ثورة أكتوبر قيامة المظلومين


شاهر أحمد نصر
2004 / 10 / 22 - 12:07     

ريحٌ باردةٌ جافة تهب من خليج البلطيق تكسح خيوط الأمطار الباهتة التي تتساقط في مدينة بطرسبورغ. الإنارة ضعيفة باهتة بسبب الاقتصاد، والمنازل تنار بالكهرباء ليلاً من السادسة وحتى الثانية عشرة فقط. جاوز سعر الشمعة الروبلين، والكاز سلعة نادرة صعب الحصول عليها، والبتروغراديون يسيرون ليلاً في جماعات، فالنهب والسلب والقرصنة منتعشة.
في أحد هذه الأيام الملبدة من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917 سار شخصان في شوارع بطرسبورغ ببطء. رجلٌ شائبٌ يشبه القس يستمع إلى مرافقه الذي يحدثه حديثاً ممتعاً وهاماً، لم يمنعه من التمعن فيما حوله.
كان ذلك لينين في القناع، و مرافقه من اللجنة المركزية لحزب البلاشفة يون راخيا. لقد انتهت للتو الرحلة الخطيرة التي بدأت في مدينة فيبورغ حيث استقلا قطاراً حتى محطة رايغول ومن ثم القاطرة البخارية رقم 293 التي يقودها الميكانيكي غوغو يالافا الذي شيعهما إلى العاصمة.
وأمّ لينين سمولني ليقود من هناك مباشرة أهم ثورة عرفتها البشرية في تاريخها. التي فضل بعض الرأسماليين الروس الاحتلال الألماني على انتصارها كما أكد الصحفي الأمريكي جون ريد في كتابه الخالد حول أيام ثورة أكتوبر "عشرة أيام هزّت العالم" حيث كتب: "خلال سهرة قضيتها عند أحد تجار موسكو سئل الحاضرون الأحد عشر عند تقديم الشاي، هل يفضلون غليوم ( ملك ألمانيا ) أم البلاشفة. فأعلن عشرة منهم أنهم يفضلون غليوم".
كيف حصلت ثورة أكتوبر؟ ما هي القوى الفاعلة و المحركة لها؟ ما دور القادة في تحقيقها و انتصارها؟
كيف مرّت تلك الأيام القارسة؟ ما عدد القوات التي اشتركت في الاستيلاء على العاصمة؟ أي طريق سلكت؟ هل قام الناس بالثورة طواعية؟!

بلغت تكاليف الحرب بالنسبة لروسيا في أعوام 1915 -1916 و حتى النصف الأول من عام 1917 أكثر من 39 مليار روبل، و كان من المنتظر ارتفاع الدين العام في عام 1918 إلى 60 مليار رروبل، أي ما يعادل تقريباً مجموع الثروة القومية المقدرة آنذاك بـ 70ملياراً. و أعدت اللجنة التنفيذية مشروع الدعوة لقرض حربي تحت اسم جذاب "قرض الحرية"، في حين وصلت الحكومة إلى استنتاج مبسّط مفاده أنه إذا لم تحصل على قرض ضخم فإنها لن تعجز عن تسديد ثمن طلباتها من الخارج فحسب، بل ستقف عاجزة عن مجابهة مطالبها الداخلية أيضاً...
ولم تعد مطابع الأوراق النقدية كافية لمتابعة وتيرة التضخم. وبعد العملة القديمة القوية التي حافظت على بعض قوتها الشرائية القديمة، بدأ الناس يستعدون لقبول الأوراق النقدية الحمراء التي لا تصلح إلاّ لإلصاقها على الزجاجات، والتي أطلق عليها عامة الشعب اسم "الكرنسكيات" (نسبة إلى كرينسكي ـ رئيس الحكومة المؤقتة).
تتصاعد الثورة وتنفجر عندما تسّد جميع الآفاق ولا يبقى سبيل إلا قرع أبواب السماء. فالناس لا يقومون بالثورة بمحض إرادتهم كما لا يذهبون إلى القتال طواعية. ومن أخطر العمليات الاجتماعية قيادة الانتفاضة التي تمثل نقطة الذروة في الثورة. فاللعب بالانتفاضة وارتجالها يحرق مرتجليها قبل أي شيء آخر.
