مقدمة في الاشتراكية الثورية

مركز الدراسات الاشتراكية
2011 / 4 / 20 - 12:50     

سلسلة كراسات "مبادئ وخبرات ثورية":
ما هي الاشتراكية الثورية؟ لماذا أنتم اشتراكيون؟ وهل تمثل الاشتراكية الحل لما نعيشه اليوم؟ أو هل يمكن أن تكون الأفكار الاشتراكية الثورية مرشداً لنضالنا من أجل استمرار الثورة؟ تلك هي بعض الأسئلة التي يواجهها الاشتراكيون باستمرار عند مشاركتهم في أي حوار يدافعون فيه عن أفكارهم، أو عند اشتباكهم في أي معركة نضالية اليوم في الثورة المصرية. سنبدأ أولاً بمناقشة التشويهات التي لحقت بالأفكار الاشتراكية على مدار تاريخها ومن ثم سنعرض أهم المبادئ التي ترتكز عليها الاشتراكية الثورية.
1) مفاهيم خاطئة حول الاشتراكية الثورية

· الاشتراكية والاتحاد السوفيتي وعبد الناصر
يأتي إلي أذهان الكثيرين عندما يسمعون كلمة "يسار" أو "اشتراكية" صوراً للشمولية ونظام الحزب الواحد ولعالم رمادي كئيب لا حقوق فيه ولا حريات. والسبب في ذلك هو أنه لفترة طويلة من القرن العشرين ارتبط شعار الاشتراكية بالاتحاد السوفيتي السابق وبدول الكتلة الشرقية، والتي كانت بالفعل دولا شمولية مستبدة تضطهد شعوبها لمصلحه أقلية علي رأس الدولة والحزب الحاكم. ولكن بالنسبة للاشتراكية الثورية، فتلك الدول لم تكن اشتراكية إلا في الإسم ولكنها كانت في الواقع شكلاً من أشكال رأسمالية الدولة، لا تختلف في جوهرها من الدول الرأسمالية الغربية. كان ذلك أيضاً مختلفاً تماماً عن مبادئ الثورة الروسية التي هزت العالم في ١٩١٧ ولكننا نري أن تلك المبادئ قد تم قلبها رأساً علي عقب خلال ثلاثينات القرن الماضي حين تم تصفية الثورة وتحولت الحرية إلي الاستبداد والمساواة إلي شعار فارغ وحكم الجماهير إلي حكم أقلية في قمة الحزب والدولة. وما ينطبق علي الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية ينطبق أيضاً علي فترة حكم عبد الناصر في مصر. فهناك تناقض صارخ بين الشعارات حول التحرر الوطني والتنمية المستقلة وبين سيطرة حفنة صغيرة من الضباط علي السلطة والثروة. وصحيح أن تلك الفترة قد شهدت الكثير من الإصلاحات الاجتماعية، إلا أنها لم تكن إصلاحات جذرية، وإلا لم نكن لنعود إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي والسوق الحر والخصخصة في عهد السادات ومبارك من بعده. والسبب الحقيقي في ذلك هو أن إصلاحات الستينات جاءت على يد انقلاب الضباط الأحرار في 1952، ولم تأتي بثورة جماهيرية تصنع تلك الإصلاحات بنفسها كي تستطيع أن تصونها وتدافع عنها إلى النهاية. وبالتالي، لم تكن تأميمات الستينات انتقالاً من ملكية كبار رجال الأعمال إلي ملكية وسيطرة جماهير الشعب، بل انتقالاً إلي إدارة وسيطرة الضباط الذين شكلوا دولة جديدة تحتكر كل شيء. والحديث عن الحرية في ظل امتلاء المعتقلات بالمناضلين، سواء من الإخوان أو من الشيوعيين هو نفاق محض. كل هذه التناقضات ساهمت بلا شك في انهيار التجربة الناصرية مع مأساة الهزيمة في ١٩٦٧.

