الإقتصاد السياسى للتخلف (1)


محمد عادل زكى
2011 / 2 / 25 - 00:07     

______________________________
الإقتصاد السياسى للتخلف (الجزء الأول)
_____________________________
"ومِن الغَلطِ الخََفّىّ فى التَاريِّخ الذُهول عَنْ تَبَدلِِ الأحوَالِ فى الأمم والأجْيَّال بتبدلِِِ الأعْصَار ومُرور الأيام وهو داءُُ شَديدُ الخََفاء إذ لا يَقع إلا بَعدَ أحقابٍ مُتطاولة فلا يَكاد يَتَفََطنُ لهُ إلا الآحَاد مِن أََهلِِ الخََليّقةِِ والسببُ الشَائع فِى تَبَدل الأحوَال والعوُائدِ أنَ عوائدَ كُُل جِيلٍٍ تابعةٌٌ لِعوائدِ سُلطانِهِ كمَا يُقال فِى الأمثَال الحُُكْْمِيّة النَاس عَلى دِينِ المََلِكِ وَأهل المُُلك أو السلْْطََان إذْْ استوْلُُوا علّى الدّولةِ والأمْر فلابُد مِن أن يَفزَعوُا إلى عوائدِ مَن قََبلَِهم ويأخُذوا الكََثيرَ مِنهَا ولا يُغفلون عَوائدَ جِيلِهم مَع ذَلك فََيقََعُ فِى عَوائدِ الدْولََةِ بَعضُُُُ المُُخالََفة لعَوَائِدِ الجِيلِِِِ الأول فََإذا جَاءت دَولةٌٌ أخْرَى مِن بَعدِهم مَزَجَت مِن عَوائِدِهم وعَوَائِدِهَا وخَالََفتْْ أيّضاًً بَعض الشيّء وَكََانتْ للأُُولى أََشدُ مُخَالفة ثُمَ لاَ يَزالُ التدريجُ فِى المُُخالفةِ حتْْى يَنْْْتَهىّ إلى المُُبايّنةِِ بالجُُملة فمَا دَامَت الأمْمُ والأجيّالُ تَتَعاقبُ فِى المُُلكِ والسُلطان لا تَزَالُ المُُخَالفة فِى العَوائدِ والأحوَال واقِعَة والقيّاس والُمُحَاكََاة للإنسانِِ طبيعة مَعرُوفة ومِن الغَلطِ غََير مَأمُونَة تُخرجُهُ مع الذُهول والغَفلة عَنْ قََصدِهِ وتَعوَج بهِ عَن مَرامِه فََلرُبَما يَسْمُعُ السامعُُُُُ كثيراًً مِن أخباِر الماضيَّن ولا يَتَفََطنُ لما وَقعَ مِن تَغيُّر الأحوَالِِ وإنْقِلابِها فيُُُجْريّهَا لأول وَهلةٍ على مَا عَرفَ ويَقِيسَهَا بما شَهِِد وقد يََكونُ الفرقُ بيّنَهُما كََثيراًً فيَقُعُ فِى مهواةٍ مِن الغَلطْْ."
العلامة إبن خلدون
تمهيد
الإقتصاد السياسى للتخلف. عنوان يوحى، بل يُشير، إلى أنَ هناك ثمة عِلم إجتماعى قََائم وقد إكتملت أركانه وتوافرت شروطه، أى مُنجَز، له مِن الأدوات والأليات ما مِن شأنه فك شفرة ظاهرة إجتماعية معينة، مع تَقديم التفسيرات الصحيحة لها بشكلٍ عِلمى، ويُمكن مِن ثم، كما وُجِد إقتصَاد سياسى للتخلف، أن يُوجد إقتصاد سياسى للتَنمية، ومِن ثم إقتصاد سياسى للتطور الإجتماعى، وإقتصاد سياسى للتَضخم، وإقتصاد سياسى للأزمة النقدية العَالمية، وإقتصاد سياسى للتبادل غََير المتكافىء، وإقتصاد سياسى لحقوق الإنسان. وهكذا، إذ توجد ظاهرة ما على الصعيد الإجتماعى، أهم ما يميزها عنصر التكرار، فى حاجة إلى تفسير عِلمى على الصعيد الإجتماعى فيُستَدعَى الإقتصاد السياسى بأدواته وألياته الُمُنجَزةَ؛ كى يَتدخل مُقدِماً التفسير، القَابل بطبيعتهِ للنقد والتقييم؛ حاله حال كُُُل ما هو إجتماعى.أضف إلى ذلك، من جهةٍ أخرى، كََونه، أى العنوان، يتألف مِن مصطلحين: الإقتصاد السياسى، والتخلف، وكُُل واحدٍ منهما لا يَقل عن الآخر فى مقدار الرؤية الضبابية والفََهم الإنطباعى المُُرتبك، فالأمر إذاًً يتعدى، ويَجب أن يتعدى، حدود عُنوان كتاب إلى لزوم النقد والتقييم دون مُسلَمَات. يَتعدى حدود عنوان موضوع لأطروحة إلى وجوب البدء مِن ترسيم حدود العِلم، الإقتصاد السياسى، وترسيم حدود الظاهرة، التخلف، وذلك ليس مِن خلال التعريفات التى لا تُقدم سوى الأفكار الجََامدة والعَازلة، بل من خلال التحديدات التى تَبسط رَحَابة فى الوعى وتُرشد إلى الفكرة الهيكلية. ولذلك يتعين من البداية أن أُُعلن ماذا أقصد، أولاًً: بالإقتصاد السياسى، وماذا أقصد، ثانياًً، بالتخلف، وماذا أقصد، ثالثاًً، بقولى: الإقتصاد السياسى للتخلف.