إن الحديث عن الانتفاضة بكلام نظري منمق بعد حصولها وفوات أوانها لأمر يسير وسهل لا يقارن بمعايشتها وتحقيقها في الواقع آن حصولها. تندفع الجماهير فتهاجم وتتراجع لمرات ومرات قبل قيامها بالهجوم الحاسم. وأدق من يصف تلك الأحداث من عاشها وانكوى بسعير لهيبها: "وفي الساعة الحرجة لاحتكاك الجمهرة المهاجمة بالجنود الدين يسدون الطريق عليها دقيقة حاسمة. وتأتي هذه الدقيقة عندما يتماسك الجنود كتفاً إلى كتف ولكنهم رغم تماسكهم الظاهر يعانون من التردد، في حين يأمر الضابط الذي يجمع كل ما بقي له من شجاعة بإطلاق النار. وتطغى أصوات الجماهير وصيحات الرعب والتهديد على صوت القائد، ولكنها تغطي نصف هذا الصوت فقط. وتتوقف البنادق، وتضغط الجماهير، عندئذ يوجه أحد الضباط مسدسه على أحد الجنود المشبوهين هاهي الثانية الحاسمة، ويسقط أشجع جندي يستقطب أنظار الآخرين بصورة لا شعورية، ويلتقط ضابط صف بندقية الجندي القتيل ويطلق النار على الجماهير، فإذا بالحاجز يتماسك من جديد وتنطلق البنادق وحدها تكنس الجمع الغفير في الشوارع والميادين.
ولكن كم من المرات حدث ما هو محالف لهذا منذ عام 1905. ففي اللحظة الحرجة، في اللحظة التي سيضغط فيها الضابط على الزناد، كانت حركته هذه مسبوقة بطلقة رصاص انبعثت من صفوف الجماهير التي كان فيها قادة من أمثال كيوروف و تشوغورين . إن هذا العمل لا يقرر نتيجة مناوشة من المناوشات تتم في الشارع فقط، بل ربّما يقرر نتائج كل اليوم الثوري أو مصير الانتفاضة كلها*".
أن تنتصر الثورة أسهل بما لا يقاس مع انتصارها على صعيد البناء التنظيمي والإداري. هذا ما أثبته تطور الأحداث ، فالمقاومة المسلحة في بطرسبورغ من قبل أنصار البرجوازية لم تدم طويلاً، وفي موسكو استمرت لأيام. وحلّ مكان المقاومة المسلحة ضعيفة التأثير، حلّ التخريب: تخريب جهاز الدولة القديم... فالمصارف أغلقت صناديقها ورفضت تقديم المساعدة، وألغت أي تسليف للدولة، ودفعت معونات بطالة لعشرات الألوف من الموظفين الذين أضربوا لإبداء معارضتهم للبلشفية. وعشية الموسم الشتوي أوقفت مصالح الفرع الزراعي في وزارة التموين العمل واستولت على الملفات... وفي نيسان من عام 1918 جرى إغلاق 265 معملاً من أصل 799 منشأة صناعية في بطرسبورغ وبقي أقل من نصف العمال في العمل.
وخير تعبير عن صعوبة الوضع في تلك الأيام ما جاء في كتابات لينين آنئذ: "الكارثة محدقة"، "الجماهير الجائعة منهكة، وهذه المجاعة تبلغ أحياناً درجة تفوق قدرة البشر." "ثمة.. وباء (جديد) ينهال علينا: القمل، التيفوس الطفحي الذي يبيد قواتنا... إما سيتغلب القمل على البلشفية أو ستنتصر البلشفية على القمل." "الوضع مريع".**
في ظل هذه الظروف المعقدة و الصعبة ، والمترافقة مع التدخل الخارجي صمم قادة الثورة بناء نظام جديد يختلف كلياً عن النظام القديم، ولم تعهد البشرية مثيلاً له، عرف في حينه بنظام السوفييتات، والذي أراد مبدعوه أن يتطور نحو الاشتراكية.
كان تصور لينين المسبق للنظام السوفييتي كنظام ديموقراطي حقيقي يتجاوز الديموقراطية البرجوازية - "الديموقراطية التي باتت لأول مرة للفقراء للغالبية الساحقة من الشعب. فانتصار الثورة لا يقف عند مسألة قلب الآلية الانتخابية، أو استيلاء السوفييتات على سلطة الدولة، بل يفضي إلى مناخ اجتماعي جديد وإلى تغيير كامل في الحياة العامة وارتقاء مجمل الشعب إلى الغالبية السياسية وإلى المواطنة الحقيقية، أي المشاركة في القرار والإدارة.
