الرأسمالية وأزمة الغذاء المُفتعلة

كين أوليندي
2011 / 5 / 20 - 09:56     

ترجمة:
ضي رحمي
الناشر:
وحدة الترجمة - مركز الدراسات الاشتراكية
تتوفر الآن كميات هائلة من الغذاء أكثر من أية وقت مضى، ولكن وبالرغم من هذه الحقيقة فلا يزال هناك من هم يتضورون جوعاً. يفضح هذا التحليل كيف تحقق الرأسمالية الأرباح الخيالية من تجارة المواد الغذائية ، في ذات الوقت الذي لايصل فيه هذا الغذاء لمستحقيه.


هذا العام من المتوقع الوصول إلى أعلى معدل إنتاجية للقمح في تاريخ العالم، ومع هذا فإن أكثر من نصف سكان العالم مهددون بالمجاعة. وعلى الصعيد العالمي أرتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل 36 في المائة مقارنة بأسعار العام المنصرم، مما يعني بالضرورة أن هناك الملايين من الذين سيعانوا من أرتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية.


وأدت حالة النقص وأرتفاع سعر السلع الغذائية إلى تأجج الشعور بالغضب واليأس مما أدى إلى إندلاع الأحتجاجات وحدوث أعمال شغب جراء الصراع على الغذاء في بعض الدول مثل موزمبيق، صربيا، باكستان، الهند، الجزائر، اوغندا، تونس، ومصر (على سبيل المثال سقط قتيل في مصر في العام 2010 في ما عرف بأزمة الخبز).


ولايزال هناك أكثر من مائة مليون إنسان يعانون من تبعات أزمة نقص الغذاء الطاحنة والتي وقعوا في براثنها منذ العام 2008، ليصل بذلك عدد الذين يعانون من نقص الغذاء إلى أكثر من مليار شخص وهو أعلى رقم سجل منذ بداية التوثيق لتلك الحالات.


يزداد الركود العالمي حدة، وتصل أسعار الغذاء لأعلى مستوياتها على الأطلاق، مما يعني أرتفاع سعر الخبز في بريطانيا وربما يجد البريطانين بعض المشقة في الحصول عليه، ولكن هذا أيضا ًسيعني حدوث مجاعات في العديد من البلاد الأكثر فقراً.


ويبدو هنا أن التفسير البديهي والمريح لبيان سبب أزمة نقص الغذاء تلك هو القول بأن هناك الكثير من الأفواه وليس هناك ما يكفي لإطعامهم، كما يضيف البعض أسباباً أخرى من شأنها مفاقمة الأزمة كالتغيرات المناخية وأرتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية.


ولكن لا تستطيع أياً من هذه النظريات تفسير سبب الأرتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية خاصة في العام 2008 حيث تزامن هذا مع تحقيق معدل قياسي من الإنتاج ذلك العام، كما حققت أيضاً الشركات متعددة الجنسيات أرباح قياسية من تجارة المواد الغذائية.


والحقيقة أن إنتاجية السلع الغذائية تتزايد كل عام منذ سنة 1950 وبمعدل أسرع بكثير من معدل النمو السكاني. فالمشكلة إذن ليست قلة المواد الغذائية المتوفرة في العالم، ولكن المشكلة أن معظم الناس لا يستطيعون تحمل أسعار الغذاء المرتفعة، ولذلك فإن قضية أرتفاع أسعار الغذاء هي قضية محورية وهامة جداً.


المضاربة في البورصة

هناك نوعان من العوامل الكامنة وراء نمو الأزمة الحالية، إولها زيادة الإقبال على المضاربات المالية على المواد الغذائية، وثانياً صناعة الوقود الحيوي. ولقد كتب الخبير الاقتصادي الهندي جاياتي غوش: "خلال العام الماضي ظهر لنا جلياً الآن أن المضاربة المالية على المواد الغذائية في أسواق الأوراق المالية العالمية هو العامل الرئيسي وراء الأرتفاع الحاد في أسعار السلع الأساسية ، بما في ذلك السلع الزراعية."


