كارل ماركس (العظيم الآخير)


محمد عادل زكى
2011 / 4 / 30 - 00:12     

ما أحاول الكلام فيه هنا هو القيمة إبتداء من التاريخ والواقع إنتقالاًً إلى الفكر الذى تجلى مع عظماء الكلاسيكة أدم سميث وديفيد ريكاردو، والإنتهاء بآخر العظماء (كارل ماركس)
فى ضوء تقدم التبادل وإحتلاله مرتبة متميزة، فقد لزم البحث عن الأساس الذى بمقتضاه قام جدُنا الأول بالتخلى عما أنتج فى سبيل الحصول على إنتاج شخص أخر. فى مجرى ذلك البحث قدم تاريخ الفكر الاقتصادى حتى النصف الثانى مِن القرن السابع عشر مساهمات جديرة بالإهتمام والتحليل، كمساهمة أرسطو، والإكوينى ووليم بتى وكانتيون وكانت صحيحة، ولكنها كانت غير كافية (باستثناء مساهمة إبن خلدون التى بلغت ضفاف فائض القيمة) الأمر الذى تعين معه الإنتظار حتى مجئ العمل الخلاق لآدم سميث، وديفيد ريكاردو، تمهيداًً لماركس العجوز، الذى إستوعب سيسموندى وبردون، وفرانسوا كينيه كي يُعلن، وبكل قوة، تقدم العمل كى يَحتل المرتبة الأولى؛ فعلى أساسه يتحدد المعادل.
وفيما يلى نستعرض مساهمات كل من أرسطو، وأدم سميث، وديفيد ريكاردو، وكارل ماركس، كأهم التصورات التى قُُدِمَت عبر تاريخ الفكر الإقتصادى، وأصبحت، بتصورى، مُرتكزات رئيسية فى الإقتصاد السياسى كعِلم إجتماعى، نستخدم أدواته الفكرية فى بحثنا الراهن، يَصل إلى قمة نضجه بمراجعة كارل ماركس لما أنجزه عظماء الكلاسيكية أدم سميث وديفيد ريكاردو. ولكى يُُصبح عِلماًً مهجوراًً، حينما ينتقل الإهتمام من حقل الإنتاج إلى حيث التبادل والإستهلاك والسوق، وقد ساعد على هجره كذلك النظرية الرسمية التى وضعت مباحثه فى أحد جوانب التاريخ الضبابية ربما، وربما المنسية. ولكى تُُقدِم عليه الفن الذى ينشغل بالنظر فى التبادل والسوق، بما لا يتبقى منه سوى الحديث عنه من باب التاريخ الذى يتناول وقائع السالفين وأفكار الأقدمين، على الرغم من أن الواقع لا يمكن تفسيره إلا من خلاله، كعِلم نمط الإنتاج الرأسمالى!!
ولكن وقد إستعراض التصورات يتعين أن نشير إلى أمرين:
أولاًً: الهدف الرئيسى من إستعراض التصورات المختلفة إبتداءًً من أرسطو ومروراًً بآدم سميث وديفيد ريكاردو، وإنتهاء بكارل ماركس؛ هو تركيز الضوء على مدى أهمية "القيمة"، ومدى محوريتها فى فكر هؤلاء المفكرين، وبصفة خاصة سميث، وريكاردو، وماركس، والذين إنشغلوا بتحليل ظواهر الإنتاج والتداول والتوزيع التى تبلورت مع نمط الإنتاج الرأسمالى، ومن ثم الدور الرئيسى الذى لعبه هؤلاء المؤسسين(على تسلسل مساهماتهم خلال مائة عام، من سميث إلى ماركس) فى إنضاج الإقتصاد السياسى كعِلم نمط الإنتاج الرأسمالى وإنما إبتداءًً من القيمة.
ثانياًً: لسنا منشغلين هنا بطرح مجمل تصورات المفكر الذى نستعرض تصوراته، فقط نركز على تصور المفكر لنمط الإنتاج الرأسمالى إبتداءًً من تصوره للقيمة، ومن ثم لن ننشغل بتقييم الأفكار وتلك التصورات والترجيح فيما بينها، إذ نهدف فقط، كما ذكرنا، إلى إثارة مدى الإهتمام بالقيمة من قبل المفكرين الرواد الذين إنشغلوا بالقيمة.
أرسطو )384 ق.م- 322 ق.م (
ولد فى إستاجرا، وهى مستعمرة يونانية وميناء على الساحل. و كان أبوه طبيب بلاط الملك أمينتس الثالث المقدونى، ومن هنا جاء إرتباط أرسطو الشديد ببلاط مقدونيا الذى أثر إلى حد كبير فى حياته ومصيره، الأمر الذى ربما يُُبرر أرستقراطية أرسطو، وكتابته إبتداءًً من تلك الطبقية، كما أخذ عن إبيه حب الطبيعة وعُرف بميله الشديد إليها، وإعتماده على الواقع الطبيعى، فى شتى نواحيه، إعتماداًً صحيحاًً بالمراقبة والإختبار، كى يَبنى صرح فلسفته الأولى، كما يدعوها، أى فلسفة ما بعد الطبيعة، وعن والده كذلك أخذ تلك الواقعية الصرفة التى أتاحت له، كما يقول الأب أوغسطينس البولسى فى مقدمته لكتاب أرسطو "فى السياسة" أن يُُشيد نظرياته الفلسفية البحتة على صخر متين يصونها من تقلبات الدهور وغارات المناوئين. ولكن أرسطو لم يعش كثيراًً فى كنف إبيه؛ إذ قد فقده وهو بعد حديث السن، وربما فى الرابعة عشر أو الخامسة عشر، فعُُهد، كما يقول الأب أوغسطين، إلى أحد الأوصياء كى يتولى تربيته وتعليمه.
دخل أرسطو أكاديمية أستاذه أفلاطون للدراسة فيها وبقى فيها عشرين عاماًً. ولم يتركها إلا بعد وفاة أفلاطون. وفى غضون السنين العشرين التى قضاها أرسطو فى مدرسة أفلاطون لم ينقطع إلى الدرس فحسب، وإنما يغلب الظن أنه إنصرف من ذلك الحين إلى وضع تصاميم وخطوط تآليفه الأولى، على الأقل ما يتعلق منها بعِلم المنطق وعِلم الجدل وفنى الخطابة والشعر، وعِلمى الحيوان والنبات؛ إذ أن مدارس الفلسفة آنذاك كانت أشبه بأندية عِلمية ينصرف فيها رواد المعرفة، تحت إشراف أستاذهم الأكبر إلى مباحث متنوعة يتعاون التلاميذ فيما بينهم على البحث فيها ومناقشتها والخروج بنتائج عِلمية موسوعية.
مؤسس عِِلم المنطق
وبوصف أرسطو واضع عِِلم المنطق فقد وضع ثلاثة قوانين فى هذا الشأن: أولاًً: قانون الهوية أو (الذاتية) ينص هذا القانون على أن"الشىء هو نفسه"وهو يعبر عن أبسط الأحكام لأن أبسط الأحكام هو الحكم بأن الشئ هو نفسه مثل أن نقول(الإنسان هو الإنسان) و (المرأة هى المرأة) ورمز هذا القانون (أ هو أ) ويرى أرسطو أن هذا القانون هو أساس التفكير المنطقى لأنه يشير إلى ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ الذى نستخدمه فلا نخلط بين الشئ وما عداه، ولا نضيف للشئ ما ليس فيه، وعلى ذلك فهو يؤكد وجود علاقة مساواة بين طرفين متطابقين، مما من شأنه أن يضبط التفكير، ومخالفة هذا القانون يوقعنا فى التناقض، ويؤدى إلى فساد الاستدلال. كما يرى أرسطو أن هذا القانون يجب أن يعمل ليس فى عملية الاستدلال أو البرهان فقط، لكن فى حياتنا اليومية فلكى نفهم بعضنا بعضاًًً يجب أن نتحدث بلغةٍ واحدة لا يَحتمل أى لفظ من ألفاظها أكثر من معنى.ثانياًً: قانون عدم التناقض: نقيض الشئ هو نفيه، فنقيض الحكم بأن هذا الشئ "قلم" هو الشئ نفسه"ليس قلماًًً"، والكلام المتناقض هو الذى ينفى بعضه بعضاًًً, وفى ذلك مخالفة لقانون الهوية لأن إذا كان الشئ هو نفسه بمقتضى قانون الهوية، فلا يجوز، حينئذ، أن نصف الشئ نفسه بصفة أو بنقيض هذه الصفة فى الآن نفسه، وإلا نكون قد وقعنا فى تناقض واضح، ورمز هذا القانون هو (الشئ لا يمكن أن يكون "أ" ولا "أ" فى آن واحد. ثالثاًً : قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع إذا كان"الشىء هو نفسه"طبقاًًً لقانون الهوية، وإذا كان لايجوز منطقياًًً وطبقاًًً لقانون عدم التناقض أن نصف شيئاًًً واحداًًً بأنه هو نفسه وليس نفسه, لإستحالة ذلك منطقياًًً حيث لا وسط بين النقيضين، ويترتب على ذلك قانون ثالث هو قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع أو المستبعد، ورمز هذا القانون هو (إما أن يكون الشئ "أ" أو لا "أ")
السلطة والقانون والمساواة
وبعد أن درس مع طلابه عدداًً من الدساتير اليونانية، قسم هذا الدساتير ثلاثة أنواع مختلفة:ملكية، وأرستقراطية، وتمقراطية، أى حُكم أصحاب السلطان، وأصحاب المولد الشريف، والنبهاء. وكل نوع من هذه الأنواع قد يكون صالحاًًًً حسب زمانه ومكانه وظروفه. وكُُل حُكم حسن إذا كانت السلطة الحاكمة تعمل لمصلحة الناس جميعاًًً لا لمصلحتها الخاصة، فإذا لم تفعل هذا فكُُل حكم سىء. ومن ثم كان لكل نوع من أنواع الحكم الصالح شبيه فاسد حين يكون حكماًًً لمصلحة الحاكمين لا لمصلحة المحكومين.
