كلمات ثائر لبيتر كروبوتكين الفصل الأول


مازن كم الماز
2011 / 2 / 26 - 09:27     

بيتر كروبوتكين *

الوضع اليوم

من الواضح أننا نتقدم بسرعة نحو الثورة , نحو نهوض ثوري سيبدأ في بلد ما و سينتشر , كما في عام 1848 , إلى كل البلدان المجاورة , و عندما ستهز المجتمع القائم حتى جذوره , فإنها ستفتح أيضا ينابيع الحياة .
لإثبات رؤيتنا هذه , لا نحتاج لأن نستدعي شهادة مؤرخ ألماني شهير ( 1 ) , أو فيلسوف إيطالي معروف ( 2 ) , اللذين درسا تاريخنا المعاصر بعمق , لنصل إلى استنتاج أن ثورة كبرى حتمية نحو نهاية هذا القرن . علينا فقط أن نراقب المشهد الذي يمتد أمام أعيننا في العشرين سنة الماضية , و علينا فقط أن نراقب ما يجري حولنا .

عندما نفعل هذا , فإننا سنميز حقيقتين أساسيتين تصدران من الأعماق الغامضة لهذه الصورة : استيقاظ الشعوب , على عكس الفشل الأخلاقي و الفكري للطبقات الحاكمة , و المحاولات العنيفة لكن العاجزة للأغنياء لإيقاف هذا الاستيقاظ .
نعم , استيقاظ الشعوب !
في الجو الخانق للمصنع كما في ظلمة مطبخ مطعم ما , تحت سقف مخزن القمح كما في الممرات الضيقة الممتدة للمنجم , يتشكل عالم جديد في هذه الأيام . بين هذه الجماهير التي تعيش في الظل , التي احتقرتها البرجوازية بقدر ما كانت تخشاها , لكن التي من بينها ثارت دائما الروح التي ألهمت كبار المصلحين , تطرح أكثر مشاكل الاقتصاد الاجتماعي و التنظيم السياسي صعوبة واحدة تلو الأخرى , تناقش , و تعطى حلولا جديدة يمليها الإحساس بالعدالة . تنفذ هذه النقاشات إلى قلب علة المجتمع . توقظ آمالا جديدة , و تكشف عن أفكار جديدة .
تتمازج الآراء و تختلف إلى ما لا نهاية , لكن تياران من الأفكار يبدوان أكثر فأكثر وضوحا وسط هذا الضجيج من الأصوات : إلغاء الملكية الفردية و الشيوعية , و إلغاء الدولة , و استبدالها بالكومونة الحرة , و الاتحاد الأممي للعمال . يلتقي كلا الطريقين في هدف واحد : المساواة . ليس تلك المعادلة ( الصيغة ) المنافقة للمساواة , التي تكتبها البرجوازية على راياتها و قوانينها في سبيل استعباد أسهل للمنتجين , بل المساواة الحقيقية : أن يشترك الجميع في الأرض و رأس المال و العمل .
من غير المجدي أن تسعى الطبقات الحاكمة لخنق هذه المطامح و الرغبات باعتقال الناس و منع كتاباتهم . الأفكار الجديدة تنفذ إلى عقول الناس ** , تستحوذ على قلوبهم بنفس الطريقة التي استحوذت فيها أسطورة الأراضي الغنية و الحرة في الشرق على قلوب الأقنان عندما اندفعوا إلى صفوف الصليبيين . قد تنام الفكرة لبعض الوقت , إذا منعت من البروز إلى السطح , قد تختبأ داخل التربة , لكن هذا سيؤدي فقط إلى أن تنبعث من جديد أقوى مما كانت عليه . عليك فقط أن تنظر إلى الاستيقاظ الحالي الجديد للاشتراكية في فرنسا , الانبعاث الثاني في فترة قصيرة من 15 عاما . عندما تأتي الموجة فإنها ترتفع حتى أعلى فقط بعد فترة قصيرة . و ما أن تبدأ المحاولة الأولى لوضع الأفكار الجديدة موضع التنفيذ , فإنها ستقف في مواجهة كل واحد في كل بساطتها , بكل إشراقها . إذا نجحت محاولة واحدة فقط من هذه المحاولات ( كما جرى في ثورة أكتوبر في الماضي , و كما جرى اليوم في مصر و تونس – المترجم ) , عندها سيمنح الوعي بقوتها الخاصة الشعوب قوة دافعة بطولية .
