خرافة الأشتراكية العلمية


يعقوب ابراهامي
2011 / 5 / 7 - 21:35     

"منذ البداية وحتى قبل البيان الشيوعي اطلق ماركس وانجلز على نظريتهما اسم "الاشتراكية العلمية" تمييزا لها عن شتى النظريات والفلسفات الاشتراكية التي انتشرت في زمانهما. واسمياها بهذا الاسم نظرا الى انها مبنية على العلم وليس مجرد نظريات فلسفية. وقد ترسخت هذه النظرة حين اكتشف كارل ماركس المادية الديالكتيكية."
(حسقيل قوجمان، "الحوار المتمدن"، 27/4/2011).

عن خرافة "المادية الديالكتيكية" قد اكتب في مقال قادم. الآن اريد ان أسجل ما يلي:
الى ان يعلن حسقيل قوجمان في اي كتاب أو مقالة أو رسالة، قبل "البيان الشيوعي"، في "البيان الشيوعي" أو بعد "البيان الشيوعي"، ذكر كارل ماركس اسم "الأشتراكية العلمية"، فإنني سأعتبر هذا الأدعاء (اعني: ان ماركس اطلق على نظريته اسم "الاشتراكية العلمية") اكتشافاً (أو اختراعاً) يضاف الى سائر اكتشافات (اختراعات) حسقيل قوجمان في الفلسفة ("قانون نفاء الضدين")، في الأقتصاد السياسي ("قانون سلعة الأرض تساوي نصف، أو ثلاثة ارباع، حياة الطبقة الرأسمالية") وفي التشريع ("قانون اجتثاث البعث جريمة ضد الأنسانية").

كارل ماركس لم يطلق على نظريته ابداً اسم "الاشتراكية العلمية" ولم يستخدم هذا التعبير لوصف نظرياته مرة واحدة في حياته.
فريدريك انجلز هو الذي اطلق على النظرية الماركسية اسم "الأشتراكية العلمية" وبهذا بدأ (سوية مع فرض "قوانين الديالكتيك" على الطبيعة والمادة الجامدة) عملية "ديالكتيكية" مذهلة انتهت، في المرحلة الستالينية، بتحويل اديولوجيا انسانية ("لا شيئاً انسانياً غريباً عني" - ماركس) الى نقيضها وتجريدها من كل محتوى انساني.
وهذه هي المراحل التي مرت بها هذه العملية "الديالكتيكية" التي دمرت في نهاية الأمر الفكر الماركسي:
من اجتهادات فلسفية ونظريات في الأقتصاد والأجتماع والتاريخ، حول الأنسان ومن اجل الأنسان، الى علم (Science) لا يختلف في شيء عن علوم الفيزياء والكيمياء.
ومن "علم" لا يختلف عن الفيزياء والكيمياء الى"قوانين طبيعية" مفروضة على الأنسان، خارجة عن ارادة الإنسان ورغم ارادة الإنسان.
ومن "قوانين" مفروضة على الأنسان اصبحت الطريق ممهدة الى عقيدة دينية جامدة لا تقبل التغيير او التفنيد، والى جثة محنطة هامدة يزورها الملايين (انا زرتها ورأيت بأم عيني ماذا تعني الماركسية الميتة).
هكذا تحولت الأفكار الماركسية الثورية الى "عقيدة دينية" (متخفية باسم "العلم") وتحولت الكلاسيكيات الماركسية من انجازات فكرية تشهد على سمو روح الأنسان الى نصوص دينية مقدسة لا يعلو اليها الشك.
الطريق من "بركان الفكر في اتقاد" (نشيد الأممية) الى "هندسة النفس البشرية" (ستالين) مرت عبر "الأشتراكية العلمية".

هل الماركسية هي افكار فلسفية ومجموعة من النظريات والفرضيات تهدف الى فهم المجتمع الأنساني وتغييره، ام هي علم (Science) مثلها مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك والمتحجرات؟
لا يستطيع ان يجيب على هذا السؤال طبعاً من لا يميز بين "العلم" و"الفلسفة" (من يتكلم بلا كلل عن علم اسمه "علم المادية الديالكتيكية"!!!)، ومن لا يعرف ما هو تعريف "القانون العلمي" وماذا تعني"النظرية العلمية". (العجيب ان حسقيل قوجمان لا يدرك مدى الدهشة، ان لم نرد ان نستخدم كلمة اخرى، التي يثيرها عندما يتكلم عن "العالم (!!) كارل ماركس". تصوروا: !The scientist Karl Marx).
كما لا يستطيع ان يجيب على هذا السؤال من ينسب "الفخر في اكتشاف هذا العلم (!!) الى العالم (!!) والفيلسوف العظيم هيغل الذي اكتشف جميع معالم قوانين الديالكتيك"، مع الأخذ بنظر الإعتبار ان صاحب هذا الزعم لم يقرأ كتاباً واحداً من تأليف "العالم العظيم هيغل". (وكيف عرف انه عظيم؟ على كل حال انا احسد حسقيل قوجمان لأنني لم استطع حتى اليوم ان افهم جملة واحدة مما يقوله "العالم العظيم هيغل").
باختصار مسألة "علمية النظرية الماركسية" هي اعقد واهم من ان نتركها لحسقيل قوجمان كي يقرر فيها.
نلجأ إذن الى من يفهم شيئاً في العلم والفلسفة.