ولقد حاول أرسطو أن يقيم الإنسجام بين الطبيعة وبين القانون، وعنده أن الطبيعة تخضع لنظام عقلى، ومن ثم يوجد قانون طبيعى مشترك بين الجميع، لأنه مؤسس على العقل الموجود لدى كُُل واحد من البشر، وتوجد كذلك عدالة طبيعية وهى سيدة الفضائل، وهى التى ينبغى أن تحقق عن طريق القانون بعض المساواة.
وتعد فكرة المساواة تلك من الأفكار الرئيسية التى يحتوى عليها الفقه القانونى لأرسطو، إلا أن فكرة المساواة لديه ليست فكرة مطلقة؛ فلا يُمكن أن تسود المساواة فى داخل المدينة، فهذا مخالف للطبيعة التى تتطلب تقسيم سكان المدينة إلى طبقات عديدة، ويوجد فى قمة السلم الهرمى الأغنياء وهم الذين لديهم الوقت للإشتغال بالمسائل العامة، والقانون الطبيعى على هذا النحو يُُسلِم بوجود الملكية الخاصة، وينبغى على العكس، إستبعاد العمال اليدويين من الإشتغال بالمسائل العامة، إذ ليس لديهم الوقت الكافى لذلك، ويُعتبر أرسطو الرق مطابقاًً للطبيعة، فما دامت الألة لا تعمل بمفردها وطالما أن المكوك لا يتحرك وحده لنسج القماش، فإنه ينبغى وجود الأرقاء للقيام بهذا الدور.
تصور أرسطو
فى سبيله الباحث فى أبواب الرزق الطبيعى وغير الطبيعى، يتخذ أرسطو من العائلة كوحدة إنتاجية، حقلاًً للتحليل، ويفرق أرسطو، فى هذا السياق، ما بين فن الإقتناء، لأنه طبيعى، وبين فن الكسب لأنه مغاير للطبيعة، ثم يذهب إلى أهمية العمل الإنسانى المنتِِج فى دائرة طرق المعاش، والتى حصرها فى: الرعى، والزراعة، والتلصص(لم يكن من الأمور الشائنة فى بلاد اليونان) وصيد الأسماك، وقنص الوحوش والطيور. ويَعتبر أرسطو الغنى الحقيقى صادراًً عن أبواب الرزق التى حصرها على نحو ما ذكرنا.
وحين حديثه عن القيمة، فنرى أرسطو لديه الوعى بقيمة كل الإستعمال وقيمة المبادلة، دون أن يصل إلى مقياس التبادل: ".... فيبدلون النوافع بما هو من نوعها، لا أكثر ولا أقل، فيقدمون الخمر مثلاًً ويأخذون عوضه الحنطة. وهكذا فى كل من الأشياء الأخرى المتجانسة". وهو يصل إلى ما هو أبعد من ذلك بكشفه عن المنفعة كشرط للقيمة، وهى الرؤية التى ستُُقلب رأساًً على عقب بعد ذلك بمئات السنين، إذ يرى أرسطو أن الأشياء القابلة للمقايضة، أى التداول، هى فقط التى يُُمكن أن تكون محلاًً للإستعمال. ويضرب مثالاًً على ذلك بالحذاء الذى يستخدمه صاحبه فى الإستعمال، أو بمادلته بسلعة أخرى. ولكنه لم يتقدم أبعد من ذلك لتحليل قيمة المبادلة، فهو يقول:" لكل قنية إستعمالان، وكلاهما ذاتيان، ولكن دون مماثلة فى ذاتيتهما، إذ الواحد مختص بالشىء والأخر غير مختص به. فالحذاء مثلاًً يُُحتذى به ويتجر به، وهذا الوجه من الإنتفاع وذاك الوجه هما إستعمالان له. والذى يُُقايض غذاءًً أو نقداًً مَن كان محتاجاًً إليه إستعمله كحذاء ولكن لا إستعمالاًً خاصاًً إذ لم يُُجعل للمقايضة".
ثم ينتقل أرسطو إلى الصعوبات التى أدت إلى ظهور وحدات النقد، تلافياًً لعيوب المقايضة، وإعتبار تلك الوحدات المتخذة من الحديد والفضة وسيطاًً فى المبادلة، وحينما هيمنت وحدات النقد فى التبادل منحية المقايضة جانباًً، والتى كان يَعتبرها أرسطو الأصل العام فى عملية التبادل، ظهر على المسرح الإجتماعى نشاط التجارة، والذى يدينه أرسطو ويَعتبره خارج الكسب الطبيعى، لأنه يقوم على البيع والشراء بمعنى أدق بيع منتجات فائضة بالنقد، ثم شراء منتجات يُُفتََقر إليها، بالنقد كذلك، وهو التبادل الذى يراه أرسطو ذميماًً.
أما عن نظرية أرسطو فى النقود فهى تتلخص فى أن حياة أى مجتمع (غير بيتى، أى غير شيوعى بدائى) تتطلب تبادل السلع والخدمات، وهذا التبادل يأخذ صورة مقايضة فى مبدأ الأمر، يتم ذلك بصورة طبيعية، ولكن الصعوبات، كما ذكرنا، تواجه عملية المقايضة والرغبة فى تفاديها تجعل الناس تلجأ بطريق الإتفاق الضمنى، أى العرف، أو عن طريق التشريع إلى إتخاذ سلعة واحدة كوسيط للتبادل. وهو الأمر الذى قاد إلى ظهور معدن من نوع ما كى يلعب هذا الدور فى التبادل، أى أن أرسطو توصل إلى الوظيفة الأولى من وظائف النقود " . . . النقد عنصر التبادل"، وحين يدين أرسطو إحتفاظ الإنسان بأية ثروة تزيد عن حاجته، فهو فى الواقع يصل إلى وظيفة أخرى من وظائف النقود، وهى المتعلقة بمخزن القيمة، وأخيراًً فإن أرسطو حينما يتحدث عن التبادل والبيع والشراء فإنما يفتح باب المناقشة حول مقياس القيمة، وتلك وظيفة ثالثة تقوم وحدات النقود بأدائها.
وبشأن الفائدة التى تكون على الإقراض، يقول أرسطو:"يوجد نوعان من فن تكوين الثروة: أحدهما يتعلق بالتجارة، والآخر بالإقتصاد؛ وهذا الأخير ضرورى وجدير بالمديح، أما الأول فيقوم على التبادل ولذلك يندد به عن حق وصواب، وهكذا يكره الجميع الربا بحق، لأن النقد بالذات يُعتَبر هنا مصدر الكسب ويستخدم ليس من أجل الغاية التى تم إختراعه من أجلها. فهو قد نشأ من أجل التبادل البضاعى، بينما تصنع الفائدة المئوية من النقد نقداًً جديداًً. ومن هنا تسميتها بالمولود، لأن المولود شبيه بالوالد. إلا أن الفائدة المئوية هى نقد من نقد، ولذا فإن فرع الكسب هذا أشد مناقضة للطبيعة من بين سائر فروع الكسب"
ولعل أهم ما قال به أرسطو، بتصورى، فى الباب الذى خصصه لبحث أبواب الرزق الطبيعى وغير الطبيعى، هو رؤيته للقيمة الزائفة للنقود، ووعيه بكون وحداتها غير معبرة عن القيمة الطبيعية للأشياء أى أن أرسطو ينظر إلى النقود، كظاهرة طارئة على المجتمع، نظرة متقدمة جداًً بالنسبة لعصره، ويرى أن النقد(المصنوع من الحديد ومن الفضة) لا يُُعبر، فى المقام الأول، عن قيمة ما يحتويه هو نفسه من حديد أو فضة كسلع، وأن البشر هم الذين جعلوا من المعادن نقوداًً يبعون من خلالها ويشترون، ويقول:"وما النقد، على ما يبدو لنا، إلا هذيان وعادة مرعية، وما هو على شىء من القيمة الطبيعية. إذ لو عدل مستعملوه عما إصطلحوا عليه لأضحى شيئاًً زرياًً لا يعتد به ولا يقضى حاجة، ولأمسى مَن قامت ثروته على النقود فى أمس العوز إلى القوت. . . . . . .
إن تتبع مساهمة أرسطو، لا شك تقودنا إلى الإعتراف بأنه قد تمكن من الوصول إلى قيمة الإستعمال وقيمة المبادلة، ولكن من منظور يتعين أن ننتظر مئات القرون حتى يُُعاد النظر فيه نظرة أكثر نضجاًً، كما أن تتبع ارسطو ربما يقودنا كذلك إلى الإعتراف بإحتمالية وصوله إلى ضفاف نظرية عامة فى القيمة، ولكنها غير واضحة وربما غامضة، إلا أن أرسطو يظل أول من أشار لطبيعة السلع ودور النقود فى الحياة اليومية بشكل تجريدى يُُمكن أن يُُبنى عليه بناءًً نظرياًً صحيحاًً عن السلع والتبادل والنقود.