· الاشتراكيون والعلمانية والإلحاد
دائما ما كان يُتهم الاشتراكيين بالإلحاد. كان ذلك هو الاتهام الجاهز، الذي تستخدمه حكومات بلادنا لتشويه الاشتراكية في أعين الجماهير. ولكن الواقع هو أنه لا توجد أي علاقة بين الإلحاد والاشتراكية. الاشتراكية الثورية تنطلق من المصالح التاريخية للفقراء من العمال والفلاحين ومعركتنا هي ضد الرأسمالية والاستعمار وليست ضد الدين أو المتدينين. نحن ندافع عن حقوق العمال علي سبيل المثال سواء كان هؤلاء مسيحيين أو مسلمين، ملتزمين دينياً أو غير ملتزمين. قضيتنا هي وحدة العمال في نضالهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. ونحن نؤمن بأن جوهر الدين هو الحق والعدل وبالتالي فلا يتعارض مع ما نناضل من أجله. أما العلمانية فهي قضية ملتبسة عند الكثيرين. فهناك من يري أن فصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة هي ضرورة من ضروريات التقدم للشعوب ويأخذون من النموذج الأوروبي مثالاً يجب تقليده وتحقيقه في بلداننا. وهم بذلك يتجاهلون الفوارق الكبرى التاريخية والثقافية بين الشعوب. هؤلاء العلمانيون المتطرفون يجعلون من العلمانية هدفاً في حد ذاته بغض النظر عن وسيلة تطبيقها حتى وإن كان ذلك بالقمع والقهر وضد رغبة الغالبية العظمي من السكان (كما كان في تركيا مثلاً)، كما أنهم يعادون من يرفع الشعارات الدينية حتى وإن كان هؤلاء يحاربون الظلم والاستعمار (لبنان وفلسطين مثالا). أما نحن الاشتراكيين الثوريين فنقف صفاً واحداً مع كل مقاوم للاستعمار والظلم، سواء كان يرفع شعاراً دينياً أم لا (فيتنام في حرب التحرير ضد الاحتلال الأمريكي وأفغانستان ضد نفس الاحتلال). ونناضل ضد من يضطهد الشعوب باسم الدين (النظام الحاكم في السعودية أو السودان أو باكستان). فقضيتنا ليست حول درجة التداخل بين الدين والدولة أو بين الدين والحركة السياسية بل المضمون الطبقي لتلك الدولة أو الحركة وعن أي مصالح طبقية تدافع عنها، هل مصالح العمال والكادحين أم عن مصالح الشركات الرأسمالية وكبار رجال الأعمال. وبالتأكيد تقف الاشتراكية الثورية مع الحرية الكاملة في العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، لذلك فنحن نناضل ضد كراهية الإسلام واضطهاد المسلمين في أوروبا، تماماً كما نناضل من أجل الحرية الدينية للمسيحيين في مصر ومن أجل المساواة التامة بين المسيحيين والمسلمين في مصر في كافة الحقوق السياسية والاجتماعية
2) مبادئ الاشتراكية الثورية

· النظام الرأسمالي مبني على الاستغلال