وأكد لينين أن ثورة أكتوبر أدت إلى ولادة دولة من طراز جديد، وأضاف في خطابه أمام المؤتمر السابع للحزب قائلاً: "إن سلطة السوفييتات هي نموذج جديد للدولة، من دون بيروقراطية، ودون شرطة، ودون جيش دائم، حيث تخلي الديموقراطية البرجوازية المكان لديموقراطية جديدة تنقل إلى المقام الأول طليعة الجماهير الكادحة، وتجعل من هذه الأخيرة السلطة التشريعية والتنفيذية، وتعهد إليها بمهام الدفاع العسكري، وتخلق جهازاً من شأنه إعادة تربية الجماهير". وحول الطابع البلشفي للديموقراطية السوفييتية في تطبيقها الملموس بيّن لينين أنه ـ حسب رأيه ـ يكمن فيما يلي: "أولاً، أن الناخبين هم الجماهير الكادحة والمستغلة. وثانياً، كل الشكليات والتقييدات البيروقراطية بخصوص الانتخابات ملغاة، فالجماهير بنفسها تحدد طريقة الانتخاب، و تاريخه، و لها مطلق الصلاحية في عزل منتخبيها".
وجاء في نداء إلى المواطنين نشرته صحيفة البرافدا في 7 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1917: "أيها الرفاق الشغيلة تذكروا أنكم أنتم الآن من يدير الدولة، لن يساعدكم أحد إذا لم تأخذوا شؤون الدولة بأيديكم. باشروا العمل بذاتكم، في القاعدة دون انتظار أحد".
هكذا تأسست سلطة السوفييتات البلدية وسوفييتات القرى، وبعضها لم يعترف بسلطة غير سلطتها الخاصة، فعلى سبيل المثال ومع أ نّ سوفييت سيبيريا المنطقي كان خاضعاً دستورياً لمؤتمر سوفييتات عامة روسيا الذي كان ينتدب إليه ممثليه، فقد رفض القبول بصلح بريست ـ ليتوفسك، الذي كانت السلطة المركزية قد صادقت عليه... وفي الميدان الاقتصادي كانت تظهر أحياناً حالات ليست أقل عبثية. ففي نيسان 1918 لم يكن نفط باكو يصل إلى موسكو إلاّ بعد أن يخضع على امتداد طريق نقله إلى ضرائب تفرضها مختلف السوفييتات المنطقية الواقعة على تلك الطريق.
وكانت تلك الفترة في التاريخ السوفييتي التي عرفت بـ "اوبلاست نيتشستفو" (أي المناطق)، كانت سريعة الزوال.
لقد انهارت تلك السلطة خلال أشهر معدودات، أي في حريف 1918. لعب الإرهاب الأبيض دوراً في ذلك، إذ ترافقت نشاطات الثورة المضادة مع إبادة الكثير من الشيوعيين، والقضاء على مناضلي السوفييتات النشطاء، وإزالة تلك السوفييتات. إلاّ أن الأمر الملفت للانتباه و الغريب أن السوفييتات كانت ضحية "التشيكا" ـ التنظيم المكلف بالنضال ضد البيض!
قضى المرسوم الصادر في 7 كانون الأول (ديسمبر) بتأسيس التشيكا "اللجنة الطارئة لمكافحة الثورة المضادة والتخريب". أعطيت هذه اللجنة صلاحيات واسعة نتيجة اتساع نطاق الحرب الأهلية. وطغت هذه اللجنة على السوفييتات التي اضطرت للامحّاء... وقبل فرض إرادة "التشيكا" على السوفييتات وتقويض صلاحياتها كانت قد حلّت الجمعية التأسيسية .
كان انعقاد الجمعية التأسيسية ماثلاً في برامج كل الأحزاب اليسارية في روسيا وبوجه خاص في برنامج الحزب الاشتراكي ـ الديمقراطي، بما فيه جناحه البلشفي. كان البلاشفه قد صّوروا دعوة الجمعية التأسيسية بين شباط (فبراير) وتشرين الأول (أكتوبر) 1917 كواحد من أهداف عملهم، وذلك دون أن يجعلوا منها محور دعواتهم لأنهّم كانوا يعبئون الجماهير باسم السلطة السوفيتية (كل السلطة للسوفييتات)، وفي 25 تشرين الأول (أكتوبر) إبّان الاستيلاء على السلطة، أكد لينين للمندوبين إلى المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا أن "سلطة السوفييتات... ستؤمن في الوقت المناسب دعوة الجمعية التأسيسية"، وثبت لينين هذه التأكيدات في أكثر من تصريح لاحق.
