الثورات الشعبية العربية تتواصل: من أجل الحريات والحقوق الديمقراطية، ولكن أيضاً من أجل تأمين الحياة الكريمة لكل المواطنين


داود تلحمي
2011 / 4 / 19 - 20:15     

بات الآن واضحاً، بعد أشهر قليلة على اندلاع أولى الثورات الشعبية العربية في تونس، ومن بعدها في مصر، ومن ثم، امتدادها بأشكال وصيغٍ متنوعة، الى عدد من بلدان المنطقة العربية الأخرى، بما في ذلك مناطق قوميات أخرى فيها، مثل كردستان العراق، بأننا أمام مرحلة تاريخية نوعية جديدة تماماً في هذه المنطقة، وإزاء منعطف بالغ الأهمية في مسار تطورها.
فمنذ أفول مراحل الإستعمار القديم في معظم هذه المنطقة، بين الأربعينيات والستينيات أو مطلع السبعينيات الماضية، سادت المنطقة نُظم سياسية ذات طابع سلطوي استبدادي، سواء أكانت ذات منحى تحرري استقلالي أو ذات طابع محافظ وتابع متجدد، أي مرتبط بما كان يُعرف باسم "الإستعمار الجديد". ومع انكسار تجربة جمال عبد الناصر التحررية الهامة في مصر والمنطقة، إثر الضربة العسكرية التي وجهتها إسرائيل، بتشجيع أميركي، في العام 1967، ثم الرحيل المبكر، وربما المدبَّر، لعبد الناصر نفسه في خريف العام 1970، دخلت المنطقة في مرحلة توسع متزايد لدور ونفوذ الأنظمة المحافظة التابعة، وهيمنة متسعة ومتمددة للقوة الحامية لها، الولايات المتحدة، التي ورثت دور ومكانة الدول الإستعمارية القديمة الى حد كبير، مستفيدة ومتحالفة مع الدور الإسرائيلي العدواني في المنطقة. لا بل أوصلت الولايات المتحدة هذه الهيمنة المباشرة الى مستويات غير مسبوقة، خاصة بعد اتفاقيات كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية في العام 1978 وتكثيف الحضور العسكري الأميركي المباشر في المنطقة في الفترة ذاتها، وبعد حروب الخليج المتلاحقة (الحرب العراقية- الإيرانية 1980- 1988، احتلال القوات العراقية للكويت ثم التدخل العسكري الأميركي الواسع وضرب العراق 1990-1991، ثم الإجتياح الأميركي- البريطاني المباشر للعراق واحتلاله في العام 2003).
وكانت الحقبة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع ما سُمّي بـ"الحرب الباردة" قد شهدت جملة من التدخلات السياسية والعمليات العلنية وغير العلنية الأميركية، بمشاركات أوروبية أحياناً، تدخلات تكثفت منذ أواخر الستينيات الماضية، في سياق استراتيجية عزل وتحجيم النفوذ السوفييتي ودور حلفائه وأنصاره في المنطقة، في نوع من الإنتقام الإستراتيجي على نجاحات المعسكر الآخر، المناهض للولايات المتحدة، في منطقة جنوب شرق آسيا، وتحديداً في فييتنام ومحيطها المباشر. وكان مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية الأميركي ابان عهدي ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد (1969-1977)، هنري كيسينجر، أحد أبرز استراتيجيي واشنطن الساعين لاستبعاد أي دور للإتحاد السوفييتي في المنطقة الشرق متوسطية والشمال إفريقية، بما في ذلك في عملية التفاوض والقرار بشأن الصراع العربي- الإسرائيلي وقضايا مصير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. وكان كيسينجر يواصل، طبعاً، ويعمّق سياسات من سبقوه في موقع القرار في واشنطن منذ أواخر الأربعينيات الماضية لتحقيق نفس الهدف. وبطبيعة الحال، جاء بعده من واصل هذه السياسة ذاتها، بأشكال وصيغ متنوعة، سواء مستشار الأمن القومي أبان ولاية جيمي كارتر (1977-1981)، زبيغنيو بريجينسكي، أو إدارتا رونالد ريغن وجورج بوش الأب (1981-1993). وهي السياسات التي ساهمت، مع عوامل أخرى طبعاً، في توفير شروط انهيار الإتحاد السوفييتي وتفككه، وهو الحدث الذي اعتبره الأميركيون "انتصاراً" لهم ولحلفائهم الغربيين في "الحرب الباردة". وهي حرب لم تكن دائماً باردة، كما هو معروف، بما في ذلك في منطقتنا. وفي سياق هذه الهجمة الأميركية الكونية، جرت محاصرة ومحاولة ضرب التيارات والقوى اليسارية والوطنية الإستقلالية، أو محاولة احتوائها وتهميش دورها، لصالح القوى والتيارات التابعة والمرتبطة سياسياً واقتصادياً بدول المركز الرأسمالي الغربي عامةً، والأميركي خاصةً، وشركاتها ومؤسساتها المالية الكبرى عابرة الحدود.