يفسر رجال الأعمال والحكام الرأسماليون كل مظاهر الفقر والبؤس والبطالة التي يعيشها البشر، من خلال اتهام الفقراء والكادحين بالتسبب فيها. فمثلاً هم يفسرون ذلك بزيادة معدلات النمو السكاني والإكثار من الإنجاب، مما يؤدي إلى التهام كل "الجهود التنموية العظيمة" للحكومات الرأسمالية وكبار رجال الأعمال. هذا التفسير ليس إلا خدعة كبرى، فصحيح أن موارد مصر والعالم كله محدودة، لكن التقدم التكنولوجي الجبار الذي يشهده العالم الرأسمالي قد وصل إلى درجة تسمح بتحقيق معدلات نمو اقتصادي تزيد كثيراً عن معدلات النمو السكاني. وإذا فرضنا أن معدل النمو السكاني قد وصل لدينا إلى رقم فلكي هو 3% سنويا، (في الحقيقة معدل النمو السكاني في مصر لم يزد في عام 2005 عن 1.78%)، فإنه إذا تم تحقيق معدل نمو اقتصادي 10% في السنة، وهو معدلتحققه الصين الآن وكانت تحقق أعلى منه في سنوات سابقة، فإن استيعاب الزيادة السكانية وتلبية احتياجات البشر في المأكل والملبس والمسكن، بل وتحقيق فائض، يصبح أمراً ممكناً للغاية. هناك أيضاً تفسير ثاني يروجه الحكام ورجال الأعمال الكبار في العالم، وهو أن الفقراء مسئولون عن فقرهم بسبب كسلهم وعدم رغبتهم في العمل. أما هذا التفسير فهو في الحقيقة أكثر وقاحة من سابقه؛ فكيف يمكن أن نصف بالكسل الطلاب الذين يتركون دراستهم من أجل العمل لمساعدة أسرهم في تحمل أعباء المعيشة، وكيف نصف عمال المصانع الفقراء بالكسل في حين يعمل أغلبهم لمدة 10 أو 12 ساعة في اليوم الواحد. وعلى الجانب الآخر، كيف يمكن أن نصف رجال الأعمال وأبناءهم بالنشاط في حين أن كل المجهود الذي يبذلونه هو ملء خزائنهم بالأموال وإنفاقها في الرحلات والسهرات وسبل الرفاهية والمتعة المختلفة (!!). أما الاشتراكية الثورية فترى أن كل الفظائع لا يتسبب فيها العمال ولا الفقراء، بل أنهم ضحايا الرأسمالية القائمة على النهب والاستغلال. فالنظام الرأسمالي يقوم عامة على قاعدة أساسية، هي أن الدافع وراء النشاط الاقتصادي هو تحقيق الأرباح للرأسماليين وليس تلبية الاحتياجات الأساسية للبشر. وبما أن المحرك الأساسي للنظام الرأسمالي هو تحقيق الأرباح ومراكمة رأس المال، لذا فالرأسماليون يتسابقون في السوق على تخفيض التكاليف الإنتاجية من خلال زيادة وتكثيف استغلال العمال لديهم. وبالتالي فإن ثروة الرأسماليين مصدرها جهد وعرق العمال. الأمر كله لا يتوقف على درجة "إحسان وطيبة" رجال الأعمال الرأسماليين على العمال الذين يعملون لديهم، لكن بوضع هؤلاء الرأسماليين في المنافسة مع بعضهم محلياً، وعلى المستوى العالمي أيضاً. فإذا عمل أحد الرأسماليين على زيادة أجور عماله أو تحسين الظروف التي يعملون وفقها، لن يجد لديه ما يكفي من الأرباح التي تسمح له بتوسيع استثماراته ومراكمة المزيد من رأس المال لينافس به نظرائه. وإن لم يفعل ذلك سوف يسقط في هذه المنافسة ويلتهمه منافسيه في السوق. ويستثمر الرأسمالي وينتج لأنه يتوقع أرباحاً، وليس لأنه يريد "إسعاد البشرية". ومن ثم لا تكترث الرأسمالية في مصر، على سبيل المثال، بـ7 ملايين مواطن يسكنون المقابر وعشش الصفيح، في حين أن المستثمرين الكبار في قطاع العقارات يتكالبون على بناء القرى السياحية والفيلات والقصور والعمارات الفخمة التي تتكلف المليارات بدلاً من بناء مساكن شعبية تأوي هؤلاء.