لا يمكن لهذه اللحظة أن تتأخر طويلا . كل شيء يقربنا من النقطة التي يصل فيها الفقر نفسه , الذي يجبر غير المحظوظين على التفكير , إلى نقطة البطالة المفروضة , عندما سينتزع الإنسان , الذي بدأ بالتفكير بالفعل , من معمله و يلقى إلى الشارع , عندما سيتوصل بسرعة لمعرفة فساد و عجز الطبقات الحاكمة .
و في هذه الأثناء , ما الذي تحققه هذه الطبقات الحاكمة ؟
بينما تنتج العلوم الطبيعية شعورا قويا ( حماسة ) تذكر المرء بالقرن الأخير عندما كانت الثورة الفرنسية تقترب و عندما فتح المخترعون الشجعان آفاقا جديدة كل يوم لنضال الإنسانية ضد قوى الطبيعة المعادية , فإن العلم الاجتماعي – و هو اختراع برجوازي – يبقى صامتا و قانعا بالعمل وقفا لنظرياته البالية ( التي تجاوزها العصر ) .
لكن لعل الطبقات الحاكمة تحقق التقدم في الأمور العملية ؟ لكن الواقع بعيد جدا عن ذلك . إنها تستمر في التركيز بعناد على التلويح براياتها البالية , على الدفاع عن الفردانية الأنانية , و المنافسة بين الإنسان و الإنسان و بين الشعب و الشعب , و على السلطة الكلية للدولة المركزية .
إنهم ينتقلون من الحمائية ( نظام حماية المنتجات المحلية ) إلى التجارة الحرة , و من التجارة الحرة إلى الحمائية , من الرجعية ( المحافظة ) إلى الليبرالية و من الليبرالية إلى الرجعية , و من الإلحاد إلى الخرافة و من الخرافة إلى الإلحاد , دائما خائفة , دائما تنظر باتجاه الماضي , و حتى غير قادرة على معرفة أن أي شيء لن يدوم إلى الأبد . كل شيء حققته الطبقات الحاكمة كان في الواقع يتناقض مع ما وعدت به . لقد وعدت بأن تضمن لنا حرية العمل لكنهم جعلونا عبيدا للمصنع , للمالك , لمراقب العمال . أخذوا على عاتقهم مسؤولية تنظيم الصناعة , لكي يضمنوا سعادتنا ( رفاهنا ) , لكنهم أعطونا أزمات لا نهاية لها مع كل ما أدت إليه من فقر , لقد وعدونا بالتعليم لكننا في النهاية اضطررنا للخضوع ( أو لنختزل إلى ) للمهمة المستحيلة بتعليم أنفسنا , وعدونا بالحرية السياسية , لكنهم قادونا من رجعية إلى أخرى , وعدونا بالسلام , لكنهم أعطونا حروبا لا تنتهي . لقد فشلوا في كل ما وعدوا به .
لكن الناس قد تعبوا من هذا كله , و بدؤوا يسألون بعضهم البعض إلى أين انتهوا , بعد أن تركوا أنفسهم خاضعين و محكومين كل هذه الفترة من قبل البرجوازية . يمكن أن نشاهد جواب هذا السؤال في الوضع الاقتصادي الذي يؤثر على أوروبا اليوم . الأزمات التي تنتج الكوارث أصبحت مزمنة . أزمة القطن , الأزمة في صناعة المعادن , أزمة صناعة الساعات , كل هذه الأزمات تحدث اليوم في نفس الوقت و تصبح دائمة .
في هذه اللحظة , يمكن للمرء أن يعد عدة ملايين من البشر دون عمل في أوروبا , عشرات الآلاف ينتقلون من مدينة إلى أخرى , يتسولون كي يعيشوا أو يخلون بالأمن مهددين و مطالبين بالعمل أو الخبز ! كما كان فلاحو عام 1787 يهيمون بالآلاف على الطرقات دون أن يجدوا في الأرض الخصبة لبلادهم , التي كانت الأرستقراطية تستولي عليها , قطعة أرض ليزرعوها أو معزقة ليستخدموها , فإن العمال اليوم ينتظرون بأيدي عاطلة عن العمل لأنهم لا يستطيعون الحصول على المواد و الأدوات اللازمة للإنتاج لأنها في أيدي قلة من الكسالى .