لكن السنوات الأخيرة أظهرت أن هذا "الإنتصار" الأميركي كان، الى حد كبير، مخادعاً، وفي النهاية قصير العمر. فبالكاد مضى العقد الأول على انهيار الإتحاد السوفييتي، حتى بدأت هيمنة الولايات المتحدة تتزعزع وتتراجع في "حديقتها الخلفية"، بلدان القارة الأميركية الى الجنوب منها، أي بلدان أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استمرار وتفاقم هذا التصدع والتراجع في نفوذ واشنطن في تلك المنطقة، في سياق مسلسل متلاحق من الإنتصارات المتتالية لقوى اليسار الإستقلالي في أميركا اللاتينية، الى حد جعل بعض المحللين الأميركيين يذهب الى الحديث عن "خسارة" الولايات المتحدة لتلك المنطقة، عملياً لأول مرة منذ إعلان "مبدأ مونرو" الشهير في عشرينيات القرن التاسع عشر. وها هي الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة الأخيرة في دولة بيرو (حوالي 30 مليون نسمة)، والتي جرت في 10/4/2011، وشهدت وصول مرشح القوى اليسارية الى المرتبة الأولى بين أكثر من عشرة مرشحين وانتقاله بالتالي الى الدورة الثانية، تؤشر الى استمرار زخم هذا المنحى الإستقلالي في القارة.
ولم يكد العقد الأول من القرن الجديد يقترب من الإنتهاء حتى اندلعت، من الولايات المتحدة نفسها، تلك الأزمة الإقتصادية الطاحنة، الأكبر منذ أزمة ثلاثينيات القرن الماضي، وهي الأزمة المستمرة في تفاعلاتها في أنحاء العالم حتى الآن. وشكّل التورط الأميركي في الحرب على أفغانستان في أواخر العام 2001 ثم في احتلال العراق منذ العام 2003، وفشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها الرئيسية في البلدين طوال السنوات اللاحقة، مدخلاً لمزيد من تراجع هيبة ونفوذ الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، وعنصراً مؤثراً في تفاقم الوضع الإقتصادي فيها. وبالمقابل، شهد هذا العقد الأول من القرن الجديد صعوداً مثيراً لقوى عالمية أخرى، باتت ترسم ملامح خارطة توازنات جديدة في عالم يختلف تماماً عن ذلك الذي كان يحلم به جورج بوش الأب، صاحب مشروع "النظام العالمي الجديد" بعد الإنهيار السوفييتي، وجورج بوش الإبن وحاشيته من "المحافظين الجدد"، الذين اندفعوا معه بتهور دموي لفرض الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم.
فنحن الآن، بعد زهاء العقدين على انهيار الإتحاد السوفييتي وانطلاق مشاريع فرض الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، أمام صورة مختلفة تماماً وإزاء بدايات تبلور عالم آخر متعدد الأقطاب ومراكز التأثير، عالم مرشح لأن يكون أكثر توازناً وإنصافاً من عالم القوة الواحدة الطاغية والمستأثرة بالقرار والنفوذ العالمي. ويمكن اعتبار تبلور صيغة لقاءات دول "بريكس" الخماسية الجديدة، المتشكلة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والتي عقدت قبل أيام قليلة قمة أخيرة لها في إحدى مدن الصين الجنوبية، مؤشراً من بين العديد من المؤشرات على هذا التغير المثير في خارطة التوازنات العالمية.