جرى تنظيم الانتخابات قبل انتصار ثورة أكتوبر وجرت بدءاً من 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. وتشكلت الجمعية التأسيسية على النحو التالي:
- اشتراكيون ـ ثوريون 299 مقعداً، - اشتراكيون ثوريون اوكرانيون 81 مقعداً، - اشتراكيون ثوريون يساريون 39 مقعداً، - بلاشفة 168 مقعداً، - مناشفة 18 مقعداً، - دستوريون ديموقراطيون 15 مقعداً
وتوزعت الـمقاعد الـ 76 الباقية بين لوائح صغيرة ذات طابع قومي في الغالب.
كانت الأغلبية في الجمعية التأسيسية من نصيب خصوم النظام السوفييتي. ناقشت اللجنة المركزية لحزب البلاشفة هذا المأزق في اجتماعها المنعقد في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) كانت النقاشات مرتبكة، قدم اقتراح وحيد من قبل بوخارين يستلهم أحداث الثورة الفرنسية، جاء فيه: "تنظيم الجزء اليساري، طرد الكاديت والمناداة بيسار الجمعية التأسيسية جمعية ثورية"***.
وصدرت عن البلاشفة علامات قلق تعبر عن ارتباكهم: بدأوا يتهمون اللجنة الخاصة بالرقابة الانتخابية، التي كانت قد عينتها الحكومة المؤقتة أثناء ممارستها الحكم، بأنها قدمت تغطية للمخالفات، و جرى توقيف أعضاء اللجنة ثم إطلاق سراحهم بعد أيام دون تقديم دليل بالاتهامات.
واختلفت آراء البلاشفة حول هذا الموضوع. إذ أيد انعقاد الجمعية التأسيسية جميع أعضاء مكتب الكتلة البلشفية في الجمعية، ومن بينهم كامينيف، وريكوف، وريازانوف، ولارين، وميليوتين ونوغين ونادوا باحترام صلاحياتها.
وقررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الروسي العام للسوفييتات أن يتم انعقاد الجمعية التأسيسية في 5 كانون الثاني ( يناير ) 1918.
إلاّ أن لينين كان حذراً حيال الجمعية التأسيسية، و أصدر موضوعات حول الجمعية التأسيسية نشرتها صحيفة البرافدا في 26 كانون الأول ( ديسمبر)، مؤكدً رأيه القائل بأ نّ تصادم الجمعية التأسيسية والسوفييتات يعكس المواجهة بين الطبقات، إذ تتجابه المؤسسة البروليتارية مع المؤسسة البرجوازية، منوهاً بالظروف التي أحاطت بانتخاب الجمعية التأسيسية التي كانت قد جرت في المناطق قبل أن يسمع الشعب وخاصة في الأرياف بثورة أكتوبر ووعي أهميتها...
وأصبح شعار كلّ "السلطة للجمعية التأسيسية" شعار مناصري الثورة المضادة الكاديت والكالديين (أنصار الجنرال الأبيض كاليدين)، و خلص لينين إلى الاســــتنتاج بأنّ "الجمعية التأسيسية... تدخل بالضرورة في صراع مع إرادة و مصالح الطبقات الكادحة والمستغَلة، التي فجرّت في 25 تشرين الأول (أكتوبر) الثورة البلشفية ضد البرجوازية. ومن الطبيعي أن تتغلب مصالح هذه الثورة على الحقوق الشكلية للجمعية التأسيسية". وبقي أمام الأخيرة خيارُ وحيد يتلخص في "الاعتراف دون تحفظ بسلطة السوفييتات" و إلاّ "فالأزمة مفتوحة مع الجمعية التأسيسية"، وسيتم حلّها " بالطريق الثوري، بالتدابير الثورية الأكثر قوة ".
في الاجتماع اليتيم للجمعية التأسيسية الذي عقد في 5 كانون الثاني ( يناير ) 1918 دعت الكتلة البلشفية الجمعية التي يرئسها البلشفي الثوري تشيرنوف للموافقة على القرارات الرئيسية للسلطة السوفياتية أي الاعتراف بشرعيتها. إلاّ أ نّ هذا الاقتراح سقط بأغلبية 237 صوتاً مقابل 138 صوتاً، مما دفع المندوبون البلاشفة إلى مغادرة الجلسة يصحبهم مؤيدوهم من البلشفيين الثوريين اليساريين، ولم يعودوا..
