العدد الأول---- سبتمبر 2003 لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي،

حوارات ماركسية
2004 / 10 / 24 - 12:34     

            لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي،
تم الاتفاق على اصدار هذه النشرة.
هيئة التحرير
العدد الأول---- سبتمبر 2003 
 
           من نقد الاقتصادوية إلى
 نقد التوتاليتارية واللاعقلانية
 
 
 اسماعيل محفوض
 
أولاً : أشكركم على دعوتي ، وأحيي فيكم اهتمامكم بالفكر ، بل واتجاهكم نحو بناء السياسة على الفكر ، إذا كنتم تريدون الإشتغال بالسياسة
فكرنا العربي الراهن هو فراغ فكري ؛ فكر إعلامي دعائي مسَّطح ، أو فكر قومي قاصر مفوَّت ، وماركسي قاصر مفوَّت ، وليبرالي قاصر مفوَّت ، أو فكر ينسخ ببغاوياً ما أنتجه الإسلاميون في مراحل تاريخية ماضية تجاوزها التاريخ الكوني كيفياً ، أو فكر ينسخ تشويهياً ما يصدرِّه لها الغرب من صرعات وتوجهات فكرية _ سياسية : نهاية التاريخ ، صدام الحضارات ، العولمة ، الليبرالية الجديدة ، ما بعد الحداثة ، ما بعد المجتمع الصناعي ، الأركولوجيا[الحفر المعرفي] ، الفللوجيا  إلخ ..
تقديري أن هذه الأنماط من الفكر – الأفكر تعجز عن وعي العالم الراهن . وعن وعي وضع العرب في هذا العالم ومن ثم يعجز عن وعي الوضع السوري .فكيف يصح الإشتغال بالسياسة ونحن لا نعي وضعنا ؟
هذا النوع من الإشتغال اللاواعي لن يكون عندئذ إلا أحد أمرين : إمَّا اللعب وذر الرماد في العيون وتبرئة الذمة وإسقاط العبث والتبرير أمام الذات وأمام الآخرين ، أو السعي نحو وجاهةٍ شخصية ما أو منصب شخصيٍ ما أو مغنم شخصي ما .
ثانياً : بيد أن الاهتمام بالفكر إذا كنا نريد للفكر هدفاً إنسانياً ومجتمعياً ، وبالتحديد هدفاً يخرجنا مما نحن فيه من تأخر وأزمات ، ويضعنا على طريق التقدم والإرتقاء فإن ذلك يتطلب فكراً نقدياً – تاريخياً ،فكراً يراجع منظوماتنا الفكرية ، ويعيد قراءة الواقع الكوني وضمنه واقعنا ويستخلص ممكنات العمل وأسس التجاوز .
من هنا فإنه لا بأس بقراءة كتاب يوجين فارغا النقدي " القضايا الاقتصادية/ السياسية للرأسمالية "
وإن كان لا يمسك بجميع الأوليات التي نحتاجها للإنطلاق ، والتجاوز . فما نحتاجه يسبق الاقتصاد السياسي ، وأكثر من نقد الاقتصادوية الستالينية ، ويفترض الانسجام المتزامن مع المعطيات وأفق القرن الحادي والعشرين .
مسائلنا الأولى ترتبط بالفكر ، وكيف نفكر !  كيف نقبض على العالم بالفكر . فكرَنا الراهن وكيفية تفكيرنا – إذا استشينا القلة القليلة من المثقفين – ما يزالان قبل العقلانية الحديثة ، ودونها ، قبل ودون ما وصلته البشرية من مناهج وطرائق تفكيرعلمية حديثية ومفاهم عقلانية متقدمة في فهم العالم ، والعلاقات المجتمعية الكونية والقومية والوطنية . وفي فهم الاقتصاد والسياسة .
مايزال التفكير الخرافي والغيبي والأسطوري والقدَري ، والصوري الشكلاني ، واللاديمقراطي والما قبل وطني وقومي وطبقي وعالمي يختزن في تلافيف أد مغتنا ويملأ حياتنا ويقود ممارستنا في جميع المناحي والمستويات .بل إن كثيراً من الإعلاميين والكتاب والسياسيين الذين يعتبرون أنفسهم دعاة عقلانية وعلمية وديمقراطية ووطنية وقومية وطبقية وإنسانية وعالمية ليسوا ، في أحسن الحالات ، إلاَّ حفظة عبارات مجزوءة ، مقتطعة كنتف مبعثرة من هنا وهناك .
اقتصرت على تقديم العناوين والمختصرات فقط !
ثالثاً :اعذروني إذا مثل فارغا منظورات الماركسية أو الماركسية اللينينية واكتفيت بالإنطلاق من المنتج المادي الجدلي التاريخي .  فمنظورات الماركسية أو الماركسية – اللينينية ، وليس فقط الستالينية، أضحت في السؤال بعد انهيار المنظومة السوفياتية وانهيار عالم الانقسام إلى معسكرين عالميين ، وبعد اندياح الرأسمالية مجدداً في العالَم ، والانتقال إلى الثورة العلمية - التكنولوجية المسماة اختزالاً بالثورة المعلوماتية . وإلى طور العولمة والقطبية الأمريكية ، وبعد تراجع دور قوة العمل العضلي في الإنتاج ، وتقدم دور العلم والعمل الذهني . وبالتالي فإن نقد فارغا وغيره من المنظرين الماركسيين السابقين أصبح بحاجة إلى التطوير والتجديد .
إن الماركسية تفقد مصداقيتها كمنهج مادي – جدلي – تاريخي وكرؤيا تاريخية تهدف إلى انتقال الإنسان من مملكة الضرورة إلى ملكوت الحرية إذا لم تطرح أسئلة المتغيرات الراهنة ،  وتكتشف قوانين المجتمع البشري في لحظته التاريخية الراهنة . بل وتطرح إعادة النظر في جميع منظوراتها بدلالة دور العلم والعمل الذهني في الإنتاج والتبادل ، وبدلالة الإنسان ، الحرية والمجتمع – الديمقراطية ، ومن ثم تستشرف المستقبل وتضع أسس التجاوز الممكنة
رابعاً : إذا عدنا إلى كتاب فارغا ،وخصوصاً نقده القانون الاقتصادي : " علاقات الإنتاج يجب بالضرورة أن تتطابق مع طابع الإنتاج" . هذا القانون الذي اعتبره ستالين القانون الاقتصادي الأساسي نجد عدة أساسيات :
أ- أن نقد فارغا بدأ من تحديد مفهوم القانون فأكد أن ماركس لم يضع تعريفاً لمفهوم القانون ، إنما كان " يفضل تحليل الحقائق الملموسة والوصول إلى القوانيين على أساس هذا التحليل " .أي أن القوانيين ليست إلَّا استخلاص الروابط القائمة بين الواقعات الملموسة .
ب- تأكيد فارغا لإعلان إنجلز بأن " القوانيين انعكاس للعمليات الموضوعية السارية في الطبيعة والمجتمع " . أي أن عبارة " عمليات موضوعية سارية " تشير إلى الصيرورة والتبدل في الطبيعة والمجتمع . وبالتالي فإن كلمة " انعكاس " تشير إلى الصيرورة والتغير والتبدل في التفكير . الأمر الذي يعني أن القوانيين ليست جامدة ثابتة . وليست فرضيات يخترعها العلماء ، وإنما هي أفكار إنعكاسية لما يحدث في الطبيعة والمجتمع .هذا التبيان لانجلز .كما يؤكد فارغا . لا يعطي تعريفاً جامعاً مانعاً ، تحديداً وافراً حصرياً للقانون . وإنما يعطي فقط الفهم المميز للمادية الديالكتيكية عن غيرها من أنظمة الفكر المثالي في نقطتين :
- موضوعية الصيرورة والتغير والتبدل في الطبيعة والمجتمع .
- الفكر موضوعي عندما يعكس موضوعية الطبيعية والمجتمع . ومن ثم فإن القوانين التي يصيغها الفكر ليست إلَّا اكتشاف العمليات الموجودة في الطبيعة والمجتمع ، سواء فهمها الناس أم لم يفهموها . اعترفوا بها أو أنكروها . فمثلاً قوانيين تملك فائض القيمة وتحويله إلى ربح ، إلى دخل وفائدة وريع منظم كانت موجودة قبل أن يكشف عنها ويصوغها ماركس .
نعم ، كما يذكر فارغا . أضاف إنجلز إلى فكرة " انعكاس العمليات الموضوعية " فكرتين أخريتين :
الأولى- فكرة ارتباط الإنعكاس بالجوهر الحقيقي للأشياء .أي أن الظواهر أو الواقعات لها صورة خارجية ومضمون ظاهر وجوهر . كأن نرى الشمس تتحرك ، تُشرق وتُغرب كل يوم ، أمَّا الأرض فنراها ثابتة بينما الحقيقة الجوهرية هي أن الذي يتحرك ويدور هو الأرض .
والثانية- فكرة ارتباط الإنعكاس بالعمليات التي تتكرر بانتظام.
جـ- إشارة فارغا إلى أن القوانين بوصفها انعكاساً لعمليات قائمة في الواقع ، ليست مجرد " نُسَخ ميكانيكية بسيطة لهذه العمليات " .أي أن الفكر ارتكازاً على ذاتيته يمارس الفرز والتمييز . الحذف والإبقاء . الفصل والوصل . العزل والتجريد بين الواقعات التي تلتقطها الحواس . ولولا هذه العمليات الذاتية لما جاءت القوانين ربطاً بين الجوهري في الواقعات . وربطاً بين العمليات التي تتكرر بانتظام . وبالتالي لما كانت القوانيين تعبيراً مطابقاً لما يجري في الواقع .
د- لم ينس فارغا تأكيد ما قاله إنجلز بأن قوانيين الديالكتيك هي تجريد من تاريخ الطبيعة والمجتمع ، وبأننا " لا نستطيع أن نفكر ديالكتيكلياً إلَّا لأننا جزء من عالم ديالكتيكي موضوعي " .
هـ- أيضاً لم يغفل فارغا التمييز بين قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع . فرأى أن الفرق بينهما يعود إلى ارتباط قوانين المجتمع بالنشاط البشري . أي إلى ما سماه لينين " فاعلية الإنسان المتخذ هدفاً " . و عبر هذه الإضاءة لمفهوم القانون ركز فارغا على مسألتين :
-  مسألة قصور فهم ستالين للمادية الديالكتيكية .
-  مسألة قصور فهم ستالين لمفهوم القانون . وما نتج عن هذا القصور من فهم خاطئ للقوانين الاقتصادية ، كما صاغها ماركس وإنجلز ولينين . وبالتالي أشار إلى وقوع ستالين بالمثالية والبراجماتية . وأرجع مفاهيمه الخاطئة إلى هذا الوقوع .
في المسألة الأولى ، ذكر فارغا أن ستالين وصف في كتابه ( المادية الديالكتيكية والتاريخية ) الأسلوب الديالكتيكي ( الطريقة الديالكتيكية ) بالغموض . أي أنه لم يستوعب الديالكتيك فإتجه إلى تأويله ذاتياً .
ومن جهة ثانية ذكر أن ستالين " قد غالى في التركيز على الجانب الذاتي " ؛ على الموقف الديالكتيكي للإنسان من الظواهر الطبيعية والاجتماعية . أما الجانب الموضوعي ، أي حقيقة أن الديالكتيك في جوهر عمليات الطبيعة والمجتمع فقد تركه تماماً في الظل ، علماً بأن لينين قد أبان الطبيعة الموضوعية للديالكتيك حين قال : إن الديالكتيك ، بالمعنى الدقيق ، هو دراسة التناقض في جوهر الأشياء نفسها ." لذا يصل فارغا إلى تأكيد أن ستالين لم يع الفارق الجوهري بين ديالكتيك المجتمع ، وديالكتيك الطبيعة .  ذلك أنه ( أي ستالين ) حصر الفرق الجوهري بقصَر مدة عمل القوانين الاجتماعية ، وبأنها لا تسري إلاَّ خلال وجود تكوين اجتماعي واحد " . أي أن ستالين لم ير أن الجوهري في القوانين الاجتماعية ومنها القوانين الاقتصادية ليس قصر المدة ، والوحدة الاجتماعية ، وإنما الإنتماء إلى مادة تاريخية تتغير بإستمرار . أي إلى مادة تنتجها ممارسات البشر وفق غايات معينة وبشروط معينة . وبنفس الوقت أنها ( أي القوانين الاجتماعية ) ليست أكثر من اتجاهات يعوق تطورها ويُغيِّره ويعدِّله باستمرار مفعول الاتجاهات المضادة . وأنه يصعب الكشف عنها من خلال تكرار الظواهر ، كما يحدث في الكشف عن القوانين الطبيعية .