أولا: الإقتصاد السياسى:
وأعنى به: ذلك العِلم الإجتماعى الذى يَنشغل بدراسة النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة، والتناقُُضات الكامنة فيها، والتى تَتَطورعلى أساسِها الظاهرةُُ الإجتماعية مَحل البحث.وأقصد تحديداًً بالإقتصاد السياسى هنا، وبمنتهى الوضوح، ذلك الجسم النظرى الذى نتَجَ عن نقد ماركس للرأسمالية، وإنما بإعتبار الجسم النظرى السابق على نقد ماركس تنظيراًً رأسمالياًً للرأسمالية نفسها. وهو بتلك المثابة لا وجود له، كعِلمٍ مُستَقل، قََبل هيّمنة رأس المال، على الصعيد الإجتماعى العالمى، كََظاهرة؛ ويرجع ذلك لسيادة علاقات إنتاج شفافة لم تكن لتسمح بتبلور فائض فى القيمة، فى المرحلة التاريخية السابقة على الرأسمالية. المرحلة التى لم تتعرف بعد على عملية بيع قوة العمل، إذ أن مُبادلة العمل بالمال إنما تُمثل أحد الشروط التاريخية للرأسمال، وتتطلب أمرين: أولهما: مُبادلة قوة العمل بالمال؛ غير المعروفة فى الأنماط الإنتاجية السابقة، لإعادة إنتاج المال نفسه وتحويله إلى قيم كَمية يَستهلكها المال، لا كَقيم إستعمالية للإستمتاع بها، بل كََقيم إستعمالية للمال نفسه. أما الأمر الثانى: فهو فصل العَمل الحُر عن الشروط العامة للإنتاج وتَجديد الإنتاج، أى فصل المنتِِِِِِِِج، عن المنتَََََج. عن مواد العمل ووسائل العمل، فى مرحلة أولى، ثم فصله عن الإنتاج نفسه، فى مرحلة ثانية، وهذا يَعنى، مِن ضمن ما يعنى، ضرورة (فصل العامل عَن الأرض) فى مرحلة أولى، كما يعنى أيضاًً، فى مرحلة ثانية، إنحلال كُُُل مِن المِلكية الصغيرة الحُُرة للأرض والملكية المشاعية. إذ أن ضمن إطار هذين الشكلين(الملكية الصغيرة، والمشاعية الحرة)وهو ما يَتَصادم مع الشروط الموضوعية للرأسمال، تكون العلاقة بين العامل والشروط الموضوعية لعمله، علاقة مِلكية"شفافة"وعلى ذلك يتمتع العامل بوجود موضوعى مُستقل عن عمله، ويرتبط الفرد بنفسه بصفتِه كمالك، أى كََسيد لشروط تَجْديد الإنتاج، دون التعرف التاريخى على مُبادلة العمل الحُُر بالمال.حتى تلك المرحلة التاريخية، وما بها مِن تفصيلات وإختلافات تَخص، مثلاًً، عَمل العبد فى اليونان القديمة، أو عَمل القن فى العصور الوسطى الأوروبية، لم يَكن مِن المتصوَر الحديث عن إقتصاد سياسى كََعِلم إجتماعى، له مِن الأدوات والأليات ما مِن شأنه تقديم التفسير العِلمى للظواهر السائدة آنذاك؛ إذ لم تكن الظواهر الإجتماعية مِن الغموض أو التعقيد بما يستدعى ذلك؛ فلم تكن الخيرات المادية المعدة للإشباع المباشر كى تطرح فى الأسواق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فليس هناك ثمة سلع مُعَدّة بالأساس للطرح بالأسواق!! وليس هناك ثمة ربح يَتَكون فى حقل الإنتاج!! وليس هناك ثمة إقتصاد مُبادلة نقدية معممة!! ومِن ثم ليس هناك من تفاوت بين كمية السلع المطروحة وبين كمية النقود المتبادلة بتلك السلع!! وليس هناك هذا الفائض فى القيمة!! وليس هناك تلك الأرباح التى تَميل إلى الإنخفاض كُُلما زاد رأس المال المُُضَخ!! ولم يكن هناك كذلك هذا الجيش مِن الإحتياطى العاطل فى حقل الصناعة!! وبالتبع لا يُمكن الحديث عن مُزاحمة بين العامل، المغترب، وبين الألة!! وبالتبع كذلك لم يكن ثمة صراع جدلى بين العمل المأجور وبين الرأسمال!! بل ولم يَكُُن ثمة رأس مال، يفرض نفسه لا كمبلغ مِن النقود، بل يُهيمن كعلاقة إجتماعية؛ إلى آخر تلك الظواهر الإجتماعية الناشئة والمتكررة، بما يَفرض ظهور العِلم المفسر، والقوانين الإجتماعية الحاكمة.
ثانياًً: التخلف الإقتصادى:
وأريد به: ظاهرة إجتماعية، معناها تَسرب القيمة الزائدة مِن الداخل إلى الخارج، و/أو مِن أسفل إلى أََعلى. أى مِن داخل بلدٍ ما إلى خارجها، و/أو من طبقةٍ أدنى(عادة ما تعمل فى أشق الأعمال وربما أحقرها) إلى طبقةٍ أعلى فى بلدٍ محدد؛ وحينئذ نكون بصدد تخلف بعض الأجزاء المكونة لإقليم دولة ما، وغالباًً ما تُعتبر تلك الأجزاء هامشية، وأظن أن الحد الأدنى المتيقن منه هو أن التخلف الداخلى النسبى لم يُطرق بعد، كما أنه لم يَزل مندمجاًً فى مباحث متعددة موزعة فيما بين العلوم الإجتماعية المختلفة، دون أن يَستقل كمبحث منهجى فى الإقتصاد السياسى كعِلم إجتماعى، وأفضل ما تحقق بشأنه، حتى الأن، هو التعرف عليه، عرضاًً، فى حقل النمو غير المتوازن كأحد خصائص الرأسمالية؛ ومِن جانبنا لن ينشغل طرحنا الحالى بالتخلف النسبى بشكل رئيسى، وإن كان مِن الممكن، فى سياق الدرس، إستخلاص مجموعة أفكار عامة بشأنها. أُُعيد هنا طرح التخلف (اللفظ والمعنى والمظهر) وإنما ليسَ إبتداءً مِن تاريخ أوروبا التى أرَخت للعالم إبتداءًً مِن تاريخها، تاريخها الرابط بين التقدم والتصنيع، فلم تزل الصناعة تحتل موقعاً مميزاً فى ذهنية التفكير السائد والنظرية الرسمية، دونما مبرر إلا هذا التأثير الموصول للكيفية التى فَهِِمَت، وأَفهَمَت، بها الذهنية الأوروبية ظاهرة التخلف.
أُُعيد هنا الطرح، متجاوزاًًً التشويش التاريخى المبكر على فهم ألية العلاقات الإقتصادية، فى الداخل وفى الخارج، كى أفهم التخلف، فى مرحلة تالية للفهم على أساس مِن التسرب فى القيمة الزائدة، إبتداءً مِن الهيكل كََكُل وعلاقاته الجدلية(زراعة، وصناعة، وخدمات) وليس الصناعة بمفردها. تتبدى هنا، على عكس ما يُراد تماماً، القيمة الزائدة بكامل هيئتها الفاتنة!!
إن الأمر غير الممكن تصوره، وجود مجتمع ما كف عن الإنتاج أو توقف عن الإستهلاك، وإنما يتعين الإنتاج وتجديده بإستمرار، وكذلك الإستهلاك، والمجتمع لا يُنتج فقط على صعيد القطاع الصناعى، إنما يُنتج على صعيد الهيكل ككُل(زراعة، وصناعة، وخدمات) وللتبسيط فنفترض أن المجتمع فى لحظة تاريخية معينة وتحت ظروف إجتماعية محددة، يدخل العملية الإنتاجية على صعيد "الكُل" الإقتصادى بمبلغ (3) مليارات وحدة، موزعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة بواقع (1) مليار لكُل قطاع، وفى نهاية الفترة وبإفتراض أن القيمة الزائدة المنتَجة فى القطاعات الثلاثة= 100%، فسيُضاف إلى الثلاثة مليارات، ثلاثة مليارات أخرى، كقيمة زائدة. والسؤال أين تذهب تلك القيمة الزائدة؟ هل تُضَخ فى مسام الإقتصاد القومى، من أجل تنميته؟ أم تتسرب إلى الخارج لتغذية صناعات (غذائية، إنتاجية، إستهلاكية،....) تُنتَج فى المراكز المتقدمة من الإقتصاد الرأسمالى العالمى؟ المؤكََد، بعد إستقطاع الربح والريع والأجر، أن التسرب، وكما سنرى، هو الأقرب إلى الدقة!! التسرب الذى تدعمه الطبقات الحاكمة فى الأجزاء المتخلفة، والتى تُمثل إمتداداًً للظاهرة الإستعمارية. فتلك الطبقات بما يحققه لها تسرب القيمة الزائدة على مستوى القطاعات الثلاثة المنتِجة من موالاة للأجزاء المتقدمة، فإنه يصبح من اللازم حرص تلك الطبقات على إبقاء الوضع الحالى دون أى تغيير يَسمح بعدم تسرب تلك القيمة الزائدة إلى خارج مسام الوطن.وإننى إذ أُعيد الطرح على هذا النحو، أشير إلى أننى لست مِن هؤلاء الذين يَعتبرون ضعف أليات الإنتاج بمثابة التعبير المرادف للتخلف؛ وذلك لأنه، برأييّ، طالما ظلت القيمة الزائدة فى حالة تسرب، عُد البلد فى حالة تخلف. وأقصد بالتخلف فى هذا السياق عدم إستخدام الفنون الإنتاجية الأكثر تقدماًً مِن أجل إنتاج العناصر المكونة للإنتاج القومى خلال فترة زمنية معينة(الزراعة، والصناعة، والخدمات). ولمعالجة تلك الظاهرة(التخلف) يتعين إيقاف هذا التسرب، ومِن ثم إمكانية التراكم، الممَكِن مِن إستخدام الفن الإنتاجى الأرقى فى الحقول الثلاثة. الأمر الذى يستلزم مجموعة مِن الإجراءات تخص ألية التسرب ذاتها، أبسطها فك الروابط.إن تناول التخلف على أساس مِن كونه تَسرب القيمة الزائدة مِن الداخل إلى الخارج، و/أو مِن أسفل إلى أََعلى. أى مِن داخل بلدٍ ما إلى خارجها، و/أو من طبقةٍ أدنى إلى طبقةٍ أعلى فى بلدٍ مُحدد، إنما أضعه كمُحدِد للتخلف ذاته، وليس كََمظهر يفصِح عن وجوده. إننى أفهم تسرب القيمة الزائدة على أساس مِن أن عملية تسربها تلك، دون التراكم، إنما تَتَرادف مع عملية التخلف ذاتها.