أدم سميث (1723- 1112)
أبو عِلم الإقتصاد، وفقاًً للرأى الغالب، ولد أدم سميث، فى الخامس من شهر يونيه عام 1723 بمدينة كيركالدى باسكتلندا، مات أبوه قبيل ولادته ببضعة أشهر، فربته أمه، وكان ميالاًً إلى العزلة، مفكراًً متأملاًً. وغريب الأطوار، فكان سميث معروفاًً بكونه شخصية تلفت النظر، إذ إشتهر بشرود الذهن، ومن ذلك أنه سقط مرة فى إحدى الحفر التى تستخدم فى عملية الدباغة أثناء سيره وهو منهمك فى بحث أصولى جاد مع صديق له، كما قيل أنه صنع لنفسه شراباًً من الخبز والزبد ثم أعلن أن ذلك أسواء فنجان من الشاى تذوقه طيلة حياته، بيد أن تلك الهفوات لم تكن لتنبىء إلا عن شخصية غريبة إلى حد ما، ومع تلك الغرابة كان الدكتور سميث معروفاًً وإن لم يكن مشهوراًً، فلقد سمع به فولتير، وكان ديفيد هيوم صديقه الحميم، كما أن الطلاب كان يقطعون الأميال قدوماًً من روسيا لسماع محاضراته. ولقد عاش سميث وحيداًً بجانب أمه التى بلغت التسعين عاماًً، ولم يتزوج طيلة حياته، ودفن فى كنيسة كانونجيت، وقد كتب على شاهد قبره:" هنا يرقد آدم سميث مؤلف كتاب ثروة الأمم".
إلتحق أدم بجامعة جلاسكو فى عام 1737، وتميز فى الرياضيات والفلسفة، وفى عام 1740 أوفد إلى اكسفورد لمدة سبع سنوات، عاد بعدها إلى كيركالدى، وقد قرر أن لا ينخرط فى سلك القساوسة، وفى سن الخامسة والعشرين ينتقل آدم سميث إلى أدنبره ملقياًً محاضرات فى الأداب والبلاغة، ولكى يعين أستاذاًً للمنطق بجامعة جلاسكو فى عام 1751، ثم أستاذاًً للفلسفة الأخلاقية عام 1752، وكان عِلم الإقتصاد يدخل آنذاك ضمن دراسة الفلسفة، وفى عام 1759 قام آدم سميث بنشر كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية"، ولذيوع صيته فى أوروبا؛ فقد دعى كى يقوم بالتدريس لدوق بوكلييه، وأقام فى فرنسا من أجل ذلك ما يقارب من ثمانية أشهر، مكنته من التعرف على فكر الفيزوقراط عامة، وفكر فرانسوا كينيه بوجه خاص، حتى عاد إلى كيركالدى؛ كى يعكف على كتابة مؤلفه الشهير" دراسة فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم"(17) والذى إعتاد الإقتصاديون على تسميته بثروة الأمم.
وفى ذلك المؤلف الذى تتضمن فكر أدم سميث، ومَثَل إنطلاقة الفكر الكلاسيكى، خمسة كتب: تتناول مسائل الإنتاج والتوزيع(الكتاب الأول والثانى) وبحث تاريخى لتطور الثروات فى مختلف الأمم(الكتاب الثالث) ودراسة لنظرية التجاريين والنظام الزراعى الذى قال به الطبيعيون(الكتاب الرابع) ويعالج فى (الكتاب الخامس) إشكاليات المالية العامة.
وما يميز مذهب سميث فى تلك اللحظة التاريخية من تاريخ الفكر الإقتصادى انه قائم على كون إنتاجية العمل تتوقف فى الأساس على تقسيم العمل بين الأفراد، كما وأن للفرد ميلاًً وإتجاهاًً إلى العمل وإن ذلك يُعد صفة لصيقة بالطبيعة الإنسانية، ومِن هنا فإن التخصص وتقسيم العمل يُُعد أساساًً للتراكم الرأسمالى؛ وتمكن سميث من نقل تصوره هذا حول التخصص والتراكم على صعيد التجارة الدولية، عقب أن وجه سهام النقد الجارحة لفكر التجاريين وسياسة المعدن النفيس، إلا أن سميث لاقى العديد من الصعوبات النظرية ، والتى سوف يتولى ديفيد ريكاردو محاولة إزالتها، مدخلاًً تعديلاًً على نظريات أستاذه وبخاصة نظريته فى التجارة الخارجية والتى كانت مؤسسَة على النفقات المطلقة، وجعلها مؤسسَة على النفقات النسبية.
تصور آدم سميث
مجموعة من الأسئلة حاول سميث الإنطلاق إبتداءًً من الإجابة عليها فى سبيله لإقامة مذهبه؛ فهو معنى بالإجابة على السؤال الخاص بالكشف عن ذلك الجهاز الذى يحفظ تماسك المجتمع، وكيف يمكن لمجتمع يسعى كل أفراده إلى مصلحتهم الذاتية أن يستمر ولا يتفكك؟ وما الذى يجعل تصرفات أفراد المجتمع، على الرغم من أنانيتها، تأتى متفقة مع المصلحة الجماعية؟ بل وكيف ينجح المجتمع فى أداء المهام اللازمة لبقائه على الرغم من عدم وجود سلطة مركزية؟ وإذ يُقدم سميث إجابات على ما يُُثيره من أسئلة، فإنما يتوصل إلى أول صياغة لقوانين السوق، والتى تركز على "اليد الخفية" التى بمقتضاه تسير مصالح الناس الخاصة وأهواءهم فى الإتجاه الأكثر إتفاقاًً مع مصلحة المجتمع بأسره. ولكن قوانين السوق ليست مجرد جزء من البحث الذى يقوم به سميث؛ فسميث إنما يعنيه حركة المجتمع خلال الزمن، ولذا تكون قوانين السوق ذات بعد ديناميكى وهى تقوم بعملها على الصعيد الإجتماعى.
وفى سبيله لتحليل طبيعة السوق وقواعده، وصياغة قوانينه، فقد لاحظ سميث:
أولاًً: أن المصلحة الذاتية تقوم بدور القوة المحركة التى توجه الناس إلى أى عمل يُريد المجتمع أن يدفع ثمنه، ومن هنا ينشأ العرض.
ثم لاحظ سميث ثانياًً: أن المصلحة الذاتية لا تُُمثل سوى نصف التحليل، فهى تدفع أفراد المجتمع إلى العمل، ولكن شيئاًً عاملاًً آخر يتعين أن يسيطر على إنفلات الأثمان، هذا العامل المنظم هو المنافسة أى الى يمنع تحكم أحد العارضين فى الثمن، اللهم إذ ما حدث إتفاق بين العارضين لسلعة ما، وهنا سيأتى أخر من خارج سوق تلك السلعة ويدخل سوقها بأثمان أقل؛ بما يؤدى إلى توازن الثمن مرة أخرى، ولاحظ سميث.
ثالثاًً: أن قوانين السوق لا تفرض على المنتجات سعراًً تنافسياًً فحسب؛ بل وتحرص على أن يراعى المنتجون طلب المجتمع بشأن مقادير السلع التى يحتاجها، فالسلعة التى يقرر المجتمع زيادة إستهلاكه منها لا شك ستقود المنتجين إلى الإكثار من إنتاج السلعة، على حساب سلعة أخرى كف، ولو مؤقتاًً، المجتمع عن إستهلاكها، بما يؤدى إلى زيادة الإنتاج من السلعة التى قرر المجتمع زيادة إستهلاكه منها ومن ثم يزيد الفائض منها، فى مقابل إختفاء الفائض من السلعة التى توقف الإنتاج بشأنها لعدم رغبة المجتمع فيها، بما يؤدى إلى إنخفاض المعروض منها عن حاجة المجتمع، تتدخل هنا قوانين السوق، كى تصحح الوضع، فتبدأ إثمان السلعة التى إنخفض قدر المعروض منها عن حاجة المجتمع فى الإرتفاع، نظراًً لإختفاء الفائض وإحتياج المجتمع إليها، فعن طريق قوانين السوق إذاًً يكون المجتمع قد غير تخصيص عناصر الإنتاج حتى تناسب رغباته الجديدة. وكل ذلك، بتصور سميث، يتم دون تدخل أى سلطة مركزية، وإنما بفضل التضاد بين المصلحة الذاتية والمنافسة.
رابعاًً: وثمة إنجاز أخير، فكما تنظم قوانين السوق الأثمان ومقادير السلع، فهى تنظم كذلك دخول الذين يتعاونون فى إنتاج تلك السلع؛ فإذا كانت الأرباح فى قطاع من الأعمال من الكبر بحيث تتجاوز القدر الواجب فسوف يتدفق الرأسماليون على هذا القطاع، فيزيد الإنتاج، ومن ثم الفائض، ويظل الأمر هكذا إلى أن تخفض المنافسة الفائض، الدخول هنا إنما ترتبط، وفقاًً لقوانين السوق لدى أدم سميث، بمدى تدفق العمال على قطاع السلعة التى زاد الطلب عليها، يظل هذا التدفق مستمراًً حتى يكثر العمال فى هذا القطاع وتزداد المزاحمة فيما بينهم فيبدأ الدخل فى الإنخفاض.
سميث يتعامل حتى الأن مع السلعة فى مرحلة التداول، وليس الإنتاج، وقوانين السوق هى الكفيلة، وفقاًًً له، بتنظيم المجتمع وضبط إيقاعه، ولكن تلك القوانين التى كشف عنها سميث لم تكن الإنجاز الحقيقى لأدم سميث، إذ أن مساهمته الفعلية، وما أكثرها فى الإقتصاد السياسى، إنما تتركز فى نظره إلى السلعة فى المرحلة السابقة على طرحها فى السوق للتداول، أدم سميث، والكلاسيك بوجه عام، إنما ينظرون إلى العملية الإقتصادية فى المجتمع ككل، إبتداءًً من الإنتاج ومروراًً بالتداول والإستهلاك، وإنتهاءًً بالتوزيع كما سيكون ذلك الإنشغال الرئيسى لدى ريكاردو، كما سنرى أدناه.