أماَّ في المسألة الثانية مسألة فهم ستالين للقانون فإن فارغا أكد بأن الاقتصاد السياسي لا يوجد به قانون عام واحد أساسي ومطلق ، كما حدد ستالين ، وإنما توجد به عدة قوانين عامة ، منها ما ينطبق على كل أساليب الإنتاج ، مثل قانون : العمل شرط حيوي لوجود العنصر البشري . ومثل قانون : ناتج العمل يكون دائماً ذا قيمة استعمالية . ومثل قانون : تقسيم العمل . وقانون : التملك الحر لفائض العمل ... ومنها ما لا ينطبق إلاَّ على أسلوب إنتاج معين ؛ فقوانين الإنتاج الرأسمالي تختلف عن قوانين الإنتاج السابقة . فمثلاً قانون المعدل المتوسط للربح ، وقانون الريع الرأسالي للأرض ، وقانون تملك فائض القيمة .. .. لا توجد إلاَّ في ظل الرأسمالية . بإختصار إن الاقتصاد السياسي ، كما عرفه إنجلز ، هو علم القوانين التي تحكم إنتاج وتبادل الوسائل المادية للبقاء في المجتمع البشري .. .. وأن هذه القوانين تتغير وتتبدل بتغير وتبدل المراحل التاريخية والأطوار التي يمر بها أسلوب من أساليب الإنتاج .لذا فإن القانون الاقتصادي الذي اعتبره ستالين قانوناً أساسياً مطلقاً . أي " أن علاقات الإنتاج يجب بالضرورة أن تتطابق مع طابع القوى الإنتاجية " ليس إلاَّ حذفاً للشروط التاريخية والتطورات التاريخية . بل إن صياغة ستالين لهذا القانون كانت صياغة قاصرة ، وتحذف المحتوى التاريخي والثوري لما قاله ماركس : " عندمرحلة معينة من تطور المجتمع تتناقض القوى الإنتاجية المادية مع علاقات الإنتاج القائمة ، التي كانت تتطور في إطارها إلى ذلك الحين ، وتكف هذه العلاقات عن أن تكون شكلاً لتطور القوى الإنتاجية ، وتصبح بدلاً من ذلك قيداً عليها . وعند هذا تبدأ مرحلة الثورة الاجتماعية " . أي أن صياغة ماركس الديالكتيكية التاريخية و التي تهدف إلى تبيان قانون الانتقال الثوري من نظام اجتماعي إلى نظام آخر قد تحولت لدى ستالين إلى صياغة ستاتيكية جامدة . خارج وفوق الواقع وحركة التاريخ وبالتالي إلى صياغة تتناقض مع علمية الماركسية وجدليتها وتاريخيتها ، فلا ترى كيف رصد وسجل لينين مرحلة الإنتقال إلى الإمبريالية، وأكد أن هذه المرحلة هي الطور الأعلى للرأسمالية الذي يحمل في أحشائه التحول الثوري إلى الاشتراكية .
ز- ينتهي فارغا من مجمل انتقاداته إلى استنتاجين :
- الاستنتاج الأول : أن ستالين انتقد وعي أن جوهر مجموع القوانين الاقتصادية الماركسية كان يعني أن سريان القوانين الاقتصادية الرأسمالية يؤدي حتماً إلى سقوط الرأسمالية ، ويخلق المتطلبات الأساسية للأطاحة الثورية بالنظام البورجوازي وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا . فالرأسمال باقتنائه لفائض القيمة الذي ينتجه العمال يركِّز الإنتاج ويجعله إجتماعياً .من خلال التراكم والمركزة ، ويخلق المتطلبات المادية الأساسية للأشتراكية . فيزيد من حدة التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين الملكية الخاصة .هذا التناقض الذي لا تحله الأزمات الدورية لفائض الإنتاج إلاَّ حلاً مؤقتاً يجعل حكم رأس المال أمراً لا يحتمل ، بدرجة تتزايد أبداً بالنسبة للشعب العامل على نطاق العالم . لذا عن طريق ثورة برولتيارية يدفع الرأسمالية نحو سقوطها الحتمي .
- الاستنتاج الثاني : أن ستالين لم يع القانون الخاص بالإمبريالية كما حدده لينين . أي أن الرأسمال الاحتكاري بإلغائه المنافسة الحرة ، وتقسيمه للأسواق ، والتحامه مع الدولة يضمن أرباحاً إضافية ، وَ يُخضع العالم الرأسمالي بأسره لسلطته ، ويُعمق الصدع بين البلدان الامبرايالية الغنية والبلدان المتخلفة اقتصادياً ،وبين الاوليجارشية[حكم القلة] المالية والجماهير العاملة ، ويحول شريحة تتزايد باستمرار من السكان إلى عمال أجراء ، والرأسمالية إلى رأسمالية محتضرة ، ويدفعها حتماً نحو ثورة بروليتارية .
خامساً- لاشك أن انتقادات فارغا واستنتاجانه تقدم بعض المرتكزات النظرية لعزل المفاهيم الاقتصادية الماركسية – اللينينية عن المفاهيم الاقتصادية الستالينية . وبالتالي تشكل بعض المرتكزات النظرية لرفض الاقتصادوية الستالينية .أقول بعض، نظراً .. لغياب أشياء أخرى كثيرة . هل الستالينية تختصر بالاقتصادوية فقط ؟؟ إذا كانت لا تختصر فأين الموجودات الستالينية الأخرى، وأين الربط بينها وبين الاقتصادوية؟ . أين الايديولوجانية الستالينية ؟ وأين التوتاليتارية[استبدادي ، كلّياني] الستالينية واللاعقلانية وأين الربط بينها وبين الاقتصادوية الستالينية ؟ وأين العلاقة بين الاقتصادوية والايديولوجانية والتوتاليتارية واللاعقلانية ؟ ثم ما علاقة هذه الايديولوجانية وهذه التوتاليتارية وهذه اللاعقلانية بمنظورات الماركسية؟ ألم يكن ممكناً في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم الكشف عن ايديولوجانية وتوتاليتارية ولاعقلانية الستالينية ؟ وبعدئذ ألم يكن ممكناً منذ الخمسينيات والستينيات تجديد وتطوير منظورات الماركسية ؟ وأخيراً هل نقد الستالينية يفتح أمام أفراد مجتمعنا طريق الفهم والتجاوز ، على الرغم من إختلاف مجتمعنا عن المجتمع الذي ولدت فيه الماركسية . والذي ولدت فيه اللينينية . والذي ولدت فيه الستالينية؟
أتصور أن هذه الأسئلة هي الأسئلة التي يطرحها الواقع الكوني الراهن بعد انهيار المنظومة السوفياتية وهجوم العولمة المؤمركة عبر ايديولوجيتها  الجديدة : الليبرالية الجديدة ، نهاية التاريخ ، صدام الحضارات . بل والأسئلة التي يطرحها بحدة واقعنا الراهن بعد تأزم وانهيار التجارب العربية المسماة اشتراكية ، وإنهيار وتشرذم وانحسار الحركات والتنظيمات العربية المسماة شيوعية واشتراكية وقومية . وبالتالي بعد أن أصبحت مطالب الواقع العربي وضمنه السوري ترتد عمَّ سمي اشتراكية ، وتتمحور ،بصورة رئيسية على الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان وحقوق المواطن .
سادساً- بادئ ذي بدء اتصور أن الدخول في الإجابة يتطلب الكشف عن الإطار العالمي الذي ولدت فيه الاقتصادوية والتوتاليتارية واللاعقلانية .وهو إطار المجتمع الصناعي – الرأسمالي . والسوق العالمية وانتقال الرأسمالية إلى الاحتكار والإمبريالية والاستعمار وإقامة عالم موحد / متناقض على هيئة مثالها وصورتها . هذا الإطار أنتج موضوعتين أساسيتين حللتهما المدارس الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين من زوايا مختلفة تحليلات عميقة مستفيضة :
- موضوعة الاستغلال والاستلاب الرأسماليين على مستوى العالم .
- موضوعة الثورة الصناعية والثورة الثقافية اللتين خلقتا لأول مرة في التاريخ ، مجتمعات قومية طبقية منفتحة على بعضها البعض وتتأثر بشدة ببعضها البعض ، وتمكن من تحقيق عالم الوفرة وتحرير الإنسان من أُسر الطبيعة وتحكم الإنسان بإنسان . وبالتالي خلقتا حافز التغيير الكيفي ، وضرورة تعبئة الطبقات والشعوب المستغلة المستلبة من أجل إنجاز عملية التغيير . أي خلقتا ضرورة إنتاج ثورات سياسية ، وأنَّ التفكير بإنتاج هذه الثورات استدعى ضرورة إنتاج إيديولوجيات تحفز الإرادة ، تَّركز على الإرادة ،وتهيء الطبقات والشعوب ثورياً . وتمكن من اختصار الزمن .
والذي شجع وساعد على إنتاج هذه الايديولوجيات هو أن الرأسمالية بعد الانتقال إلى الاحتكار والامبريالية والاستعمار قد صاغت مفاهيمها في الحرية والمساواة والإخاء والقومية والديمقراطية صياغة أيديولوجانية تبرِّر وتكرِّس التمييز العنصري والعدوان والعنف والفاشية والعرقية والتمييز الاجتماعي بين الطبقات والشعوب ، تحت شعارات : العلم ، التقدم ، التمدين ، الحقائق الطبيعية ، الحتمية التاريخية . بل أن فلسفات العلم والعقل والتقدم والجدل قد تنحت ، وتصدرت الواجهة فلسفات الحدس والإيمان والغريزة والأسطورة . والإرادة . والأصل . والأفكار القبْلية ، والحقائق الأبدية الثابتة.
فعلى سبيل المثال ، لا الحصر ، ظهر البيان الشيوعي – وهو أول بيان أيديولوجي ماركسي – بعد أن أصبحت الحرية مقتصرة ، عملياً  وبصورة أساسية ، كما يعبر البيان الشيوعي ، على حرية الرأسمالي في الاستغلال والسيطرة ، وإيصال البروليتاريا إلى درجة الإفقار المطلق . وبعد قمع ثورات عمال النسيج في سيليزيا ، وقمع ثورات 1848 في ألمانيا وفرنسا تحت راية : الوحدة القومية والمصلحة القومية قبل الحرية . بل بعد أن أصبحت مفاهيم : الملكية ، العدالة ، الحرية ، الثقافة ، الحق ، الوطن ، القومية ، العائلة ، المرأة مقننة . حسب تعبير البيان الشيوعي ، بمعيار مصالح البرجوازية ، وبمعيار المفهومية البرجوازية العاكسة مصالحها . وبمعيار إعطاء هذه المفهومية صفة القوانيين الطبيعية والعقلية الخالدة الأبدية .
أمَّا الايديولوجيا اللينينية ، وخاصة بنظريتيها : نظرية تراكب الثورة الديمقراطية مع الثورة الاشتراكية ، ونظرية حزب شيوعي من طراز جديد . فقد ولدت داخل إطار ارتداد البرجوازية عن استكمال مهمات الثورة الديمقراطية حتى النهاية . وتحالفها في العديد من البلدان ، مع الإقطاعية ضد البروليتاريا والشعوب المستعَمرة وشبه المستعَمرة ، وتوزيع جزء بسيط من فائض القيمة المنقول من المستعمرات على البرولتياريا بصورة زيادة أجور وخدمات .ومن ثم برجزة الفئات العمالية العليا . وارتداد قيادات الأحزاب البروليتارية ، تحت شعار الوطنية والقومية ، عن الصراع الجاد ضد البرجوازية التي تستخدم الجيوش والبضائع والدولة في استعمار شعوب أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . وفي صراع البرجوازيات القومية مع بعضها البعض . وبالتالي وقوع هذه الأحزاب بالتعصب القومي والنزعة الاستعمارية والإصلاحية والاقتصادية . لذا كانت النزعة الثورية – التجاوزية قوام الايديولوجيا اللينينية .
وأما الايديولوجيا الستالينية . فإن تكوينها داخل الايديولوجيا اللينينية . وضمن إطار حصار الثورة الروسية . وحصرها في بلد واحد هو روسيا المتخلفة ، الفلاحية . التي أنهكتها الحروب الخارجية والأهلية ، وتعاني المجاعات وهجرة كوادرها الفنية ورؤوس أموالها ، والتي يعاني حزبها الشيوعي وطبقتها البرولتيارية قصور الوعي الديمقراطي . والضعف في الحجم العددي قياساً إلى مجموع السكان ، ناهيك عن العقلية الستالينية بسماتها الإرادوية – اللاجدلية – اللاتاريخية ، وتصدرها قيادة الحركة الشيوعية العالمية .. .. قد حوَّلها إلى ايديولوجيا أيديولوجانية . أي إلى ايديولوجيا مطلقية مغلقة ، تخضع الواقع لمنطق الفكرة المؤدلجة . ومن ثم تفسِّر كل ما جرى ويجري وسيجري في التاريخ ستاتيكياً وفق هذا المنطق الذاتوي المطلق.