وتكمن الأهمية فى تطوير مفهوم التخلف هنا فى غلق باب النقاش غير المجدى، فلن يكون الحديث عن الإستعمار العسكرى ذا بالٍ كسبب مِن أسباب التخلف، بمعنى أدق إستمرار التخلف، وذلك لأنه لا يوجد إستعمار عسكرى الأن كقاعدة عامة، كما أن التعامل مع التخلف كأحد أسباب الإستعمار العسكرى، إنما يجرنا نحو الطريق الخاطىء للتعامل مع الظاهرة، ويُصار حينئذ إلى القول بأن معالجة ظاهرة التخلف على الصعيد الإقتصادى والأجتماعى والسياسى والثقافى، إنما ترتهن كعملية إجتماعية مع مكافحة الإستعمار!! أية غيبوبة تلك. فإذ ما كان للإستعمار الدور الفاعل فى تشويه الهياكل الإقتصادية للدول المستعمَََرة، فإن الدول المستعمِِِرة، ككُُُل، فى حالة تقدم، والدول المستعمَرة، ككُُُل، فى حالة تأخر. لماذا؟ هل لأن الإستعمار لم يزل يعمل بنفس الألية التى تجعل الدول المستعمَرة مصدر السلعة الواحدة؟ بالمشاهدة المنطقية، لا وجود لإستعمار، والدول المتقدمة، المستعمِرة سابقاًً، تأخذ فى التقدم. والدول المتأخرة، المستعمَرة سابقاًً، تأخذ فى التأخر. لماذا؟ لأن الأخيرة لا تتمكن مِن إستخدام "القيمة الزائدة" فى تراكم رأسمالى يُعد شرطاًًً موضوعياًًً لإتخاذ قرار الإنتاج، بل تسرب تلك القيمة هو الأداء المهيمن.
التسرب
تُعلن تلك الظاهرة، أى التسرب نحو الخارج، بوجه خاص عن نفسها بوضوح شديد على صعيد الخليج العربى(2)، فوفقاًً لتقرير إتحاد غرفتى الصناعة والتجارة الهندية، فإن بعض القطاعات الرئيسة فى الهند تُشكل عامل جذب رئيسى لرأس المال العربى (البترودولار) مثل البنية التحتية بإجمالى إستثمارات تبلغ (112 مليار دولار) وصناعات الأغذية (900 مليون دولار) والعقارات (700 مليون دولار)ولقد أعلنت شركة "ميتال إنفست" الروسية للحديد والصلب (رأس مال قومى) أنها تنوى تعزيز تواجدها فى منطقة الخليج العربى، وتتفاوض "ميتال إنفست" التى تملك نسبة 80% مِن شركة "الحمرية للفولاذ" التى تتخذ مِن إمارة الشارقة مقراًً لها مع عدد مِن المستثمرين فى المملكة العربية السعودية؛ كما أعلنت الشركة الروسية مؤخراًًً عن عزمها إنشاء مصنع جديد فى الإمارات بتكلفة تصل إلى 320 مليون دولار أمريكى. وبوجه عام، فلا يُمكن إنكار أن العلاقات التجارية البينية بين دول الاتحاد الأوروبى، ودول مجلس التعاون الخليجى هى لمصلحة الأوروبيين، إذا ما إستثنينا النفط الذى هو فى الأصل ثروة طبيعية وليس مادة تصنع فى المعامل(والذى يُنتَج للعرب، ويُُقال مجازاًً الدول المنتِجة) فالخليج العربى لا يَشترى فقط إحتياجاته مِن الغرب بل يُوظف أمواله لديه بشكل يَفوق ما يَشتريه منه وما يَستثمره بداخله، يَتضح ذلك بتتبع الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الأوروبى (يوروستات) التى بينت أن الإستثمارات الأجنبية المباشرة مِن الدول الست الأعضاء بمجلس التعاون الخليجى، إلى الإتحاد الأوروبى الذي يَضم 27 عضواًًً، قفزت إلى 63.2 مليار يورو فى عام 2008، مقابل 2.3 مليار يورو فى عام 2007، بينما سجلت الإستثمارات الأوروبية فى دول مجلس التعاون الخليجى إرتفاعاًًً، فإنها لم تصل إلا إلى 18.9 مليار يورو فى عام 2008، مقابل 4.6 مليار يورو فى عام 2007 أى أن الفارق لمصلحة أوروبا هو 44.3 مليار يورو. وكان أكبر إستثمارات دول مجلس التعاون الخليجى مِن نصيب لوكسمبورج (أحد دول البنلوكس، 455 ألف نسمة لأرقام 2004) حيث وصلت إلى 59.3 مليار يورو. وكان لدولة الإمارات العربية المتحدة حصة الأسد مِن هذا المبلغ حيث بلغت قيمة إستثماراتها 58.5 مليار يورو، تليها قطر بقيمة 641 مليون يورو، والسعودية بقيمة 134 مليون يورو، والبحرين 110 ملايين يورو، والكويت بقيمة 23 مليون يورو. وإحتلت لوكسمبورج أيضًا صدارة المستثمرين فى دول مجلس التعاون الخليجى حيث بلغت قيمة إستثماراتها 12.7 مليار يورو، تليها الدنمارك بقيمة مليار يورو، والمملكة المتحدة بقيمة 867 مليون يورو، وفرنسا بقيمة 711 مليون يورو، وألمانيا بقيمة 236 مليون يورو. وطبقاًً للتقرير كذلك فإن تدفقات الإستثمار الأجنبى المباشر مِن خارج الإتحاد الأوروبى كان مِن شأنها أن تُسجل المزيد مِن التراجع لولا إستثمارات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية فى لوكسمبورج، عِلماًًً بأن إستثمارات دول مجلس التعاون الخليجى فى أوروبا كانت دائماًًً الأعلى حيث بَلغت 31.8 فى المائة مِن إجمالى تدفقات الإستثمار الأجنبى المباشر إلى الإتحاد الأوروبى فى عام 2008 لتحتل بذلك المرتبة الثانية فى التكتل الأوروبى، فيما بلغت قيمة إستثمارات أمريكا الشمالية (كندا والولايات المتحدة) فى دول الإتحاد الأوروبى 65.8 مليار يورو أى ما يُماثل 33.1 فى المائة مِن إجمالى تدفقات الإستثمار الأجنبى المباشر فى التكتل. ولم يُشر تقرير(يوروستات) إلى القطاعات التى إستقطبت الإستثمارات، إلا أنه وصف لوكسمبورج بأنها باتت مركزاًًً مالياًًً ومصرفياًًً مهماًًً فى أوروبا مما يُرجح أن الأموال الخليجية يُمكن أن تكون قد أودعت فى مصارف لوكسمبورج؛ ولم يتم توظيفها فى إستثمارات فعلية، وهنا يَكون المستفيد الأول والأخير هو الجانب الأوروبى الذى سيُعيد، دون شك، توظيف هذه الأموال فى قطاعاته الإنتاجية المختلفة، بينما الجانب الخليجى يكتفى بإحتساب فوائد الإيداع التى ليس لها أى أهمية فى الدورة الإقتصادية العالمية.