استمرت النقاشات في الجمعية التأسيسية حتى صباح 6 كانون الثاني (يناير) إلاّ أنّه قبيل الخامسة بقليل أعطيت الأوامر من قبل آمر الحرس الفوضوي جيليزنياكوف بوقف أعمال الجمعية التأسيسية، نظراً لتعب الحراس! فتفرق الأعضاء دون مقاومة، ولم يجتمعوا بعد ذلك أبداً، إذ حلّ مرسوم أصدرته السلطة السوفييتية جمعيتهم.
يذكر المؤرخون أنّ البلاشفة فرقوا في 5 كانون الثاني (يناير) تظاهرة مؤيدة للجمعية التأسيسية، إلاّ أنّ تلك التظاهرة لم تتكرر... وقابل الرأي العام أمر حل الجمعية التأسيسية ببرود ولا مبالاة.

ألم يكن من الأجدى تأجيل الانتخابات إلى الجمعية التأسيسية لمدة تتعرّف خلالها الجماهير في مختلف أصقاع البلاد بطبيعة النظام الجديد لتقول رأيها بعد ذلك في صناديق الاقتراع..؟! ألم يكن ضرورياً المحافظة على نظام التعددية السياسية والحزبية في روسيا الديموقراطية؟!
ألم يكن ضرورياً المحافظة على السوفييتات وتطوير دورها وليس الهيمنة عليها...؟!
لقد حرمت عملية حل الجمعية التأسيسية، وحظر نشاط الأحزاب السياسية في روسيا، على الرغم من جميع المبررات التي قدمها البلاشفة والتي كان أهمها نشاطه المضاد للثورة وهيمنة "التشيكا" على السوفييتات لحد امحائها، حرم ذلك النظام الجديد من الرئة السليمة للتنفس، ومن الدم المتجدد للحياة السليمة ، وخلق الممهدات للحكم الفردي والشمولي، الذي لا ينسجم مع التطور الصحي للمجتمع الاشتراكي، الذي تعد الديموقراطية المناخ الوحيد الملائم لتقدمه وتطوره.
وساعد في الوصول إلى هذه الحالة أ نّ البروليتاريا الروسية لم تعرف منذ ولادتها الحياة الديموقراطية بل سارت أولى خطواتها في ظروف الحكم القيصري المطلق، كمثال لأعتى الدول تسلطية لم تعترف بالمعارضة، ولم تسمح لأية معارضة أن تتشكل بشكل سليم، فتمرّست المعارضة البلشفية في مدرسة الاضرابات المحظورة بقوة القانون، وفي الحلقات السرية، والمطالب المحقة غير المعترف بها قانونياً، والتظاهر في الشوارع والصدام مع الشرطة و قطعات الجيش.. ولعل الظروف والمناخ السياسي الذي نشأت فيه البلشفية في روسيا، لعب دوراً في كيفية وصول البلاشفة إلى الحكم، والأسلوب الذي اتبعوه لاحقاً في إلغاء العمل والنشاط السياسي للأحزاب المعارضة في روسيا، والآثار الكارثية التي نجمت عن ذلك، وفي ذلك دلالة على الأثر الفظيع الذي يتركه عدم وجود معارضة تعمل بشكل قانوني سليم في أية دولة..
ومن المؤسف الاستنتاج بأن ذلك النظام الحلم حمل منذ ولادته مقدمات و بذوراً تشكل خطراً حقيقياً على مستقبله... ولا يمكن تفسير ما جرى لاحقاً في الاتحاد السوفييتي، بما في ذلك فرط عقده بمعزل عن تلك المقدمات. وزاد الوضع صعوبة اغتيال ف.ا.لينين و خسارة الثورة لقائد جسور متمرس يفهم جدلية التطور، ويتعامل بثقة معها، غير هّيّاب التراجع وهو القائل "ينبغي أن نعرف التراجع"، وهذا ما حصل عندما دعا إلى ســـياســة "النييب" الاقتصادية الجديدة لتحرير الاقتصاد من اقتصاد الثكنات، وفسح المجال أمام حرية النشاط الاقتصادي لجميع فئات المجتمع..

إنّ النظام الذي استبعد أو اضطر على استبعاد التعامل الديموقراطي مع مناؤيه. لم يفكر بالعودة إلى الأساليب الديموقراطية مع تغير الظروف والقضاء على العدو الداخلي.. هكذا انسحب أسلوب التعامل القمعي ليطال الكوادر التي قامت بالثورة. فغياب الديموقراطية يحمل في طياته الهلاك حتى للأداة القمعية ذاتها.