من جانب آخر لو قرأنا الايديولوجيا النازية فإن ظهورها ارتكز على تاريخ ألماني طويل من التجزئة والتأخر والاحتلال الأجنبي . وبنفس الوقت على تحالف مديد بين الرأسماليين والإقطاعيين ، وعلى أساس التمجيد للروح الألمانية والأصالة القومية الألمانية . بل وارتكز منذ القرن التاسع عشر على فلسفة مواجهة العقل بالسيكولوجيا ، ومواجهة الواقع بالدافع الحيوي والإرادي بدءاً من شيلنغ وفيخته وشوبنهاور ونيتشه والهيجليين الجدد الذ ين حوَّلو عقلانية هيجل الجدلية ( المثالية الموضوعية ) إلى ايديولوجيا لا عقلانية . في البلدان المتخلفة ومنها وطننا العربي ظهرت الايديولوجيا القومية والحركات القومية رداً على[ضمن إطار] أفاعيل وايديولوجيا الاستعمار العنصرية – القمعية – النهبية – الاستغلالية – التجزيئية – التتبيعية .تحت شعارات : التمدين وطبيعة حركة التاريخ ، وقوانين الحياة . لذا حملت الكثير من عناصر ايديولوجيا الاستعمار من موقع رد الفعل ، وليس من موقع الاستجابة العقلانية الواعية . من هنا فإن حلول الايديولوجيا محل الفكر ، وتحول الايديولوجيا إلى أيديولوجانية أو أيديولوجوية يجد تفسيره الرئيسي في الواقع الاستغلالي الاستلابي الذي أنتجته ووضَّعته الرأسمالية للاحتكارية – الإمبريالية – الاستعمارية، وفي ارتداد الرأسمالية عن المفاهيم وأساليب العمل والتعامل التي نتجت في عصر النهضة وعصر الأنوار . بل وفي فرضها وبلورتها مفاهيم وأساليب عمل وتعامل أيديولوجانية . ومنها مفاهيم العديد من مدارس الاستشراق ، والانتروبولوجيا وما يقال عن مصادر ذاتية تاريخية للايديولوجانية العنصرية والشوفينية والقمعية والتمييزية والاستبدادية على الشعوب المتأخرة المسماة أحياناً بالبربرية . فإنه رغم وجودها ، وتأثيرها الفعّال ، وتشكيلها الأساسي المعرفي ، ماكان لها أن تنهض وتنبعث وتتسع لولا الفعُل والايديولوجانية الإستعماريان. المهيمنان واللذان يحطمان كل عائق وأحياناً بتشجيع المستعمر لها تنظيرياً وعمليانياً ، كي يبرر عمليته الاستعمارية ، كما يحلل إدوارد سعيد ومحمد أركون وآخرون. المهم أن هذا التنميط الايديولوجاني كان كما يلمح في العديد من الدراسات الوحي الأول الذي مس حواس وروح وعقل ماركس وانجلز فدفعهما إلى بناء نظرية تفسير التاريخ بأنه تاريخ صراع الطبقات . خاصة ً وأنهما وجدا الفكرة بشكلها البدائي غير المتبلور تاريخياً وجدلياً عند مؤرخي عصر الأنوار . بل والذي دفعهما إلى بناء نظريتهما،  اعتبار الديمقراطية البرجوازية الشكل الديكتاتوري لحكم البرجوازية . وأيضاً الذي دفع لينين إلى اعتبار الديمقراطية البرجوازية ديمقراطية  ضيقة ، مبتورة ، منافقة ، فردوساً للأغنياء وفنً وخديعة للمستشمرَين الفقراء " . وبالتالي الذي دفع ماركس وانجلز ولينين إلى بناء نظرية الشيوعية بوصفها المفهوم الأكثر والأعلى حملاً وتضمناً وتحقيقاً للديمقراطية والأنسنة.
ماذا تعني الايديولوجيا والايديولوجانية ؟
إن إضافة مقطع logy التي تعني العلم إلى الكلمة idea التي تعني الفكرة أنتج كلمة ideology ( الأيديولوجيا ) بالمعنى الحرفي لها هو علم الفكرة .هذه الكلمة اكتسبت في التاريخ الحديث عدة معاني ، فهي عند هيجل عملية عقلية تهدف إلى وعي كلية العالم ،ولم تحمل أيَّ تقييم سلبي .أمَّا عند ماركس فقد حملت معنى سلبياً ، معنى مثالياً لأنه في الأيديولوجيا تنقلب العلاقة بين الوعي والوجود رأساً على عقب ، كما يحدث في غرفة الكاميرا المظلمة أو في شبكية العين . أي أنه في الأيديولوجيا يعين الوعي الحياة الواقعية للبشر ، بينما الحقيقة هي أن الحياة الواقعية للبشر هي التي تعين الوعي . إلاَّ أن هذا المعنى المثالي السلبي لم يحل دون استعمال ماركس والماركسيين بعده كلمة أيديولوجيا بمعنى إيجابي مادي ، عندما تتحدد بعملية ربط وتنظيم الأشياء والواقعات والعلاقات ربطاً وتنظيماً فكريين وفق نسق معين يطابق ما هي عليه الأشياء والواقعات والعلاقات من توضع وحركة وتناقض وسيرورة ومسارات وتغير وتبدل كمياً وكيفياً .الفارق بين الهيجلية والمثالية عامة وبين الماركسية في الموقف من كلمة أيديولوجيا يتحدد ليس بتدخل الذات في صياغة الأيديولوجيا ، وإنما بمقدار تدخل الذات ؛ تدخل الإدراك ، الخيال . الحاكمة ،الأهواء ، الرغبات ، العواطف ، الأماني والأحلام ، الإرادة .. .. فإذا اقتصرتدخل الذات أثناء عملية الانعكاس النوعي على إنتاج الفكرة أو منظومة الأفكار المطابقة مع الواقع كما هو حملت الأيديولوجيا المعنى المادي الإيجابي ، امَّا إذا تجاوز التدخل حدود المطابقة حملت الأيديولوجيا المعنى المثالي السلبي . أي أن الأيديولوجيا المطابقة ، وبالأدق المقاربة درجة المطابقة هي التي أقرتها الماركسية . لذا قيدتها بالمنهج المادي – الجدلي – التاريخي على اعتبار أن هذا المنهج .كما تتصور الماركسية،  يقيدها بمنطق الواقع ، وبتاريخية هذا الواقع ، فتتطور وتتغير بتطور وتغير الواقع والتاريخ . وبالتالي فاللاتقيد بمنطق الواقع والتاريخ ز هو الذي يحوِّر الأيديولوجيا،  يُفسد الأيديولوجيا، ينزع عنها الصفة العلمية والعقلانية ويحملها إلى أيديولوجانية أو أيديولوجوية ، أي إلى فكرة أو منظومة افكار ذاتوية ، وبالتالي إلى فكرة أو منظومة أفكار ممثلنة ، مطلقنة . متعالية على الواقع والتاريخ . الأمر الذي يعني أن الأيديولوجانية تقرأ الأشياء والواقعات والعلاقات القائمة في الواقع والتاريخ مفصلَّة على قياسها ، مبتورة من هنا ومزادة من هناك ، مكبرَّة هنا ومصغرة هناك .
المذهل أن الفكرة أو منظومة الأفكار الأيديولوجانية لا تظهر في عين الأيديولوجاني خارج الواقع والتاريخ ، وهميةً زائفة . تنتهك حدود العلم والفلسفة . وإنما تظهر كإنعكاس حقيقي كجوهر الواقع والتاريخ ، حقيقة علمية خالصة . فلسفة عقلانية كاملة الانسجام والتطابق مع العالم ومع ذاتها . ومن ثم يجب تحقيقها في الواقع والتاريخ ، بل وإرغام الواقع والتاريخ على حملها كي يتحررا مما لحقهما من زيف وفساد وقصور وتحوير وتحريف .
هكذا فإن ذاتوية الايديولوجانية تقدم العالم بصورة لا عقلانية ؛ إذ العقلانية تتحدد بانعكاس الواقع والتاريخ . واللاعقلانية تتحدد بانعكاس الذات والتفارق مع الواقع والتاريخ . انعكاس الواقع والتارخ ينتج منطق الواقع والتاريخ . بينما انعكاس الذات لا ينتج إلاَّ منطق الذات ، أي منطق الأهواء والرغبات ، والعواطف . المخالف والمناقض والمفارق لمنطق الواقع والتاريخ .
لذا فالايديولوجانية تنتج التوتاليتارية أو الطغيان الشمولي الذي يعدم حرية الإنسان . بل ويُلغي الإنسان ككائن حر ,ما تبنيه هذه الكينونة من مفاهيم ونظم وأخلاقيات وأشكال عمل وتعاملات عقلانية . أي أن التوتاليتارية تطرح وتمارس عن طريق العنف والقهر والاستلاب، استبدال عالم الحرية وبناءاته العقلانية القائم في الواقع والتاريخ بعالم آخر هوعالم الفكرة أو منظومة الأفكار الأيديولوجانية .
طبعاً عالم الايديولوجانية ليس عالم الإمكان والممكن تحققه . لذا يعجز عن الإستمرار . فيتولد نقضُه ونقيضُه في داخله ، ومن ثم يأتي زمن ماسماه هيجل مكرَ التاريخ ، فتقوم التراجيديا داخل الدراما ، ويقوم الجدل النازل داخل الجدل الصاعد . أي تدور عجلة التاريخ ، محملَّة بالمآسي . من أجل الصعود وعلى طريق الصعود – إلى الوراء . إلى النقطة التي منها غادرت التوتاليتارية مسار الواقع والتاريخ ، وإن مع شيء التعديل المناسب لديالكتيك التاريخ هنا أشير إلى أن حنا أرندت ( عالمة النفس الألمانية وأهم من حلل التوتاليتارية ) تربط التوتاليتارية بالأيديولوجيا دون تمييز بين نوعي الأيديولوجيا . وحجتها في ذلك أن الايديولوجيا . كل ايديولوجيا " هي منطق فكرة ما يحوَّل التاريخ إلى مادة بهدف تطبيق هذه الفكرة ، وإن نتيجة هذا التطبيق ليست جسداً من الحالات حول أمر موجود ، وإنما بسط لسيرورة الفكرة في تحولها المستمر " . أي أن الأيديولوجيا هي الفكرة التي تُشرح منطقياً ( والقصور هنا المنطق الصوري ) من خلالها حركة التاريخ على أنه سيرورة واحدة ثابتة ، وبالتالي من المفترض بحركة التاريخ أن تطابق السيرورة المنطقية لهذه الفكرة . من هنا فإن جميع الايديولوجيات . حسب مفهُومية أرندت ، تنزع ليس إلى شرح ما هو قائم في الواقع ، وإنما إلى ما هو صائر في التاريخ من منطقية داخلية تطابق منطقية الفكرة ولذا يتخفف التفكير الايديولوجي من الواقع الذي ندركه بحواسنا الخمس فيلغيه ، ويستبدله بواقع يتصوره أكثر صدقاً ، أي يستبدله بواقع يكمن ، كما يتُصور ، خلف الواقع القائم والأشياء المدركة غيابياً تسيطر على الواقع القائم أو على الأشياء الغيابية المدركَة . هذا الواقع الأخر ، حسب اقتناع الايديولوجي ، يتم الوصول إليه من خلال حاسة سادسة أعلى من حواسنا الخمس، وأصدق في الإدراك منها . هذه الحاسة السادسة لا توفرها حسب منهجية أرندت إلاَّ الأيديولوجيا . والدليل على اعتماد الايديولوجيا على الحاسة السادسة هو أن جميع الأيديولوجين يمارسون عمليات تلقين الأيديولوجيا ، وإنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية مهمتها هذا التلقيين بغية تدريب الجنود السياسيين الذين يُطلب منهم تطبيق وتحقيق الأيديولوجيا ، مثَل تنظيمات الدفاع النازية .ومدارس الكومنترن والكومنفورم والكومسمول الشيوعية والموجهين الشيوعيين في الجيش ودوائر الدولة ومؤسسات المجتمع .ومن ثم فإنه يُفترض كضرورة منطقية ( الضرورة المنطقية هي هنا الضرورة المنطقية التي يحددها المنطق الصوري في تتابع استنتاجاته )