النظرية المهيمنة رسمياًً وأكاديمياًً
عادة ما يتم تقديم "التخلف" من قِِِبل النظرية الرسمية التى تدرس فى الجامعات، ومن ثم، من قِِِبل المنتظمات الدولية المعنية، والتى لا يستغنى رأس المال عن خدماتها إطلاقاًً، على أساس من ترادفه، أى التخلف، مع الفقر والجوع والمرض، فالبلد المتخلف هو البلد الفقير، والمريض والجائع شعبه، ويُُجند فى سبيل ترسيخ هذا المفهوم كماًً مهولاًً من الأرقام والبيانات والمعادلات، التى تدفع المرء أحياناًً للتساؤل عن ما الذى تبحث عنه كُُُُل تلك الأرقام على وجه الدقة !! وتثير فى نفس الوقت الدهشة لتجاهلها من قبل النظرية الرسمية!! وبمفهوم المخالفة، تُُُرتب النظرية الرسمية (وصندوق النقد الدولى(3)تحديداًً) على إعتبار الجوع مرادفاًً للفقر والجوع والمرض . . . إلخ، نتيجة تعتبرها منطقية بالنسبة للمقدمات التى تبدأ منها، وهى أن التقدم هو: الغنى والشبع والصحة . . . إلخ. ومن ثم وجب البحث عن أسباب هذا الغنى والشبع والصحة!! وهذا هو بالتحديد ما يبحث عنه صندوق النقد الدولى من أجل رخاء الشعوب!!
فمن جهة أولى، فإنه وبعد جهد جهيد من قبل الصندوق والمزيد من الأبحاث والدراسات الدائرة فى فلك النظرية الجامعية الرسمية، فقد توصل كُُل من الصندوق والأساتذة الباحثين إلى الإكسير المسبب للغنى والشبع والصحة، هذا الإكسير ببساطة تم إستخلاصه بمنطق غاية فى السلاسة والوضوح؛ فطالما الدول الغنية غنية والمتقدمة متقدمة؛ فلننظر إلى ما تفعله تلك الدولة كى تفعله الدول البائسة الأخرى لكى تصبح مثلها!! والنتيجة الأكثر منطقية لدى الصندوق، والنظرية الرسمية هى: تطبيق نفس النظم الإقتصادية السائدة فى الدول المتقدمة، والتى من ركائزها: تحرير الإقتصاد ووحدات النقود، وكف يد الدولة، وبيع العام للخاص، وفتح الحدود وتسريح العمال، والإنخراط اللامحدود فى المعاهدات الدولية الملزمة بكُُل ذلك. هكذا يتم تقديم "التخلف"، وهكذا يتم تقديم "التنمية والتقدم" ، على الرغم من أن الأجزاء المتقدمة نفسها لا تقوم بإتخاذ مثل تلك التدابير، المفرطة والهزلية أحياناًً، التى يفرضها الصندوق على الأجزاء المتخلفة كى تلحق بالمتقدمة.
ومن جهة أخرى، لا تتعامل النظرية الرسمية مع التخلف، كظاهرة إجتماعية، ليست وليدة اللحظة أو تحدث مصادفة، إذ أن النظرية الرسمية لا تتمكن من فهم التخلف كظاهرة مركبة تشكلت تاريخياًً، وأسهمت فى صياغتها وتحديدها بالشكل التى عليه عوامل ومؤثرات شتى، وبدلاًً من الإنطلاق من القوانين الموضوعية التى حكمت نشؤ، وتطور التخلف عبر الزمن، تذهب النظرية المهيمنة إلى إعتبار التخلف ظاهرة لحظية لعبت الصدفة دور البطولة فى إيجاده بداخل المجتمع.
الوجهتان لا يمكن التسليم بهما، إذ لا يمكن التسليم بوجوب إتباع نظام السوق من أجل دفع التنمية، كما لا يستساغ إبداًً إعتبار التخلف ظاهرة لحظية، وليكن، على سبيل المثال، المجتمع المصرى وتخلفه الإقتصادى، بإختصار، محل النظر؛ لنفى صحة المقدمات، التى تبدأ، ومن ثم النتائج، التى تنتهى إليها النظرية المهيمنة.
جذور التخلف فى مصر (4):
لم يكن المجتمع المصرى، بتركيبته الإجتماعية بكُُُل خصوصيتها، ليتعرف فى فترة تاريخية مبكرة على السوق الرأسمالية الدولية فى توسعها المستمر؛ إلا من خلال الحملة الفرنسية، والتى مثلت أول تعارف، عدائى رسمى وواضح، فيما بين المجتمع المصرى، وبين الإقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر. وإذ يكون من أهداف الحملة تعويض الخسائر الفادحة التى لحقتها فى حربها الإستعمارية مع إنجلترا، مع ضرورة توفير الغذاء بعد إزدياد السكان وبصفة خاصة فى الجنوب، بتحويل مصر إلى مزرعة كبيرة، تمد الصناعات الفرنسية بما يلزمها، بالإضافة إلى جعلها منطلقاًً إستراتيجياًً فى البحر المتوسط، فإنه يتعين إتخاذ عدة إجراءات تخص إجراء المسح الشامل للأراض المصرية ودرسها بمن عليها، وهو الأمر الذى تحقق عملاًً من خلال: وصف مصر. وهو الأمر كذلك الذى إستلزم عدة أفكار وإجراءات تخص تنظيم الملكية والإدارة ونظم الضرائب؛ بما يحقق الفائض ويكفل تعبئته (تسربه) نحو الخارج.
ولقد كان إستخلاص ريع الأرض من الفلاحين يعتمد على الحكومة المركزية، وليس على الوجود الإقطاعى. كما يُُلََقن الطلبة، وكان إستمرار الإنتاج فى هذا النظام يرتكز على التعاون النشط من جانب أغنياء الفلاحين، والذى يتعين عليهم توفير وكفالة إحتياجات الزراعة، وربما معيشة المزارع نفسه.
وكان قطاع التجارة مقتصراًً نسبياًً على القاهرة دون باقى الأسواق فى مصر، كما قام هذا القطاع منذ أيام الأيوبين وحتى مطلع القرن السابع عشر، بوظائف التوزيع والتمويل للطبقة الحاكمة، والتى تمثلت فى نخبة المماليك، من جهة، وأثرياء التجار من جهة أخرى.