وعلى هذا يرى آدم سميث إن ثمن السلعة، أو قيمة مبادلتها، إنما يتكون مِن: الأجر، والربح، والريع. إذ يقول ان :" القيمة التى يقوم العمال بإضافتها إلى المواد تنقسم إلى شطرين: الأول، وهو الذى يُدفع كأجر، أما الثانى، فهو الأرباح". ويرد أدم سميث جميع الأجزاء المكونة للثمن (ويقصد ثمن السوق، ) إلى العمل. والذى لا يقيس فقط قيمة ذلك القسم من الثمن الذى يحل نفسه فى العمل، ولكنه يقيش كذلك الذى يحل نفسه فى الإيجار، ومما يحل نفسه فى الربح، فهو يقول
"The real value of all the different component parts of price, it must be observed, is measured by the quantity of labour which they can, each of them, purchase or command. Labour measures the value not only of that part of price which resolves itself into labour, but of that which resolves itself into rent, and of that which resolves itself into profit. "

ثم يضيف بشأن رأس المال، إن رأس المال يلعب دورين: أولهما: دور الإيراد بالنسبة للعمال، وثانيهما: دور الرأسمال بالنسبة للرأسمالى، وبعبارة أخرى: إن ذلك الجزء مِن الرأس مال الذى دُفع للعمال، ويُمثل لهم كإيراد، صار بهذه المثابة بعد أن لعب فى البداية دور الرأسمال.
”The portion of the stock which is laid out in maintaining productive hands……… after having served in the function of a capital to him the employer constitutes revenue to the labourers…..…”
وحينما يبدأ أدم سميث تحليله إبتداءً من دائرة الإنتاج، فإنه يوضح أن شرط البدء فى العملية الإنتاجية المنظمة والتى تمثل القاعدة العامة فى عصره، وعصرنا كذلك، هو التراكم، ويرى سميث مصدره فى قيام بعض الناس بإدخار المال، وهم الذين سيتحولون إلى تجار فى فترة تاريخية معينة، ثم، ومع التطور التاريخى، إلى رأسماليين يستخدمون عمالاًً بالأجرة، وسميث لديه الوعى بكون العمل الضرورى اللازم للإنتاج هو مقياس التبادل، ويضرب على ذلك مثلاًً الصيد، فإذ ما كان صيد حيوان ما يتكلف إصطياده ساعتين من العمل، وآخر يتكلف ساعة واحدة من العمل؛ فإنه يتعين مبادلة زوج من الحيوان الذى تكلف صيده ساعة عمل ضرورى واحدة بحيوان واحد من الذى تكلف صيده ساعتين من العمل. سميث هنا لا يتمكن من إلى الوصول أن قيمة السلعة بالنسبة للسلعة الأخرى تتحدد بالنسبة بين كمية العمل الذى بذل فيها وكمية العمل الذى بذل فى السلعة الأخرى.
"In that early and rude state of society which precedes both the accumulation of stock and the appropriation of land, the proportion between the quantities of labour necessary for acquiring different objects seems to be the only circumstance which can afford any rule for exchanging them for one another. If among a nation of hunters, for example, it usually costs twice the labour to kill a beaver which it does to kill a deer, one beaver should naturally exchange for or be worth two deer. It is natural that what is usually the produce of two days or two hours labour, should be worth double of what is usually the produce of one day s or one hour s labour".
يعى آدم سميث جيداًً الرابط ما بين الربح وبين فائض القيمة، فيذهب إلى القول بأن :" العمال فى مجال الصناعة يأخذون أجورهم مِن سيدهم، الرأسمالى، وهم فى ذلك لا يجعلونه فى الحقيقة يُُنفِِق شيئاًً؛ حيث أن هذه الأجور، عادة، ما تُُدفع من الأرباح".
“The manufacturer has his wages advanced to him by his master, he in reality, costs him no expense, the value of those wages being generally restored, together with a profit ……”
التركيب العضوى لرأس المال
وحيث يبدأ آدم سميث، ومؤسسى الإقتصاد السياسى بوجه عام، إبتداءًً من دائرة الإنتاج، فهو يرى أن الإنتاج إنما يتطلب توافر حد أدنى من رأس المال الذى يلج حقل الإنتاج فى أشكال مختلفة، منها ما هو فى صورة مواد أولية أو مواد مساعدة، ومنه ما هو فى صورة ألالات ومبانى، ومنه ما هو فى صورة قوة عمل تنفق فى سبيل تفعيل المواد من خلال الأدوات وتحويلها إلى سلع، هنا يقرر آدم سميث أن رأس المال هذا إنما ينقسم إلى قسمين: أحدهما وهو الذى يستخدم فى سبيل الأراض والألات، أى أدوات الإنتاج، ويسمي آدم سميث هذا القسم (رأس المال الأساسى) أما القسم الثانى والذى يسميه سميث (رأس المال الدائر) فهو الذى يستخدم فى سبيل شراء مواد العمل وقوة العمل. ووجه الفارق ما بين رأس المال الأساسى وبين رأس المال الدائر، كما يرى سميث، يتجلى فى شرط بقاء الملكية، وهو الشرط الذى سيعدله ريكاردو فيما بعد، فآدم سميث يجعل معيار التفرقة بين قسمى رأس المال هو مدى إحتمالية تغير مالك ذلك الجزء من رأس المال الذى تجسد فى السلعة عقب إنتاجها وطرحها فى حقل التداول، بمعنى أن كل سلعة من السلع المنتجة طبقاًً لنمط الإنتاج الرأسمالى والمعدة للطرح فى السوق، إنما تحتوى على (أدوات عمل، ومواد عمل، وقوة عمل) والذى يمضى فى التداول هو (مواد العمل وقوة العمل) وتظل الأدوات، والمبانى، على ملك صاحبها، وإنما تتجسد فى الناتج بمقدار الإهلاك فقط، وبنسبة محددة، على حين أن المواد إنما تُُستهلك كلية أثناء الإنتاج، وكذلك قوة العمل التى هى عرضة مثلها مثل المواد للتبدل والتغير فى أى لحظة يراها الرأسمالى، وتبقى الألات والمبانى كى تمثل رأس المال الأساسى، على حين تعد مواد العمل وقوته رأس مالاًً دائراًً.
There are two different ways in which a capital may be employed so as to yield a revenue or profit to its employer. First, it may be employed in raising, manufacturing, or purchasing goods, and selling them again with a profit. The capital employed in this manner yields no revenue or profit to its employer, while it either remains in his possession, or continues in the same shape. The goods of the merchant yield him no revenue or profit till he sells them for money, and the money yields him as little till it is again exchanged for goods. His capital is continually going from him in one shape, and returning to him in another, and it is only by means of such circulation, or successive exchanges, that it can yield him any profit. Such capitals, therefore, may very properly be called circulating capitals. Secondly, it may be employed in the improvement of land, in the purchase of useful machines and instruments of trade, or in suchlike things as yield revenue or profit without changing masters, or circulating any further. Such capitals, therefore, may very properly be called fixed capitals.Different occupations require very different proportions between the fixed and circulating capitals employed in them. The capital of a merchant, for example, is altogether a circulating capital.He has occasion for no machines or instruments of trade, unless his shop, or warehouse, be considered as such some part of the capital of every master artificer or manufacturer must be fixed in the instruments of his trade. This part, however, is very small in some, and very great in others. A master tailor requires no other instruments of trade but a parcel of needles. Those of the master shoemaker are a little, though but a very little, more expensive. Those of the weaver rise a good deal above those of the shoemaker. The far greater part of the capital of all such master artificers, however, is circulated, either in the wages of their workmen, or in the price of their materials, and repaid with a profit by the price of the work.

ديفيد ريكاردو (1772- 1823)
ديفيد ريكاردو، واحد من أعظم أساتذة التحليل الإقتصادى فى عالمنا المعاصر، وأعظم مََن يمثل الكلاسيكية بعد آدم سميث. ولد ديفيد ريكاردو فى عام 1772 فى أسرة يهودية من هولندا، جاءت إلى إنجلترا واستقرت بها، وبعد مرحلة من عمره تحول عن اليهودية. أصبح ديفيد ريكاردو سمساراًً للأوراق المالية، واستطاع أن يجمع ثروة كبيرة فى وقت قصير أهلته من أن يصير مالكاًً للأراضى، كما ساعدته ثروته على عضوية مجلس اللوردات، وأن يتفرغ للإنتاج الفكرى والمعرفى فى وقت مبكر. وفى عام 1817 يقوم ديفيد ريكاردو بنشر أهم مؤلفاته "مبادىءالإقتصاد السياسى والضرائب" وفى هذا المؤلف الهام، المكون من 32 فصلاًً، يعتبر ديفيد ريكاردو أن الإشكالية الأساسية فى الإقتصاد إنما تتعلق بمسألة تحديد القوانين التى تنظم عملية التوزيع، وإنما إبتداءًً من القيمة. ومن ثم يتبدى وجه الإختلاف بين رؤية سميث وبين رؤية ريكاردو للموضوع الذى ينشغل به الإقتصاد السياسى، فعلى حين يرى آدم سميث أن دائرة الإنتاج هى محل الإنشغال، ينقل ريكاردو التحليل من دائرة الإنتاج إلى دائرة التوزيع؛ وعلى الرغم من وجه الإختلاف هذا، إلا أن كلا منهما يصدر فى تحليله لدائرة إنشغاله من القيمة.
والواقع أن الإختلاف بين ريكاردو وسميث فى تلك الجزئية إنما هو إنعكاس مباشر لحركة الواقع، فآدم سميث حين فكر فى إنتاجه ثروة الأمم، وإنتاجه فعلياًً، إنما كان يعيش عصر الثورة الصناعية وكانت المشكلة الأساسية هى مشكلة تنظيم الإنتاج ونموه، بينما جاء ريكاردو كى يعايش مرحلة تالية أخذت مشكلة توزيع الدخل حيزاًً كبيراًً على صعيد الإقتصاد القومى، فيما بين: العمال، والرأسماليين، والملاك العقاريين، وفى نفس الوقت كانت هذه المرحلة التى عاشها ريكاردو هى مرحلة تتسم بويادة ملحوظة فى الإيجارات الزراعية(الريع) ومن ثم كان توزيع الدخل بين الزراعة وبين الصناعة من الموضوعات الرئيسية التى شغلت التفكير الإقتصادى؛ فالتعارض كان واضحاًً وشرساًً بين مصالح طبقة كبار الملاك العقاريين وبين طبقة الرأسماليين.
