب بالنضالات الشعبية، وتسيس في ضوئها بسرعة فائقة، وراح يطالب بديمقراطية حقيقية تضع حدا لمهازل الديمقراطية التي شهدها المغرب.

فعادت لتطرح مسألة من يمارس فعلا الحكم، وكيف يمكن ويجب تحقيق سلطة ديمقراطية فعلا. فسارعت الملكية، الحاكم الفعلي بمقتضى دستور الحكم المطلق، الى تقديم تنازلات قبل ان تتقوى حركة النضال من اجل الديمقراطية وتتجذر. الغاية الجلية من خطوة الملكية هو الحفاظ على جوهر آلية الحكم، وإسكات قسم المعارضة التقليدية الذي تأثر بالمناخ النضالي الجديد فأعاد طرح مطالبه، و في الآن ذاته تدويخ قسم من الحركة السياسية الفتية، حركة 20 فبراير.

فيما رفعت الحركة مطلب دستور جديد، رد الملك بتعديل الدستور القائم. ووضع حدودا واضحة للتعديل المرتقب.

اول ما يجب توضيحه هو من يضع الدستور؟ هذا ما يسمى السلطة التأسيسية. وقد احتكرها الملك منذ أول دستور، و لا يزال يحتكرها. فهو الذي سيضع التعديلات. ولذلك استعان بلجنة مستشارين كلفهم بتقديم اقتراحات، بعد تشاور مع القوى السياسية وقيادات النقابات العمالية وغيرها ممن تقبل العملية طبعا.

الموقف الديمقراطي واضح: الدستور يجب ان يضعه ممثلون للشعب منتخبون، وهذا ما يسمى المجلس التأسيسي. سبق ان طالبت به المعارضة مباشرة بعد الاستقلال،ورفضته الملكية رفضا قاطعا، وقضت بالقمع على المطالبين به.

كل طريقة أخرى لوضع الدستور ليست ديمقراطية، ومجرد مساومة بين الملكية و ديمقراطيين مزيفين يخافون الإرادة الشعبية.

اللجنة الاستشارية التي عينها الملك تضم طبعا من يطمئن إليهم كل الإطمئنان، اي من لن يخطر على بالهم ان يمسوا جوهر الحكم المطلق المثبت في الدستور. ومن بين اعضاء هذه اللجنة، ومنه رئيسها، من عملوا مع ادريس البصري و الحسن الثاني لفرض الطغيان السياسي الذي كبل المغرب عقودا. كما تضم اللجنة عددا من قدماء اليساريين الذين تخلوا عن ماضيهم اليساري وابانوا عن تعاون وطيد مع الحكم المطلق، جاعلين من ماضيهم رصيدا لخداع الناس.

كما وضع الملك آلية متابعة للإشراف على عملية التعاون مع من يقبل إعطاء الحكم المطلق نفسا جديدا بإدخال بعض التنقيحات الطفيفة للالتفاف على مطلب تغيير الدستور للسير نحو ديمقراطية حقيقية. وعين على رأس هذه الآلية مستشاره محمد المعتصم.

سيتم اشراك القوى التي اعتادت التعاون مع الحكم المطلق لإضفاء طابع جماعي زائف على العملية، باعتبار تلك القوى ممثلة للشعب، وفي الأخير سيعرض الدستور المنقح على الاستفتاء. وطبعا لن تكون القضايا الأساسية لممارسة الحكم موضوع اي نقاش، فالخطوط الحمراء ما زالت مكانها.وعبر عن ذلك الخطاب بقول: "ولنا في قدسية ثوابتنا،التي هي محط إجماع وطني،وهي الإسلام كدين للدولة،الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية،وإمارة المؤمنين،والنظام الملكي،والوحدة الوطنية والترابية،والخيار الديمقراطي،الضمان القوي،والأساس المتين،لتوافق تاريخي،يشكل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب."

سيشارك الديمقراطيون المزيفون في السعي إلى نجدة الاستبداد بوجه الموجة الديمقراطية التي تجتاح المنطقة. وما لم يتقدم اليسار الجذري في بناء حزب التغيير الشامل و العميق، سيواصل المغرب البقاء تحت حكم استبدادي الجوهر، و مزوق الغشاء .

اليسار الجذري و النضال من أجل الديمقراطية

الحالة النضالية التي يشهدها المغرب في طور ابتدائي، و متفاوتة سياسيا. قسمها الأكثر تقدما متمثل في الشباب المتسيس حديثا والى جانب قوى اليسار الجذري. ويمثل هذا القسم نخبة. اما القاعدة العريضة لهذه الحالة فجماهير شعبية في مستوى سياسي أدنى، مستوى المطالب الاجتماعية المباشرة. وهذا ما يدل أن مقاطعة الجماهير للانتخابات لم تكن وعيا سياسيا متقدما.

هدف اليسار الثوري قيام مجتمع اشتراكي قوامه سلطة المنتجين المتشاركين. هذا الهدف لا تعيه الجماهير على نحو مباشر، بل بارتقاء وعيها في خضم نضال من اجل مطالبها الآنية و من أجل الديمقراطية. و جلي أن ليس على جدول أعمال الثوريين النضال المباشر من أجل السلطة، بل النضال لكسب الجماهير وتحريرها من الأوهام، ومن ثقتها في قوى إصلاحية.

على الثوريين ان يربطوا قاطرتهم بقطار الجماهير الشعبية، بشعارات نضال تمليها الظروف وتقود الجماهير الى الأمام، مع اعتبار حالة وعي الجماهير وطريقة رد فعلها على مختلف النجاحات الجزئية.