وإذ تنطلق الثورة الصناعية فى غرب أوروبا، تأخذ قيمة الأرض فى الإرتفاع، فهى تمد المصانع بمواد العمل، كما زادت المنافسة فى قطاع التجارة خصوصاًً بعد وصول التجار الأوربيين، والتجار السوريين المسيحييين، والذين قاموا بدور الوكيل للرأسمالية الفرنسية، وكان عام 1760، عام تولى على بك الكبير مشيخة البلد، أى حكم مصر، علامة فارقة على طريق الصراع من أجل الفائض، وبصفة خاصة بفضل السيطرة على الأرض، كى تبدأ مقدمات تأهيل المجتمع لتلقى أول عدوانية مباشرة لرأس المال الأوروبى على يد الحملة الفرنسية، والتى لم تتمكن من الإستمرار العسكرى أكثر من ثلاث سنوات، لكى يتولى محمد على حكم مصر، وبتوليه الحكم تبدأ سلسلة طويلة، من الإحتكاك والتفاعل مع السوق الرأسمالية الناشئة فى بعدها العالمى. فبتولى محمد على الحكم فى عام 1805، يحصر أهدافه فى أمرين محددين بدقة: أولهما: إبادة الطبقة الإقطاعة المهيمنة على الأرض، والتى تمثلت فى المماليك، بصفة خاصة، ثانيهما: تصفية الإقطاع نفسه، وقد نجح محمد على، فى تحقيق كلا الهدفين فى زمن قصير، إذ حقق هدفه الأول فى مذبحة القلعة 1811، والثانى من خلال مجموعة من الإجراءات التى تمكنت من ضرب النظام الإقطاعى ذاته. وإذ يحصر محمد على، أهدافه على هذا النحو، محققاًً إياها، فقد عرف النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديداًً فى الفترة من (1811 حتى 1840) تجربة للدولة فى مصر، تهدف، إقتصادياًً إلى بناء إقتصاد سلعى مستقل فى إطار السوق الرأسمالية فى صيرورتها نحو العالمية. يتم ذلك عن طريق إعادة تنظيم النشاط الزراعى، على نحو يمكن من تعبئة الفائض الزراعى، الذى يستخدم مباشرة أو على نحو غير مباشر من خلال التجارة الدولية، فى تحقيق نوعاًً من البناء الصناعى، بما يعنى الإنتاج إبتداءًً من طلب السوق، والسوق الدولية على وجه التحديد. وكانت الدولة، فى هذا الوقت تهيمن على ملكية الأرض، ولم يعد الأمر يتعلق بمجرد إستقطاع الجزية من الإنتاج. فقد كانت السمة الجديدة هى(إحتكار الدولة للإنتاج) هذا إضافة إلى إحتكارها لتحديد الأثمان داخلياًً وخارجياًً، بما يحوى بين طياته فك الروابط التى قد يصنعها السوق الرأسمالى العالمى.
إن هذا الإحتكار الذى فُُرض إبتداءًً من 1808 على الحبوب، سوف يمتد فيما بعد ليشمل جميع المنتجات القابلة للتصدير، فى محاولة للسيطرة على شروط تجدد الإنتاج، وخلق نوعاًً ما من الإستقلالية المستندة إلى فك الروابط وعزل الأثمان ، وقد نجحت التجربة حتى كادت أن تهدد المصالح (المتناقضة) على صعيد السوق الرأسمالية العالمية، وبصفة خاصة تهديد رأس المال البريطانى فى شرق البحر المتوسط، الأمر الذى قاد إلى التدخل العسكرى ضد مصر إبتداءًً من 1840. كى يقضى على محاولة بناء الإقتصاد المستقل فى إطار السوق العالمى. وعلى الرغم من أن العدوان العسكرى ضد مصر قد حقق أهدافه؛ إلا أن محاولة السيطرة على تجديد الإنتاج وخلق تلك الإستقلالية تجاه الإقتصاديات الرأسمالية الكبرى، ونجاح تلك المحاولة إلى حد ما؛ قد ساهمت بفاعلية فى تهيئة وتسريع إدماج الإقتصاد المصرى فى السوق العالمية كإقتصاد تابع، كى يخضع لسيطرة رأس المال البريطانى، الذى سينشغل بإجراءات إلغاء الإحتكار الذى فرضته الدولة فى عهد محمد على، الأمر الذى سوف يستتبع إعادة النظر إلى الأرض، بجعلها سلعة يمكن التخلى عنها وتداولها بيعاًً وشراءًً ورهناًً وإيجاراًً، أى إخضاع الأرض لمنظومة قانونية تنتمى إلى أحكام القانون المدنى. ومن هنا يبدأ رأس المال الأجنبى فى التغلغل، أساساًً فى شكله المالى، فى مجالات البنية الأساسية للخدمات والتجارة، الأمر الذى يؤدى إلى فقدان المجتمع للسيطرة على شروط تجديد إنتاجه. ويتعمق تغلغل رأس المال المالى الدولى فى الإقتصاد المصرى، بعد إتجاه الدولة إليه كمقترضة فى عهدى سعيد وإسماعيل(بلغ الدين العام عند وفاة سعيد 11,160,000 جنيهاًً إنجليزياًً، وليبلغ فى عهد إسماعيل سنة 1876 ما مقداره 126,354,360 جنيهاً إنجليزياًً)
يشهد القرن التاسع عشر إذاًً فى مجموعه، إتجاهاًً عاماًً لحركة الإقتصاد المصرى كإقتصاد فى طريقه لأن يكون إقتصاداًً سلعياًً فى إطار عملية لتراكم رأس المال، بفعل الإنتاج من أجل السوق الدولية، فى إطار من التعامل مع الأرض كسلعة تخضع لجميع التصرفات القانونية الناقلة للملكية(رقبة وإنتفاع) مع فصل العمال والفلاحين عنها. يبدأ التراكم ذاتياًً، بل مستقلاًً، ثم يتحول مع العدوانية المباشرة لرأس المال الدولى، إلى نوع من التراكم الرأسمالى الذى يهدف إلى تعبئة (تسرب) جُُُل الفائض الإقتصادى نحو الأجزاء المتبوعة، المستعمِِِرة، الرأسمالية المتقدمة. بعد أن أصبح الإنتاج ليس من أجل الإشباع المباشر، أو الإكتفاء الذاتى، أو التصدير من أجل التراكم، وإنما من أجل حاجة الإقتصاد المستعمِِِر.
معنى ما سبق أن تطور الإقتصاد المصرى، وتخلفه"التاريخى" الذى تهمله النظرية الرسمية، ونمو الطبقات الحاكمة كان دائما فى ركاب الرأسمالية الإمبريالية، التى تمكنت من إنتزاع الفائض بطريقتين، الأولى: إستعمارية، إبتداءًً من الحملة الفرنسية، وإنتهاءًً بالإحتلال البريطانى. أما الثانية: فهى، وعقب إستقلال المستعمرات، بخلق طبقة حاكمة موالية داخل البلد تكفل إتمام عملية تسرب القيمة الزائدة نحو الخارج. وفى المقابل توفر لها الرأسمالية الإمبريالية، مع غض بصر متعمد عن مظاهر الفساد المستشرى، مع تدعيم مستمر فى سبيل ترسيخ الوجود السياسى، وإكسابه الشرعية(المزيفة عادة) طالما ضمنت تلك الطبقات الحاكمة، البورجوازية غالباًً، إنسياب القيمة الزائدة نحو الأجزاء المتقدمة، دون ضخها فى مسام الإقتصاد القومى لتنمية قطاعاته الثلاثة(زراعة، وصناعة، وخدمات) من أجل الخروج من حالة التخلف التى تراكمت عبر الزمن، حتى صارت ظاهرة مركبة ومعقدة.
فهل يُُُمكن بعد ذلك القول بصدفوية التخلف أو لحظيته فى مصر؟ بالتأكيد إن النظرية الرسمية لا تهتم مطلقاًً لا بالقيمة ولا بالتاريخ، وربما لا تهتم أساساًً بالتخلف!!
ثالثاًً: الإقتصاد السياسى للتخلف الإقتصادى:
وأقصد به: البَحث فى، وعن، القوانين الموضوعية الحََاكمة لظاهرة القيمة الزائدة وتسربها وشروطها الموضوعية، وذلك على إعتبار أننا أمام عِلم تم إنجازه كما ذكرت عاليه، له مِن الأدوات والأليات ما مِن شأنه فك شفرة الظاهرة مع تقديم مجموعة معرفية مِن الأفكار بشأنها، بشكل عِلمى، على الصعيد الإجتماعى.
