الإسلاميون والثورة


سامح نجيب
2011 / 5 / 17 - 00:42     

دائما ما تثير المناقشات حول الحركة الإسلامية في أوساط اليسار والليبراليون حالة من الهيستيريا. فما بالكم ونحن في المراحل الأولى لأكبر ثورة شعبية في التاريخ المصري؟ وما بالكم وقوى اليسار صغيرة ومنقسمة في حين أن الإخوان المسلمين هم أكبر القوى في الساحة السياسية المصرية بشكل عام؟ ويزيد من حالة الهستيريا دخول السلفيين والجماعات الإسلامية المتطرفة إلى الساحة السياسية.


غالبية فصائل اليسار تضع كافة الإسلاميين بمختلف إتجاهاتهم في سلة واحدة، رجعية ومضادة للثورة. ولكن هذا الموقف يشوبه التعميم والسطحية، ولا يساعد على فهم تناقضات التيار الإسلامي وبالتالي يؤدي إلى حالة من التخبط والكثير من الإحباط. فإذا كان الإسلاميون بهذه القوة والتماسك الذي يخيف كثير من اليساريين فكيف لنا أن نواجههم وكيف نكسب الجماهير الملتفة حولهم؟


هناك أولاً تضخيم غير مبرر لحجم تأثير التيار الإسلامي كما رأينا خلال مليونيات الثورة، هذا لا يعني التقليل من خطورتهم خاصة في الفترة القادمة، ولكنه يعني أن هناك قطاعات واسعة من الجماهير لا تؤيد الاسلاميين ولديها رغبة جارفة للتعرف على البدائل مما يتيح لليسار فرصة ذهبية لاسترجاع جماهيريته المفقودة أو التي لم تكن موجودة أصلاً.


تناقضات الإخوان في المرحلة الأولى للثورة


لم يشارك الإخوان بشكل رسمي في مظاهرات ٢٥يناير، بل نصحوا شبابهم بعدم التظاهر في ذلك اليوم. ولكن الكثير من شباب الإخوان لم يستطع مقاومة المد الثوري، وشاركوا رغم تعليمات قياداتهم. وسرعان ما اضطرت تلك القيادات لتغيير سياستها عندما أدركت أن المظاهرات تحولت إلى ثورة شعبية، فنزلوا الشوارع والميادين بقوتهم الكاملة. ولكن ذلك لم يلغي التناقضات والخلافات داخل التنظيم. فعندما دعاهم عمر سليمان إلى الحوار حدث خلافًا شديداً داخل مكتب الإرشاد، نتهى بقبولهم الدعوة، ورأينا قياداتهم إلى جانب عمر سليمان ورفعت السعيد، وتحت صورة ضخمة لحسني مبارك. ولكن ذلك المشهد لم يمر مرور الكرام لدى شباب الجماعة المشارك في معارك ضارية في الميادين ضد الأمن والبلطجية مما اضطر قيادة الإخوان إلى وقف الحوار وإلى تصوير اللقاء الفاضح على أنه كان مجرد لقاء لجمع المعلومات وأنه فشل من اللحظة الأولى.


إذاً، فالإخوان لم يكونوا في الفترة الأولى من الثورة قوة مضادة للثورة ولكنهم لم يكونوا أيضاً قادرين على المشاركة في الثورة، دون تذبذب وانقسامات وكان ما يحرك مكتب الإرشاد ضغوط التيارات المختلفة داخل الجماعة فلم تكن مشاركتهم نتيجة لموقف مستقيم ومبدئي من الثورة، بل نتيجة لضغوط رهيبة من قواعدهم الشبابية، التي اندمجت مع الجماهير في ميادين الثورة.


هذا التذبذب والتناقض ليس جديداً على الإخوان، فتاريخهم كله شاهداً على ذلك منذ الإمام البنا وحتى اليوم. ففي نهايات الأربعينات تمكن النظام الملكي من تدمير قلب التنظيم، رغم قوته وتجاوز عضوية الجماعة أكثر من نصف مليون، من خلال استغلال الخلافات الحادة داخل التنظيم وتذبذب قيادتهم في مواجهة النظام الملكي. وقد شهدت الجماعة أزمة مماثلة في الأعوام الأولى لثورة يوليو حيث مكنت الخلافات والتذبذب في المواقف إلى تمكين النظام الناصري من تحطيمهم.