وجود نظام شمولي عماده الإرهاب الكلي كي يقيم هذا الواقع الجديد على انقاص الواقع القائم ، بدءاً من عمليات شل تفكير الناس، ومنعهم من التفكير خارج النمط المقرر من جهة ، وانتقالاً إلى انتزاع ممتلكاتهم وإلغاء مؤسساتهم وروابطهم وتنظيماتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية ، وتحويلهم إلى أفراد رعايا الدولة ومعتالين عليها عن بعضهم البعض بل وإلى كتل قطيعية أو جماهير شهوانية معطلة التفكير . من جهة أخرى ، ووصولاً إلى التحكم الفكري والعملي بهم الذي يمكن من قيادتهم كما تقاد القطعان  إلى الأعمال المطلوبة وفق الأشكال المطلوبة وبالأطر المطلوبة دون تفكير ، وبآلية منهجية هي الآلية المفروضة التي يرونها بالاستمرار والاعتياد آلية منطقية من جهة ثالثة . طبعاً ليس هنا مجال عرض ومناقشة منهج أرندت ، على الرغم من تبين وضعويته في تسكين[من السكون] الواقع وإقامة التناقض بين الواقع والتاريخ وفي عدم رؤية التاريخ تاريخاً لواقع متحرك ، يحمل اللحظات الثلاث : الماضي – الحاضر – المستقبل ،وفي عدم التفريق بين الذاتي والذاتوي في صياغة الأيديولوجيا ، إنما الهام هو ما كشفته أرندت من علاقة بين التوتاليتارية والأيديولوجيا . ومن اللا واقعية في التوتاليتارية والأيديولوجيا . إن ما كشفت عنه أرندت لا يضيء التجربة الستالينية والتجربة الهتلرية فقط، واللتين كانتا موضوع تحليلها الأساسي . وإنما كذلك يُلقي الضوء على جميع التجارب الطغيانية . بل وعلى منابع الطغيان في مختلف أشكال ومراحل الاستغلال والاستلاب القديمة والحديثة .ومنها شكلُ الاستبداد الشرقي الذي ساد سابقاً، وانبعث مجدداً ، وشكلُ هيمنة العولمة المؤمركة التي يعيشها العالم حالياً .
سابعاً- الآن إذا رجعنا إلى سؤالنا عن علاقة الاقتصادوية الستالينية بالتوتاليتارية واللا عقلانية فإنه بات واضحاً أن اختزال التاريخ إلى قوانيين اقتصادية ، واختزال القوانين الاقتصادية إلى قانون اقتصادي أساسي واحد لا يحدث إلاَّ لدى من تتملكه فكرة أيديولوجيـة واحدة : فكرة ضرورة التطابق بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج . وبالتالي ضرورة قسر الواقع والتاريخ على الدخول في قالب هذه الفكرة، والسير آلياً وفق المنطق الداخلي لهذه الفكرة . وضرورة تحقيق هذه الفكرة.  باعتبارها الفكرة العلمية الخالصة . بل والفكرة التي هي جوهر الواقع والتاريخ. لذا تدفع الإرادة لتحقيقها بحذافيرها في الواقع ،ومن يخالف الفكرة أو يخالف تحقيقها بحذافيرها يسير ، كما تستخلص الستالينية بعكس حركة الواقع والتاريخ ، وهو ضد حركة الواقع والتاريخ .أي هو بمفهومية الستالينية ، ضد التقدم ،ضد الاشتراكية ، ضد انتصار البروليتاريا، ضد الحزب الشيوعي . وبالتالي يجب بتره . حسب تحديد الستالينية. والنتيجة كما تجلت في الواقع العياني ، هي استيلاء الدولة على الملكيات الخاصة بالإكراه ، وحملات القمع والتطهير والملاحقات ، وكم الأفواه وحبس الأنفاس واستلاب الإرادة لجميع أفراد المجتمع ، وتفتيت علاقاتهم وروابطهم وتنظيماتهم  والكبت والرهق النفسي والتسبيح والتمجيد الكاذبين الزائفين بالمنجزات والبروليتاريا المفتتة الغائبة ، والحزب الشيوعي العديم الدور والفاعلية ، بل والذي تحول إلى جهاز بث الكذب وصياغة الزيف ، وخداع النفس والآخرين ، وإلى مجموعات وتكتلات بيروقراطية تتراكض على المغانم وتتصارع على المراكز . حقاً  كما كشفت أرندت . أن الستالينيين لاتبدو عندهم هذه الممارسات والمواقف تزييفات وجرائم ضد الواقع والتاريخ .ضد العقل والحرية . ضد الإنسان والإنسانية ، إنما تبدو على النقيض  مواقف وممارسات تثوير الواقع وتوقيف التاريخ على قدميه ، والاستجابة الأعمق لنداء العقل والحرية ، والتعبير المنطقي الأصدق ، والعملي الخالص . أي أن اعتماد شكلانية المنطق الصوري كآلية لتثبيت وجود الفكرة في الواقع والتاريخ هو وراء لا واقعية ولا تاريخية الايديولوجيا الستالينية.  ومن ثم وراء لا عقلانيتها أولاً . ووراء جرائمية وطغيانية شخصها الأيديولوجي ، ثانياً ووراء جعل الإكراه واستلاب حريات البشر وحقوقهم وعقولهم وتدمير مؤسساتهم وروابطهم المجتمعة، اللغة التي يُفكَّر فيها ويُتعامل بها مع البشر والوقائع ثالثاً . لئن كان فارغا قد ذكَرَ بعبارات كلاسيكية مختصرة مغالاة ستالين في التركيز على الجانب الذاتي وخروجه عن المنهج الديالكتيكي فإن هذا التذكير ظل جزئياً ومجرداً ، ولم يتطور إلى مستوى التحليل الواقعي للعلاقة بين الذاتوية وبين اللجوء إلى المنطق الصوري ، وإلى شكلنة المنطق الصوري . كذلك لم يتطور إلى مستوى تبيان المغايرة بين المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي ، وتأكيد أن المنطق الصوري هو منطق البرهان بينما المنطق الدياكلتيكي هو منطق الكشف عمَّا هي عليه الأشياء من حركة وترابطات وتناقضات وصيرورة .ومن ثم لم تتوضح شكلنة المنطق الصوري وإفتقاد قيمته البرهانية عندما لا تستند على استقرائية المنطق الديالكتيكي ومنهجيته في الربط والتحديد .مما يعني خروجه عن العقلانية وتحويل الأيديولوجيا القائمة عليه إلى إيديولوجانية . وأنه في الأيديولوجانية تكمن ذهنياً وعملياً أسرار التوتاليتارية . وبالتالي لم تنكشف عند فارغا العلاقة بين الاقتصادوية واللا عقلانية والتوتاليتارية . بل لم تكن الأيديولوجيا والأيديولوجانية حاضرةً في أي تحليل وأي انتقاد من تحليلاته وانتقاداته . أي أنه لا رابطة عنده بين الاقتصادوية وبين الايديولوجيا والأيديولوجانية .
نعم إن الستالينية أخذت بمنظورات الماركسية – اللينينية،  لكنها أخذتها كنتائج جاهزة بدون تحليل وبدون منطقها في التحليل . أي قرأتها قراءة ستاتيكية ساكنة ، جامدة وبمعزل عن ارتباطها بالشروط التاريخية . وبالتالي قرأتها طوباوياً ، كقوانين ثابتة أزلية أبدية . هذا التسكين والعزل . هذا التطويب والتأبيد استبطن الذاتوية . وبالتالي اعتمد شكلانية المنطق الصوري لتثبيت وتحقيق المنظورات . الأمر الذي أنتج – تحت شعار الماركسية – اللينينية – أيديولوجيا ستالينية .   أو قل أيديولوجيا ماركسية لينينية مشوهة، مقزومة خارج الواقع والتاريخ، ترغم البشر والواقع والتاريخ بالعنف والإكراه على التقيد الشمولي التام بها .
ثامنا: هل نقصد تبرئة الماركسية- اللينينية ، وإرجاع جميع ما حصل من لاعقلانية وتوتاليتارية وخروجات وانهيارات الى عقلية وممارسات ستالينية ؟
في الواقع العياني المشهود والمعروف تاريخيا لم تمت الستالينية فعليا بموت ستالين،الأمر الذي يدل على ان الأيديولوجية الستالينية هي منطق وعمل الحزب الشيوعي والدولة السوفياتية ، وبالتالي يدل على وجود أساسيات الأيديولوجانية الستالينية عند لينين وقبله عند ماركس وأنجلز .  وجود هذه الأساسيات يؤشر الى العجز عن تجديد وتطوير منظورات الماركسية-اللينينية إنسانوياً وديمقراطيا بعد موت ستالين، خاصة وان المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي قدأدان بلا رحمة عقلية وممارسات ستالين ، وكشف  بصدق وشفافية عالية فضائح ستالين والستالينيين .
لوتم في المؤتمرالعشرين ، وماتلاه من مؤتمرات ،الذهاب بعمق الى الكشف عن العلاقة بين السيطرة البيروقراطية وسيطرة الحزب الشيوعي ، وسيطرة قيادة الحزب على الحزب والدولة ، وسيطرة الأمين العام على قيادة الحزب وعلى الحزب والدولة ، وما نجم عن هذه السيطرات من إرهاب كلي وبين نظريةالحزب - اللينينية ، ونظرية التناقص بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ونظرية تراكب الثورتين ونظرية ديكتاتورية البروليتاريا ونظريتي قراءة التاريخ على أنه تاريخ صراع طبقي وتاريخ ديكتاتوريات طبقية . وأن هذه التنافضات والصراعات والديكتاتوريات ، والتراكبات والبناءات الحزبية الثورية تودي حتما الى انتصار البروليتاريا وقيام الشيوعية .
اقول لو تم هذا الذهاب لتبدت اساسيات الأيديولوجيانية والتوتاليتارية واللاعقلانية في اليوتوبيا الشيوعية وفي آلية سيرورة الصراع الطبقي، وفي كيفية إنجاز هذه اليوتوبيا، ومن ثم تبدت عقلية ستالين وممارساته كنمط آلي يطبق هذه النظريات ويحقق هذه اليوتوبيا . من طرف آخر لو تم الذهاب بعمق الى الكشف عن العلاقة بين الايديولوجانية الستالينية وبين خلع صفة الموضوعية على نظرية الانعكاس الماركسية بوصفها متقيدة بجدل التاريخ الصاعد حتما نحو الشيوعية، لتبدت أساسيات انجرار ستالين الى المنطق الصوري، واعتماد شكلانيته فقط للبرهنة على ضرورة سير التاريخ سيراً مطابقا للفكرة الماركسية المؤكدة حتمية الوصول الى الشيوعية .
لاأنكر ان ستالين ايما نوي ، امتثالي وذو نزعة إرادوية مثالية وهذا  له دور محوري في الوصول الى النمط الايديولوجاني والتوتاليتاري واللاعقلاني .
إلا أن ذلك ما كان ممكنا لولا الشروط الواقعية الخاصة بالثورة الروسية،  ولولا وجود هذه النظريات الماركسية اللينينية والاشتغال عليها نظر يا وعمليا في مرحلة لينين وقبله،والاحتكام إليها في كل تفكير وكل ممارسة.
حقيقة لو رجعنا الى كيفية طرح ماركس وانجلز ولينين لهذه النظريات لتجلى لنا أنهم لم يطرحوها كفرضيات أو وجهات نظر من زاوية معينة (مادية جدلية تاريخية) تتطلب دائما الرجوع الىالواقع لاختبار صحتها ، وليس فقط لتطويرها وبلورتها، وإنما طرحوها كقوانين أنتجها التاريخ ويؤكدها الواقع الملموس في كل عملية، وحركة وتغير و تبدل. يقول ماركس في الأيد ولوجيا الألمانية (ليست الشيوعية بالنسبة إلينا أوضاعا ينبغي إقامتها، مثلا أعلى ينبغي للواقع أن يتطابق معه. إننا ندعو الشيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حالياً ، وإن شروط هذه الحركة تنتج عن المقدمات الموجودة في الوقت الحاضر) . مامعنى هذا ؟
إنه يعني بوضوح أن حركة التاريخ تسير موضوعياً نحو الشيوعية. وبالتالي فأي عمل لايسير في هذا الاتجاه لن يطابق حركة التاريخ. ومن ثم يعني انه من الضروري تحفيز الإرادة ،وخلق التنظيمات وعمليات الضبط والتنظيم لوضع حركة التاريخ هذه موضع التحقق والتحقيق .
يضاف إلى هذا أن المنهج المادي الجدلي التاريخي لم يستخدم  للكشف عن هذه النظريات فقط، وانما وظف لتكريس صحتها في الواقع المتغير زمانيا- مكانيا. أي أصبح منهجاً وظيفياً ، يحمل كأي منهج وظيفي صفة البراغماتية من هنا فإن مثلنة هذه النظريات  والذهاب الى المنطق الصوري وشكلانيته يرجع بجانب منه الى كيفية طرح ماركس وانجلز ولينين لهذه النظريات ، وإلى توظيف المنهج المادي الجدلي التاريخي لتثبيت الطرح وتكريس صحته. أي يرجع إلى طرحها طرحاً مطلقاً . وبالتالي فان الايديولوجانية الستالينية والتوتاليتارية ترتبط بجانب كل منها ، كمرجعية أولى بهذا الطرح المطلق . والملفت للانتباه أكثر أن هذا الطرح المطلق . لم يقل بأنه مطلق ، وإنما أسقطت عليه صفات الواقعية والتاريخية و…الديالكتيكية عبر ارتكازه على المنهج المادي الجدلي التاريخي.