وإن دل غياب الديموقراطية والاستمرار في الأسلوب الديكتاتوري في الحكم حتى فيما بعد الانتصار على العدو الداخلي، فأنّه يدل على عدم استيعاب المنهج السليم في تحليل آلية التطور الاجتماعي والتفكير السليم ألا وهو المنهج الجدلي (الدياليكتيك) هذا المنهج الذي لم يستطع ستالين، الذي استلم الحكم مع غياب لينين، استيعابه: فاستمر بنفس الأسلوب الديكتاتوري من الحكم مما أفقد النظام الجديد عناصر قوته، وساهم في خلق الحواجز أمام جاذبيته، وتطوره.
لقد ألقى النظام الجديد بأهم سلاحين ضروريين للتطور السليم: الديموقراطية، والمنهج الجدلي (الدياليكتيكي) في التفكير. كما سلّم لأعدائه سلاح استغلال المشاعر الدينية و الروحية للبسطاء في محاربته، على الرغم من أنّه خطط لبناء مجتمع تسوده العدالة والسعادة وكل القيم الخيرة التي يدعو إليها الدين بما ينسجم مع الروح الإنسانية الصافية، مما ساعد في سهولة تغلغل الأعداء والفساد في مفاصله و تحين فرصة الانقضاض عليه باستمرار.
وعرف التاريخ أحد احتمالات ا لتطور لنظام طالما حلم خيرة مفكري البشرية ببنائه، وبني نظام عملاق ذو وزن دولي هام، على الرّغم من التفرد الذي أحاط نفسه به منذ ولادته "كان النظام السوفييتي قد اهتم باستمرار في الفترة الأولى التي تلت الاستيلاء على السلطة بأن يبرهن للعالم الخارجي على فرادته القصوى ...
تجلى ذلك على سبيل المثال في موقف المفاوضين الشيوعيين على سبيل المثال خلال المفاوضات في بريست - ليتوفسك الذي كان ينطلق من الحاجز ذاته: رفض تقيد الوفد بالتقاليد الدبلوماسية، للتعبير عن الطبقية البروليتارية العميقة للنظام السوفييتي، و يشكل خميرة تحريض بالنسبة للشعوب التي أنهكتها الحرب. و لقد كان لتركيب الوفد السوفييتي بالذات قيمة برهانية من هذه الناحية. فإذا كان قاده كامينييف و يوفي في المرحلة الأولى من النقاشات، فقد جرى استكماله بجندي وبحّار وعامل لم يكن لحضورهم من هدف غير تسجيل الطابع العامي للحكومة البلشفية.. والحال أنّه عندما كان المندوبون الشيوعيون مطلقو الصلاحية يمضون في سيارة إلى المحطة التي كان سينقلهم قطار منها إلى بريست ـ ليتوفسك، لفت أحد المندوبين الانتباه إلى الغياب المؤسف لممثل شرعي للفلاحين الروس. ولإصلاح ذلك تم مناداة موجيك (فلاح) كان يمر في أحد شوارع بطرسبورغ و طلب إليه الانضمام إلى الوفد للتفاوض مع الألمان. وقد وافق الفلاح بعد أن فارقته الدهشة، وحضر بالفعل المفاوضات التاريخية حيث تركت قدراته على ابتلاع الكحول من شتى الأنواع أعمق الأثر لدى النمساويين و الألمان.
ومع هذه الخطوات الأولى المتميزة الوجلة وضعت اللبنات الأولى لنظام سيكون له القرار في مستقبل البشرية في أهم المنعطفات التاريخية... وفي نفس الوقت سيترك آثار ممارسة لا رحمة لها تقضي على امكانية الاستمرار.. لاعتمادها على اللون الواحد و تجاهل حقيقة التطور المعقد المتشابك الذي يعترف بتعدد الألوان والنغمات، اعتمدت التمويه والتعتيم المتعمد في تقويم و تأريخ الأحداث لأغراض وصفت في حينه بمصلحة الثورة و كانت في حقيقة الأمر متنافية معها.. قد يجهل الكثيرون أن مكسيم غوركي على سبيل المثال لم يكن أثناء قيام الثورة البلشفية بلشفياً، أو مناصراً لها، بل انتقدها، و أغلق البلاشفة صحيفته.. في حين يرينا الاعلام اللاحق عكس ذلك!