كارل بوبر:
كارل بوبر (1902-1994) هو واحد من ابرز فلاسفة العلم في القرن العشرين (وككل المثقفين الحقيقيين كان، وفقاً للقاعدة المعروفة، شيوعياً في صغره).
بوبر يميز بين "العلم" (Science) وبين ما يدعوه بوبر ب"علم موهوم" (Pseudo-science).
نظرية، في نظر بوبر، يمكن ان تسمى "نظرية علمية" إذا كانت قابلة للدحض او التفنيد ( Falsifiable).
عندما نصف نظرية بأنها "نظرية قابلة للدحض" (Falsifiable) لا نعني بذلك انها نظرية خاطئة (False) بل نعني فقط انه يجب ان يكون بامكاننا ان نثبت انها نظرية خاطئة ان كانت خاطئة، اي انه يجب ان تكون هناك طريقة لدحضها. اما النظرية التي لا يمكن دحضها بأي شكل من الأشكال (اي ليس هناك طريقة لتفنيدها) فهي ليست "نظرية علمية" بل انها "علم موهوم" (Pseudo-science).
وبتفصيل اكثر: كل نظرية تتنبأ بأحداثٍ يمكن اختبارها في التجربة على ارض الواقع. وإذا ثبت في التجربة ان تنبؤات النظرية لا تتحقق على ارض الواقع فإن ذلك يعد دحضاً للنظرية، أي ان التجربة قد فندت النظرية. في هذه الحالة نقول: هذه نظرية علمية اثبت الواقع انها غير صحيحة (False) لأن النتائج التي خرجت من التجربة مناقضة للنتائج التي تنبأت بها النظرية. عند ذلك يجب نبذ النظرية وتبني نظرية جديدة تتفق مع نتائج التجربة.
اما إذا كانت النظرية تستطيع ان تفسر ايضاً النتائج المناقضة لتنبؤاتها هي نفسها (أي ان النظرية تستطيع ان تفسر الشيء ونقيضه) فهذه ليست نظرية علمية بل "علم موهوم".

(من باب الشفافية والأمانة الفكرية ومن اجل اكتمال البحث نقول ان هناك انتقادات جدية لأفكار كارل بوبر ولكن هذه الأنتقادات لا تنتقص من الحجج المذكورة هنا ولا تخص موضوع بحثنا).

نظرية كارل ماركس في التطور التاريخي (وحتمية الأنتقال من النظام الرأسمالي الى نظام إشتراكي وشيوعي) هي، في نظر كارل بوبر، نظرية "غير قابلة للدحض" لذلك فهي ليست "نظرية علمية" بل "علم موهوم". وهو يأتي بالمثال التالي:
قال كارل ماركس ان الرأسمالية، في المجتمعات الصناعية في ارجاء العالم، ستنتقل بصورة حتمية الى الأشتراكية وثم الى الشيوعية. ولكن عندما لم يحدث ذلك، ولم تنتقل المجتمعات الرأسمالية الى الأشتراكية، فإن الماركسيين، بدل ان يعترفوا بوقوع خطأ في نظرية كارل ماركس، يشرحون لكل من يريد ان يسمع ان التطور التاريخي الذي حدث، والذي يخالف بوضوح تنبؤات النظرية الماركسية، يتفق بالضبط مع كل اصول النظرية الماركسية ولا يخالف تنبؤات كارل ماركس. هم يقولون مثلاً ان دولة الرفاه الأجتماعي قد خففت من حدة النضال البروليتاري، أو ان الرأسمالية قد ارشت العمال الماهرين وخلقت "ارستقراطية عمال" لا يريدون الأشتراكية، الخ. بهذه الطريقة يستطيع كل شخص ان يفسر كل تطور للأحداث وفقاً للنظرية الماركسية حتى إذا كان ذلك يخالف كل ما تنبأت به النظرية نفسها حتى الآن.
لذلك، يقول كارل بوبر، النظرية الماركسية في تطور التاريخ ليست نظرية علمية، بل انها "علم موهوم".