تصور ديفيد ريكاردو
يبدأ ريكاردو إبتداءًً من تفسير لغز القيمة، بالرجوع إلى مسألة الندرة فهو يقرر أن التباين بين القيمة الإستعمالية وبين القيمة التبادلية إنما يعود إلى ندرة السلع المختلفة؛ فبعض السلع قد يكون لها قيمة إستعمال مرتفعة ومع ذلك تنخفض قيمتها التبادلية لوجودها بوفرة؛ الهواء الجوى مثلاًً قيمته الإستعمالية مرتفعة ولكن حيث يوجد بوفرة تشبع حاجات الإنسان فإن قيمة تبادله تنخفض إلى الصفر، وبعض السلع الأخرى التى تصور آدم سميث أن قيمتها الإستعمالية منخفضة جداًً نجد أن قيمتها التبادلية مرتفعة جداًً؛ كالذهب مثلاًً، تنخفض قيمة إستعماله وترتفع قيمة مبادلته.
"It has been observed by Adam Smith, that "the word Value has two different meanings, and sometimes expresses the utility of some particular object, and sometimes the power of purchasing other goods which the possession of that object conveys. The one may be called value in use; the other value in exchange. The things," he continues, "which have the greatest value in use, have frequently little or no value in exchange; and, on the contrary, those which have the greatest value in exchange, have little or no value in use." Water and air are abundantly useful; they are indeed indispensable to existence, yet, under ordinary circumstances, nothing can be obtained in exchange for them. Gold, on the contrary, though of little use compared with air or water, will exchange for a great quantity of other goods".
وهو يصل إبتداءًً من فكرة الندرة إلى إعتبار أن السلع تعتمد فى قيمتها التبادلية على أمرين: الندرة، وكمية العمل المطلوبة لإنتاجها. وإنما إبتداءًً من وعيه بأن قيمة السلعة لا تتوقف فقط على العمل المنفق مباشرة فى إنتاجها، بل وأيضاًً العمل المنفق على الأدوات والعدد والمبانى الضرورية لتحقيق العمل.
Possessing utility, commodities derive their exchangeable value from two sources: from their scarcity, and from the quantity of labour required to obtain them.
وهكذا حاول ريكاردو أن يوفق ما بين قيمة إستعمال السلعة وبين قيمتها التبادلية، وذلك بالرجوع إلى ندرة السلعة، ويمكننا البدء فى إيجاز تصور ريكاردو من حيث بحثه إبتداءًً من القيمة، وهو يرى أن قيمة سلعة أو كمية معينة من سلعة أخرى تكون معدة للتبادل، إنما تتوقف على كمية العمل (النسبية) الضرورية لإنتاجها، وحينئذ نكون أمام الثمن الطبيعى. والذى لم يتمكن سميث من الوصول إليه بوضوح ريكاردو، إذ كما ذكرنا لم يتمكن من الوصول إلى أن قيمة السلعة بالنسبة للسلعة الأخرى تتحدد بالنسبة بين كمية العمل الذى بذل فيها وكمية العمل الذى بذل فى السلعة الأخرى.
"The value of a commodity, or the quantity of any other commodity for which it will exchange, depends on the relative quantity of labour which is necessary for its production, and not on the greater or less compensation which is paid for that labour"
أما إذا كان التعويض أكبر أو أقل فنكون أمام ثمن السوق؛ فريكاردو يفرق بين الثمن الطبيعى وبين ثمن السوق، وهو يعمم تلك التفرقة على جميع ما يُُباع ويُُشترى فى السوق من سلع، وطالما العمل سلعة تباع فى سوق العمل لمن يشتريها فى مقابل الأجرة، فإن ريكاردو يرى أن الثمن الطبيعى للعمل هو الذى يكون ضرورياًً لتمكين العمال من العيش وإدامة عرقهم، دون زيادة أو نقصان، إنما يعنى حد الكفاف، وحينما تطرح سلعة العمل فى السوق نكون أمام ثمن السوق للعمل، وهو يراه هنا، كما سميث، خاضعاًً لقوى العرض والطلب، فهو يقول فى الفصل السادس:
Labour, like all other things which are purchased and sold, and which may be increased or diminished in quantity, has its natural and its market price. The natural price of labour is that price which is necessary to enable the labourers, one with another, to subsist and to perpetuate their race, without either increase or diminution. The market price of labour is the price which is really paid for it, from the natural operation of the proportion of the supply to the demand; labour is dear when it is scarce and cheap when it is plentiful. However much the market price of labour may deviate from its natural price, it has, like commodities, a tendency to conform to it.
ويقرر ريكاردو أن العمل المباشر يحصل على أجر مقابل مساهمته فى الإنتاج والعمل المختزن يحصل على ربح وهذا هو مقابل تكوين رأس المال أو إختزان العمل، ولكن ريكاردو إمكانية زيادة الأرباح عن ذلك المستوى الذى يعوض أصحاب رأس المال على مجهوداتهم التى بذلوها فى إختزان العمل. وهذه الزيادة فى الأرباح تشبه الريع الذى يحصل عليه ملاك الأراضى من حيث كانت فى رأى ريكاردو نتيجة لندرة رأس المال وليست نتيجة للمجهود الذى بذل فى تكوينها.
التركيب العضوى لرأس المال
إبتداءًً من قانون القيمة كذلك، يستكمل ريكاردو الخط المنهجى الذى وضعه سميث بشأن التفرقة ما بين رأس المال الأساسى وبين رأس المال الدائر، بيد أن إستكماله لهذا الخط المنهجى إنما هو فى الواقع إعادة نظر من ريكاردو ليس فى التقسيم أو فى محتواه، وإنما فى معياره، فعلى حين رأى سميث أن معيار التفرقة ما بين رأس المال الإساسى ورأس المال الدائر، إنما هى تفرقة تعتمد على شرط ندى بقاء ملكية ذلك الجزء من رأس المال الذى يتجسد فى السلعة على نحو ما رأينا أعلاه، فإن ريكاردو يعتمد معياراًً جديداًً، يرتكز على معدل الإستهلاك، أو الديمومة؛ فإذ ما كان ذلك الجزء من رأس المال مما يستهلك فى وقت قصير أو كلية فى فترة وجيزة، مثل ذلك الجزء من رأس المال المدفوع كأجرة، فإن ذلك، وفقاًً لريكاردو، بمثابة (رأس مال دائر) أما إذ ما كان مما يطول بقائه ويدوم إستخدامه فى الوظيفة التى تم إعداده لأجلها(كالألات والمبانى) فنحن أمام رأس مال أساسى. كما يقول ريكاردو. مع ملاحظة أن ريكاردو لا يحدثنا عن المواد الأولية أو المواد المساعدة.
In the former section we have supposed the implements and weapons necessary to kill the deer and salmon, to be equally durable, and to be the result of the same quantity of labour, and we have seen that the variations in the relative value of deer and salmon depended solely on the varying quantities of labour necessary to obtain them,—but in every state of society, the tools, implements, buildings, and machinery employed in different trades may be of various degrees of durability, and may require different portions of labour to produce them. The proportions, too, in which the capital that is to support labour, and the capital that is invested in tools, machinery and buildings, may be variously combined. This difference in the degree of durability of fixed capital, and this variety in the proportions in which the two sorts of capital may be combined, introduce another cause, besides the greater or less quantity of labour necessary to produce commodities, for the variations in their relative value—this cause is the rise or fall in the value of labour
كارل ماركس (1818 - 1883)
نعاه إنجلز بقوله:" لقد كانت رسالته فى الحياة أن يُُسهم بطريقة أو بأخرى فى قلب المجتمع الرأسمالى....وأن يُُسهم فى تحرير بروليتاريا العصر الحديث الذى كان أول مَن جعلها تعى مركزها وحاجاتها وتدرك الظروف التى يُمكن فى ظلها أن تحصل على حريتها. كان القتال ميدانه. وقد قاتل بعنف وإصرار ونجاح لا يباريه فيها كلها إلا قليل. . . ومن ثم فقد كان أكثر رجل تعرض للعداء فى عصره، ثم مات محبوباًً محترماًً مبكياًً عليه من ملايين العمال الثوريين من زملائه من مناجم سيبريا إلى سواحل كاليفورنيا، وفى كل مكان فى أوروبا وأمريكا. . . إن اسمه وعمله سيخلدان على مر العصور"
وقال عنه شومبيتر فى عبارات معبرة:"حقاًً يختفى معظم ما يخلقه العقل أو الخيال بعد أزمنة مختلفة من عمليات الخلق تلك، قد تقصر أو تطول،لكن بعض هذه الآثار لا يختفى أبداًً... فقد تعانى الإحتجاب، ولكنها تعود للظهور تارة أخرى ... وهى روائع عظيمة... وما من ريب أن ذلك ينطبق على رسالة ماركس... "
إن ماركس لم ينشىء، بل كشف، لقد كشف ماركس، على الصعيد النظرى، عن أفكار كبرى تُُعبر عن واقع سير هذا العالم وتنظر لقوانين حركته. كشف عن أفكار تبناها، بالكشف كذلك مفكرون سالفون وغابرون، ولكن كان ماركس فى كشفه أشبه بالصانع الماهر الذى يبرع فى تنقية الجوهر النفيس مما يعتريه، ينتزع الجوهر دون أن يستهلك من أجزاءه ما يقلل من قيمته، بل يستخرجه إستخراجاًً جلياًً نقياًً، ولايبخل، كذلك، فى تشكيله على وجه راق براق.