ومنع العديد من الأدباء و المفكرين من نشر أعمالهم القيمة بحجة حماية الثورة والوحدة الداخلية في حين أنّه لو فسح المجال للغيورين على المصلحة الوطنية أن ينشروا همومهم وأخذ بتحذيراتهم، لجنبت الثورة والبلاد الكثير من الويلات التي أخذت أبعاداً دولية وإنسانية.. وهذا ما حرم الثورة البلشفية منذ ولادتها من عناصر قوتها واستمراريتها وأهمها البعد الإنساني الديموقراطي... أي إعطاء الأولوية لنمو الفرد و ليس تحويله إلى برغي في آلة عملاقة أو لبنة في بناء ضخم.. مما استتبع ممارسات بعيدة كل البعد عن الفكر البلشفي ألبستها لباساً مشوهاً استغله أعداؤها في صراعهم ضدها.. بالإضافة إلى إلقاء سلاح الدياليكتيك جانباً وهنا تكمن حقيقة الخسارة الفادحة للينين الذي استوعب الدياليكتيك ولم يكن يخشى التراجع على عكس القادة اللاحقين الذين ابتذلوا الدياليكتيك، مما أفقدهم الرؤية الشاملة الصحيحة للتطور السليم، وقادهم إلى مطبات قسر التطور التاريخي وفق الأمزجة والعواطف، ما يتطلب الثمن الباهظ لتلافي آثاره..
لا يجد المطلع على تاريخ الثورة البلشفية في روسيا، لا يجد عناء في ملاحظة التعتيم والتشويه الذي تعمدّه المؤرخون الموالون للديكتاتورية الستالينية، التي لم تكتف بالتصفية الجسدية للكادر الذي ساهم في قيادة و انتصار الثورة، بل وعمل على طمس دورهم التاريخي وآرائهم الخاصة بتطور الثورة. فتجاهل هؤلاء المؤرخون أي ذكر لدور و آراء تروتسكي الذي و صفه ستالين إبّان الثورة بأنّه منظم الثورة. كما طمست آراء المفكر الماركسي الروسي الأول بليخانوف الذي حذّر من مخاطر إقامة الاشتراكية في بلد متخلف اقتصادياً كروسيا. وأكد على ضرورة مرور روسيا في التشكيلة الرأسمالية بشكل سليم قبل بناء الاشتراكية.. كل ذلك يدل على أهمية أخذ آراء الجميع بعين الاعتبار عند تقويم تلك المرحلة والثورة للوصول إلى أفضل الاستنتاجات..
وعلى الرغم من كل الملاحظات المشروعة فلا بد من الإقرار بأنّ ثورة أكتوبر وما تلاها من نظام في روسيا، خلق وضعاً محلياً له أبعاد، وآثار دولية لا يمكن تجاهلها، أو دراسة التطور التاريخي بمعزل عنها.
هل يمكن تصور حالة البشرية بمعزل عن ثورة أكتوبر في روسيا؟
لنطلق العنان لخيالنا ولنحاول تكوين تصور مجرد عن عالمنا المعاصر وقد تحقق الاحتمال التاريخي الذي تمناه وحلم به كثر من المفكرين البرجوازيين ومؤيديهم : ألا وهو فشل ثورة أكتوبر الروسية في حينه.
يزعم البعض أن أحد الاحتمالات التاريخية الأخرى الممكنة جراء ذلك كان انتصار ثورات اشتراكية في دول رأسمالية غربية، وينجم عن هذا الاحتمال تبعات تاريخية عالمية شبيهة في الإطار الإنساني العالمي ببعض مفرزات ثورة أكتوبر الروسية. و لزيادة اللوحة تبسيطاً سننفي هذا الاحتمال أيضا ونتخيل العالم يتطور في المنحى الرأسمالي كما يريده المنادون بنهاية التاريخ!
وفي هذا الإطار لا يمكن نفي التناقضات في الدول الرأسمالية من جهة و فيما بينها من جهة أخرى، وما سينجم عن ذلك من تبعات أحد أشكا لها الحروب المحلية والعالمية، ومختلف أشكال النظم والبنى الاجتماعية الاستعمارية والعنصرية في هذه المنطقة أو تلك.
ما طبيعة التطور المرتبط بالرأسمالية ؟ أي حروب ستنشأ عنها ؟!
أثبت التاريخ العالمي قبل ثورة أكتوبر وبعدها أن الرأسمال يبحث عن أسواق له والحروب حتمية بين تلك الدول في إطار تنافسها على الأسواق الجديدة، وإن اختلفت أشكال هذه الحروب وأبعادها، وتبقى غايتها توسيع رقعة الدول ومناطق النفوذ التابعة لها وحاربت كل ما يعيق ذلك وخاصة استيقاظ الشعوب المستعبدة ومحاولة تحررها.
