سمير أمين مستغرباً


هشام غصيب
2011 / 3 / 31 - 08:39     

إن فهم أي فكر وإدراك أهميته ومغزاه يستلزمان معرفة علاقته بالواقع التاريخي، بما في ذلك طبيعة القوى الاجتماعية التي أفرزته، والسياق التاريخي لنشوئه وتطوره، ووظائفه الاجتماعية، وأثره التاريخي. لكن الفكر هو جزء عضوي من واقعه التاريخي. فنحن لا نتعامل هنا مع كيانين مستقلين عن بعضهما نشآ بمعزل عن بعضهما، ثم دخلا في علاقة عرضية مع بعضهما، وإنما نتعامل مع كيان عضوي واحد متعدد الأطراف والمظاهر. لذلك، فإن جانبا كبيرا من العلاقة بين الفكر والواقع التاريخي لا يتبدى إلا في الفكر نفسه وعبر الغوص في أعماقه ودراسته بوصفه كلاً مترابطاً. نقطة البدء إذاً في معرفة هذه العلاقة هي دراسة الفكر نفسه بوصفه عضوية مترابطة والبحث في اتجاهاته وبناه وآلياته وافتراضاته ومسلماته والأهداف والمرامي الكامنة فيه. وهذا بالضبط ما نبغي فعله هنا. إذ سنحلل الفكر العربي الحديث بوصفه عضوية مترابطة معاً من منظور موقفه من عقيدة التنوير. وكما أسلفنا، فإن هذا الموقف يدخل بعمق في تحديد طبيعته ووظيفته التاريخية. فهو فكر يتأرجح بين التراث العربي الإسلامي والتراث الغربي الحديث بحكم طبيعة المجتمع الذي أفرزه. فهو يرتبط موضوعيا وبنيويا بالتراثين ارتباط تبعية، لأنه عجز حتى الآن عن الانفتاح عليهما. فلا سبيل إلى تحرر الفكر العربي الحديث من سطوة التراثين واكتساب استقلاله، بحيث يصبح قادراً على أداء دور فاعل في تحرر الأمة وتقدمها، إلا بالانفتاح على التراثين واستيعابهما نقديا، ومن ثم تخطيهما. وهذا يفسر كون الفكر العربي الحديث متمحوراً حول التراثين ويتحدد بالموقف منهما. وقد شرحت في المقالة السابقة المواقف الثلاثة من عقيدة التنوير التي يتأرجح بينها الفكر العربي الحديث وتدخل جوهريا في تكوينه: موقف الاستشراق، وموقف الاستشراق المعكوس، وموقف الاستغراب. وسنبدأ بدراسة الفكر العربي الحديث واستكشاف بناه ووحدته الداخلية ارتكازاً إلى هذا التبويب والتشريح.

وسنبدأ مسيرتنا الاستكشافية بالمستغربين الرئيسيين؛ أولئك الذين أخذوا على عاتقهم مهمة فهم الفكر الغربي الحديث برمته وبوصفه كلا عضويا مترابطاً، وجابهوا تحديه اللانهائي بكل جرأة وشجاعة، من أجل استيعابه نقدياً وتخطيه صوب نظام الحرية والرفاه. ومع أن المحاولات العربية لاستيعاب الفكر الغربي الحديث بدأت مبكرة (الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده، شبلي شميل، ثم سلامة موسى، العقاد، اسماعيل مظهر، رئيف خوري)، إلا أنها لم تثمر بالفعل فلسفيا وعلميا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي مقدمة المستغربين المعاصرين الذي قدموا اسهامات فعلية في فهم الفكر الغربي الحديث بوصفه كلا عضويا مترابطاً، ومن منظور عربي ناهض، نذكر: صادق جلال العظم، حسن حنفي، سمير أمين، عبدالرحمن بدوي، زكي نجيب محمود، إلياس مرقص. وأعظمهم على الإطلاق، في هذا المقام، ومن الناحية الفلسفية الفنية: الفيلسوف السوري، صادق جلال العظم.

وسأبدأ بإسهام سمير أمين في هذا المقام، مع أنه عالم في الاقتصاد السياسي أكثر منه فيلسوفاً، لأنه يعرض مسألة الفكر وطبيعته في سياق نظرية شاملة لتاريخ البشر.