لاشك ان المنهج المادي الجدلي التاريخي بوصفه قائما على استقراء جدليات الانسان/الطبيعية،وجدليات الانسان/ الانسان، وعلى الربط العقلاني بين هذه الاستقراءات للانتقال تجريديا الى القوانين الأعم فالأعم هومنهج تجريبي – شمولي- مفتوح ، إلا أن نواتج العمل الأساسية بهذا المنهج تحددت ، وبدون انغلاق وحصر لدى ماركس وانجلز ولينين . مجتمعيا وعلى مستوى التاريخ البشري منذ ما بعد المشاعية البدائية إلى حين قيام الشيوعية ، ظهرت نظريات  أساسية أعطيت صفة القوانين الكبرى الأساسية، لم تكتشف بوضوح جملة الواقعات التي استخلصت منها النظريات المذكورة من قبل،  في حين أنه تاريخياً  المرحلة الرأسمالية الصناعية – الطور الاحتكاري والطور الامبريالي الذين شهدهما ماركس وانجلز ولينين، لذا يمكن القول، وهذا ما تثبته دراساتهم المتركزة على هذين الطورين ، أن الأستقراء الحقيقي الذي يملك الصفة العلمية والصفة التاريخية وبالتالي الذي يمكن اعتبار قوانينه علمية – عقلانية ليس إلا استقراء هذين الطورين .
لذا فإن سحب قوانين هذين  الطورين على تواريخ  سابقة وتواريخ لاحقة هو ضرب من التعميم الذاتوي ، بل واعتماد عقلانية مغايرة للعقلانية العلمية التي يطرحها الاستقراء . والحقيقة أن أطروحات ماركس: ((التاريخ البشري مؤسس على تلبية حاجات الانسان المادية)) واللاحق يفسر السابق ويؤشر إلى القادم تضيء  اعتماد عقلانية مغايرة . وأن هذه العقلانية المغايرة كانت وراء توظيف المنهج المادي-الجدلي- التاريخي لتثبيت هذا السحب وهذا التعميم .
باختصار إن تجديد وتطوير منظورات الماركسية –ديمقراطيا و إنسانوياً  وفي كل الاتجاهات لم يكن ممكنا بالنسبة للماركسين ، سواء قبل الستينيات التي فيها صدر كتاب فارغا ، أو بعدها إلا من خلال تخطيطات رئيسية : الأول  يتمثل في الانطلاق من المنبح المادي –الجدلي –التاريخي . الثاني ، يتمثل في الخروج من دائرة النظريات المذكورة بل ولنقد هذه النظريات لتثبيتها وتكريس صحتها ، باستناده على المعطيات التاريخية الراهنة وخاصة: الثورة العلمية- التكنولوجية ، العولة المؤمركة ونتائجهما.
الثالث _  يتمثل  في تطوير نظرية الانعكاس بحيث يصبح الانعكاس النوعي حاملا" ذاتيةالاتسان ، وأن التجربة المفتوحة هي التي توضعن وتعقلن هذا الانعكاس . إنه بدون اقرار الانعكاس النوعي كحامل لذاتية الانسان ، وبالتحديد كحامل لجميع  قدرات الانسان على إدراك العالم المحسوس . وعلى الفعل والانفعال فيه ، لن نستطيع فهم ما تخيله وبناه ، وما يتخيله ويبنيه الانسان من نماذج وعوالم وأشكالا"فوق طبيعة محسوسة وما وراء الطبيعة المحسوسة. بل لا نستطيع اعطاء تخييلته دور فاعلية الإبداع التي بها تميز الانسان ككائن طبيعي عن غيره من الكائنات الأخرى . بل لما حدث تقدم  وتطور مغايرين نوعياً"لما هي عليه الكائنات الأخرى بل لما حدثت الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة التي جعلت العلم القوة الانتاجية الكبرى والاولى .
وكي يعطى التخييل دوره يفترض مبدأ الحرية فلا تخيل ولا إبداع  ولا تطور وتقدم بدون حرية ، وحرية الفكر هي ألف باء حريات الإنسان ,وبالأصح ألف باء الانسان ، فالانسان إذا لم يتحدد في البدء والمبدأ ككائن حرية لن يكون أي تحدد آخر له إلا تنقيصاً لانسانيته . بل حذفا" لانسانيته . وبالتالي حذفا"لجميع منتجات الإنسان من مجتمع وأخلاق وشرائع وقيم ومعارف ونظم وتكنولوجيا وتنظيمات ومثلا"وجنات [من الجنة] الخ.. أؤكد على نظرية الانعكاس لكي أؤكد أن القوانين ومنها النظريات _القوانين المذكورة هي من إنتاج الفكر من فاعلية الفكر كي يدرك الأشياء , بعلائقها و تشخصاتها . فالفكر يحتاج الى ملايين التجارب وملايين العمليات العقلية كي يدرك الأشياء القائمة أمامه وعلاقاتها إدراكا"مطابقاً , بل إنه دائماً ، كما قال لينين ، لا يدركها تماما"ومن جميع زواياها ، وإنما يقترب تدريجياً من إدراكها باستمرار ولها ما لا يحصى من الترابطات والفكر يتطور ويتقدم في عملية إدراكها باستمرار . لذا فمعيار الموضوعية هو معيار نسبي ، وخاضع لمدى معرفة الانسان بالواقع ككلية . أي أن معيار موضوعية القوانين وخاصة قوانين المجتمع هو معيار  تجريبي – توافقي ويتغير من فضاء معرفي إلى فضاء معرفي آخر .
ماذا ينتج عن هذه التخطيات الثلاث ؟ أتصور أن أول إنتاج هو الانطلاق من مبدأ الانسان كائن الحرية ، واعتبار مبدأ "الانسان حيوان يصنع أدوات" الذي اتخذته الماركسية معياراً ليس إلا مبدأ تحقيق والإقرار المضمر لمبدأ الانسان كائن الحرية في المدى التاريخي المفتوح على اللانهاية . وبالتالي فإنه ليس إلا المبدأ الذي إذا انفصل عن مبدأ الانسان كائن الحرية تحول إلى المبدأ النقض والنقيض له . أي تحول إلى مبدأ الانسان – الكائن المستعبَد المستلَب لمنتجاته ، بدءاً من استعباده واستلابه للمجتمع الذي اخترعه من أجل صناعة الأدوات . ومن ثم من أجل تحرره من أسر الطبيعة ، وبعدئذٍ من أجل السيطرة على الطبيعة ، وصيره سيد الطبيعة .
وإذا كان شرط سيادته على الطبيعة هو تقيده بقوانين الطبيعة : "لكي تطيعك الطبيعة عليك أن تطيعها" كما عبر ديكارت ، فإنه دون إمتلاكه الحرية لايستطيع إطاعة الطبيعة ووعي قوانينها ، والتقيد، حين الممارسة والإبداع، بقوانين الطبيعة . بتعبير آخر كي تصبح "الحرية وعي الضرورة"  كما قال ماركس لابد من كينونة الحرية ، لابد من إمتلاك الحرية في الفكر والممارسة .
صحيح تاريخياً أن التحرر من أسر الطبيعة وإمتلاك الطبيعة إشترط المجتمع ومازال يشترط المجتمع . بل إن تطور إمتلاك الانسان بحريته في الفكر والممارسة إشترط المجتمع ، وبالتالي لا إبداع ولا حضارة بدون المجتمع . إلا أن المجتمع الذي يمكّن الانسان من إمتلاك الطبيعة ومن تطوير الحرية ليس المجتمع الذي يستعبد ويستلب الانسان ، وإنما المجتمع الذي ينتظم الأفراد فيه داخل شبكة علاقات تضمن لأفرادها حرية الفكر والممارسة . فالأفراد العبيد في مجتمع العبودية لم ينتجوا إبداعاً وحضارة خارج شبكة العلاقات الضامنة حرية الفكر والممارسة . لذا لاغرابة أن رأينا للعبيد المبدعين في مجتمع العبودية ، حقوقاً كثيرة في حرية الفكر والممارسة . وأيضاً لاغرابة أن رأينا ونرى يومياً تزايد إبداعات وتسارع حركة التاريخ الحضارية أضعافاً مضاعفة في أزمنة الإعتراف بحقوق الانسان، وبإحترام العلاقات الديمقراطية بين الأفراد . هذا يقودنا إلى نتيجة هي أن الانطلاق من مبدأ الانسان كائن الحرية وما يتطلبه هذا المبدأ من مجتمع ديمقراطي هو المفتاح للتحرر من الأيديولوجانية والتوتاليتارية و اللاعقلانية في عصرنا ، ومن ثم يقودنا إلى إعتبار نسبية وتاريخية القوانين ، كل القوانين ، ومنها القوانين المذكورة . وبعدئذٍ يقودنا إلى تشريط صحة القوانين بانعكاس الأوقعة ( جمع واقع ) الذي انبثقت منها ، واعتبارها أوقعة تاريخية مفتوحة على التغير والتبدل اللامتناهيين . وإنه من تغير وتبدل الأوقعة تولد قوانين جديدة ناظمة يكشف عنها ويبلورها ويحددها الفكر بعملية الانعكاس النوعي . لا يفوتنا التنويه أن استيعاب أعمال ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وماوتسي تونج وجيفارا وفارغا وكيدروف ولوفيفر ورودنسون وغارودي ولوكاتش وفرانك وغرامشي وعبدالله العروي وسمير أمين وإلياس مرقص وياسين الحافظ وغيرهم وغيرهم من مفكرين ماركسيين على أساس مبدأ الانسان كائن الحرية ومبدأ المجتمع – الديمقراطية يفتح الطريق واسعاً أمام استعادة الماركسية كفلسفة وكرؤيا وكمنهج  صالحة لوعي وتجاوز لحظة العولمة المؤمركة ، بل وتجاوز كل أساس أيديولوجاني وتوتاليتاري  ولاعقلاني . فالعولمة المؤمركة أضحت أيديولوجانية توتاليتارية ولاعقلانية ، وقد تكون أخطر على البشرية من الستالينية أو النازية , فهي تطرح أيدلوجيات الليبرارية الجديدة ونهاية التاريخ وصدام الحضارات ، وتستخدم  أعلى ما وصلته البشرية من وسائل الإكراه الاقتصادي والسياسي والفكري والثقافي  بغية تكريس وتأييد الاستغلال و الاستبداد .
تاسعا"_  وأخيراً ماتأثير نقد الاقتصادوية والايدلوجانية والتوتاليتارية واللاعقلانية علينا ؟ ليس هتكاً للحجب وانشاء"للأسرار التصريح بوجود الايديولوجانية ونتاجاتها وخاصة التوتاليتارية واللاعقلانية عندنا .وبالتالي فان شرط تجاوز ما نحن فيه يتطلب ثالوث الإصلاح الذي انطـــــــــرح في الاتحاد الســــــوفييتي: البيروسترويكا، الديمقراطية، الغلاسنوست. إلا أن تحقيق ثالوث الإصلاح يشترط البيئة وإعتبار موجودات أخرى: التعبئة،التجزئة، إسرائيل، ازدواجية البنى، التخلع الاقتصادي،القطروية،التأخر الفكــــــــــري، ونمو العقلية السلفية- الدينية وما قبلها من خرافية وأسطورية وغيبية وقدرية، ونمو العصبيات الإثنية والطائفية والعشائرية والعائلية.
إنه بدون إعتبار هذه الموجودات الخاصة وممارسة التبيئة نبتعد عن عكس واقعنا، ونقع بالنسخية، بالعمومية المجردة، ثم يفقد اقتباسنا للثالوث الإصلاحي واقعيته الحية. وبالتالي يفقد فاعليته.
وإذا كان الإتحاد السوفياتي قد تمزق وانهار، فإن التمزق والإنهيار لم يكونا النتيجة الحتمية لتطبيق ثالوث الاصلاح، وإنما كانا النتيجة الحتمية للخروج عن ثالوث الاصلاح. أي أنهما كانا نتاج دفع الثالوث إلى وجهة مغايرة كيفياً لوجهته. لذا ليس منطقياً وصحيحاً التحجج بتمزق وانهيار الاتحاد السوفياتي للاجحام  والتهرب من تطبيق ثالوث الاصلاح عندنا بعد التبيئة واعتبار أوضاعنا الخاصة ، بل اني أقدر أن الإسراع الى الشروع بتطبيق ثالوث الاصلاح المبيأ ولو بصورة تدريجية متأنية هو الذي ينتج التمزق والانهيار .
ماهي بالضبط البيروستريكا ، والديمقراطية والغلاسنوست  مبيئة وتراعي موجوداتنا الخاصة ؟ ومن أين نبدأبالتحقيق ؟
 