وأرجع بعض المعلقين السبب في تلك الأزمة إلى التوسع في تربية الماشية لتلبية الطلب المتزايد على اللحوم، فالقطاعات الحديثة من أثرياء الطبقة المتوسطة في الهند والصين يستهلكون كميات ضخمة من اللحوم سنوياً، ولتلبية تلك الحاجة تستخدم الحبوب لتغذية الحيوانات بدلاً من الناس.

ولكن وفقًا للأمم المتحدة ، إذا لم تستخدم الحبوب كعلف للحيوانات فإنها لن تزرع في الأساس، وبذلك لن تكون متاحة للبشر كغذاء، أي أن الحبوب تزرع خصيصاً لتغذية الماشية. ويخلص هذا القول إلى أن "إستخدام الحبوب كعلف للحيوانات لا يسهم في زيادة حدة أزمة الجوع ونقص التغذية."


ومنذ عام 1980 ، تشهد واردات الحبوب في الصين والهند تراجعاً بنسبة 4 في المئة سنوياً في المتوسط. ومنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي أصبحت الصين هي المصدر الرئيسي للحبوب. المشكلة الحقيقية تكمن في مقامرة المصرفيين والتجار بأسعار المواد الغذائية في ما يعرف بـ "السوق الآجلة". ففي سوق العقود الآجلة يتكهن المستثمرين بشأن منتج ما، وهل سوف يحقق هذا المنتج سعراً أفضل في المستقبل بدلا من قيمته الحالية.


المدافعون عن الأسواق المالية يدعون إنهم قدموا مساعدة للمزارعين عن طريق استقرار الأسعار مع مرور الوقت، حيث أن السوق يهدف إلى السيطرة على تقلبات الأسعار على المدى القصير ضد تأثرها بأحوال الطقس أو أية عوامل أخرى غير متوقعة.


وأدعى اقتصاديو الليبرالية الجديدة أن الأرصدة الاحتياطية الغذائية ستحقق الاستقرار في أسواق المواد الغذائية ، لتحل محل تدخل الدولة والإعانات التي كانت تقدم في الماضي. ولكن هذا التبرير يتجاهل حقيقة أنه، وكما أوضح الخبير الاقتصادي "روبرت بولين": أن دائماً ما يتحكم في السوق آولائك الذين يهدفون إلى تحقيق أرباح كبيرة في وقتاً قصير، ربما يكون انهيار البورصة في عام 2008 هو أكبر دليل على هذا.


وفي الواقع إن مطاردة الربح بهذا الشكل يجعل الأسعار غير مستقرة، فحين يلوح في الأفق أمام هؤلاء المستثمرين أزمة محتملة كالفيضانات مثلاً، فأنهم يشترون بكميات كبيرة، ثم تزداد المقامرة بأسعار هذة الأغذية كلما تواترت الأنباء عن الأزمة والنقص المحتمل.


و خير مثال على ذلك ما حدث الأسبوع الماضي، عندما كشفت شركة "جلينكور" وهي شركة للمتاجرة في الحبوب مقرها سويسرا، من أنها ضاربت في البورصة أعتماداً على أرتفاع أسعار الذرة والقمح نتيجة لموجة الجفاف التي ضربت روسيا في صيف 2009.


وأثناء أزمة الجفاف التي ضربت روسيا تلك، كان رئيس وحدة الحبوب الروسية بشركة "جلينكور" قد أدلى ببيان صحفي يحث فيه الحكومة الروسية على أتخاذ إجراءات من شأنها فرض الحظر على صادراتها من القمح، وبعد يومين فقط وتحديداً في الخامس من أغسطس 2009 أدي هذا الحظر إلى أرتفاع أسعار القمح عالمياً بنسبة 15 في المائة. إن المشكلة إذن تكمن في أن نظام الزراعة في العالم قائم على أساس الربح بدلاً من أن يقوم على أساس الحاجة.