إن سمير أمين عالم اقتصاد سياسي ذو شهرة عالمية. وموضوع بحثه في الأساس هو الاقتصاد العالمي، أو، قل، الرأسمالية بوصفها نظاماً عالميا. وقد انصبت دراساته في الأساس على آليات التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي. فتوصل إلى نتيجة مؤداها أن النظام الرأسمالي عالمي في جوهره، نشأ عالميا وتطور عالميا عبر مراحله جميعاً، وأنه نظام استقطابي في جوهره، بمعنى أنه يتشكل من مراكز متقدمة تمسك زمام الأمور في أيديها، ومن أطراف متخلفة تابعة تنصاع إلى مقتضيات المراكز، وأن الرأسمالية تعيد إنتاج هذا الاستقطاب بصور متنوعة حسب الطور الذي تمر فيه، وأن تقدم المراكز يتم على حساب الأطراف. وبدراسته المراكز والأطراف، توصل إلى نتيجة مؤداها أن الحالة السائدة في المراكز هي حالة الإصلاح، في حين أن الحالة السائدة في الأطراف هي حالة الثورة. لذلك نرى الديموقراطية الاجتماعية الإصلاحية الطابع سائدة في المراكز الرأسمالية، في حين أن اللينينية الثورية هي الروح السائدة في أطراف النظام الرأسمالي. فالثورة إذاً تبدأ في الأطراف ثم تنتقل إلى المراكز.

بيد أن هذه النتيجة هي النتيجة التي سبق أن توصل إليها كلاسيكيو الماركسية جميعا في السابق: توصل إليها ماركس وإنغلز إبان ثورات 1848، وتوصل إليها تروتسكي منذ عام 1905، وتوصل إليها لينين عام 1917. ما الجديد الذي جاء به سمير أمين في هذا الصدد، إذاً؟

إن سمير أمين لم يكتفِ بالقول إن الثورة تبدأ في الأطراف ثم تنتقل إلى المراكز. فقد اعتقد كلاسيكيو الماركسية بأن ثورة الأطراف لا تتعدى كونها الشرارة التي تشعل ثورة المراكز، وأن الاشتراكية لا يمكن أن تتحقق في الأطراف، وإنما تتحقق في المراكز. فالأطراف هي فتيل الثورة الاشتراكية لا أكثر ولا أقل. لكن المؤهل حقا لتحقيق الاشتراكية هي المراكز. إن الثورة تبدأ في الأطراف، لكنها تتحقق في المراكز القادرة فعلا على تحقيقها. أما بناء الاشتراكية في الأطراف فهو وهم يستبدل الإرادة الثورية بالواقع الموضوعي. بيد أن ستالين، في ظروف العشرينيات الصعبة، خالف هذه الفكرة ونادى بفكرة بناء الاشتراكية في الطرف الروسي وتوفير الظروف الدولية الملائمة لذلك. وبعد ذلك تبدأ الاشتراكية بالزحف من الأطراف الروسية إلى المراكز الغربية. وقد تبنى سمير أمين هذا التوجه الستاليني، فاعتقد بأن الثورة الاشتراكية تبدأ في الأطراف وتتجذر فيها، أي إن الاشتراكية تبنى في الأطراف لأن الأطراف هي المؤهلة فعلاً لذلك، ثم تبدأ بالزحف، ربما البطيء، صوب المراكز. فعدم اكتمال نمط الإنتاج الرأسمالي في الأطراف يجعل أمر تخطيه صوب الاشتراكية أكثر احتمالاً من تخطيه في المراكز، حيث توجد الرأسمالية في شكلها المكتمل.

لكن أمين لم يقف عند هذا الحد، وإنما عمد أيضا إلى تعميم هذه النتيجة على جميع أنماط الإنتاج وعلى التاريخ البشري برمته. وسخر هذا التعميم في مناهضة المركزية الأوروبية، التي تزور التاريخ العالمي باعتبار أوروبا محور الكون، وفي وضع تصور عام للفكر العالمي بعامة والفكر الغربي بخاصة. وبتعبير آخر، فقد سخر هذا التعميم لممارسة الاستغراب، كما سبق وعرفته.