 
 
   نقد المثالية المتجددة
مداخلة على ورقة الأستاذ إسماعيل محفوض
 
د. نايف سلوم
 
في تعليقه على عبارة يوجين فارغا الاقتصادي السوفييتي المشهور ، المجري الأصل ، المقتبسة من كتابه "القضايا الاقتصادية/ السياسية للرأسمالية" التي تقول: "ارتباط الانعكاس بالعمليات التي تتكرر" يعلن الأستاذ إسماعيل محفوض أن الانعكاس "ليس مجرد نسخ ميكانيكية بسيطة لهذه العمليات ، أي أن الفكر ارتكازاً على ذاتيته يمارس الفرز والتمييز" هذه العبارة الأخيرة [ارتكازاً على ذاتيته] تعادل القول أن الانعكاس يعتمد على قوة الدماغ وخاصيته في الفهم ، أي أن هذه الصياغة تحتاج إلى بسط وتوسيع حتى تكون ذات قيمة في تفسير السيرورة المعقدة للانعكاس . ذلك أن هذه الذاتية تعيد ترتيب عناصر العملية الجارية أو الواقعة المدروسة من قبل البحث دراسة تفصيلية وتمارس قلباً لهذا الترتيب كما أعطي في  الواقع الخارجي واعتماداً على الحواس ، ولا تحصل مقاربة العمليات الواقعية من دون حصول هذا التحويل ؛ من دون هذا القلب وإعادة الترتيب لعناصر العملية الجارية . أي لا يمكن صياغة القانون العلمي من دون إنجاز هذا التحويل في الرأس . يكتب ماركس في رأس المال [الاقتباس من فارغا] : "إن مهام العلم أن يحوّل الحركة المرئية الخارجية فحسب ، إلى الحركة الحقيقية الأصلية" [فارغا ص19] . إذاً تكمن مهمة العلم في دراسة تفاصيل العمليات الجارية أو الواقعة في حالة الحركة ، وفي تحويل الانطباع الخارجي بحيث يعيد الرأس المفكر [ذاتية الباحث] ترتيب وإنشاء عناصرها من جديد للقبض عليها موضوعياً. وهذه العملية المعقدة لإنشاء العلم التاريخي/ الاجتماعي*  ندعوها بــــ   ديالكتيك العيني [راجع مقالتنا "ديالكتيك الانعكاس في الفن" ] .
في تعليقه الثاني على مسألة تكرار الوقائع يعقب الأستاذ إسماعيل بالقول : "ربطاً للعمليات التي تتكرر بانتظام" . هنا نعود إلى صياغة انجلز ذات الطابع التعليمي التي تقول: "إن مجرد انعكاس العمليات المختلفة لا يعد قانوناً ، فالانعكاس الملائم للعمليات التي تتكرر بانتظام في الطبيعة والمجتمع هو وحده الذي يمكن أن يصبح قانونــــــــاً " [فارغا ص 19] . يركز انجلز هنا على الانعكاس الملائم ، وعلى انعكاس العمليات التي تتكرر أي غير الطارئة أو غير العرضية . ولكن الحديث عن تكرار بمعناه الحرفي في عملية إنشـــــــــــــــــــــــــاء العلم التاريخي/ الاجتماعي أمر يوقع في الإرباك، ذلك أن التكرار المنتظم للعمليات الجارية في الواقع وانعكاسها الملائم ينسجم مع علوم الطبيعة أو القانون الطبيعي. أما القانون التاريخي/الاجتماعي فينطبق عليه قول الفيلسوف اليوناني هراقليط : أنك لا تستطيع أن تستحم في النهر مرتين! بمعنى أن كل شيء يجري، كل شيء في حالة صيرورة . وهذه الصيرورة واضحة في حالة إنشاء العلم التاريخي/ الاجتماعي . فالثورات تتكرر ، لكن ليس بنفس الطريقة ، وبنفس القوى الاجتماعية . فتكرارها العام يفيد التعلم لا العلم التاريخي الاجتماعي . أي أن تشبهها ببعض لا يعطي علماً بكل منها على انفراد .هكذا لإنجاز العلم التاريخي الاجتماعي ، تتوجب دراسة العمليات الجارية في شرطها الزماني والمكاني ، وعملية التجريد والتحويل في الرأس هي قانونها العلمي التاريخي الاجتماعي .
من جهة أخرى تخلق عبارة "العمليات التي تتكرر في الطبيعة والمجتمع " تخلق إرباكاً من ناحية إرجاع القانون التاريخي الاجتماعي إلى القانون الطبيعي ، إرجاع المركب إلى البسيط فنحن لا نستطيع فهم تشريح دماغ الكائن البشري من دراسة تشريح دماغ القرد لكن هذا الأخير ضروري للتعلم ، ضروري كخطوة أولى . وكون الأكثر تعقيداً يفسر الأقل تعقيداً لا يعني إسقاط معطيات المعقد على البسيط . فإذا كان فهم التشكيلة الرأسمالية يساعد ويجعل ممكناً فهم التشكيلات ما قبل الرأسمالية فليس معنى ذلك إسقاط مقولات الرأسمالية على التشكيلات السابقة لها . ونضيف أن هذه الإرجاعية هي إحدى الحجج التي تقام ضد الماركسية على اعتبارها ليست علماً بل عقيدة . ومثال ذلك انتقادات الإنكليزي  كارل بوبر . وفي التعقيب على إشكالية التكرار في العلم التاريخي الاجتماعي نضيف ملاحظة  لينين في الدفاتر الفلسفية التي تقول: "ومع ذلك فالطريقة تتوسع وتتحول إلى نظام للتفكير ، مع دخول محتوى المعرفة السابقة في التحليل الجديد " [الدفاتر ج1 ص 247] . أي أن محتوى المعرفة السابق يتحول إلى شكل أو أسلوب للتحليل في المعرفة اللاحقة في سبيل إنتاج محتوى جديد .
في نقطة ثانية يستخدم الأستاذ إسماعيل عبارات من قبيل: الشعب العامل على نطاق العالم، والجماهير العاملة بحيث يستخدم المفهوم مرة بمغزى سياسي ومرة بمغزى اجتماعي ، وعلى أهمية مفاهيم كهذه إلا أنها تتناسى الجماهير العاطلة عن العمل ، والتي باتت تلعب دوراً خطيراً في العصر الإمبريالي العولمي . يمكن أن نشير هنا إلى البعدين الاجتماعي والديمقراطي لجيش العاطلين عن العمل والعاطلين عن الشراء . [راجع كتابنا "في القول السياسي 2 " مقالة الازدهار القطري للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية] .
في ص16  يتحدث الأستاذ إسماعيل عن ثورات سياسية دون ذكر للثورات الاجتماعية التي تهدف إلى تحطيم شكل الملكية السائد والانتقال إلى شكل ملكية آخر ، أي الانتقال  إلى نمط إنتاج آخر . وفي سياق تعليقه على كلمة أيديولوجيا يكتب الأستاذ إسماعيل : "إلا أن هذا المعنى المثالي السلبي لم يحل دون استعمال ماركس[؟] والماركسيين بعده كلمة أيديولوجيا بمعنى إيجابي مادي.." في الواقع ، ماركس لم يستخدم كلمة أيديولوجيا بمعناها الإيجابي [كأيديولوجيا عضوية للتغيير الاجتماعي].  غرامشي [1890- 1937 ]، المفكر الماركسي الإيطالي هو من بسط وطور هذا الاستعمال للكلمة المذكورة، وقد أشار غرامشي إلى أن الأيديولوجيا يمكن أن تشير إلى تصور إيجابي للعالم كما يمكن أن تكون بمعنى الأيديولوجية العضوية التي تعني الإيمان بنتائج العلم التاريخي الاجتماعي في سبيل إنجاز الانتقال التاريخي من نمط إنتاج إلى آخر . هيغل يتحدث عن الفكرة المطلقة وعن المنظومة من الأفكار ، وعن الوعي الكوني والتاريخ الكوني . أما ماركس فيشير إلى توسط المستوى السياسي بين المستوى الأيديولوجي من جهة وبين البنية الاجتماعية الاقتصادية من الجهة الأخرى فيقود هذا التوسط إلى خصي الوعي ، وإلى إنتاج فكر زائف مضلل بما يخص حقيقة البنية هذه ، أو ما يمكن تسميته بـ أيديولوجيا اعتباطية . يكتب إسماعيل مفرقاً بين الهيغلية والماركسية : "الفارق بين الهيغلية والمثالية عامة وبين الماركسية في الموقف من كلمة أيديولوجيا يتحدد ليس بتدخل الذات في صياغة الأيديولوجيا ، وإنما بمقدار تدخل الذات تدخل الخيال ... الأهواء الحاكمة والرغبات.. الآمال .. الأحلام الخ.." يعزو الأستاذ إسماعيل ظهور الأيديولوجيا بالمعنى السلبي السيئ إلى أخطاء ذاتية نتيجة تدخل الأهواء والرغبات خلال عملية إنشاء العلم التاريخي الاجتماعي ، وهذا ما يؤدي إلى إغفال لحظة أخرى ومفصلية تلعب دوراً معرقلاً أثناء عملية إنتاج المعرفة ألا وهي المصلحة ، إن الانتقال من الضرورة إلى فهم الضرورة سوف يمر عبر الصراع الاجتماعي / السياسي [راجع  هربرت ماركوز "الماركسية السوفييتية " ص 126 ، وأنتي دوهرنغ لـ انجلز ، وهيغل "موسوعة العلوم الفلسفية"]. وبهذه الطريقة يمكننا تفسير "حياد" العلم الطبيعي في العصر الرأسمالي البورجوازي  وعدم حياده في التشكيلات السابقة للرأسمالية . ومثال ذلك محاكمة غاليليو من قبل الكنيسة في بداية القرن السابع عشر . المصلحة والخطأ الذاتي هما في أساس أي ضلال للمعرفة الحق . المصلحة مجسدة أحياناً بتوسط البنية الفوقية السياسية [الدولة والأفكار السائدة] بين الوعي والبنية التحتية ، الدولة كتنظيم لهيمنة وسيطرة الطبقة الحاكمة.    تظهر لدينا هنا مقولتان : الحق والصالح ، أو المعرفة والإرادة حسب تعبير هيغل . فالكلية التي هي في البدء مجردة لا تتحول إلى جامعة كلية ، لا تصير موضوعية كاملة ، إلا في الفعل [العمل أو الممارسة العملية] . يكتب هيغل : "الفكرة هي فكرة الحق والصالح ، كمعرفة وإرادة .. إن سير عملية هذه المعرفة المحدودة والفعل [العمل] يحول الكلية التي هي في البدء مجردة إلى جامعة كلية ، وبذلك تصبح موضوعية كاملة " [الدفاتر الفلسفية ج1 ص 218] .هكذا يكون النشاط أو الممارسة متضمنة في مفهوم موضوعية القانون التاريخي الاجتماعي . فأي حديث عن الموضوعية من دون تضمين الممارسة حديث قاصر . يكتب ماركس في الأيديولوجية الألمانية : "إن ما يسمى الطريقة الموضوعية في كتابة التاريخ كانت تستقيم بالضبط في معالجة الشروط التاريخية بصورة منفصلة عن النشاط [ولذلك فهي موضوعية] ذات طابع رجعي " [هامش ص 51 من ترجمة فؤاد أيوب] . أما لينين فيقول:  "الممارسة أعلى من المعرفة النظرية لأن لها ليس فقط كرامة العام [المفهوم، المجرد] بل أيضاً كرامة الواقعي المباشر " [الدفاتر ج1 ص 234] .