تلك أبجديات فهم ماركس والتعامل مع جسمه النظرى، هذا النظر فى مجمله، فى تقديرى، ربما يوفر على إنجلز مشقة الدفاع عن رفيقه تجاه مزاعم يوهان رودبرتوس وناشر مؤلفه كوزاك، الذين زعما أن ماركس قد إستخدم نفس أفكار رودبرتوس. ليس هذا تسليماًً بزعم الزاعمين بقدر ما هو الإنتصار لماركس، فالبرغم من كون تحليلات ماركس قد قطعت شوطاًً أبعد بكثير، إلا أنها وفى التحليل النهائى تأتى على نحو متفق، فى مجموعها، فى مجموعة من الأفكار الفطرية الكبرى المعبرة والكاشفة عن السير الحقيقى لهذا العالم. ولقد كان لدى ماركس الوعى الكامل بذاك البصر، وكذا إنجلز؛ فحينما شرع صانعا البيان فى إعداده كان واضحاًً لديهما انهما يقومان بكشف لا إنشاء. جاء فى البيان الشيوعى:".... هناك حقائق أزلية مثل الحرية والعدالة وغيرهما تشترك فى إمتلاكهما كل الأنظمة الإجتماعية...إن تاريخ المجتمعات حتى أيامنا هذا يتكون من صراعات تأخذ أشكالا مختلفة طبقا لعصورها. ولكن الشكل العام الذى تأخذه هذه الصراعات هو إستغلال جزء من المجتمع لجزء أخر،وهى واقعة مشاعة تشترك فيها كل القرون السابقة (لاحظ هنا قوة التجريد)ومن ثم لن ندهش إذا كان الوعى الإجتماعى لكل القرون، برغم تنوعه وإختلافه، يتحرك داخل أنماط معينة شائعة، أنماط لا تنحل إلا مع إختفاء الصراع بين الطبقات" فهل تختفى تلك الطبقية؟ وهل ذلك من الممكن إنجازه؟ تلك مسائل أخرى لن تكون خلافية إلا فى مرحلة تالية، وغير مهمة، على الإتفاق على ما أورده صاحبا البيان فى نصهما.
إن إنجلز نفسه وحين يهم بالدفاع عن رفيقه، يقدم دفاعاًً يؤكد منحانا فى الفهم، ولا ينفى مزاعم الزاعمين رودبرتوس وكوزاك؛ فهو يركن إلى أن تاريخ عِلم الكيمياء يُعين فى إستيعاب علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه، إذ أنه فى أواخر القرن الثامن عشر، كانت نظرية الفلوجستين هى المتربعة من جهة إفتراض مادة ما تقبل الإشتعال بإطلاق حتى كان عام 1774 وفيه وصف بريستلى الهواء الخالى من الفلوجستين، ومن بعده شييله الذى سيطلق عليه الهواء النارى، ولم يكن بريستلى ولا شييله يدركان ماذا وصفا تحديداًً، حتى يأتى لافوزييه كى يكشف عن ذلك العنصر الذى كان غير مثمر فى يد بريستلى وشييله وليسميه أوكسجيناًً. هكذا يدافع إنجلز، وليقول:" إن علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه من جهة نظرية القيمة الزائدة، هى كعلاقة لافوزييه ببريستلى وشييله" السؤال هنا وهو مهم جداًً: ما الذى كان فعلاًً بيد كل مِن بريستلى وشييله ولافوزييه؟
فى نفس اللحظة التى هيمن فيها الكمى غير الواعى على الكيفى تم إختزال فكر ماركس إلى مادة ووعى ووجود وماهية وصراعات طبقية وتحالفات ثورية....وصارت تلك المفردات مع الوقت، مفردات ذات فهم إنطباعى، تردد فى إيقاعات ذهولية. مفردات لا يمكن أن تخلف سوى الفصام والبلاهة مع قليل التعاطى؛ إذ أن كثيرها مهلك. مفردات(تنتمى إلى عالم الكم الجاهل بعالم الكيف)سدت الطريق أمام النتائج المبهرة لإعتبار ماركس نفسه إمتداداًًً (وفكرياًً طبيعياًً) لأكابر الناظرين فى الرأسمالية وفحول منظريها: أدم سميث وديفيد ريكاردو، وسيظل التساؤل، دوماًً، عما إذا كان كارل تلميذاًًً ريكاردياًًً فاشلاًًً، محل إعتبار طالما أمنا بوحدة المعرفة الإنسانية دونما تقطيع لأوصالها أو مسخ لمعالمها.
إن العبارة التى تقول"إن المعالم الرئيسية لعالم الإقتصاد اليــوم لم ترسمها رؤية شاملة لعقل منظم، ثم نفذها عن عمـد مجتمع ذكى، بل نفذها جمع من الأفراد كان محركهم الأول قوي غريزية وغير واعية لا تدرك الهدف الذي تتجه إليه "تلك العبارة لم يوردها ماركس وإنجلز فى البيان الشيوعى، إن الذى كتب تلك العبارة هو أدم سميث أستاذ الفلسفة الأخلاقية فى كتابة دراسة فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم، أما ماركس فقد كتب، بل بلور كعادته فى رأس المال ما خطه أدم سميث على إستحياء ربما، وربما بإرتباك، فى الحالتين يسلط ماركس وكعادته كذلك الضوء الساطع على الأماكن المعتمة والأفكار الضبابية حين يكتب"إن إكتشاف الذهب والفضة فى أمريكا، وإقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم وإستعبادهم ودفنهم أحياء فى المناجم وبدايات عزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوى البشرة السوداء إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالى، إن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولى".
تصور كارل ماركس:
يبدأ ماركس تحليله إبتداء من أن ثروة المجتمعات، التى يسودها نمط الإنتاج الرأسمالى، تبرز بوصفها تكديساًً هائلاًً من السلع، بينما تبرز كل سلعة على حدة كشكل أولى لهذه الثروة. الأمر الذى يستلزم أن يبدأ ماركس من حيث تحليل السلعة، ويتعامل معها إبتداءً من كونها مادة خارجية، شىء، يلبى، بفضل خصائصه، حاجة من الحاجات البشرية، مع وعيه بأن طبيعة تلك الحاجات البشرية، سواء كان مصدرها المعدة أم الخيال، لا تغير من الأمر شيئاًً، ومع وعيه كذلك بالدور الذى تلعبه السلع على صعيد كل من الإستعمال والتبادل.
ومن هنا يرى ماركس إمكانية النظر إلى كُُل شىء نافع، مثل الحديد والورق...إلخ، مِن وجهتى نظر: مِن الجانب الكيفى ومِن الجانب الكمى. فكُُل مِن هذه الأشياء هو مجموع للكثير مِن الخصائص ولذلك يُمكنه أن يكون نافعاًً بمختلف جوانبه.وإن الكشف عن هذه الجوانب المختلفة، وبالتالى عن الأساليب المتنوعة لإستخدام الأشياء هو عمل مِِن عوامل التطور التاريخى. ويصح قول الشىء ذاته فيما يتعلق بإيجاد المقاييس الإجتماعية، فالإختلاف فى مقاييس السلع إما أنها تعود إلى إختلاف طبيعة المواد موضع القياس، وإما أنها إصطلاحية.
إن منفعة الشىء تجعل منه حائزاًً لقيمة إستعمالية، ولكن هذه المنفعة، ليست مُعلقة فى الهواء، فهى لكونها مَشروطة بخصائص جسد السلعة، لا توجد بدون هذا الأخير؛ ولذلك فإن جسد السلعة، كالحديد والورق والذهب...إلخ هو بحد ذاته قيمة إستعمالية، ولدى النظر فى القيم الإستعمالية يقتضى الأمر دائماًً تحديدها كمياًً، مثلاًً: برميل من النفط، طن مِن حديد، متر مِن القماش، جرام مِن الذهب إلخ، وتُشكل القيم الإستعمالية للسلع موضوع عِلم خاص هو عِلم السلع، ولا تتحقق القيمة الإستعمالية إلا مِن خلال الإستعمال أو الإستهلاك. وأن القيم الإستعمالية تشكل المضمون المادى للثروة مهما كان الشكل الإجتماعى لهذه الثروة، وفى ظل شكل المجتمع الرأسمالى الذى نحياه حالياًًًً، تُعتبر القيم الإستعمالية فى الوقت نفسه حاملات مادية للقيمة التبادلية.
وتبدو القيمة التبادلية قبل كُُُل شىء كعلاقة كََمية، كنسبة يجرى بموجبها تبادل قيم إستعمالية مِن نوع ما بقيم إستعمالية مِن نوع آخر. فإن سلعة مُعينة، كيلو مِن القمح مثلاًً تجرى مبادلته بمقدار (س) مِن الأرز، و (ص) مِن الحرير، و (ع) مِن الفضة، وما إلى ذلك، وبإختصار: بسلع أخرى بأكثر النسب تبايناًً، وبالتالى فليس للقمح قيمة تبادلية واحدة، بل لها، كسلعة، الكثير جداًً مِن القيم التبادلية، ولكن بما أن (س) مِن الأرز، و (ص) مِن الحرير، و (ع) مِن الفضة، إنما تشكل القيمة التبادلية للكيلو مِن القمح، فإن (س) من الأرز، و (ص) من الحرير، و (ع) مِن الفضة، وما إليها، يجب أن تَكون قيماًً تبادلية قادرة على أن تحل محل بعضها البعض، أى أن تكون متساوية فيما بينها. ومِن هنا ينجم، أن القيم التبادلية المختلفة للسلعة تعبر عن شىء واحد.