· إصلاح الرأسمالية مستحيل
وفي سياق المنافسة التي لا تنتهي بين الرأسماليين، تتولد الأزمات الاقتصادية التي تنتج عن تكالبهم على الاستثمار في القطاعات الاقتصادية التي ترتفع فيها معدلات الربح، بغض النظر عن مصالح المجتمع الذي يعيشون فيه. تماماً كما ضربنا المثل بالاستثمار في قطاع العقارات. لكن ذلك يؤدي إلى زيادة العرض عن الطلب في مثل تلك القطاعات بشكل كبير، ومن ثم تكدس البضاعة في الأسواق دون أن تجد من يشتريها نتيجة تدني الأجور، ثم إفلاس الرأسماليين وانهيار الاقتصاد بأكمله. وهذا بالضبط ما نطلق عليه "فوضى السوق" حينما تتحكم مصالح حفنة من الأغنياء في توجيه ثروة المجتمع وموارده وقراراته الاقتصادية. وصحيح أنه في كل وحدة إنتاجية (مصنع أو شركة) توجد درجة عالية من التنظيم والتنسيق بين أقسام الإنتاج المختلفة. ففي شركة تويوتا لإنتاج السيارات مثلاً، يوجد تنسيق وتكامل عالي المستوى بين قسم إنتاج الإطارات وقسم إنتاج الهياكل، إلخ، لكن في الوقت نفسه ليس هناك أدنى درجة من التنسيق بين شركة تويوتا وشركة فورد أو بي إم دابليو مثلاً . وهذا ما يؤدي إلى تراكم مئات الآلاف من السيارات المنتجة في السوق دون أن تجد من يشتريها، فيتوقف الإنتاج وتُغلق المصانع ويتم تسريح العمال. وهذه هي الفوضى التي تؤدي بالنظام الرأسمالي العالمي إلى أزمات دورية من فيض الإنتاج ثم الركود والإفلاس. لكن مصر تعد من البلدان المتأخرة اقتصادياً، أي التي لم تصل بعد إلى مستوى تطور اقتصادي تستطيع معه أن تدخل حلبة المنافسة في السوق العالمي. وهذا ما يضاعف المشكلة. فالمشكلة لدينا ليست في الأزمات الدورية والركود الاقتصادي فقط، بل أيضاً في الانخفاض المزمن لمستوى الاقتصاد. هذا بالضبط ما يدفع السلطة والرأسماليين في مصر إلى اتباع سياسات اقتصادية أكثر توحشاً، حيث خصخصة المصانع ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، ورفع الدعم على السلع والخدمات، ومضاعفة معدلات الاستغلال. وكل ذلك من أجل تحقيق أكبر قدر من تراكم رأس المال للوصول إلى الأسواق العالمية. وهذا ما يفسر العلاقة الوثيقة التي جمعت بين الديكتاتور مبارك بكبار رجال الأعمال في مصر. فهو الذي سن لهم القوانين التي سهلت لهم النهب والاستغلال، وفي عهده تم توجيه دعماً هائلاً إليهم في نقل البضائع وفي قيمة الضرائب على الأرباح وقيمة الجمارك على نقل المعدات والآلات من الخارج، إلخ. لذا فقد كان مبارك هو الممثل الأفضل لمصالح الرأسماليين في مصر الذي كان يخدم تطلعاتهم في تضخيم أرباحهم واندماجهم في السوق العالمي. ولكن مع سقوط مبارك أصبح الذعر سائداً في صفوفهم حيث يشعرون بقلق بالغ حول مستقبل السلطة في مصر؛ هل ستعمل في خدمة مصالحهم كما كان يفعل مبارك أم لا؟!. أما إذا استقرت السلطة بين يدي من يحافظ على مصالح الرأسمالية المصرية، فستتحول تلك السلطة سريعاً إلى نظام مبارك آخر بنفس جوهر الاستغلال والاستبداد لكن بوجوه جديدة. وهذا بالضبط ما نطلق عليه "إصلاح الرأسمالية"، حيث يتم استبدال نظام ديكتاتوري يقف إلى جانب رجال الأعمال ضد مصالح الفقراء، بنظام أكثر ديمقراطية (أو أقل ديكتاتورية) يقف إلى جانب نفس رجال الأعمال، وقد يمنح الفقراء بعض الفتات من الثروة الاجتماعية التي ينتجونها بأنفسهم، لكن دون القضاء على أسس الاستغلال التي تقوم عليها الرأسمالية.. والتغيير الجذري لمشكلات المجتمع لا يكمن بالتأكيد في إصلاح الرأسمالية، لكن في القضاء عليها بالثورة الاجتماعية وبناء المجتمع الجديد.