ومفاد هذا التعميم أن كل نمط إنتاج رئيسي في هذا التاريخ هو نظام إنتاج استقطابي، أي إنه يتكون من مراكز وأطراف. كذلك، فإن تخلف الأطراف وعدم اكتمال نمط الإنتاج فيها يتيح الفرصة أمامها لتخطي نمطها الإنتاجي صوب نمط إنتاج أكثر تطوراً. لذلك، فإن التغيير التقدمي يبدأ دائما من الأطراف، ثم ينتقل ببطء صوب المراكز، فتنقلب الآية لتصبح المراكز أطرافاً والأطراف مراكز. ولئن كانت المراكز في الرأسمالية أوروبية غربية، فإنها كانت عربية شرقية في الأنماط الإنتاجية ما قبل الرأسمالية. لكن البرجوازية الغربية تحاول أن توحي أن أوروبا كانت المركز منذ بدء الحضارة البشرية، وأن مركزيتها طبيعية، أي تعود إلى طبيعة الأعراق الأوروبية وبيئتها الجغرافية الطبيعية. أما سمير أمين، فهو يؤكد أن المسألة مسألة تاريخية، وأن مركزية أوروبا الحديثة تعود إلى أن أوروبا كانت من الأطراف في الأنماط ما قبل الرأسمالية، الأمر الذي مكنها من تخطي الأنماط القديمة إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، فانقلبت مركزاً في هذا النمط. فمركزيتها الحديثة مرتبطة بالرأسمالية، وهي ليست سمة طبيعية ملازمة لها، وإن حاولت هي أن تسقطها على تاريخ البشرية برمتها.

ويقود هذا التصور سمير أمين إلى معارضة النظرية الماركسية الكلاسيكية بصدد أنماط الإنتاج الرئيسية وتعاقبها. إذ يرى أن هذه النظرية تعاني من كونها أسيرة المركزية الأوروبية، شأنها شأن النظريات البرجوازية الغربية. فهي قد بنيت على أساس التاريخ الأوروبي، وعلى أساس كونه تاريخا عالميا قائما بذاته بمعزل عن آسيا وإفريقيا. فحتى ماركس وقع في فخ المركزية الأوروبية، برغم منهجه العلمي المحكم وموضوعيته الأسطورية. ومن المعلوم أن التصور الماركسي الكلاسيكي يقسم تاريخ البشرية إلى الحقب الآتية، ارتكازاً إلى تاريخ أوروبا الغربية والجنوبية تحديداً (أثينا وروما، ثم البندقية وجنوا، ثم باريس ولندن وأمستردام وبرلين): المشاعية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، الشيوعية. أما سمير أمين، فيقوده تصوره للمراكز والأطراف إلى التحقيب الآتي للتاريخ البشري: (1) المشاعية. (2) نمط الإنتاج الخراجي. وفي طوره الأول، يكون المركز في المشرق العربي وتكون أطرافه في اليونان وروما، حيث يأخذ شكل نمط الإنتاج العبودي. أما في طوره الثاني، فتكون مراكزه في العالم الإسلامي، وتكون أطرافه في أوروبا الغربية، حيث يأخذ شكل نمط الإنتاج الإقطاعي. (3) نمط الإنتاج الرأسمالي، حيث المراكز أوروبية والأطراف آسيوية وإفريقية وأميركية جنوبية. (4) نمط الإنتاج الشيوعي. ونلاحظ هنا أن أمين اعتبر أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية التي سادت أوروبا الغربية (العبودية والإقطاع تحديداً) طرفية وهامشية في التاريخ. بل إنه اعتبرها أشكال ناقصة لنمط الإنتاج الخراجي، الذي اعتبره مكتملاً في المراكز العربية. وبالمقابل، فإن الماركسية الكلاسيكية اعتبرت هذين النمطين نمطين مركزيين مكتملين ورئيسيين، وعمدت إما إلى إغفال الشرق كليا، وإما إلى إخراجه من التاريخ بإلصاق نمط إنتاج ساكن لا يتطور فيه، أسمته نمط الإنتاج الآسيوي. بذلك، سلخت الماركسية الكلاسيكية أوروبا عن الشرق بصورة تعسفية، مع أنهما كانا ينتميان منذ بدء التاريخ إلى كيان تاريخي مترابط، ملصقة التطور والحراك التاريخي بأوروبا وملصقة الجمود والسكون والتكرار الممل اللاتاريخي بالشرق، وكأن التاريخ ملك أوروبا، وكأن للشرق تاريخه الخاص اللاتاريخي. أما سمير أمين، فيصر على إعادة ربط ما فصلته الماركسية الكلاسيكية تعسفاً. فهو يعيد ربط أوروبا بالشرق ويضعها على هامش الشرق في نظام العالم القديم. فيصبح ما أسماه ماركس نمط الإنتاج الآسيوي، وما يسميه أمين نمط الإنتاج الخراجي، هو الأساس المكتمل، ويصبح نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي في أوروبا شكلين ناقصين للأساس المكتمل. فهناك تاريخ عالمي واحد مترابط تحكمه قوانين تاريخية واحدة.