ولنأخذ سلعتين للتمثيل المبسط، وليكن الحرير والفضة، فمهما تكن علاقتهما التبادلية يُمكن على الدوام التعبير عنها بمعادلة تَتَعادل فيها كَمية معينة مِن الحرير مع كََمية معينة مِن الفضة، مثلاًً: مبادلة (10) أمتار مِن الحرير بـ(5) جرام مِن الفضة. فعلام تَدُل هذه المعادلة؟
إن تلك المعادلة إنما تدل على وجود أمر مشترك مقداره واحد. إن كلاًً مِن هذين الشيئين، الحرير والفضة، مساو لشىء ما ثالث، لا هو الأول ولا هو الثانى، وبالتالى لابد وأن يكون كُُل منهما بإعتباره قيمة تبادلية، قابلاًً للإرجاع إلى هذا الشىء الثالث. وهذا الشىء المشترك لا يُمكن أن يكون متمثلاًً فى خصائص هندسية أو فيزيائية أو أية خصائص طبيعية أخرى للسلع، فخصائص السلع الجسدية لا تُؤخذ فى الإعتبار على وجه العموم إلا بقدر ما تتوقف عليها منفعة السلع، أى بقدر ما تجعل مِن السلع قيماًً إستعمالية، وفى هذا الشأن يَنقل كارل ماركس، عن باربون، قوله:"إن نوعاًً من البضائع هو صالح تماماًً كأى نوع آخر إذا كانت قيمتهما التبادليتان متساوييتين، ولا فرق أو إختلاف بين الأشياء التى لها قيم تبادلية متساوية؛ فكََمية مِن الحديد أو الرصاص بمائة جنيه لها نفس القيمة التبادلية كما لكمية مِن الفضة أو الذهب بمائة جنيه"
إنشغل ماركس، بشكل رئيسى، بقيمة قوة العمل. متسالاًً: ما هى قيمة قوة العمل؟ ويجيب: إن قيمة كل سلعة تقاس بالعمل اللازم لإنتاجها. وقوة العمل توجد فى شكل العامل الحى الذى يحتاج إلى كمية محددة من وسائل المعيشة لنفسه ولعائلته، مما يضمن استمرار قوة العمل حتى بعد موته. ومن هنا فان وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل المعيشة هذه يُمثل قيمة قوة العمل. وعلى ذلك يدفع الرأسمالى للعامل أجره أسبوعياًً مثلاًً، شارياًً بذلك إستخدام عمله لهذا الأسبوع.
بعد ذلك فان الرأسمالى يجعل عامله يبدأ فى العمل، وفى وقت محدد سيقدم العامل كمية من العمل توازى أجره الأسبوعى، ويضرب فردريك انجلز مثلاًً مؤداه أننا لو افترضنا أن أجر العامل الأسبوعى يمثل ثلالثة أيام عمل، فان العامل إذا بدأ العمل يوم الإثنين؛ فانه يكون فى مساء يوم الأربعاء قد "عوض" الرأسمالى عن"القيمة الكاملة للأجر المدفوع". ولكن هل يتوقف العامل عندئذ عن العمل؟ إطلاقاًً. لقد اشترى الرأسمالى عمل العامل لمدة أسبوع، وعلى العامل أن يستمر فى العمل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع كذلك، وهذا العمل الفائض الذى يقدمه العامل فوق الوقت اللازم لتعويض أجره وزيادة عليه هو"مصدر فائض القيمة"، ومصدر الربح، والتراكم المتزايد باستمرار لرأس المال.
التركيب العضوى لرأس المال
لا يهدم ماركس ،كما يُقال للطلاب، التقسيم الذى وضعه سميث، وسايره ريكاردو مع بعض التعديلات، وإنما يُُعيد النظر فيه من جهة محتوى ومعياره، كى يصل إلى إعادة طرح رأس المال الأساسى ورأس المال الدائر وفقاًً لتقسيم الكلاسيك، من جهة المفهوم والمحتوى والمعيار، وإنما إبتداءًً من القيمة وإنتقالها، كمياًً وكيفياًً من رأس المال إلى المنتََج النهائى، الأمر الذى قاد ماركس نحو عمل تقسيم مختلف تبدى فى إعادة النظر فى رأس المال الأساسى على وجه التحديد، فرأس المال لديه يتكون، من جهة التركيب القيمى، إلى قسمين: ثابت، ومتغير. ثابت: وهو ذلك الجزء مِن وسائل الإنتاج(تحديداًًً وسائل العمل، والمواد الخام، والمواد المساعدة)) الذى ينقل جزءًً من قيمته(التبادلية) إلى الناتج، دون إستهلاكه كلياًًً فى"عملية إنتاجية واحدةً"، وتستمد صفة الثبات وجودها مِن أن ذلك القسم مِن الرأسمال ينقل جزءًً مِن قيمته التبادلية(وهو من تلك الوجه يُُعد رأسمالا متداولاًً) بينما يظل الجزء الآخر ثابتاًً فى وسائل العمل، وبالتالى يبقى فى حقل الإنتاج. مُمثلاًً لرأس مال أساسى، والقسم الثانى هو رأس المال المتغير: وهو لا ينقل فقط قيمته إلى الناتج، وإنما ينقل إليه كذلك قيمة زائدة. وهو ما يتمثل فى قوة العمل. كما ينقسم رأس المال كذلك، من الوجهة التكنيكية، إلى: وسائل إنتاج، وقوة عمل حية، وبهذا المعنى يتحدد تركيب رأس المال بالعلاقة بين كتلة وسائل الإنتاج المستخدمة، من جهة، وكمية العمل اللازمة لإستخدام هذه الوسائل، من جهة أخرى. وفى ذلك يقول ماركس:" إن ذلك القسم من رأس المال الذى يتحول إلى وسائل إنتاج أى مادة خام ومواد مساعدة ووسائل عمل، لا يغير مقدار قيمته فى عملية الإنتاج. لذلك فأنا أسميه بالقسم الثابت للرأسمال، أو بإختصار: الرأسمال الثابت، وعلى العكس، فذلك القسم من الرأسمال الذى تحول إلى قوة عمل، يُغير قيمته فى عملية الإنتاج، فهو يُُجدد إنتاج معادله الذاتى وعلاوة على ذلك فائضاًً، قيمة زائدة يمكنها أن تتغير بدورها وأن تكون أكبر أو أقل، وهذا القسم للرأسمال يتحول بصورة متواصلة من مقدار ثابت إلى متغير، ولذلك فأنا أسميه بالقسم المتغير للرأسمال، أو بإختصار: الرأسمال المتغير".
القطيعة المعرفية
خلال قرنين من الزمان تبلور الإقتصاد السياسى ونضج كعلم إجتماعى شغله الأساسى نمط الإنتاج الرأسمالى، وإنما إبتداءًً من القيمة، فى الإنتاج عند آدم سميث، وفى التوزيع لدى ديفيد ريكاردو، وفى هيكل النظام لدى كارل ماركس.
إننى هنا أستخدم نفس الأدوات الفكرية التى إستخدمها مؤسسى عِلم الإقتصاد السياسى، والذى أصابته القطيعة المعرفية مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ومن هنا أعتبر علم الإقتصاد السياسى قد توقف عن التطور مع آخر صفحة من كتاب رأس المال، عدا بعض الدراسات والإبحاث الجادة إلا إنها لا ترقى لمستوى الحديث عن إستكمال علم لم يكتمل، ومن هنا كذلك لا أعتبر إطلاقاًً التيار الفكرى الذى سوف يتربع على عرش الفكر المؤسسى إمتداداًً لعلم الإقتصاد السياسى، بل أعتبر ذلك التيار، والذى سنراه أدناه، ممثلاًً لفن جديد يستلهم بعض الأفكار العامة جداًً من علم الكلاسيك، ونتفق هنا تماماًً مع أستاذنا الدكتور سمير أمين، حين عبر وباقتدار، فى كتابه الفذ عن "التراكم على الصعيد العالمى"، عن ذلك الفن الجديد والذى طغى على المؤسسة التعليمية الرسمية؛ إذ رأى أن عِلماًً "للتسيير"وليس"للإقتصاد" هو الذى يَركن إليه منظروا الرأسمالية والإمبريالية العالمية، لكنهم يغلفونه بغلاف العِلم للمزيد مِن التدليس والتضليل، فقد كتب سمير أمين:" مات "العِلم" الإقتصادى الجامعى إذاًًً كعِلم إجتماعى ميتة العجز لصرفه النظر عن النظرية الموضوعية للقيمة. لكنه خلف وراءه فناًً فى التسيير. فالملاحظة التجريبية"للإرتباطات" القائمة بين الظاهرات تتيح صياغة جعبة من تقنيات العمل تتفاوت فى مدى فعاليتها. فبمقدار ما تكون مفاهيم العِلم الحدى، التى تدعى" الأزلية" لنفسها، مستقاة مِن ملاحظة نمط الإنتاج الرأسمالى. بمقدار ما يكون بوسعها إتاحة المجال لصياغة فن فى التسيير الإقتصادى، وهو فن لا شك فى عيبه ونقصانه لأنه يقوم على الملاحظة الوضعية بلا نظرية، سواء على الصعيد الميكرو- إقتصادى(فن تسيير المؤسسة) أو على الصعيد الماكرو- إقتصادى(فن السياسة الإقتصادية الوطنية) فالتحولات البنيوية داخل نمط الإنتاج الرأسمالى نفسه، تجعل فن التسيير هذا أمراًً لازماًً. طبيعة الإشكالية فى هذا الفن تصعيد بعض المقادير الإقتصادية إلى حدها الأقصى(الربح،أو الإنتاج)تحت وطأة بعض الصعوبات المعينة (لا سيما صعوبات ندرة الموارد)فى زمن معين، وفى نظام معين(هنا نمط الإنتاج الرأسمالى، الذى غالباًً ما يُُصار إلى إهمال ذكره) تحول دون أن نرى فى هذه المجموعة مِن (التقنيات)بديلاًً للعِلم الإجتماعى:فالفن ينبثق عن عِلم،ظاهراًً كان العِلم أم ضمنياًً،والعِلم المضمر هنا هو العِلم الحدى.إن أدلجة ما هو إقتصادى وحدها، وهذه هى الإقتصادوية، هى التى تتيح إنشاء عِلم مِن ما لا يمكن أن يكون عِلما على الإطلاق"
نقل الإهتمام من المصنع إلى السوق
فمع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تبلورت أفكار المدرسة النيوكلاسيكية، والتى تسوق خطأ على أساس من كونها إمتداداًً لأفكار الكلاسيك، وكى تقوم بتفريغ العلم من محتواه الإجتماعى، بل ولا ضرر كذلك لديها من عزله عن العلوم الإجتماعية الأخرى،فعلم الإقتصاد بالنسبة للتيار النيوكلاسيكى هو علم معملى إلى أبعد حد، والعلاقات الإقتصادية،المتمثلة فى الإنتاج والتداول والتوزيع، بين أفراد المجتمع إنما هى علاقات بين الأشياء المادية، أى ليست بالعلاقات الإجتماعية.