· الطبقة العاملة هي الطبقة القائدة
من يمكنه إذن قيادة الثورة الاجتماعية، المستمرة إلى اليوم في مصر، لقيادة التغيير الجذري الذي نأمله؟.. لا شك أن الثورة هي عيداً للفقراء والمقهورين، لكن من بين كل المضطهدين في عالمنا المعاصر، توجد طبقة واحدة لديها القدرة على قيادة معسكر المظلومين إلى النصر – الطبقة العاملة. هناك عاملان رئيسيان يجعلان من الطبقة العاملة قوة اجتماعية قادرة على قيادة الثورة الاجتماعية إلى النصر. الأول هو عملها المباشر على وسائل الإنتاج في المجتمع الرأسمالي، في المصانع والمؤسسات الخدمية، إلخ. وهذا ما يمنحها قوة اقتصادية هائلة حيث تتحكم بشكل مباشر في عجلة الإنتاج وتستطيع إيقافها (من خلال الإضراب عن العمل) وتهديد أرباح رجال الأعمال إذا أرادت تغيير مسار الأمور. ولقد استطاعت الطبقة العاملة، من خلال استخدام سلاح الإضراب، أن تنتزع الكثير من الحقوق وأن تفرضها أمراً واقعاً على طبقة رجال الأعمال والسلطة التي تمثلها في مصر. فمنذ إضراب المحلة في ديسمبر 2006، انطلقت الحركة العمالية في موجة احتجاجية عملاقة انتزعوا خلالها ليس فقظ بعض الحقوق الاقتصادية، لكن أيضاً حق الإضراب عن العمل والحق في التنظيم النقابي المستقل، كمطالب ديمقراطية مباشرة. وفي الأيام الثلاث الأخيرة قبل سقوط مبارك، دخل مئات الآلاف من العمال في إضرابات ضخمة شلت قطاعات إنتاجية استراتيجية، وهددت الإنتاج الرأسمالي وسددت الضربة القاضية التي أسقطت مبارك. العامل الثاني في قيادية دور الطبقة العاملة في الثورة الاجتماعية يكمن في طبيعة عملية الإنتاج التي يندمج فيها العمال؛ فهم بطبيعة هذه العملية يشكلون الطبقة الأكثر تنظيماً ووحدة في المجتمع الرأسمالي الحديث، حيث يعملون بالآلاف –وعشرات الآلاف أحياناً- في مصانع ومؤسسات إنتاج ضخمة يتم فيها تقسيم العمل فيما بينهم بشكل منظم ودقيق، ويتعرضون خلالها للاستغلال الرأسمالي بشكل مباشر، ما يجعل لهم ظروف معيشية متقاربة وبالتالي مصالح اقتصادية وسياسية مشتركة. ولا تضم الطبقة العاملة عمال الصناعة فقط، بل تشمل كل العاملين بأجر والخاضعين لاستغلال وسلطة رأس المال، وهكذا فإن الموظفين وعمال الخدمات والمهنيين من أطباء ومهندسين ومحاسبين، إلخ، هم أيضاً في عداد الطبقة العاملة. وفي جميع الثورات في العالم الرأسمالي المعاصر، لعبت الطبقة العاملة أدواراً جوهرية فيها وحققت انتصارات هامة، وكادت في الكثير من الثورات أن تطيح بالرأسمالية بشكل كامل وأن تبني مجتمعاً جديداً لا يحكمه الرأسماليون أو ممثلوهم، بل مجتمعاً يقرر فيه الكادحون من خلال مجالسهم القاعدية والمنتخبة تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم. هذا المجتمع يعطي أولوية الإنتاج لا لأرباح الرأسماليين وشركاتهم الكبرى، بل للاحتياجات الجماهيرية المباشرة. ومن أجل تحقيق ذلك، فإن الطبقة العاملة تحتاج لوحدة سياسية كي تطرح مطالبها ومصالحها الطبقية وتخترق طريقها نحو بناء المجتمع الجديد.