فنفي ثورة أكتوبر والثورة البلشفية سيقود إلى احتمال نفي إمكانية إيقاظ الشعوب في حينه، وفسح المجال الطبيعي أمام الدول ما قبل الرأسمالية للتطور السليم، مما كان سيجعل مسألة تحرير شعوبنا من الاستعمار قبض الريح ناهيك عن تدعيم استقلالها و تقدمها الاجتماعي. كما أن منحى التطور الداخلي للدول الرأسمالية كان سيأخذ خطاً آخر لولا انتصار الثورة البلشفية. فالعديد من الإنجازات الاجتماعية (مثل حق العمل، والطبابة والضمان الاجتماعي والشيخوخة، والتعليم) طبقت لأول مرة في بلد الثورة البلشفية ومن ثم انتقلت إلى الدول الرأسمالية و نسبت إلى الحضارة الغربية..
الجميع يعرفون دور شعوب بلد ثورة أكتوبر في دحر الفاشية وتحرير شعوب أوروبا، وفتح طريق تحرير الشعوب المستعبدة من الاستعمار بما فيها بلداننا، والمساعدات الهامة التي قدمها الاتحاد السوفييتي، بلد ثورة أكتوبر، إلى شعوبنا لتدعيم استقلالها و تحررها.
ومن الصعوبة بمكان تصور واقع بلداننا وما آل إليه العالم بمعزل عن ذلك النظام الذي ولدته ثورة أكتوبر، وعلى الرغم من جميع الملاحظات يجمع الوطنيون على تقدير دور ثورة أكتوبر على الصعيد العالمي، وما الهجوم على هذه الثورة من قبل الموروجين لنهاية التاريخ إلاّ تعبير عن الوساوس التي تكتنفهم. وستبقى هذه الثورة في وجدان جميع المنادين بالعدالة الاجتماعية، وناشدي الحرية، و السلام..
كل ذلك يبين كم هو غير محق من يصف ثورة أكتوبر و تاريخ بلادها بالأخطاء فقط.. لقد غيرت ثورة أكتوبر والثورة الفرنسية مستقبل البشرية وأثرتا بفاعلية في عالمنا المعاصر. و تبقى ثورة أكتوبر الحدث الرئيس في القرن العشرين، ومصدر فخر واعتزاز لمن يحلم بمجتمع الحرية والعدالة والسلام والسعادة.
و نظراً للدور الكبير الذي لعبته ثورة أكتوبر في إيقاظ الشعوب، و تحررها، ومساعدتها في بناء القاعدة المادية والعلمية لتطورها وتنشئة كوادرها الوطنية، فإنّه من البديهيات الأخلاقية أن تُخلَّد في الذاكرة الاجتماعية، في الوقت الذي تنفق فيه المليارات لتشويه سمعتها وطمسها من الذاكرة الإنسانية..
ومن المؤسف أن نجد البعض، حتى ممن استفاد من هذه الثورة، ومنهم من حصل على تعليم من بلد ثورة أكتوبر يقول: "ثورة أكتوبر ماتت! و من غير المجدي الكتابة عنها الآن!"
لهؤلاء، وأمثالهم نقول: تبقى الكتابة عن ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا وتخليد ذكراها وتعريف الأجيال بحقيقة تاريخها مهمة ملحة، لأسباب كثيرة أهمها أنّ الأسباب والهموم التي قامت من أجلها لم تُحَل بعد، ولم تلغ، بل هي باقية وتتطلب حلاً، ولن تحل البشرية أمراضها إلاّ بالطريق الديموقراطي الاشتراكي الإنساني. و كما ثورة العبيد والمظلومين بقيادة اسبرتاك لم تمت، وثورة الإسلام بقيادة محمد بن عبد الله لم تمت، والثورة الفرنسية لم تمت، ستبقى ثورة أكتوبر التي قادها لينين خالدة في ذاكرة الإنسانية...
طرطوس صيف 1997 شاهر أحمد نصر
[email protected]
الهوامش
ـــــــ
(1) من خفايا ثورة أكتوبر ـ ترجمة وإعداد شاهر أحمد نصرـ مطبعة قوس قزح ـ طرطوس ـ 1998 ص 9-21
* ليون تروتسكي. تاريخ الثورة الروسية. ترجمة: أكرم ديري - الهيثم الأيوبي.المؤسسة العربية للدراسات و النشر. بيروت الطبعة الثانية 1978
** انظر أعمال ف ا لينين : - المجلد السابع من الطبعة العربية .
*** اللينينية في ظل لينين. تأليف: مارسيل ليبمان. تعريب: كميل داغر. دار الحصاد. دمشق 1989