تترك صناعات كبرى لتموت , مدن كبرى مثل شيفيلد تتحول إلى أماكن غير مأهولة . هناك فقر في انكلترا , لأن "الاقتصاديون" قد طبقوا مبادئهم هناك بشكل دقيق , لكن هناك أيضا فقر في الألزاس و جوع في إسبانيا و إيطاليا . البطالة موجودة في كل مكان , و مع البطالة , يصبح الاحتياج البسيط فقر حقيقي , يكبر الأطفال المصابون بفقر الدم و النساء 5 سنوات في شتاء واحد , يكتسح المرض صفوف العمال بأعداد هائلة ! هذا ما حققناه تحت حكم الرأسماليين .
و يحدثوننا عن زيادة الإنتاج المفرطة ! زيادة الإنتاج المفرطة ؟ عندما لا يمتلك عامل المنجم الذي يكوم جبالا من الفحم ما يدفعه ليوقد النار في منزله في عز الشتاء ؟ عندما لا يستطيع النساج الذي ينتج أميالا من القماش شراء قمصان لأطفاله بملابسهم البالية ؟ عندما يعيش عامل البناء الذي يبني القصور في حظيرة ( أو سقيفة ) , و عندما لا تملك الخياطة التي تنسج أجمل الملابس لمتاجر الملابس الأنيقة إلا شال بالي لتحمي نفسها في كل الأحوال الجوية ؟
هل هذا ما يسمونه تنظيم الصناعة ؟ يمكن للمرء أن يسميه عوضا عن ذلك بالتحالف السري للرأسماليين لإخضاع ( تدجين ) العمال بواسطة الجوع .
قالوا لنا أن رأس المال , أن نتاج عمل كل الإنسانية الذي تراكم في أيدي قلة , يهرب من الزراعة و الصناعة بسبب نقص الثقة . لكن أين يجد موقعه , بعد أن غادر خزائن الأشياء الثمينة تلك ؟
في الواقع , إنه يملك عدة وجهات مفيدة . يمكنه أن يذهب لكي يجهز الحريم للسلطان , يمكنه أن يمد الحروب , أن يدعم الروس ضد الأتراك , و في نفس الوقت الأتراك ضد الروس . أو عوضا عن ذلك أن يستخدم لإقامة شركة مساهمة , لا لينتج أي شيء , بل فقط لينتهي بعد سنتين إلى إفلاس فضائحي ما أن ينسحب الأشخاص المهمين ماديا , آخذين معهم الملايين كمكافأة على "فكرتهم" هذه . أو أيضا أن يستخدم رأس المال ليشيد سككا حديدية لا فائدة منها , في غوثارد , في اليابان , أو عبر الصحراء , في حال قام آل روتشيلد بتمويلها , لكي يجني المهندسون و المتعاقدون عدة ملايين لكل منهم .
لكن قبل أي شيء يمكن لرأس المال أن ينغمس في المضاربة , اللعبة الكبرى لتبادل الأسهم . يقامر الرأسماليون على زيادات مصطنعة في سعر القمح أو القطن , إنهم يقامرون اعتمادا على السياسة , على ارتفاع الأسعار التي تثيرها شائعة ما أو إصلاح ما أو ملاحظة دبلوماسية ما يتم تسريبها , و في الأغلب – نحن نشاهد هذا كل يوم – ينخرط موظفو الحكومة أنفسهم في هذه المضاربات .
المضاربة تقتل الصناعة – لهذا يسمونها الإدارة الذكية للبزنس ! لهذا السبب يقول لنا الرأسماليون أنه علينا أن ندعمهم !
باختصار , إن الفوضى الاقتصادية في ذروتها اليوم . لكن لا يمكن لهذه الفوضى أن تستمر إلى ما نهاية . لقد تعب الناس من الأزمات التي يستثيرها طمع الطبقات الحاكمة , إنهم يريدون أن يعيشوا من العمل , لكن لا أن يعانوا لسنوات من الفقر , أن يحصوا على شيء من المتعة لكن ليس من الإحسان المهين , ليس في سبيل عامين أو ثلاثة من العمل المضني , المضمون أحيانا , لكن الذي يدفع مقابله دائما أجر ضئيل .
أصبح العامل مدرك لعجز الطبقات الحاكمة , عجزها عن فهم آماله هو , عجزها عن إدارة الصناعة , عجزها عن تنظيم الإنتاج و التبادل .
سيعلن الناس قريبا عن خلع ( عزل ) البرجوازية . سيأخذون الأمور في أيديهم ما أن تأتي اللحظة المناسبة .
و لا يمكن لتلك اللحظة أن تكون بعيدة , طالما أن الصعوبات الشديدة التي تنخر في الصناعة سوف تؤدي إليها , و أن قدومها سيعجل به انهيار الدولة , انهيار دخل في أيامنا هذه مرحلته التمهيدية النهائية .