إن النظام الحالي للزراعة والتجارة والذي نما في ظل الرأسمالية، ومروراً بالأمبراطوريات الاستعمارية، حين كانت دول مثل بريطانيا وفرنسا أقتسمت العالم لضمان مصادر المواد الخام، والأسواق الخاضعة لتسويق سلعها.


وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية ، غالباً ما قيل للبلدان الفقيرة، والتي حصلت على استقلالها للتو في هذا الوقت، أن الطريق للمنافسة هو إتباع أساليب الزراعة الغربية والتي تعتمد على المزارع الكبيرة الحجم والميكنة الزراعية الحديثة إلى جانب إستخدام الأسمدة الكيماوية.


وبلا شك فإن إتباع تلك الأساليب الحديثة والتي عرفت بـ "الثورة الخضراء" قد أدت إلى زيادة كمية الغذاء المتاحة للفرد بنسة 11 في المائة سنوياً في الفترة بين عامي 1970 و 1990، ولكن بنهاية هذه الفترة كان الجوع قد أخذ في الإزدياد مرة أخرى.


الديـــون


وجد المزارعين أنفسهم غارقين في الديون إلى هؤلاء الذين زودوهم بالآلات الزراعية الحديثة والبذور والأسمدة، وإذا قرروا الامتناع عن الدفع لتلك الشركات، سوف تنخفض عائداتهم.


وفي الوقت نفسه ، تم تشجيع المزارعين على زراعة "المحاصيل النقدية" أي المحاصيل ذات العائد الربحي الكبير للبيع في السوق العالمية ، مما وضعهم في مهب تقلبات الأسعار العالمية والتي لم يكن لديهم أدنى سيطرة عليها، فالأسواق تعمل فقط على توزيع المواد الغذائية، وذلك أيضاً في حالة ما إذا كان لدى الناس الأموال الكافية للدفع.


كتب "جيفري ساكس" مستشار الأمين العام للأمم المتحدة : "لا يمكن للأسواق أن تتدخل بشأن الأسعار ولن تتدخل خاصة حين لا يملك الناس شيئاً، وإذا توقفت عن مساعدتهم في تلك اللحظة فإن هذا ببساطة يعني إنك تتركهم ليلقوا حتفهم".
هناك حالة من النفاق الفطري في الطريقة التي يدار بها العمل. فالدول الغنية تطالب بأن يترك الفقراء تحت رحمة "السوق الحرة"، في حين انهم يقومون بتقديم الدعم والمساندة لشركات الصناعات الزراعية الكبرى في الغرب.


إن النظام الأمريكي القائم على الإعانات بدأ العمل به لأول مرة بعد الكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينيات القرن العشرين. وفي كتاب "التمرد الغذائي! الأزمة والإفتقار للعدالة" لـ"إيرك هولت وراجي باتيل"، يؤكد الكاتبان على أن حكومة الولايات المتحدة شجعت على الأحتفاظ بفائض غذائي دائم، على النحو الذي يمكنها من بيعه بأسعار زهيدة في جميع أنحاء العالم: "ولطالما استخدمت الولايات المتحدة حجة الوفرة الأنتاجية كذريعة ومبرر لفتح أسواق لتجارة منتجاتها في النصف الجنوبي من العالم".


حتى في البلدان الغنية، تذهب تلك الإعانات لصالح المزارع الكبرى على حساب تلك الصغيرة. ويعد قطاع الصناعات الزراعية هو ثاني القطاعات ربحية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد قطاع الصناعات الدوائية. ففي أبريل من العام 2008، سجلت شركة "كارجيل" الأمريكية العملاقة والعاملة في مجال الصناعات الزراعية زيادة في أرباحها بنسبة 86 في المائة مقارنة بالعام السابق. وتتمكن شركة "كارجيل" بسبب احتفاظها بمخزون ضخم من المواد الغذائية من بيعها بأسعار باهظة وبأضعاف قيمتها الحقيقية.