ويُُؤسس على ذلك هذا التيار الفكرى، والذى سيكون تياراًً جارفاًً، فكرة المنفعة كمركز تدور فى فلكه جل العلاقات الإقتصادية بمفهموها الذى لا يرى سوى علاقات بين الإشياء المادية الخاضعة للمعادلات الرياضية والدوال الخطية والرسوم البيانية، وبتلك المثابة يمكننا القول بأن التيار الفكرى النيوكلاسيكى قد قام بتقديم موضوعاًً غير مسبوق للعلم، يعتمد على تفسير شاذ للقيمة؛ إذ المبدأ الأساسى عند النيوكلاسيك ان المنفعة هى عماد القيمة، وهو المبدأ الذى يناهض كما رأينا ما قال به الكلاسيك وبصفة خاصة أدم سميث وديفيد ريكاردو الأباء المؤسسون، ولقد برز هذا المبدأ إبتداءًً من الأهمية النسبية للأموال إنما تعتمد على التقدير الذاتى لمجموعة المستهلكين. هنا سيكولوجية المستهلك العادى هى نقطة البدء التى على أساسها لا تتحدد قيمة السلعة فحسب، وإنما التوزيع ذاته؛ بعد أن تم تعميم مبدأ المنفعة على عناصر الإنتاج.
لقد كان الإهتمام الأول للكلاسيك هو موضوع النمو والتطور والإنتاج وتوزيع الدخل، وكان ذلك أمراًً مفهوماًً ومبرراًً، فقد ظهرت الألة على المسرح الإجتماعى بمنتهى الوضوح والفاعلية وجعلت من جميع العلاقات الإقتصادية بين أفراد المجتمع علاقة تبدأ وتنتهى حيث الألة، والإنتاج الأمر الذى يستدعى ظهور تفسيراًً علمياًً لتلك الظواهر التى أخذت فى التبلور فى تلك الحقبة وبصفة خاصة الإنتاج(من خلال الألة بالطبع) والمنتجين(مستخدموا الألة) ومن ثم توزيع الإنتاج والأجور.
أما النيوكلاسيك، فان دائرة التبادل، وإنما إبتداءًً من الإستهلاك، هى مجال الإنشغال الأساسى، وفى حقل التبادل يظهر أشخاص هم من قبل الرجل الاقتصادى، الرشيد الحكيم، الذى يسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الإشباع لحاجاته، ولكنه حال سعيه هذا تحكمه"الحاجات المادية غير المحدودة" ويراد إشباعها بأشياء مادية"محدودة"ومن هنا لم يجد النيوكلاسيك بداًً من دراسة العلاقة بين الأنسان والأشياء المادية دراسة كمية، تهمل المظهر الكيفى للظواهر.
أما عن القيمة، فيذهب التيار النيوكلاسيكى، لتحديد ثمن السلعة فى السوق، وإبتداءًً من إنطلاق تحليلهم من دائرة التبادل، وليس الإنتاج كما ذكرنا، إلى أن الأثمان تتحدد فى الأسواق وفقاًً لقانون العرض والطلب، الطلب يتحدد على أساس المنفعة وسلوك المستهلك(الرشيد الحكيم) فى السوق، أما العرض: فيتحدد على أساس سلوك"المنظم" فى السوق.
ولقد إرتبط التغير الفكرى الذى صاحب النيوكلاسيك بالتغييرات الإقتصادية والإجتماعية التى حدثت فى دول غرب أوروبا، إذ مرت هذه الدول بمرحلة من الركود وتخلصت منه، وصار الإعتقاد بأن الإهتمام بالنمو والتطور ليس بتلك ضرورياًً كما فعل الكلاسيك، إذ أن النمو، فى تقدير النيوكلاسيك، يتم من تلقاء نفسه دون حاجة جدية لدراسته وتفسير ظواهره على الصعيد الإجتماعى.
كما إرتبط كذلك التغير الفكرى الذى صاحب ذلك التيار، بما لحق، آنذاك، البيئة الثقافية والعلمية من تطور، فقد كانت العلوم الطبيعية والرياضيات فى تقدم مستمر وواضح فى هذا العصر، الأمر الذى إنعكس على كتابات النيوكلاسيك، فرغبوا فى الإبتعاد عن اللغة المصطلحية والتعبيرات اللفظية، ومالوا بقوة نحو القياس الكمى عن طريق التعبيرات الرياضية، وإستعاروا أيضاًً بعض الألفاظ من العلوم الطبيعية، كما أنهم ظهروا أكثر ميلاًً لتجريد الظواهر الإقتصادية، والنظر إلى علم الإقتصاد كعلم منفصل عن العلوم الإجتماعية والسياسية، والسياسية بصفة خاصة، الأمر الذى عنى سلخ علم الإقتصاد من دائرة التاريخ والعلوم الإجتماعية، وصار ينظر له على أنه عِلم بحت يحوى نظريات ثابتة قابلة للتطبيق دائماًً، حالها حال ما يتعلق بالعلم المعملى.
جاءت المدرسة النيوكلاسيكية، وقد وجهت سهام النقد العنيفة جداًً لكتابات ماركس، ولكى تقدم موضوعاًً جديداًً كما ذكرنا لعلم الإقتصاد، ولكى تنشغل بدراسة العمل وليس العامل، والمنتج الفرد وليس الرأسمالى، والمستهلك وليس الفرد، رغبة فى الإبتعاد عن التحليل الطبقى الذى أعطاه ماركس.
إبتداءًً من النصف الثانى من خمسينات النصف الثانى من القرن الماضى، طرأت على المدرسة النيوكلاسيكية تغيرات واضحة، فلقد تحول إهتمام التحليل من الجزئى إلى الكلى، من تحليل توازن المستهلك والمنتج، إلى تحليل توازن الإقتصاد القومى. جاء هذا التبدل كبلورة لما أسهم به ليون فالراس، فى العودة إلى إستخدام تحليل التوازن الشامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل؛ وبطريقة خاصة فى التحليل بإستخدام نظاماًً من المعادلات الرياضية فى محاولته للبحث عن التوازن الإقتصادى العام. ظلت هذه التحولات فى حقل التيار النيوكلاسيكى فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى محصورة فى مجال النظرية الأكاديمية، والمراجع والمؤلفات العلمية. أما على الصعيد السياسى الإقتصادى فلم يكن لها أدنى تأثير، فخلال تلك الفترة كان المذهب الكينزى يشهد قمة إنتصاراته وطغيانه الفكرى، واضعاًً ما عداه من مذاهب وأفكار فى الزوايا المهملة، فحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، كان مذهب الحرية الإقتصادية سائداًً إلى حد بعيد فى الأوجه المختلفة للنشاط الإقتصادى، ولكن ما أن إندلعت نيران الحرب، تبدلت الأحوال وتغيرت التصورات، فخلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين(1919-1939) وهى الفترة التى زاد فيها تركز رأس المال، وتبلورت فيها الإحتكارات الصناعية الضخمة، إعلانا لبداية سيادة المشروع الرأسمالى فى شكله الدولى، وكذلك تعرض النظام الرأسمالى للعديد من التوترات، بدءًً بثورة العمال فى المانيا1918، ثم أزمة الديون والتعويضات التى قدرتها معاهدة فرساى على المانيا 1919، فأزمة الكساد الكبير1929، وبروز الحرب النقدية والتكتلات الإقتصادية، ثم إنهيار قاعدة الصرف بالذهب. . . فكان طبيعياًً ظهور الكينزية، فى زمان الأزمة فى شكلها الدورى، ونظريتها التى تعتمد على وجوب التدخل الحكومى بوصفه عاملاًً مساعداًً فى تحريك الإقتصاد الذى كف عن السير، بعدما لاحت فى الآفاق الأزمات متتالية.
فى ظل هذه الهيمنة الكينزية، كان هناك تيار فكرى يتكون فى أحضان التيار النيوكلاسيكى، هو تيار النقديين بقيادة ملتون فريدمان، والذى سيتزعم حملة ضارية على الكينزية، كى ينتهى الأمر باختلاف جذرى، وتوارى للسياسة الكينزيةـ وظهور التيار النيوكلاسيكى المطور. تيار النقديين. والذى سوف يلقى تطبيقاًً رسمياًً فى الفترة من 1979 حتى 1984، وبصفة خاصة فى المملكة المتحدة بزعامة مارجريت تاتشر، والولايات المتحدة برئاسة رونالد ريجان، ولم تكن النتائج سعيدة على الإطلاق؛ فقد تعمق الكساد، وإستفحلت البطالة، وإنخفض الميل الإستثمارى، وإزدادت الضغوط التضخمية، نتيجة للزيادة الواضحة فى عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسى للإقتصاد داخل السوق الرأسمالية العالمية، وليس ذلك هنا مجال مناقشة.