* بيتر كروبوتكين : يعتبر أهم منظري اللاسلطوية ( الأناركية ) الشيوعية , لا سلطوي روسي عاش بين 1842 و 1921 .

** الناس , هكذا ترجمت كلمة People و التي قد تعني الشعب أيضا , خاصة و أن استخدام لفظ الشعب كان دارجا عند كتابة الكتاب لكني فضلت ترجمتها بالناس

نقلا عن //dwardmac.pitzer.edu/anarchist_archives/kropotkin/words/wordsofarebel1.htm

تعليق المترجم : كسوري , يمكنني أن أقول بكل بساطة أن ما وصفه كروبوتكين هو في نفس الوقت وصف دقيق , للغاية حتى في أدق التفاصيل , للوضع في بلدي سوريا , و أزعم بما لدي من اطلاع متواضع , أنه ينطبق أيضا على الوضع سابقا في مصر و تونس , و في ليبيا , و في العراق و اليمن و المغرب و الجزائر , بل ربما في أوروبا و حتى أمريكا نفسها .. إن وعود الطبقات الحاكمة انتهت إلى كوابيس حقيقية , إلى أزمات مستفحلة تلتهم أرواح و أجساد الملايين , الأرض التي يحتاجها الفلاح موجودة هناك و كذلك المعمل الضروري لإنتاج معيشة العامل , لكنها ملك للبرجوازية , و للبيروقراطية الدولتية , و نتاج عمل الملايين ليس ملكهم , إنه يخلق ثروة القلة لا حياة كريمة للملايين , ما سيأتي يمكن أن نعرفه من أحداث ثورات مصر و تونس و ليبيا و اليمن , الخ , لا تملك الطبقات الحاكمة اليوم إلا القمع و الخداع , لكن لأسباب أنتجتها هي نفسها فإن كل وحشية قمعها و همجيته و كل فذلكة كذبها و خداعها لا يؤدي إلا زيادة الجيشان في قلوب المهمشين و المقهورين ..... فقط لزيادة نيران الثورة اضطراما ....

ترجمة : مازن كم الماز