الصعود المثير للقوى الشعبية في منطقتنا يستنفر ردات فعل القوى الخارجية

وها هي الثورات والإنتفاضات الشعبية العربية في هذا العقد الثاني من القرن الجديد تأتي لتفتح آفاقاً جديدة تماماً بالنسبة لمنطقتنا، الشمال إفريقية والغرب آسيوية، ذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى بفعل ثرواتها الهائلة في مجال مصادر الطاقة، وخاصة النفط، ولتتجه للمساهمة بدورها في عملية تغيير المعطيات والمعادلات على المستويين الإقليمي والعالمي. وبالرغم من ان هذه الثورات والإنتفاضات ما زالت في مراحلها الأولى، ولم تتضح بعد تماماً ملامح المنطقة الجديدة التي ستفرزها، بما في ذلك في البلدين اللذين تحقق فيهما الإنتصار الأولي للحركات الشعبية عبر الإطاحة بالنظامين القائمين، إلا انه بات من المسلم به أن العالم كله أمام حدث كبير وهائل لا يمكن الإستهانة بحجمه وبتأثيراته المحتملة ليس فقط على منطقتنا، وإنما على مجمل الوضع العالمي.
وإذا كان لشعب تونس، البلد العربي ذي الحجم السكاني المتوسط (11 مليون نسمة)، الفضل في افتتاح هذه المرحلة الجديدة في مسار المنطقة بعد نجاحه في الإطاحة بالنظام الإستبدادي القائم هناك، فإن النجاحات الأولى التي حققتها ثورة شعب مصر، الأكبر حجماً في المنطقة (حوالي 90 مليون نسمة)، عبر الإطاحة بالنظام الإستبدادي الفاسد القائم منذ أكثر من ثلاثة عقود، ستكون لها انعكاسات كبيرة على عموم المنطقة وفي مختلف المجالات. فما ستؤول إليه الأمور في مصر الجديدة سيكون مؤثراً في مجال رسم ملامح وسمات أنظمة الحكم الجديدة في عموم المنطقة، كما في بلورة مستوى تعميم وترسيخ الحريات الديمقراطية وسيادة القانون فيها، وفي مجال تحقيق نقلة ملموسة في صيغ توزيع الثروة الوطنية واستفادة أوسع القطاعات الشعبية منها، بدءً بالعمل على الحد من تفشي الفساد والنهب المنظم الممارس من قبل الشرائح المهيمنة في ظل الأنظمة السابقة كما من قبل الشركات والقوى الخارجية التي تتعاون معها وتدعمها. وبالتأكيد، من المفترض أن تشمل التغييرات المتوقعة في مصر والمنطقة كيفية التعامل مع صلف وممارسات الإحتلال الإسرائيلي ومشاريعه التوسعية في المنطقة، وعاجلاً أم آجلاً، التحرر من علاقة التبعية تجاه الولايات المتحدة، أو بلدان المركز الرأسمالي الأخرى، وصد ضغوطها على أنظمة المنطقة وتدخلاتها في شؤون شعوبها ومصائرها.
ومهما حصل في البلدان العربية الأخرى التي شهدت وما زالت تشهد حراكات شعبية، متفاوتة الحجم والمطالب والظروف، متأثرةً بالنموذجين التونسي والمصري، فالتغيير في عموم المنطقة بات أمراً حتمياً، سواء أجاء عبر التخلص من الأنظمة القائمة أو عبر فرض الضغوط عليها لتحقيق المطالب الشعبية الأساسية، التي رفع الثوار التوانسة والمصريون راياتها الأولى.
يبقى أن نقول ان التدخلات العسكرية وغير العسكرية لهذه الدول الغربية، سواء الولايات المتحدة أو دول أوروبا، في بلد مثل ليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، ليست، بالطبع، بريئة. لا بل هي تحمل معها مخاطر جدية بالنسبة لمستقبل البلد. وإن كانت المسؤولية عن هذا التدخل الخارجي تعود، بالدرجة الأولى، للنظام القائم الذي تعامل مع شعبه بأدوات الحرب المدمرة، وكأنه طرف معادٍ.
وربما كان التمايز الرئيسي في الحركات الثورية والإنتفاضات الشعبية العربية الراهنة عن ثورات وانتفاضات أخرى في التاريخ المعاصر، والمتمثل بغياب قيادة مركزية واحدة أو موحدة لها، عنصر قوة في بعض الحالات ومن بعض الزوايا وعنصر ضعف في حالات ومن زوايا أخرى، خاصة وأن كل بلد عربي له خصائصه وسماته المختلفة عن البلدان الأخرى من حيث حجم ومستوى نضج النخب الواعية ومن حيث تطور مؤسسات المجتمع المدني فيه. ولكن بات جلياً أن كل شعوب المنطقة باتت تواقة للتخلص من النظم الإستبدادية والشرائح الفاسدة الحاكمة والمسيطرة، ولتأمين حرياتها وحقوقها الديمقراطية الأساسية، وضمان سيادة القانون وانطباقه على جميع المواطنين بدون تمييز، وتأمين الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها، بحيث بات شبان كل المنطقة وعموم مواطنيها على استعداد للإنتفاض حتى دون حساب لحجم التضحيات التي ستفرضها عليهم أدوات قمع الأنظمة الحاكمة.