بعد ذلك يقدم لنا الأستاذ إسماعيل فكرته عن منابع الاستبداد أو التوتاليتارية . بحيث يشير إلى أن الأيديولوجيا نية [الأيديولوجيا بالمعنى السيئ] هي منبع الاستبداد واللاعقلانية . أي أن الفكرة هي منبع الاستبداد واللاعقلانية ، وهذا يذكرنا بالتفسير اللاهوتي والمثالي الذي يفسر كل ظواهر المجتمع بالضلال وغياب الأخلاق الحميدة . فهل يمكن حقيقة تفسير التوتاليتارية واللاعقلانية بالأيديولوجيا الفاسدة من دون إرجاع حتى الأيديولوجيانية نفسها إلى منبع أعمق للتحليل؟ مرة أخرى يغفل الأستاذ إسماعيل توسط المصلحة الذي يؤدي إلى الضلال والفكر الفاسد . والمصلحة تعني توسط البنية الفوقية السياسية ، كما يغفل تفكير إسماعيل تحليل ودراسة البنية المشكلة تاريخياً تحليلاً اقتصادياً سياسياً ، وسوف يشكل هذا التحليل المفصل منبع التفسير الحقيقي لكل من التوتاليتارية واللاعقلانية والأيديولوجيا نية  أيضاً ،  إن كنا نستطيع ملاحظة علاقات فيما بينها معززة أو معرقلة . إن البحث الاقتصادي السياسي المعمق بالبنية المشكلة تاريخياً لا يلغي مستويات البحث الأخرى من سيكولوجية وثقافية الخ..مثل ذلك  دراسة سيكولوجيا الجماهير الفاشية ، ومنطق الديماغوجيا الفاشية الخ ..وهنا نذكّر بتحليل تروتسكي للفاشية الألمانية تحت عنوان " الطريق الوحيد"، ودراسة شارل بتلهايم "دينامية الاقتصاد الألماني من 1860إلى 1933 وصعود الاشتراكية –  الوطنية إلى السلطة " . وهذه الأبحاث لم تمنع وليهلم رايخ من دراسة "رمزية الصليب المعقوف" وهو فصل من كتاب له بعنوان "سيكولوجية الجمهور الفاشي" . كما لم تمنع دانيال غيران من دراسة الديماغوجية الفاشية . إن دراسة لتأخر ألمانيا التاريخي يشكل مفتاح لتفسير الصعود التاريخي للفاشية كما أن عزلة الثورة الروسية بسبب فشل الثورة الاجتماعية في أوربا يشكل مفتاح تفسير صعود البيروقراطية السوفييتية ومنها صعود الأيديولوجيانية الستالينية . وهكذا فمنابع الأيديولوجيا نية الستالينية لا تجد تفسيرها بأخطاء وعيوب عند ماركس ولينين بل في البنية الاجتماعية الاقتصادية المشكلة تاريخياً . مثال آخر ، ليس من الحق تفسير الاستبداد الشرقي بالإسلام كمنظومة أفكار وقيم ، بل يفسر الاستبداد الشرقي والإسلام ذاته بنمط الإنتاج الآسيوي أو الشرقي .
إذاً وبعد أن يفصل الأستاذ إسماعيل لبرهة بين الستالينية واللينينية يعود فيرجع مشكل الاستبداد واللاعقلانية الستالينيين إلى أصول فكرية نظرية عند لينين وماركس وانجلز  مغفلاً مرة أخرى توسط البنية التحتية كمنبع تفسير، فتغدو الأفكار تتبزغ من الأفكار في سلسلة متصلة دون توسط البنية المشكلة تاريخياً ، هكذا يكون أصل عيب الستالينية في الفكر الماركسي ويدخل إسماعيل عالم المثالية الهيغلية من بابه العريض . لاحظوا حجة الأستاذ : "في الواقع العياني المشهود والمعروف تاريخياً لم تمت الستالينية فعلياً بموت ستالين الأمر الذي يدل على أن الأيديولوجية الستالينية هي منطق وعمل الحزب الشيوعي والدولة السوفياتيين ، وبالتالي يدل على وجود أساسيات الأيديولوجيانية الستالينية عند لينين وقبله عند ماركس وأنجلز "  لاحظوا جيداً هذه الـ ["بالتالي"] ، لاحظوا هذا الاستنتاج العظيم !!
ما إن استمرت الستالينية كأيديولوجيا فاسدة بعد ستالين كشخص حتى استنتج إسماعيل وجود أصول لها عند ماركس ! وهذا ناتج عن إغفاله للبنية الاقتصادية السياسية السوفييتية المتولدة من تأخر روسيا وعزلة الثورة . وباعتباره أغفل منبع الستالينية الحقيقي فقد راح يبحث عن أصلها في النصوص القديمة . ثم يضيف الأستاذ إسماعيل : لو تمت دراسة العلاقة بين السيطرة البيروقراطية والمقولات اللينينية بعمق لظهرت أصول البيروقراطية الستالينية عند لينين وتنظيراته ، وعند ماركس ذاته!! إن منبع التفسير قائم في الدولة الاشتراكية المعزولة والمتأخرة وليس في المقولات الكلاسيكية لمنظري الاشتراكية الماركسية . إن الشروط التاريخية التي أدت إلى صعود البيروقراطية السوفيتية هي التي دفعت مع هذا الصعود إلى أخذ ما هو ميت من لينين وترك ما هو حي فيه ، تماماً كما تعاملت العصور الوسطى الأوربية مع أر سطو : "الظلامية الإكليريكية قتلت في أرسطو ما هو حي ، وخلدت ما هو ميت " [الدفاتر الفلسفية ج3 ص 145] . بالطبع بعد أن كشف الأستاذ إسماعيل عن هذه العلاقة ، وبعد أن ذهب بعيداً وبعمق في الكشف عن العلاقة بين البيروقراطية وبين المقولات اللينينية لعصر الإمبريالية ، ولترابط الثورتين الديمقراطية والاشتراكية ، اكتشف وبدهشة أصول الاستبداد البيروقراطي واللاعقلانية الستالينية عند لينين وماركس وانجلز ، ليس في شخصهم وإنما في تنظيراتهم ، أي في الفكرة .
يقول: "وهكذا تبدت أساسيات الأيديولوجيانية والتوتاليتارية واللاعقلانية في اليوتوبيا الشيوعية ، وفي آلية الصراع الطبقي ، وفي كيفية إنجاز هذه اليوتوبيا " . الصراع الطبقي من أجل الشيوعية يؤدي بالضرورة المطلقة إلى الأيديولوجيانية والتوتاليتارية واللاعقلانية ، وحتى يتم التخلص منها دفعة واحدة فما علينا سوى التخلي عن الصراع الطبقي وعن الهدف الاشتراكي . أي علينا بتأبيد الرأسمالية كأسلوب إنتاج وشكل دولة وحكم !
يعود إسماعيل مرة ثانية إلى الربط بين "الستالينية وبين خلع صفة الموضوعية على نظرية الانعكاس الماركسية بوصفها متقيدة بجدل التاريخ الصاعد حتماً نحو الشيوعية " . بمعنى آخر يريد الأستاذ القول أنه مع هذه الجبرية الماركسية الوحيدة الاتجاه ، ومع هذه الغائية الطبيعية نحو اليوتوبيا الشيوعية يكمن أصــــل الاســتبداد واللاعقلانية والأيديولوجيا نية . وهذا دليل آخر على أن الأستاذ لم يذهب بعيداً في الكشف السالف الذكر،  ذلك أن الماركسية عبر منظريها الكلاسيكيين لا تتحدث عن جدل صاعد ساذج  نحو يوتوبيا أو مثل أعلى للبشرية، على الواقع أن يحشر فيه . ويمكن الرجوع إلى كتاب ماركس "18 برومير لويس بونابرت " حيث كتب ماركس يقول : "أما الثورات البروليتارية .. فهي بالعكس [من الثورات البورجوازية] تنتقد ذاتها على الدوام وتقاطع نفسها بصورة متواصلة أثناء سيرها فتعود ثانية إلى ما بدا أنها أنجزته لتبدأ من جديد وتسخر من نواقص محاولاتها الأولى ونقاط ضعفها وتفاهاتها باستقصاء لا رحمة فيه . ويبدو أنها تطرح عدوها أرضاً لا لشيء إلا ليتمكن من أن يستمد قوة جديدة من الأرض وينهض ثانية أمامها وهو أشد عتواً . وتنكص المرة تلو المرة أمام ما تتصف به أهدافها من ضخامة غير واضحة المعالم .."
إن القول أن الستالينية ما كانت ممكنة لولا وجود نظريات ماركس ولينين وانجلز يعادل القول أن لولا وجود البشرية واشتغالها بإنشاء الوعي لما كانت هناك ستالينية ! يكتب إسماعيل محاولاً البرهنة على وجود أصول الأيديولوجيانية الستالينية في أعمال ماركس : "لو رجعنا إلى كيفية طرح ماركس وانجلز ولينين لهذه النظريات لتجلى لنا أنهم لم يطرحونها كفرضيات ، أو وجهات نظر من زاوية معينة (مادية جدلية تاريخية ) تتطلب دائماً الرجوع إلى الواقـــــــع لاختبار صحتها  " . وأقول هذا قول غافل عن فرضية ماركس أو مطارحته الثانية عن فيورباخ والتي جاء فيها : "إن مسألة ما إذا كان يمكن أن تنسب حقيقة موضوعية إلى الفكر البشري ليست مسألة نظرية بل عملية . فالإنسان يجب أن يثبت في الممارسة حقيقة فكره .." . إن القانون عند ماركس هو ميل تعاكسه ميول مضادة بعضها ناتج عن ممارسات منظمة للطبقة المتضررة من تعمق هذا الميل كممارسات الدولة البورجوازية كنشاط منظم لهذه الطبقة وحلفائها . وفي النشاط الأيديولوجي المضاد الذي يقوم به مثقفو الطبقة السائدة . أيضاً يقوم الحزب الثوري بتنظيم هيمنة الطبقة الجديدة مساهماً في تعميق هذه الميول التاريخية الكامنة في البنية القائمة . إن نشاط الدولة البورجوازية الأمريكية يعدل من فعل قانون ميل معدل الربح للانخفاض عبر تشجيع الميل للاستثمار في الخارج لدى الشركات الرأسمالية الأمريكية الاحتكارية للإبقاء على معدل ربح عال وإبقاء الوضع الاجتماعي مستقراً في البلد  الأم عبر الأجور العالية . أي إبقاء الطبقة العاملة الأمريكية في تماثل مع رأسمالية الدولة الاحتكارية في حربها ضد بقية العالم خاصة الطرفي منه .
بعد ذلك علينا الانتقال لانتقاد قراءة إسماعيل لعبارة ماركس في الأيديولوجية الألمانية والتي تقول : "ليست الشيوعية أوضاعاً ينبغي إقامتها ، مثلاً أعلى ينبغي للواقع أن يتطابق معه . إننا [والكلام لماركس] ندعو الشيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الأوضاع القائمة حالياً ، وأن شروط هذه الحركة تنتج عن المقدمات الموجودة في الوقت الحاضر" . ويتساءل الأستاذ : ما معنى هذا ؟ ويجيب : "إنه يعني بوضوح أن حركة التاريخ تسير موضوعياً نحو الشيوعية . وبالتالي فإن أي عمل لا يسير بهذا الاتجاه لا يطابق حركة التاريخ ومن ثم يبقى أنه من الضروري تحفيز الإرادة ، وخلق التنظيمات، وعمليات الضبط والتنظيم لوضع حركة التاريخ هذه موضع التحقق والتحقيق " . أولاً أشير إلى أن القراءة المغرضة لعبارة ماركس تأتي من كونها تفضح إدعاء الأستاذ إسماعيل بخصوص ما يدعى بـ يوتوبيا شيوعية ، وغرابة هذا التصور عن ماركس . يكتب ماركس في الأيديولوجية الألمانية : "إن المقصود بالنسبة إلى المادي العملي ، يعني بالنسبة إلى الشيوعي، هو تثوير العالم القائم، مهاجمة الأوضاع القائمة كما يصادفها وتحويلها عملياً " [ترجة أيوب ص 34] . وثانياً ، يسيء الأستاذ قراءة هذه العبارة وذلك لعدم فهمه معنى "الموضوعية " في الماركسية ، والتي تعني حق وعمل ؛ معرفة ونشاط، ميول تاريخية ونشاط منظم للطبقات المتظلمة .لا يرى الأستاذ أن الماركسية هي علم تاريخي وحزب سياسي ، وأن الموضوعية التقدمية لا تكتمل إلا مع الاثنين معاً . الماركسية تفسير وتغيير علم وعمل ، نظرية وممارسة الخ.. عمل قائم على أساس نتائج العلم التاريخي بالبنية القائمة . عمل واع ومرشّد وليس وعياً عفوياً ساذجاً وغريزياً .إن أي عمل منظم لا يعتمد على نتائج العلم التاريخي بالبنية عمل مكتوب له الفشل . إن تضمن العمل أو الممارسة العملية في مفهوم الموضوعية الماركسية يعني إمكانية الفشل كما إمكانية النجاح والانتصار التاريخي . الوضعية الفلسفية وحدها ترى التاريخ على شكل تقدم كمي – تقني متزايد ، أما الديالكتيك المادي فهو يرى التقدم حركة متناقضة وصراعية ، تتقدم وتتراجع وقد تنكص ، وقد تؤدي إلى إنهاك  النقيضين المتصارعين أو حتى إلى دمار هما معاً .
 