· بناء الحزب الثوري حياة أو موت
إن الثورة ليست نزهة ولا تنتهي بين يوم وليلة، فهي تبدأ بانتفاضة ضخمة وتكتمل بصراع بين الجماهير من ناحية، وبين الطبقة الحاكمة القديمة التي تقدم التنازلات، لكنها تحاول بإصرار من أجل البقاء والاستمرار والحفاظ على أكبر قدر من امتيازاتها. وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة، سنجد بسهولة أن ما يميز الطبقة الحاكمة هو أنها موحدة ومنظمة بدقة شديدة، فجهاز الدولة يمثل عقلاً وجهازاً رفيع المستوى يقوم من خلاله الحكام ورجال الأعمال الكبار بإدارة شئونهم. فالطبقة الحاكمة لديها قوات أمن تدافع عنها وإعلام يتحدث بإسمها علاوة على سيطرتها على رأس المال وتحكمها في توجيه الاقتصاد. أما الانتفاضة العفوية للجماهير فهي تستطيع أن تحقق قدر كبير من المكتسبات، مثلما حدث في مصر حينما استطاعت الانتفاضة إسقاط الديكتاتور مبارك. لكن إسقاط الديكتاتور لا يعني أن النظام القائم قد سقط. وصحيح أن الانتفاضة العفوية تستطيع أن تهز أركان النظام، لكنها لا تستطيع أن تطيح به بشكل كامل. الثورة الاجتماعية هي التي تستطيع فعل ذلك، والانتفاضة ليست إلا بداية لعملية طويلة من الثورة تناضل فيها الجماهير من أجل استكمال الثورة، بينما تعيد الطبقة الحاكمة ترتيب أوراقها من أجل الحفاظ على البقاء. وخلال العملية الثورية تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتغلب على قدر عملاق من النضالات العمالية والجماهيرية، طالما أن تلك النضالات ليست موحدة ولا منظمة سواء من حيث درجة الوعي أو الحركة. لذا فالثورة تحتاج إلى عقل وإلى ذاكرة وإلى جهاز تنظيمي يوحد نضالات الجماهير المختلفة في حركة واحدة تضرب ضربتها لنظام وسلطة رجال الأعمال التي تتحكم في كل شيء.. النضالات الجماهيرية تحتاج إلى حزب ثوري يتبنى مشروع الثورة الاجتماعية، وقادر على توحيد الجماهير في طريق هذه الثورة دون تماهي، ودون انخداع في الأشكال والرموز الجديدة للطبقة الحاكمة والتي تنفذ نفس السياسات القديمة في ثوب جديد. واليوم، تمد قطاعات ضخمة من الجماهير المصرية، عمالاً وطلاباً، الثورة على استقامتها ويأبون الحياة التي كانوا يعيشونها في ظل حكم الديكتاتور المخلوع. هذه الطاقة الثورية الجبارة، إن لم تتوحد في اتجاه واحد، سوف تتبخر في الهواء كالبخار. وفقط الحزب الثوري المنغرس في قلب الجماهير الثورية المناضلة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، هو الذي يستطيع توحيدها من أجل هدم النظام الحالي وبناء نظام جديد ينحاز لأغلبية المجتمع من عمال وفلاحين وفقراء ومهمشين.. وهذا الحزب لا يسقط من السماء ولا يأتي من الفراغ، بل يُبنى بالكفاح والصبر، في المصانع والأحياء والجامعات ليكون سلاحاً في يد الجماهير ليرشدها ويشق طريقها للنصر.. نحو بناء الدولة العمالية الاشتراكية.