إن التذبذب الدائم بين المعارضة والمهادنة، وبين التصعيد والتهدئة، هو نتيجة لطبيعة الإخوان كجماعة شعبوية دينية، تضم قطاعات من البرجوازية الحضرية، جنباً إلى جنب مع البرجوازية الصغيرة التقليدية، والحديثة (الطلاب وخريجي الجامعات)، والعاطلين وقطاعات واسعة من الفقراء. هذه التركيبة تظل متماسكة في أوقات الهدوء السياسي والاجتماعي، ولكنها تتحول إلى قنبلة موقوتة عند لحظات التحول الكبرى، حين يصبح التوفيق بين مختلف المصالح الاجتماعية المتناقضة تحت العباءة الدينية الواسعة والمبهمة أمر يكاد يكون مستحيلاً.


هذه التناقضات تنعكس أيضاً في مواقف الجماعة من الاستعمار والصهيونية، فنجد خلافات بين من يريد إلغاء إتفاقية كامب ديفيد، ومن يعلن عن التزام الجماعة بكافة الاتفاقات الدولية، ونجد من يخطب بحدة ضد الاستعمار الأمريكي، ومن يقابل ويفاوض مسئولين أمريكيين بشكل منتظم (إحدى وثائق وكيليكس تتحدث عن التقارب واللقاءات المتكررة بين مسئولين أمريكيين وبين عضو مكتب الإرشاد محمد الكتاتني)، وهذه ليست مجرد انتهازية سياسية بل نتيجة حتمية لتركيبة الجماعة وتناقضاتها.


الإخوان والمرحلة الثانية من الثورة


تتحرك الثورات الشعبية بشكل سريع من مرحلة إلى أخرى، بل وتتداخل تلك المراحل بشكل معقد. فما بدأ كثورة ديمقراطية للإطاحة بالديكتاتورية والفساد، يتحول سريعاً مع تحقيق المطالب الأولية، إلى مطالب أكثر جذرية بالنسبة للديمقراطية، مع انفجار واسع للمطالب الاجتماعية والاقتصادية. وهنا نجد التحولات السريعة في مواقف القوى السياسية، فمن كان ثورياً حتى الأمس يتحول بين ليلة وضحاها إلى مُعادٍ لاستمرار الثورة وتعميقها. وهذا ما رأيناه تماماً في حالة قيادة الإخوان. ففي الاستفتاء على تلك التعديلات المعادية للديمقراطية، التي طرحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قادت الجماعة حملة الموافقة مستخدمة في ذلك سلاح الدين بشكل فاضح. وما يهمنا هنا ليس استخدام الدين فهذا ليس جديداً بل تحالف الإخوان مع قيادة الجيش لتمرير الموافقة على التعديلات، والتي تعتبر بمثابة إهانة للثورة المصرية.


إن تعميق الثورة يعني الاصطدام عاجلاً أو آجلاً مع المجلس العسكري الحاكم، وانكشاف وجهه الحقيقي كجزء أصيل من النظام البائد بكل عفنه وفساده. وقد بدأ يتكشف ذلك الوجه القبيح بالاعتقالات والتعذيب وفض المظاهرات والإضرابات، والتفريق العنيف والقاتل لاعتصام التحرير في تلك الليلة السوداء. ماذا كان موقف الإخوان؟ في الصباح شاركوا بقوة في الضغط على المجلس لتسريع تقديم رموز النظام وعلى رأسهم مبارك. أما موقفهم من إعتصام المساء فقد دافعوا بإستماتة عن موقف الجيش بل رددوا نفس أكاذيب المجلس حول عدم استخدام النار الحية. ومنذ ذلك الحين، أصبح الإخوان يرددون نهاراً ليلاً تلك الأكاذيب حول وطنية الجيش وقياداته وحول أن الجيش "خط أحمر" وأن الجيش يحمي الثورة وأن التحرك ضد المجلس الحاكم بمثابة خيانة للثورة.