لكم جزيل الشكر على تفضلكم بالاستماع والصبر .
 
 
 
 
 
 
 
 
ملحق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ننحن هنا بصدد فرضيات أو مطارحات THESES تشكل الأساس المنهجي النظري لقيام تجمع لليسار الماركسي في سوريا
 
 
المطارحة الأولى [I] مخصصة لنقاش الاســـــــم، اسم التجمع .
 
 ΙΙ
ننظر إلى الماركسية على أنها ذات بعدين، بعد تفسيري، أي الماركسية منظوراً إليها كعلم تاريخي يدرس الشروط المعطاة وحركة الواقع الفعلي وإمكانيات هذا الواقع. وبعد تغييري هو ما ندعوه بالأيديولوجية العضوية، أو أيديولوجية الطبقة العاملة في وجودها السياسي وبرنامجها الديمقراطي العضوي* . وعلى هذه الأيديولوجية أن تعتمد على نتائج العلم التاريخي، القائم أصلاً على الديالكتيك المادي كمنهج ماكروي [إجمالي] وأن تكون[الأيديولوجية العضوية] في حالة حوار ومراجعة دائمتين معها [النتائج].
ΙΙΙ
ينظر إلى انفصال الليبرالية عن الديمقراطية على أنها قضية نظرية محورية وحاسمة وذلك اعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، خاصة مع ظهور الاحتكار والإمبريالية والنزعة العسكرية والكولونيالية الاقتصادية والاستعمار في الرأسمالية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ومع تحول الدولة القومية الأوربية من دولة بورجوازية ديمقراطية إلى دولة استعمارية. وقد تأكدت هذه النزعات مع الإمبريالية المعولة في اللحظة الراهنة. لهذا نرى أن الوريث الشرعي التاريخي لـ البرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة، الأعوام: 1500-1850 هي البروليتاريا كطبقة عالمية وكبرنامج سياسي واجتماعي- اقتصادي ، وكبرنامج ديمقراطي وقومي. وهي وراثة أولية ومنهجية . ومن هنا العلاقة العضوية ، المترابطة والمتداخلة بين المهام الاشتراكية والمهام الديمقراطية والقومية . أي أن هذه المهام في تداخلها وترابطها هي مهمة الطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي، أي مهمة الطبقة العاملة وتحالفها الشعبي، خاصة في أطراف النظام الرأسمالي. حيث أن قيادة البورجوازية الليبرالية ذات الأصول الإقطاعية للمهام الديمقراطية أو قيادة البورجوازية "القومية" لهذه المهام لم تؤد إلى حلها أو دفعها خطوات جدية إلى الأمام . وأعطت هذه القيادة الحرب ضد الصهيونية والإمبريالية صفة التراخي وعدم الحزم ، وأدت هذه المواجهة إلى اصطفا فات اجتماعية داخلية أكثر تفجراً واضطراباً  . كما أدت إلى الاستبداد السياسي والإفقار الاقتصادي. 
 
ΙV
من المهمات الديمقراطية الكبرى للطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي مشروع التوحيد القومي العربي الديمقراطي، ومسألة الوحدة العربية كشكل للمشروع المنجز. ذلك لأن هذا المشروع سوف يجد نفسه في حالة صراع مميت مع الإمبريالية المعولمة ، ومع المشروع الصهيوني القومي. ومن هنا ضرورة قيادة الاشتراكية الماركسية لمشروع التوحيد القومي هذا . وتفترض مواجهة التخلف العربي ، ومواجهة الأوضاع الإمبريالية التي تعيد إنتاجه الموسع ، ضرورة نقد التراث القومي نقداً جذرياً وشاملاً بما فيه التراث الديني .ودمج كل ما هو حي ونابض بالعلم التاريخي الماركسي الجديد كعلم ذو محتوى قومي في جانب منه. يفرق التجمع بشكل منهجي وأساسي بين الدين كتراث قومي وبيانات من جهة ، وبين التدين كوجدان حاضر وممارسة وجدانية يومية يتوجب مراعاتها واحترامها . كما ينظر التجمع إلى إقحام الدين في العمل السياسي والحياة الحزبية على أنه ملمح انحطاط لهذه الحياة السياسية والحزبية. وأن هذا الإقحام يعرقل مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي ويعقد مسيرة تطوره . مع أنه يمكن للصراعات الطبقية أن ترتدي أشكالاً دينية مختلفة . قد ينجز بعضها مهاماً ديمقراطية.
 
V
لا يمكن تصور أغلبية شعبية وقومية على أنها ديمقراطية حقاً إذا لم تعترف بشكل واضح وصريح بالحقوق الثقافية للأقليات ، وبحق المواطنة للجميع .
 
VI 
 ينظر إلى المشروع القومي الصهيوني على أنه مرتبط عضوياً بالنظام الإمبريالي الرأسمالي ، ما يعني أنه في تضاد تاريخي مع المشروع القومي العربي الديمقراطي . و ستترتب على نتيجة هذا الصراع الطويل والمرير آثار عالمية حاسمة. وإذا أراد السكان اليهود في فلسطين الخروج من المأزق التاريخي الذي وضعتهم فيه الإمبريالية الرأسمالية فعليهم القبول بحل مشكلتهم التاريخية  كأقلية دينية لها حقوق ثقافية ، وحق مواطنة يشمل كل سكان فلسطين . وذلك في سياق المشروع القومي العربي الديمقراطي
 
VII
اعتماد العلنية في الممارسة . والسعي لإنضاج وبناء حياة سياسية عقلانية ومنصفة. مع التأكيٍد على الممارسات السلمية والديمقراطية في التعاطي مع المهام المطروحة. والتأكيد على ضرورة إصلاح وتطوير الفكر السياسي العربي . وبناء  آليات عمل سياسي ماركسي خارج زمن الأزمات الثورية. وإنتاج علم سياسة في شروط ابتعاد راهنية الزمن الثوري الاجتماعي .
 
VIII
ترجع أزمة الديمقراطية السوفييتية في روسيا إلى الأمور التالية : أولاً، عزلة الثورة الروسية نتيجة فشل الثورة الاشتراكية في أوربا الغربية ، خاصة الثورتين الألمانية و الإيطالية بدايات عشرينات القرن العشرين .  ثانيًا، دمار خيرة طلائع  الطبقة العاملة في الحرب الأهلية ، ودعم الدول الإمبريالية الرأسمالية  للثورة المضادة، وحصار القوى الثورية . ثالثاً، تصدع الهيمنة البروليتارية في روسيا على أثر الصعود التاريخي للبيروقراطية السوفييتية، وانفجار الصراع بين البروليتاريا والفلاحين نتيجة سياسات التجميع القسري البيروقراطية ، والإرهاب ضد الفلاحين الروس والذي طال قسماً من فقرائهم. لقد فقدت الديمقراطية السوفييتية قدميها اعتباراً من أواخر عشرينات القرن العشرين. والقدمان هما: 1- قيام  ثورة اشتراكية في أوربا الغربية تكون عضداً للثورة الاجتماعية الروسية من جهة ، 2- ونجاح الهيمنة تجاه الفلاحين عبر استمرار التحالف معهم.
 هذا من جهة ، ومن الجهة الثانية  يشكل  تصنيع روسيا المهمة الديمقراطية القومية التي أنجزت تحت قيادة البيروقراطية السوفييتية اعتباراً من 1928.  وعلينا أن نفرق بين المهمة الديمقراطية من جهة ، وبين الديمقراطية الاشتراكية كبديل و وريث للديمقراطية الليبرالية. لقد أنجزت البورجوازية الألمانية ،من قبل، مهمة ديمقراطية عبر تصنيع ألمانيا وتوحيد سوقها القومية ، وذلك عبر تسوية تاريخية مع الطبقات القديمة ؛ بما فيها العناصر الإقطاعية والملكية البروسية . وذلك لتزامن إنجاز هذه المهمة مع بداية دخول النظام الرأسمالي في مرحلة اقتصادية جديدة هي الاحتكار والإمبريالية الجديدة .
 
IX
تدرس المطارحة التاسعة النظام الاقتصادي العالمي من منظور تاريخي أطول ، وتفترض أن التغيرات الحالية وإن كانت مهمة ومتميزة ، فإنها ليست بلا سابق ، مع ضرورة التأكيد على دراسة  هذه التغيرات دراسة موسعة وموثقة وقراءة نتائجها على مستوى تشكل البنية الطبقية خاصة في أطراف النظام الرأسمالي. كما نؤكد على أن  عناصرها الحاسمة لا تشير إلى  نقلة كيفية (نوعية) باتجاه مرحلة جديدة من النظام الاقتصادي . فالنظام الاقتصادي الراهن ما يزال يحتفظ بطابعه الاحتكاري الإمبريالي مع الإشارة إلى  التوسع العالمي الشديد بفعل الثورة التقنية الناجمة عن الحرب العالمية الثانية، وما وفرته من سهولة التحرك الدولي لفروع الشركات الاحتكارية العملاقة ، وسهولة الاستثمار في الخارج. وتوفير تقنيات وإمكانيات مالية  أكبر بفعل سيطرة الدولار الأمريكي، سيطرة  تسهل انتشار القوات العسكرية الأمريكية حول العالم ، وتمويلها.
 يعيد رأس المال المضارب والمرابي إنتاج عالمه الطرفي مخلعاً ومحطماً ، معيداً إنتاج كل أشكال التفكير والاعتقاد ما قبل الرأسمالية ، ومن هنا يشكل النزوع القومي الديمقراطي في البلدان الطرفية ، ومشاريع النهوض القومي العضوي العدو الأساسي للعولمة الأمنية الإمبريالية. كما تلاحظ المطارحة أن الإمبريالية المعولمة تعمم ما يسمى بـ "مرض نقص الآمال المفرط" . يؤدي هذا الإحباط وذلك الحضور للماضي معبراً عنه بالسلفية الدينية إلى تفجر العنف اللامنتج.
 
X
تنظر المطارحة العاشرة إلى مفهوم الوطن والوطنية  Nationality على أنه شكل من أشكال المشروع السياسي لطبقة أو تجمع طبقات بعينها ، وبالتالي فإن معيار وطنية أية طبقة اجتماعية أو تحالف طبقات هو سلوك هذه الطبقة التجريبي في قضايا حاسمة كالتحرير والتحديث والاندفاع الديمقراطي نحو التوحيد القومي ، ويبقى المؤشر الأكبر على وطنيتها هو الديمقراطية السياسية ، والمشاركة السياسية للطبقات الأخرى الهامشية. وهنا يشير التجمع إلى الفرق بين مفهوم الوطنية ، وبين مفهوم القومية أو "الوعي القومي" Nationalism . 
 
 


*   من الحسي إلى المجرد ومن المجرد إلى العيني وهذا الأخير يشمل اللحظتين السابقتين .
*  الطبقة التقدمية بالإمكان والوجوب، بالإمكان كموقع في العملية الإنتاجية. وكوجوب بالوعي السياسي المقارب ، والتنظيم المستقل.