أوباما ينسب الثورات العربية لنفسه


يعقوب بن افرات
2011 / 5 / 23 - 19:34     

في خطاب حماسيّ وثوريّ، استعرض الرئيس أوباما أمام العالم توجّهه بالنسبة للشرق الأوسط، وادّعى أنّه ينبغي استيعاب الواقع الجديد المتبلور في أعقاب الثورات في تونس ومصر. وكان لسان حال الرئيس الامريكي يقول ما يلي: إنّني لا أدعم هذه الثورات فحسب، وإنّما هي من صنع يدي، عندما أعلنت أمام العالم في خطابي في جامعة القاهرة حزيران 2009 أنّ حرب الحضارات قد وصلت إلى نهايتها. إنّني أعلن انقطاعي التام عن سياسة الرئيس بوش وعن الأصوليين الأمريكيين الذين سعوا لتغيير الأنظمة عن طريق الحرب. لقد أثبتت طريق الحرب فشلها وأدّت إلى موجة عداء تجاه الولايات المتّحدة، وإلى علوّ شأن الإسلام الأصولي. لقد جئت حينها إلى القاهرة لأتوجه إلى الجماهير العربية، متجاوزا الزعماء العرب، لأعلن أنّ الإسلام ليس عدوًّا لأمريكا وأنه من حقّ الجماهير العربية التحرّر من الفقر والقهر، والعيش حياة ديمقراطية.

لا شكّ أنّ لأوباما كانت مساهمة في مغادرة الدكتاتوريين، وذلك عندما طالب مبارك بالتنازل عن السلطة وسدد بذلك ضربة قاضية للنظام القديم. المهمة الأساسية بالنسبة لأوباما هي إنقاذ الولايات المتّحدة من الحرب اللانهائية ضدّ الإسلام، فهذه الحرب كلّفت بلاده موارد هائلة وضحايا كثر لم تعد امريكا قادرة على تحملها نظرا للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها. لقد أدركت الإدارة الأمريكية أنّ الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط إلى زوال، لأنّ سياسة تفضيل المقربين والفساد والقمع والفقر والبطالة - ستخلق غضبًا عارمًا سيؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى إسقاط هذه الأنظمة. بالنسبة لأوباما، لم تكن الثورات في العالم العربي مفاجأة تامّة، بل هو رأى إرهاصاتها منذ حين.

في خطابه الأخير، ذكر أوباما محمّد بوعزيزي، الشابّ التونسيّ الذي أحرق نفسه وأشعل فتيل الثورة التي أدّت إلى إسقاط نظام بن علي الاستبدادي، وذكر أيضًا وائل غنيم، الشابّ المصريّ الذي يعمل في "چوچل". ادّعى أوباما أنّ الثورات الديمقراطية العربية تتّصف بقيم الثورة الديمقراطية الأمريكية والوقوف في وجه الإنجليز، وأيضا بقيم روزا بركس الأمريكية من أصل أفريقي التي جلست على مقعد في الباص معدّ للبيض فقط، وأشعلت بذلك فتيل حركة حقوق المواطنين السود في ستينات القرن العشرين. بالفعل ظهر أوباما كثوريّ وديمقراطي ومتنوّر، ونفض عن نفسه جميع الدكتاتوريين الذين كانوا سنوات طويلة حلفاء الولايات المتّحدة الإستراتيجيين في المنطقة. فأوباما يدرك تمامًا إلى أين تهبّ الرياح، ولذلك وجّه شراع سفينته ليتحكم بنفسه هذه السيرورات التاريخية.

احتواء الثورة
درك اوباما أنّ أحد الأسباب الأساسية لاندلاع هذه الثورات هو الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه الجماهير العربية، وعدم وجود مستقبل واضح الملامح للشباب. ترغب الولايات المتّحدة في شراء هذه الثورات، عن طريق تحويل مليارات الدولارات للأحزاب الودّية وتعزيز مكانة الرأسماليين الكبار. يرغب أوباما في انتهاج رأسمالية متنوّرة تتيح للشركات المتعدّدة الجنسيات مواصلة التمتّع باستثماراتها في الدول العربية، وتتيح لأصحاب الأعمال مواصلة ازدهار أعمالهم، لكن بدون فساد ودون تفضيل للمقربين ودون قمع سياسي. كإنسان واعٍ لما يدور حوله، يعلم أوباما أنّ تغييرا من هذا القبيل يستغرق وقتًا، وأنّ الأخوان المسلمين الذين لم يذكرهم بشكل صريح في خطابه، يشكّلون عقبة حقيقية وتحدّيًا كبيرًا أمام النهج الديمقراطي.

لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فإذا صح القول إن الثورة المصرية تبنّت قيم الثوّار الأمريكيين ونضال السود ضدّ العنصرية ومن أجل المساواة في الحقوق، فإنّ الادّعاء بأنّ الثوّار المصريين يريدون تحقيق النموذج الأمريكي، خاطئ تمامًا. الولايات المتّحدة في الوقت الراهن لا تشكّل قدوة لأيّة دولة في العالم. فهي دولة تحكمها بورصة وول ستريت، ويقوم ساستها بخدمة شركات النفط الضخمة وشركات التأمين والبنوك. الدولة التي لا يحظى 40 مليون من سكّانها بتأمين صحّي وتعاني من بطالة تصل نسبتها إلى %10، وتعتبر الفجوات الطبقية فيها من أكبر الفجوات في العالم، لا يمكنها أن تكون قدوة للعالم، وخطاب أوباما لا يمكنه تغيير هذه الحقائق.

الحقيقة أنّ الثورة المصرية لا تتبنّى قيم أوباما، وإنّما تعبّر عن تمرّد شعبي ضدّ النهج الاقتصادي الأمريكي الذي يقوده الرئيس الأمريكي. والدلالة على ذلك ما يحدث من حراك شبابي في اسبانيا، حيث خرج عشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل الى الساحة المركزية في مدريد وسُميّ من الآن "ميدان الغاضبين"، وهؤلاء لا يختلفون كثيرا عن محمّد بوعزيزي. فهم ايضا يطالبون بتغيير النظام، بادّعاء أنّ الحزبين الكبيرين، الاشتراكي واليميني، يقودهما الرأسماليون والبنوك وملاّك العقارات. والسؤال الكبير الذي سيكون على الثوري اوباما ان يسأله هو - ما الذي سيحدث لو وصلت هذه الحركة التي بدأت تجتاح أوروبا، إلى سواحل الولايات المتّحدة؟ ان شباب مصر وإسبانيا واليونان والبرتغال وإيطاليا والولايات المتحدة ذاتها، يصبون لتحقيق الشيء نفسه، وهو وضع حدّ للنهج الرأسمالي الشرس الذي يواصل أوباما انتهاجه، غير عابئ بخيبة الأمل التي تسببها سياسته هذه لملايين الشباب والسود والاتحادات النقابية التي انتخبته رئيسًا.

نتنياهو يتقوقع

ليس شباب اوروبا وحدهم الذين يعيقون امكانية اوباما نسب الثورات لنفسه، بل اسرائيل ايضا. مسؤولون كبار في المؤسسة الامريكية، يشكون منذ مدة بان اسرائيل باتت تشكل عبئا ثقيلا على السياسة الامريكية. والواقع ان نتنياهو لم يكن ليتخيّل خطابًا أسوأ من خطاب اوباما. فالولايات المتّحدة تدعم لأوّل مرّة ثورة تغيّر تمامًا خريطة الشرق الأوسط ضدّ مصلحة إسرائيل. من جهة أخرى، أوباما يعلم أنّ الخطاب الثوري الحار لا يكفي لاقناع العرب، دون اتخاذ موقف واضح من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. صحيح أنّ هذا الصراع ليس لبّ الثورات العربية، ولكنّه يشكّل حجر أساس بالنسبة لنوايا الولايات المتّحدة في المنطقة. لذلك يطلب أوباما من إسرائيل الاعتراف بدولة فلسطينية على أساس حدود 1967.

منذ سنتين ونتنياهو يتردّد ويؤجّل الوصول الى خط النهاية. وكانت بداية متاعبه مع خطاب اوباما في القاهرة عام 2009، فهو لم يحتمله وفعل المستحيل لإفشاله ونجح في دفع المبعوث الأمريكي الخاصّ للشرق الأوسط، جورج ميتشيل، للاستقالة بعد أن فشل في تجديد المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين.