(لو كان بوبر حياً بيننا اليوم لأتى بمثال آخر: سنوات عديدة رأينا في إقامة الأتحاد السوفييتي برهاناً حاسماً على صحة النظرية الماركسية. وعندما انهار الأتحاد السوفييتي فإن الماركسيين الستالينيين (على لسان ابرز ممثليهم فؤاد النمري وحسقيل قوجمان) رأوا في هذا الأنهيار برهاناً جديداً على صحة النظرية الماركسية. اي ان قيام الأتحاد السوفييتي وانهيار الأتحاد السوفييتي يثبتان كليهما صحة النظرية الماركسية. نظرية غريبة هذه التي يستطيع المرء بواسطتها ان يفسر الشيء ونقيضه. أو ان هذا هو "علم الديالكتيك" الذي يتحدث عنه حسقيل قوجمان؟)

مقابل النظرية الماركسية في التاريخ "غير القابلة للدحض" يأتي كارل بوبر بمثال لنظرية علمية "قابلة للدحض"، هي: نظرية النسبية العامة لآينشتاين.
هذه النظرية تنبأت بأن الضوء القادم من نجوم بعيدة ينحرف عن مساره المستقيم عند مروه امام الشمس بسبب قوة الجاذبية للشمس. نظرية أينشتاين تنبأت ايضاَ بمقدار هذا الأنحراف.
في ظروف اعتيادية لا يمكن ملاحظة هذا الأنحراف، بل يمكن ملاحظته اثناء حدوث كسوف شمسي فقط. وفى عام 1919, قام الفلكى البريطانى المشهور آرثر إيدنجتون بتنظيم بعثة إلى جزيرة برنسيبى فى غرب أفريقيا, لإختبار تنبؤ أينشتاين. وعندما بدأ كسوف الشمس وأخذ قرص القمر يحجب قرص الشمس قام إيدنجتون بتصوير النجوم التى ظهرت في السماء فى خمس لقطات فوتوغرافية.
عاد إيدنجتون إلى إنجلترا لكى يفحص لوحاته الفوتوغرافية ويقوم بعمل حساباته. النتيجة أثبتت أن الضوء القادم من هذه النجوم, قد تغير مساره وإنحرف باتجاه الشمس بمقدار يطابق تماما المقدار الذى تنبأ به أينشتاين والذي توصل اليه بإستخدام معادلاته الرياضية فقط. (هذه هي واحدة من اشهر الحوادث في تاريخ العلم إذ ان نتائجها قد اكدت صحة نظرية النسبية العامة وغيرت كل نظرتنا الى الكون والى الزمان والمكان (الزمكان). يقال انه في الأيام التي سبقت الأعلان عن نتائج فحص اللوحات الفوتوغرافية، عندما كانت كل المحافل العلمية في العالم تترقب بفارغ الصبر نتائج التجربة لترى إذا كانت النتائج تؤكد نظرية أينشتاين وتقبر الى الأبد النظرة النيوتينية الى الكون أم لا، كان أينشتاين نفسه يعمل في مكتبه هادئاً وكأن شيئاً لم يحدث. وعندما سئل عن سر هدوئه اجاب: "ان الرياضيات لم تخذلني في يوم من الأيام". هناك طبعاً قصة اخرى تقول انه كان متوتر الأعصاب. انا افضل القصة الأولى.)

بوبر رأى في نظرية النسبية العامة لآينشتاين مثالاً ً واضحاً لما يعنيه ب"نظرية قابلة للدحض": النظرية تنبأت بانحراف الضوء القادم من النجوم وبمقدار هذا الأنحراف، والتجربة اكدت كل تنبؤات النظرية. لولا ان التجربة اثبتت صحة تنبؤات النظرية لكان ذلك دليلاً على خطأ النظرية. نظرية أينشتاين إذن تلبي احد اهم شروط النظرية العلمية: "امكانية الدحض".

خط واحد يصل "الأشتراكية العلمية" بعشرات الملايين الذين قتلوا، شردوا، سجنوا وعذبوا في البلاد التي ارادت ان تبني الأشتراكية "بصورة علمية". إذ ما هي قيمة حياة بضعة ملايين من البشر إذا كنت تمسك بسر التطور التاريخي وتعرف انك تسير وفقاً ل"قوانين" حتمية لا مفر منها؟ وإذا كان هناك من لا بفهم هذه "الضرورة التاريخية العلمية" فإن "الحتمية التاريخية العلمية" تقضي بوجوب "تثقيفه" من جديد ("هندسة النفس البشرية") او القضاء عليه. (وجه احد القراء السؤال التالي الى فؤاد النمري: لماذا كان يجب محو طبقة الفلاحين في روسيا من اجل بناء الأشتراكية؟ إذا كنت تقرأ هذا المقال، غيسان حامد، فإنك تعرف الجواب الآن).

"قطبا المغناطيس السالب والموجب" و"طبقات الارض الجيولوجية"، عزيزي حسقيل قوجمان، لا تنفع هنا رغم كل ما قد يكون مكتوباً في كتاب "ديالكتيك الطبيعة" لفردريك انجلز. نحن نتكلم هنا عن مجتمع بشري، وعن انسان يفكر ويعمل، لا عن مادة جامدة. (لكن هذا يعود، كما قلنا سابقاً، الى موضوع آخر هو "خرافة المادية الديالكتيكية").
كل المحاولات لبناء "اشتراكية علمية" باءت حتى الآن بالفشل، وبدل "جنة على الأرض" تقبلنا "جهنماً على الأرض".
مشروع بناء "الأشتراكية العلمية" فشل. ولكن الحلم بمجتمع عادل، والعمل على بلوغه، سيبقى ما بقي الأنسان.