في بيان للجماعة على موقعهم الإلكتروني نجد المقاطع التالية: "الجيش يحاول الحفاظ على درجة الانضباط بين صفوفه وهذا حقه، ونحن معه ألف في المائة؛ لأن الجيش إذا لم يحافظ على الانضباط بين صفوفه فإنه لن يستطيع حماية الشعب، فالجيش الآن هو القوة الوحيدة المنظمة في مصر وليس من مصلحتنا إضعافها، ومن المستحيل أن نسمح لأحد بإضعافها، وقد عرفنا مَن قاموا بهذا العمل، وما هي أهدافهم ومقاصدهم


الإخوان المسلمون حريصون على نجاح الثورة.. ونحن ندرك تمامًا أن مِن بين عوامل نجاحها واستمرارها موقف جيشنا العظيم، فقد قال للشعب منذ اللحظة الأولى: إذا سمحتم قوموا بالتعبير عن آرائكم والتظاهر بكلِّ حرية طوال اليوم، وليس خلال أوقات حظر التجوال التي تمَّ تخفيفها أكثر من مرة لتصل إلى3 ساعات فقط".


أما الموقف من التعميق الإجتماعي للثورة وموجة الإضرابات العظيمة وغير المسبوقة والتي فجرتها الثورة. فقد كان موقف الإخوان نفس موقف الحكومة والمجلس: "ضرورة العودة إلى العمل لإنقاذ الاقتصاد المصري
يطالب الإخوان المسلمون جميع فئات الشعب المصري بالعمل على دعم عجلة التنمية والإنتاج، وألا تكون المظاهرات الفئوية- التي هي حق أصيل لأصحابها- معطلةً للإنتاج أو سببًا في تراجع الاقتصاد، خصوصًا أن نجاح الثورة مرتبط بدفع عجلة الاقتصاد؛ حتى يشعر المواطنون أن ما قدموه من تضحياتٍ في سبيل البحث عن حياةٍ كريمةٍ لم يكن مجرَّد كلامٍ في الهواء، وحتى يثبت الشعب المصري أنه قادرٌ على صناعة إنجازٍ آخر يُضاف إلى إنجاز الثورة، وهو العمل على انتشال مصر من أزمتها الاقتصادية.


هذه المواقف ليست بالطبع حكراً على الإخوان فالقوى الليبرالي تشارك بحماس كبير في نفس تلك الحملة المزدوجة- التأييد المطلق للمجلس العسكري والعداء الهستيري للإضرابات العمالية تحت عنوان عودة عجلة الإنتاج، بل طالب عمر حمزاوي أحد نجوم الليبرالية المصرية لتكوين مجموعات من الشباب والشخصيات العامة للقيام بحملة دعائية في وسط العمال لوقف الإضرابات- أي التحريض على كسر الإضرابات والتعاون مع الجيش لفضها ويشارك في هذه الآراء مجموعة واسعة من المثقفين والكتاب (ثوار الأمس) في هذه الحملات المناهضة للثورة في مرحلتها الثانية.


دخول السلفيين


كما طرحنا، فكثير من اليساريين يعتبرون الإخوان والسلفيون مجرد وجوه مختلفة للعملة نفسها وهذا ليس صحيحاً. نعم هناك قطاع سلفي داخل الإخوان ونعم هناك أرضية فكرية متشابهة، ولكن هذا لا يجب أن يجعلنا نتجاهل خصوصية الظاهرة السلفية ودورها الحالي في محاولات تخريب الثورة.


السلفيون حالياً هم الجناح الإسلامي للبلطجية وعلاقاتهم مع الجهاز الأمني للنظام السابق أهم كثيراً من علاقاتهم مع الإخوان. فقد سمح نظام مبارك منذ ٢٠٠٦ لإنشاء محطات فضائية سلفية، تنشر سمومها منذ ذلك الحين؛ بث دائم للطائفية والرجعية، ومعاداة المرأة والتكفير ومحاولة إغراق الجماهير في عالم القرون الوسطى.