مِن المؤكد، منهجياًًً، أنَ كُُُل تلك التحديدات ستكون مرتكزات مباحث رئيسية فى الأطروحة، ومنطلقات فى نفس الوقت، ولكنه لمن المؤكد كذلك، مِن جهة أخرى، عدم قدرتنا على الإنتقال ولو خُطوة فكرية واحدة، إلا إلى الوراء، ونحنُ غير متفاهمين حول العنوان، أو أن القارىء، على الأقل لا يَعرف ماذا يَقصد الكاتب، ولو بشكل أولى، بعنوان كتابِه الرَئيسى، وبصفةٍ خَاصة حينما يكون العُنوان يُمثل فى ذاتهِ تَقديماًً أيدلوجياًً، بالمعنى الإيجابى للمُصطََلح، فأن يُحدد الكاتب ماذا يَقصد حين يُعلن عن أطروحته، لهو مِن أبجديات إحترام المنهَج ومِن أوليات السيطرة على موضوع البحث. . . . أما أن يُترَك القارىء يُخمِن فهو بلا شك مَا ينصب فى غََير مصلحة الفكرة ومِن قََبلها المُُفكر نفسه. لقد عَمدتُ إلى ذِكر التحديدات التى إعتَقدتُ فيها بصدد: الإقتصاد السياسى، والتَخلف، والإقتصاد السياسى للتخلف، كى أكون أكَثر تحديداًً على الصعيد المنهجى، ولكى يُمارس القارىء فِعل التفكير معى ولا يكتفى بدور القارىء على شاطىء بُحيرةٍ هادئة فى يومٍٍ مُشمِس، وبخاصة إذا تعلقَ الأمر بعِلمٍٍ سيادى، كعِلم الإقتصاد السياسى.
ومِن جهةٍ أخرى، يَتَعين أن تكون واضحة فى الأذهان، فإننى لا أرمى، هنا، إلى تحديد عِلم الإقتصاد السياسى فى حد ذاتهِ؛ فليس عندى لذلك معنى، إننى أتعامل مع تَحديد الإقتصاد السياسى إبتداءً مِن إمتلاكه، لمجموعةٍ مِن الأدوات الفكرية التى تُسعفنى فى سبيلى البَاحث فى طبيعة التخلف كظاهرةٍ إجتماعية، والقوانين العلمية التى حكمت نشوئها، والكيفية التاريخية التى تمت مِن خلالها تلك العملية التى خَلفت إجزاءً متقدمة وأجزاءً متخلفة بدرجاتٍ متفاوتة مِن التَطور على صعيد الإقتصاد العالمى المعاصر؛ إذاً يتلََخص عَملى فى: البَحث الأولى عن الأدوات التى يَمدنى بها الإقتصَاد السياسى فى خُطواتى الفكرية التى تَهدف إلى الكشف عن ظاهرة التخلف، ومِن ثم إستخدام تلك الأدوات، فى سبيل هذا الكشف، وليسَ وَضع أُسس أو تحديدات نهائية لعِلم الإقتصاد السياسى.
ويُمكن القول ولو بشكلٍ تَمهيدى ان التحديدات التى أمنتُ بها، وآليتُ إلى نفسى الجِهاد فى سبيلها بلا هوادة، إنما تَستعصى على النَقد!!! هكذا !؟! نعم هكذا. لأن ماهيتها لم تَسبِق وجودها، بل على العكس، وهو من طبائع الأشياء، وجودها سَبَق مَاهيتها، كُل ما فى الأمر هو القََيام بفِعل الكََشف لا الإنشاء...فالتحديدات المُقال بها عاليه إنما هى صياغة لمجموعة مِن الحقائق التى تَشكََلت على أرض الواقع، وليس إنشاء مِن عندياتى؛ فحينما، مثلاًًً، أقول أن الإقتصاد السياسى هو ذلك العِلم الذى يَنشغل بدراسة النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة. هنا لا أُعرِف العِلم بل أُحدده، فمعنى ذلك أن عَملى مِن أجل إجراء هذا التحديد إنما تَلخص، فى سبيل التأكيد، لا البرهان، فى رصد ما عليه حال البحث، وما عليه الدراسات غَير المبتََذلة وغَير المزيفة، الدراسات الحقيقية والأصيلة، فمَاذا فَعل أدم سميث، وديفيد ريكاردو فى مجلدَاتِهِما الضخمة البَاحثة فى الإقتصاد السياسى، مع الوعى بتنظيرهما (الرأسمالى) للرأسمالية نفسها، وماذا فعل كارل ماركس، فى "رأس المال"، وماذا يَفَعل سمير أمين، وعيمانويل، وبارن، وسويزى، وأندريه فرنك، وهارى مجدوف، وغيرهم مِن أكابر الإقتصاد السياسى، فى مؤلفاتِهم الرئيسية، وموضوعَاتِهم الفرعية؛ سوى البحث فى القيمة وعنها؟ ومَفصلة الظاهرة مَحل البحث حولها؟ فهى العمود الفقرى الذى لا يَستقيم، أو المفترض ألا يستقيم، فهم وتحليل جَميع الظواهر الإقتصادية بدونه.
والقيمة مِن تلك الوجهة فقط، والجهاتُ الأخرى أشد ثراءً، تَملك القدرة على طرح صحيح لجميع المفََاهيم الإقتصادية والإشكاليَات الإجتمَاعية التى يَنشَغل (أو المفترض أن يَنشَغل) بها عِلم الإقتصاد السياسى، فمِن خلالها يُمكن طرح، وفهم: التبَادل والسُوق والعرض والطلب، والمنافع الحدية، وتناقص الغلة، وميل الربح للإنخفاض، والمشروع الرأسمالى، والمشروع دولى النشاط، والمنافسة والإحتكار، والنفقات العامة والإيرادات العَامة، ومِن خلال القيمة كذلك يُمكن وَضع التَصوُرَات المنهَجية المدهشة حولَ نظريات التجَارة الخارجية، وإقتصَاديات النقود، التى هى فى الأصل سلع، والمصارف، كما يُمكن مِن خلال إستيعابها الناقد؛ إستيعاب علاقات التخلف والتبعية، والتقدم والنمو...وما كُُل تلك الأمور إلا مَبَاحث نظرية جوهرية فى عِلم الإقتصاد السياسى. ولا تُدرَس، بمعنى يتعين ألا تُدرَس، إلا إبتداءً مِن النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة. وجه الإختلاف الوحيد بين المنشغلين بالقيمة وبينى، فى هذا الشأن على وجه التحديد،انهم يُضمرون القيمة ويَقومون بالتعامل مع الظواهر وتَعاطى المفََاهيم على أساسٍٍ مِن هذا الإضمار، وكأنَ القيمة كََمياًً ومَوضوعياًً مِن الأمور المسلََم بها، لدى "الكُُل"، أو مِن المسائل غير المطروحة للنقاش لبديهيتها، لدى "الكُُُل"، أو انهم يتحدثون إلى بَعضهم البَعض؛ دون أى إعتبار لمنَ يَكفُر بالقيمة، أو يتردد بشأنها، بما يُمثل التخلى عن الجانب الدَعوى فى القضية، أو أن ثمة شك قد تسرب إلى إيمانهم، فتصدعت الأعمدة، ولم يعد فى الوقت وقتٌ كى يُعلَن عن إيمانٍ غيره، كما أن الإعلان عن صحة الآخر، إنما صار يعنى، فى الغالب، الكثير مِن المسائل الشخصية الحساسة، وحينئذ يتم تَخطى القيمة إلى الإشكالية المطروحة فى مُحاولة للهروب مِن مُنَاقشة القََضية الجََوهرية التى تَتَمكن وبسهولة مِن الإعلان ليس فحسب عن كََون الإقتصاد السياسى عِلماًً مُنجَزاًً، بل ولتُعلِن كذلك عن نهايتهِ. نهايته وإنما التى تَحوى بدايته، كما علمنا الجدل. نهايته التى تحوى بدايته على نَحوٍ يُفسر ظواهر عَالم آخر جَديد. عَالم أكثر إنسانية.... نِهاية الإقتصاد السياسى للرأسمالية، وبِداية الإقتصاد السياسى لعَالم لديه المشروع الحضارى لمستقبل آمن.