في 2006، أخذ سعر الذرة في الأرتفاع وكما هو معرف فأن الدقيق المصنوع من الذرة هو عنصر أساسي في صناعة نوع من الخبز الشعبي في المكسيك، قامت شركة "كارجيل" بشراء 600,000 طن من الذرة المكسيكية البيضاء بمبلغ 1650 بيزو (العملة المكسيكية) للطن الواحد. ثم قامت ببيعها بعد ستة أشهر عند اشتداد الأزمة بمبلغ 3500 بيزو للطن.


في عام 1986 صرح "جون بلوك" وزير الدولة للزراعة الأمريكي قائلاً "أن الفكرة القائلة بأن البلدان النامية ينبغي ان تطعم نفسها هي مفارقة تاريخية من حقبة ماضية. وأضاف قائلاً: "يمكن للبلدان النامية تأمين أمنها الغذائي عن طريق الأعتماد على المنتجات الزراعية الامريكية والتي تتوفر، في معظم الأوقات، وبتكلفة أقل بكثير". ولكن في الواقع إن إغراق السوق بتلك الحبوب الرخيصة لم يساعد السكان المحليين الذي طردوا من أعمالهم وبالتالي لم يعد لديهم المال لشراء تلك السلع. لا جدوى إذن من الإعتماد على الولايات المتحدة والسوق الحرة لتأمين مواد غذائية رخيصة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو من الذي يتحكم في صناعة الغذاء وعل من تعود الفائدة؟!َ


لقد اضطرت القوى الإمبريالية على الأعتراف بحق التونسيين والمصريين في "الديمقراطية"، ولكن بالرغم من هذا الأعتراف إلا أنهم سيقاتلون بضراوة من أجل وقف سير عملية التغيير الاجتماعي التي يطالب بها الشعبين. فقط عندما نتمكن من السيطرة على الزراعة وإنتاج ما نحتاجه من غذاء، عندئذٍ سوف نضع حداً لفضيحة المجاعة والجوع إلى الأبد.

الوقود الحيوي وإنتظار ما هو أسوء

لطالما روجت الدعاية للوقود الحيوي وتم تقديمه كوسيلة لإنقاذ كوكب الأرض من التغيرات المناخية عن طريق حرق المحاصيل للحصول على الوقود بدلاً من استخدام الوقود المستخرج من باطن الأرض كالبترول.


لكن الوقود الحيوي يتسبب في أرتفاع أسعار المحاصيل، حيث يتم تحويل المحاصيل والأراضي الزراعية من دورها الأساسي في الأنتاج الغذائي والصناعات الزراعية. وبسبب أن الحكومات تهدف أيضاً إلى تحقيق أعلى الأرباح والحصول على الدعم الممنوح للصناعات القائمة على الوقود الحيوي.

الصناعة لا تحتفظ به حتى بوعدها "الأخضر"، لأنه يتطلب مقدار كبير من التكنولوجيا ومساحات شاسعة من الأرض ، وخاصة في البلدان الأكثر فقراً. على سبيل المثال، تحويل الموارد الطبيعية كي يصبح وقود حيوي هي المسؤولة عن إزالة مساحات كبيرة من الغابات المطيرة في البرازيل.


ومع ذلك، تتمتع صناعة الوقود الحيوي بشعبية هائلة بين الحكومات، ويظهر هذا بوضوح من خلال التكالب الضخم على تلك اللصناعة في السنوات الأخيرة. يقول "جاياتي جوش": "في 2007 حولت الولايات المتحدة أكثر من ثلاثون في المائة من من إنتاج الذرة ، ونصف انتاج محصول قصب السكر في البرازيل ، وفي الأتحاد الأوروبي تم تحويل الجزء الأكبر من البذور النباتية المنتجة للزيوت وكذلك الزيوت النباتية المستوردة لتصنيع الوقود الحيوي".




* نُشر المقال باللغة الإنجليزية بجريدة العامل الاشتراكي، مايو 2011، يصدرها حزب العمال الاشتراكي البريطاني