قنوات مثل الرحمة والناس ظلت عملياً أدوات دعاية لما يسمى الدعاة السلفيين أمثال محمد حسان وأبو إسحاق الهويني ومحمد يعقوب، لنشر الفكر السلفي في أوساط واسعة من الشباب وقد نجح هؤلاء في خلق شعبية واسعة لذلك الفكر المتخلف والخطير (هناك ٩١ مجموعة فيس بوك من أتباع محمد حسان) وقد أصبحت تلك القنوات من الأكثر مشاهدة على التلفاز في مصر. وكل ذلك بتشجيع وموافقة من قبل الأجهزة الأمنية ليس فقط لمنافسة الإخوان ولكن أيضاً لتنظيم صفوف الوجه الديني للثورة المضادة. ولم يكن من الغريب إذاً أن تتصاعد الهجمات على الأقباط وكنائسهم قبل الثورة، وليس غريباً أيضاً الحملات الحالية الأمنية السلفية لخلق مناخ الثورة المضادة ولعل أحداث المنيا الأخيرة خير شاهد على ذلك.
الثورة والثورة المضادة


يقسم بعض اليساريين الساحة السياسية اليوم إلى القوى المدنية من جانب، والقوى الإسلامية من الجانب الآخر. وقد استُدرج البعض منهم إلى سجالات حول المادة الثانية من الدستور، وكان ذلك بالطبع هدية ثمينة للإسلاميين، والذين استخدموها على الفور لخلق حالة ذعر وكأن الإسلام نفسه في خطر بمجرد طرح المادة الثانية للنقاش. بالطبع يجب على اليسار أن يدافع بمبدئية عن فصل الدين عن الدولة، بل عن الدولة العلمانية ولكن يجب أن يعرف كيف ومتى يدخل معاركه؟ ومع من؟ فالعلمانية في حد ذاتها، دون الربط بينها وبين مصالح الطبقة العاملة والفقراء، لا معنى لها، بل أن الدفاع عن العلمانية بشكل مجرد لا يخدم سوى الإسلاميين


إن المرحلة الحالية من الثورة والتي تتطلب العمل على فضح المجلس الأعلى للقوات المسلحة أمام الجماهير تمهيداً للإطاحة بهم، فهم الجزء الباقي من سرطان النظام القديم، والعمل الدءوب على تعميق الجانب الاجتماعي للثورة من خلال المساعدة على خلق أشكال تنظيمية قاعدية تلعب دورها في النضال من أجل تحقيق مطالب جماهير العمال والفلاحين، وفي هذه المرحلة ينتقل الإخوان المسلمين وكافة القوى الليبرالية من صفوف الثورة إلى صفوف الثورة المضادة، ولكن هذا الانتقال سيشهد الكثير من التقلبات والانقسامات والتي يجب على اليسار أن يستفيد منها، في مواجهة الثورة المضادة. وأذا كان هذا هو الموقف بالنسبة للإخوان والليبراليين فإن بقايا الأجهزة الأمنية للنظام القديم، سيستخدمون البلطجية والسلفيين لخلق مناخ من الفوضى في تواطؤ مع المجلس العسكري.


إن المرحلة الحالية ستكون شديدة الصعوبة ونجاحها يحتاج إلى وضوح للرؤية حول القوى السياسية المختلفة، وعلى رأسها الإخوان المسلمين والليبراليين والتناقضات والانقسامات والأزمات التي ستواجههم مع تكشف الوجه الحقيقي لقيادات الجيش. طالما ظلت الجماهير ثائرة، ومفعمة بالأمل في غد أفضل وفي حياة كريمة، وطالما عمل اليسار على المساعدة في بناء النتظيمات الجماهيرية، من نقابات مستقلة، ولجان ثورية، وتنظيمات سياسية جذرية، لن يتمكن أعداء الثورة من خداع الجماهير، وسيزداد تمزق القوى السياسية المتحالفة اليوم مع العسكر وعلى رأسهم الإخوان المسلمين.