إنى أخالف هنا فى إعلانى للقيمة والإنطلاق منها والإرتكان إليها وإزالة الغطاء عن المستتر والنفاذ إلى العمق، مع إعادة طََرح وفهم النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة، بما يُشبه تجديد الإيمان، وهى الأمور التى ستكون مَحل تناول فيما يأتى مِن الخطوات الفكرية التى تَتَكون منها الأطروحة.
تطور السوق الرأسمالية وتعميق التخلف(5)
تمكنت البلدان الرأسمالية، بفضل التراكم، فى إنجاز نموها الإقتصادى فى مرحلة تاريخية مبكرة ثم لم تتوقف. بل نمت الرأسمالية حتى غدت هى النظام الإقتصادى العالمى السائد حتى الحرب العالمية الأولى. وغدا إقتصاد أى بلد فى العالم مربوطاًً بعشرات الخيوط بهذا الإقتصاد الرأسمالى العالمى. وبنجاح الثورة الصناعية ونشأة السوق العالمية فى منتصف القرن التاسع عشر صارت العملية الإقتصادية عملية عالمية واحدة. وتحت تأثير الرأسمالية التى صارت عالمية، أصبح هناك أساس واحد هو الأساس الرأسمالى لحساب ومعالجة السمات الخاصة للعمليات الإقتصادية والإجتماعية لهذا البلد أو ذاك فى العالم كله. والأخطر من ذلك، كما يقول الأستاذ الدكتور فؤاد مرسى، أنه بإقتحام الرأسمالية للبلدان التى، لسبب أو لآخر، لم تحقق بعد نموها الإقتصادى الرأسمالى، تجمعت معالم ظاهرة عالمية مقابلة هى تشويه عمليات النمو الإقتصادى فى هذه البلدان. وهكذا أحدثت الرأسمالية المنتصرة عالمياًً أثرين تاريخيين: أولاًً: إدماج العالم كُُله فى سوق رأسمالية عالمية واحدة، بمستويات مختلفة من التطور، وثانياًً: ومن ثم تشويه عمليات النمو الإقتصادى فى جميع البلدان قبل الرأسمالية.
والسوق الرأسمالية تلك، والتى تندمج فيها فنزويلا البوليفارية، والسودان، لم تتشكل دفعة واحدة، وإنما تكونت على مدى طويل يرجع إلى أوائل القرن السادس عشر. ففى مرحلة الرأسمالية التجارية حينما سيطر رأس المال التجارى، كانت المستعمرات(وفنزويلا أحد هذه المستعمرات آنذاك) مصدراًً أساسياًً للتراكم الأولى لرأس المال من خلال عملية منظمة ومستمرة من نهب وسلب البلدان التى تم إكتشافها. ولقد تميزت مرحلة الرأسمالية التجارية بالفعل بزيادة ملحوظة فى التبادل التجارى ونمو ملحوظ فى الإنتاج المعد للتصدير إلى المستعمرات. وأخذ الإهتمام يتحول من البحث عن المنتجات الأجنبية إلى البحث عن منافذ للسلع المحلية. وفى مقابل توابل الشرق ومنسوجاته لأوروبا، كان ينبغى دفع أثمانها ببدائل أوروبية. فقدمت إنجلترا وفرنسا وأمريكا المصنوعات والسفن، وقدمت افريقيا السلعة البشرية، وقدمت المزارع فى المستعمرات المواد الأولية. وكانت التجارة الأوروبية هى عصب التقسيم الدولى للعمل الذى نشأ عندئذ بين الشرق والغرب.
وفى عام 1600 تم تأسيس شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وبعد ذلك بسنتين قام الهولنديون بتأسيس الشركة العامة للهند الشرقية، وتمتعت بإحتكار التجارة فى المحيطين الهندى والهادى. وفى عام 1621 تم تأسيس شركة الهند الغربية التى أخذت تباشر أعمالها فى القارة الأمريكية. وفى الوقت نفسه كان الفرنسيون ينشئون شركة الهند الشرقية وشركة السنغال فى أفريقيا، فى تلك المرحلة بدأ التراكم الأولى لرأس المال بالإعتماد على أعمال السلب والنهب المنظمة والمنتظمة، كما أسلفنا، والتى تشمل من ضمن ما تشمل فرض العمل العبودى والسخرة وإنتزاع الأراضى من أصحابها، وإقتطاع الجزية ونشر الإتاوات. وفى المرحلة التالية والتى إمتدت حتى سنة 1870 تقريباًً، مرحلة الرأسمالية الصناعية، وإذ يُُسيطر رأس المال الصناعى، فقد قامت الرأسمالية المنتصرة بالبحث عن مصادر الخامات اللازمة لصناعاتها، بالإضافة إلى البحث عن منافذ للتسويق(قريب جداًً من الهدف العام لإتفاقيات التجارة الدولية الحرة، الآن، الذى يتبلور فى فتح أسواق الأجزاء المتخلفة لتصريف المنتجات فى الأجزاء المتقدمة) ويتميز أسلوب الإنتاج الرأسمالى بأنه يؤثر على فروع الإنتاج بمعدل من التراكم يتفاوت من فرع إلى آخر. وبذلك يُُصبح قانون النمو غير المتكافىء حقيقة. ومن خلال هذا القانون فإن التبادل غير المتكافىء لا يُُصبح هدفاًً وحسب، بل أداة فعالة فى سبيل الحفاظ على فجوات النمو بين الإجزاء المتقدمة وبين الأجزاء المتخلفة من الإقتصاد الرأسمالى المعاصر. إذ التبادل غير المتكافىء هو نتيجة عدم التكافؤ فى الأجور، وعدم التكافؤ فى الأجور محكوم بدوره بالفروق فى مستويات نمو القوى الإنتاجية فى الأجزاء المختلفة من الإقتصاد الرأسمالى الدولى، ولا يمكن الحديث عن المساواة فى عالم أهم ما يميزه إنعدام المساواة فى التطور ذاته. وفى مرحلة تالية تبلورت مرحلة الرأسمالية المالية، وأصبحت المستعمرات إحتياطياًً مندمجاًً فى الإقتصاد الرأسمالى العالمى، وتخصصت فى تزويد الصناعة العالمية بخاماتها الأساسية، وفى هذه المرحلة من تطور الرأسمالية، مرحلة الرأسمالية المالية، أصبح لتصدير رأس المال الأولوية على تصدير السلع. وأدمج إقتصاد المستعمرات بأكمله(كاحتياطى)بالإقتصاد الرأسمالى. ولم يعد الإحتكار فى صراعه على الأسواق العالمية يعتمد فحسب على الحكومة التى ينتمى إليها من أجل أن يتخطى عوامل وعقبات ناشئة عن حركة السوق، وإنما تداخلت أيضاًً سلطة الإحتكار مع سلطة الدولة. ولم يعد أى إحتكار مجرد إحتكار خاص، وإنما هو إحتكار مضمون بالدولة، وسوف نتعرض إلى هذه المسألة فيما بعد حين معالجة السلوك الإقتصادى للمشروعات دولية النشاط.