مرحلة انتقالية نحو حقبة تاريخية جديدة في منطقتنا... وفي العالم

نحن نعيش، إذاً، مرحلة انتقالية حاسمة نحو حقبة تاريخية جديدة، لم يعد فيها من الممكن مواصلة الحكم بالأساليب السابقة التي سادت طوال العقود، وحتى القرون، الماضية. ومن المهم أن نخيّب، نحن سكان هذه المنطقة وأبناءها، بكل مكوناتها القومية والثقافية والإثنية والدينية والعقيدية، رهانات حكام الدول الرأسمالية الغربية الذين حاولوا أن يصوروا هذه التحركات الشعبية وكأنها امتداد وتكرار لما جرى في عدد من بلدان أوروبا الشرقية وجمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق في أواخر القرن العشرين، أي استبدال أنظمة سلطوية واستبدادية، وإن كانت بدأت عهودها في الماضي برفع شعارات وبرامج العدالة الإجتماعية، بأنظمة جديدة استشرى فيها الفساد وصيغ من التبعية المذلة وحكم المافيات وعصابات النهب الممنهج لثروات هذه البلدان، أنظمة أُطلق عليها وصف "الديمقراطية" بكثير من التجاوز للمضمون الفعلي لهذه الكلمة.
فمن الواضح أن الثوار والمنتفضين العرب، وشبانهم في المقدمة، يرفعون، بالدرجة الأولى، شعارات محاربة الفساد والخلاص من المافيات والشرائح التابعة المتنفذة، وشعارات التحرر الأوسع لصالح الغالبية الساحقة من المواطنين، شعارات كرامة المواطن في أوطان حرة مستقلة، في ظل أنظمة تأخذ مشروعيتها من شعوبها، وليس من القوى الخارجية التي تدعمها، وتدافع عن مصالح مواطنيها أولاً وليس عن مصالح ومخططات هذه القوى الخارجية وامتداداتها المحلية، وتسير على طريق الإنصاف والإزدهار لجميع مواطنيها، وليس للقلة على حساب الأغلبية الساحقة، كما كان عليه الحال حتى الآن.
ومن حق اليسار العربي أن يعتبر هذه الشعارات والتوجهات من صلب شعاراته وأهدافه. وإن كان من الضروري والحيوي أن ينسج أوسع التحالفات مع سائر القوى والتيارات الوطنية الإستقلالية التحررية للوصول بهذه الثورات والإنتفاضات الى شاطئ النجاح وتحقيق أهدافها المرجوة. ومن المهم كذلك ألا يقع أحد في مطب اعتبار هذا الحراك الشعبي مقصوراً على مطلب "الديمقراطية الشكلية" التي تروّج لها دول المركز الرأسمالي، وخاصة الولايات المتحدة، والتي كانت قد سعت قبل ذلك لتعميمها في بلدان أوروبا الشرقية وجمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق. حيث نشاهد اليوم في معظم هذه البلدان أين قادت هذه الديمقراطية الزائفة والمفرغة من مضمونها غالبية سكانها، التي باتت الآن قطاعات واسعة منها تعاني من الفاقة والفقر والظلم الإجتماعي بفعل التطبيقات المافيوية للنسخة المشوهة من هذه "الديمقراطية الشكلية"، ديمقراطية الأثرياء والمافيات المهيمنة.
أي ان من الضروري أن يحرص اليساريون العرب، وأوسع القطاعات الشعبية، على أن تكون الحقوق والحريات الديمقراطية الجديدة المكتسبة في بلدانها ديمقراطية شعبية حقاً، وليست مجرد طلاء شكلي ومخادع لصيغة جديدة من الإستغلال وسيادة القلة واستمرار النفوذ الخارجي، أو تجديده بأشكال مختلفة... ديمقراطية شعبية تؤمّن في المقام الأول حق كل مواطن في الحياة الحرة الكريمة في وطن يحترم حقوق وكرامة كل مواطنيه، بدءً بأولئك الذين كانوا، لزمن طويل، محرومين منها، ومن مجمل حقوقهم الأولية.