· لا توجد اشتراكية في بلد واحد
إلى أي مدى يمكن لمثل هذه الدولة العمالية، التي تقوم على أسس الاشتراكية والعدل الاجتماعي، أن تصمد؟ كيف يمكنها أن تستمر في ظل سيطرة الرأسمالية على العالم كله؟ النظام الرأسمالي سلسلة واحدة، فهل يمكن تحطيم إحدى حلقات هذه السلسلة دون تحطيم الحلقات الأخرى؟ "العالم قرية صغيرة".. هذا ما يخبرنا به مفكري الرأسمالية عبر العالم، إذ أن العولمة الرأسمالية قد خلقت وشائج وارتباطات اقتصادية وسياسية عديدة بين مختلف البلدان، كما أوجدت بينها تقسيم عمل عالمي؛ فالبلدان المتقدمة تعتمد على العمالة الرخيصة والمواد الخام والأسواق في البلدان المتأخرة، والأخيرة تعتمد على الصناعات المتطورة والاستثمارات الكبرى لدى الأولى. وعند انتصار ثورة اشتراكية تعيد هيكلة الاقتصاد لصالح الجماهير الفقيرة لا لصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، في أحد البلدان، فإن هذا يعني ببساطة فك الارتباط والتبعية للرأسمالية العالمية. وهنا لا يمكن للرأسمالية أن تصمت على تهديد مصالحها وأطماعها، بل ستواجه الثورة بكل الوسائل التي تضمن إعادة فرض سيطرتها ومصالحها. هذا ما حدث في أعقاب انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917، حين توجهت جيوش 18 دولة أوروبية لضرب السلطة العمالية المنتصرة لإجهاض الثورة وإعادة سيطرة الرأسماليين الروس والأوروبيين على الاقتصاد الروسي. لكن الثورة ضد الرأسمالية، والفقر والقهر الملازمين لها، لا تقوم بشكل منعزل في بلد واحد أو بعض البلدان بعيداً عن باقي العالم. لكنها، على العكس، تقوم في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة كسلسلة من الثورات التي تهز أركان النظام الرأسمالي العالمي. فنتيجة للأزمة العميقة التي شهدتها الرأسمالية العالمية قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، اندلعت الثورة في روسيا عام 1917، ومهّد انتصارها لقيام موجة ثورية عملاقة في مناطق متفرقة من العالم (وفي مصر قامت ثورة 1919). وفي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، انطلقت موجة ضخمة من الثورات استطاعت أن تجبر الرأسمالية على تقديم إصلاحات اجتماعية هائلة لقطاعات واسعة من الجماهير، كما انتعشت حركات التحرر الوطني في المستعمرات بشكل هائل (وفي مصر انطلقت انتفاضة 1946 ضد الاستعمار البريطاني وانتشار الفقر والبطالة). موجة أخرى من الثورات زلزلت النظام الرأسمالي في غرب وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية ومناطق متفرقة من العالم في الفترة بين 1968 وحتى منتصف السبعينات (وفي مصر قامت احتجاجات طلابية واسعة إلى أن اندلعت انتفاضة يناير 1977 ضد الفقر والغلاء). هذا بالضبط ما نشهده اليوم؛ فبينما تستمر الثورة في تونس ومصر لاقتلاع النظام من جذوره ولتحقيق المزيد من الإصلاحات الاجتماعية الجذرية، تشتعل الانتفاضات في اليمن وسوريا والبحرين، وغيرها. كما أن استمرار الثورة في المنطقة العربية وانتصارها هو ما سيحمي الثورة في مصر ويدفعها إلى الأمام. كل ذلك بالإضافة إلى الحركة العمالية العملاقة التي تشهدها أوروبا في مواجهة خطط التقشف الاقتصادية التي تنفذها الحكومات الأوروبية في محاولة لتحميل الأزمة الرأسمالية على أكتاف العمال والفقراء. أما الثورة الاشتراكية فهي لن تستطيع بناء المجتمع الاشتراكي كجزيرة صغيرة في بحر من الرأسمالية، لكنها تستطيع فعل ذلك طالما أن ثورات أخرى تتقدم وتنتصر لتقويض النظام الرأسمالي العالمي.

هذه هي المبادئ الأساسية للاشتراكية الثورية التي تميزها عن كافة التيارات والأطياف اليسارية الأخرى، وتلك هي الأفكار التي نتبناها وندافع عنها والتي أيضاً نسترشد ونتسلح بها في معارك اليوم.. فهل تنضم إلينا لنناضل سوياً ضد الاستغلال والقهر والاستبداد من أجل استكمال ما أنجزته الثورة؟