والآن، والمنطقة تعمّها الثورات التي وصلت حتّى مدريد، يقف نتنياهو كمستبدّ عنيد، رافضا الاعتراف بالواقع ومؤثرا التقوقع في مواقف أكل الدهر عليها وشرب، ويحظى في ذلك بدعم احزاب ائتلافه الحكومي. يأمل نتنياهو بأن يصل الأخوان المسلمون الى السلطة في مصر، ويأمل بسيطرة حماس على الضفّة الغربية أو بهزيمة الجماهير السورية المطالبة بالحرّية والديمقراطية. فهو يتمنى ان تتعثر المسيرة الديمقراطية ليقنع اوباما بخطأ نظريته ويفهمه بأن العرب ابدا لن يتحولوا الى ديمقراطيين، وانه لذلك لا حاجة لدفع اسرائيل لتغيير سياستها او "لا سمح الله" إنهاء احتلالها. نتنياهو يفضل بقاء الأمور على حالها لكي يصمد في منصبه، وبالنسبة له وجود اليمين العربي والاسلامي في الحكم يمكن ان يسهّل مهمة اليمين الاسرائيلي، ويديم له سبب وجوده.

ولكن أوباما مصرّ على موقفه. فهو يَعِد باستثمار مليارات الدولارات من أجل إفشال رؤية نتنياهو، ويدرك أنّ الإسلام المتطرّف قد هُزم في شوارع تونس والقاهرة حتّى قبل أن يتخلّص من بن لادن. المصلحة الإستراتيجية الأمريكية هي التي تتحدث من حنجرة اوباما، وهو يدرك انه ليس بوسع أمريكا الاستمرار في حربيها بأفغانستان والعراق وإنفاق المليارات هناك دون جدوى، وفي نفس الوقت إعادة تأهيل الاقتصاد المتأزم. لقد فهم اوباما ما يرفض نتنياهو التسليم به، وهو ان سياسة تغيير الانظمة بواسطة الحرب قد فشلت فشلا ذريعا، وهو يريد ان يجرب سياسة اخرى تكون اقل كلفة واكثر نفعا.

نتنياهو يفهم انه مطالب بدفع ثمن معين في المعادلة الجديدة التي تتبعها السياسة الخارجية الامريكية، ويعرف ايضا ان خطوة في الاتجاه المطلوب منه قد تعني نهايته السياسية وحتى نهاية اليمين، لذا يرفض التأقلم مع الوضع الجديد. ولكن الضغط على إسرائيل يزداد باستمرار، ومرور عامين من إضاعة الوقت بالتأكيد لم تحسّن صورة إسرائيل في العالم بل أدّت إلى عزلها. الثورات في العالم العربي جعلت الاحتلال واستمرار الصراع مستحيلين.

ولكن رغم ما تقدم، لا يستطيع أوباما فرض حلّ للقضية. فإسرائيل ما زالت كنزًا إستراتيجيًا هامًّا لأمريكا، ومع كلّ الاحترام ل"ثورات أوباما"، لا تزال مكانة دكتاتوريات جائرة مثل السعودية والأردن محفوظة لدى الأمريكيين. من هنا يمكن الاستنتاج أنّ التغيير لن يأتي من الولايات المتحدة بل من الداخل فقط. الضغط الدولي من جهة، والثورات العربية من جهة أخرى، يمكنها أن تؤدّي إلى تغيير سياسي في الشارع الفلسطيني وفي السياسة الإسرائيلية أيضًا.

حري بالفلسطينيين استعادة مفاتيح القضية من كل الجهات الداخلية والخارجية، التي استغلّت نضالهم لضمان بقائها في السلطة وقمع شعوبها وفسادها، بما في ذلك فتح وحماس اللتين اوصلتا الشعب الى طريق مسدود. إذا نجحت الثورة المصرية في بناء نظام ديمقراطي ومجتمع قائم على العدالة الاجتماعية، فإنّ هذا يفتح المجال لظهور قوى ديمقراطية على الساحة. في إسرائيل، الرأسمالية الشرسة وفساد القادة والفجوات الاجتماعية واستمرار الاحتلال رغم أنف العالم، تفتح كلها بابًا لبروز تيّار ديمقراطي اجتماعي جديد. تيّار ينفض عن نفسه القيادة الحالية ويطالب ببناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة والسلام مع الشعب الفلسطيني.

ليس واضحًا إذا كانت هذه نيّة أوباما، ولكن ذلك ما يمليه التاريخ والثورات التي تمرّ بها المنطقة.