ويشهد الإقتصاد الرأسمالى العالمى من بعد الحرب العالمية الثانية إتجاهاًً نحو نمط مركب لتقسيم العمل الدولى، وإنما فى إتجاهه نحو سيطرة نمط جديد لتقسيم العمل الرأسمالى على الصعيد العالمى؛ إذ بعد أن شهد الإقتصاد الرأسمالى، عبر ما يقرب من أربعة قرون، إنتشار شكل تاريخى من تقسيم العمل فى داخل المشروع الرأسمالى متمثلاًً فى تقسيم عملية إنتاج سلعة واحدة، أى ناتجاًً كاملاًً، إلى عدد من العمليات الصغيرة يتخصص فى القيام بكل منها عامل أو عدد من العمال، كى يُُصبح بذلك نمط تقسيم العمل الذى يسود فى داخل الوحدات الإنتاجية فى كُُل قطاعات النشاط الإقتصادى فى الإقتصاديات الرأسمالية المتقدمة. يقول أستاذنا الدكتور محمد دويدار، بعد سيطرة هذا النمط فى داخل الوحدات الإنتاجية بدأ منذ الحرب العالمية الثانية ظهور التقسيم فى العمل على مستوى الإقتصاد الدولى، أو على الأقل، بعض الدول فى القيام بجزء من عملية إنتاج سلعة واحدة. وتنتج الأجزاء الأخرى فى بلدان أخرى. الأمر الذى يثير مسألة عملية تجميع هذه الأجزاء لإنتاج الناتج الكامل، ومن ثم إمكانية إختصاص بعض البلدان بعمليات التجميع هذه، هذا النمط من تقسيم العمل الدولى يثير إمكانية إنتقال بعض المشروعات إلى أقاليم دول أخرى إنتقالاًً تحدده: إعتبارات إقتصادية(توفر المادة الأولية، أو القوة العاملة الرخيصة، أو مصدر الطاقة المحركة) وإعتبارات مالية( توفر رأس المال النقدى المعد للإقراض، توفر المعاملة المالية المواتية)وإعتبارات فنية( البعد عن الأماكن التى تزداد فيها قوة التنظيمات النقابية والسياسية للعمال) ولن يكون إنتقال المشروعات دولية النشاط هذا دون عمليات متوازية من إدماج الأجزاء المتخلفة فى المنظومة الرأسمالية العالمية، فلم تزل تلك الأجزاء، على الرغم من الطفرة فى تخليق البدائل، تملك المواد الأولية اللازمة فى الصناعة، هذا الإدماج، مع تباين أشكاله، يكمل تحول إقتصاديات الأجزاء المتخلفة إلى إقتصاديات سلعية، تخضع لسيادة الأثمان الدولية، ويزيد من تغلغل رأس المال الذى يحكم قبضته التكنولوجية(مستخدماًً كل الأليات القانونية الممكنة) على مختلف عمليات الإنتاج المدولة. مؤدياًً بالتالى إلى تزايد فقدان المجتمعات المتخلفة للسيطرة على شروط تجديد إنتاجه الذاتى. مع تبلور سمات العلاقات الإقتصادية الدولية على نحو من تخصص الأجزاء المتقدمة فى إنتاج السلع كثيفة الإستخدام للتكنولوجيا، وكثيفة الإستخدام لوسائل الإنتاج. ويسود هذا الإتجاه القطاع الصناعى ثم الزراعة (والتى تميل لأن تكون أحد فروع النشاط الصناعى) ثم قطاع الخدمات فى العقود الأخيرة، وهو الأمر المتزامن مع إبتعاد إنتاج الغذاء عن الأجزاء الرأسمالية المتخلفة نحو الأجزاء المتقدمة.
المسألة الفنزويلية
بعد أن أوضَحت بشكلٍ "تمهيدى" كما ذكرت ماذا أقصد، بالعنوان الرئيسى للأطروحة، فيتعين أن أوضح مَاذا أقصد بالعنوان الفرعى أو الإضافى، أبَادرُكَ القول بأنى أقصد بقولى"أطروحة منهَجية مُقترحة للبَحث"، أن البحث فى مجموعه إنما يَرمى بالأساس إلى ترسيّم خطوات منهَجية تُقدم نفسَها كبَديل للمناهج الأدائية والميكانيكية والرؤى الخطية، فلم أكُن أهدف مِن خلال فِعل السرد التاريخى، أو الرصد الآنى الذى يَضرب فى طول وعرض الأطروحة سوى إتخاذهِ تَكِئة للوصول إلى الفكرة الأم. الفكرة المتعلقة بالمنهَج البَديل. وهنا أيضاًً وجه مُخالفة أخر، لكنها مُخالفة مُغايرة، فهنا لا أُُخالف أكابر العِلم بل أخالف ماسِخيه، الذين تَوقفوا عند الظواهر ولم يَتمكنوا مِن النفاذ إلى العُمق. ومِن ثم فقد إتخذوا الرَصد الآنى أو الحكى التاريخى، كمَوقف نهائى. كان مِن المهم، ذلك التمهيد بإبراز التحديدات السابقة بشأن(الإقتصاد السياسى)و(التخلف) و(الإقتصاد السياسى للتخلف) ويَرجع ذلك إلى أن المسألة التى سنتناولها أدناه، والتى ستكون حقل إختبار للمنهج المقترح، أى المسألة الفنزويلية، وإضافة لكون فنزويلا تُمثل أحد الأجزاء المتخلفة (كنتيجة، وليس كسبب) مِن الإقتصاد الرأسمالى العالمى، فإنه يَتَساوق معها ثلاثة أمور على قدر مِن الأهمية:
أولاًً: إمكانية المسألة الفنزويلية على القيام بمَسخ (الجدل) كما فَعلت بعض التيارات المهيّمنة فى حقل اليسار، وقدرتها، فى نفس اللحظة، مِن الجهة الأخرى على التأكيد العِلمى على أهميته فى سبيل فهم قوانين الحركة الحاكمة للحركة الإجتماعية فى المجتمعات المختلفة، إذ تَعكس المسألة الفنزويلية ظاهرة لم ترد فى النظرية اليسارية الرسمية (تحالف قوة العمل مع رأس المال).الأمر الذى يُمكن، بل يتعين، معه إعادة طرح النصوص والتحرر، بوعى، من سلطتها المتوهََمة، المانعة من فهم الواقع والتعامل معه بفاعلية من أجل تغييره،لا الإكتفاء بتفسيره.
ثانياًً: يَتم عَملاً التعامل النظرى مع المسألة(الفنزويلية، والسودانية كذلك) دونما أى مَنهج عِلمى يُمكن أن يَقع فى مرحلة النقد، إذ أن (جُل) ما وقع تحت أيدينا إنما وقع فى مرحلة ما قبل النقد. وبمعنى أدق خارج حقل النقد!! فمعظم الكتابات إما واقعة فى حقل التاريخ، دون معنى أو هدف، وإما واقعة فى حقل الوقائع المشوهة أو المبتورة، دون معنى أو هدف كذلك.
ثالثاًً: دون الإتفاق، على حد أدنى مِن التحديدات المصطلحية، فلا يُمكن المضى ولو خطوة واحدة، فى سبيل فهم الظاهرة التى تَطرح نفسها على الصعيد الإجتماعى.
تطور الفكرة
تَتَبدى أهمية المسألة الفنزويلية التى تَطرح نَفسَها على الساحة فى الوقت الراهن (2000- 2010، وتلك هى المساحة الزمنية التى تشغلها الأطروحة بالأساس، وهى لحظة فى عمر التاريخ) فى ثرَائها الفكرى على صعيدى الفكر والواقع بوجهٍ عام. كما تتجلى فى قدرتها على إثارة العديد مِن القضايا الفكرية الجوهَرية فى معظمها، وإمكانيتها الإرشاد إلى خطوطًٍ منهجيةٍ عريضة نَستطيع مِن خلال التَسلح بها أن نَفهَم فهماًً ناقداًً مُجريات الأمور والأحداث الآنية على ظهر هذا الكوكب، وأن نعى وعياً متجاوزاً، على وجه الخصوص، الكيفية التى تمت مِن خلالها العملية التاريخية التى كونت إقتصاداًً عالمياًً بمستويات مختلفة مِن التطور والتقدم والنمو.الكيفية هى إذاًً التى أنشأت التخلف الإجتماعى والإقتصادى"كظاهرةٍ تاريخية" فى الأجزاء المختلفة مِن الإقتصَاد العالمى. والمسألة الفنزويلية وإضافة لثرائها الفكرى القادر على فَتح ملفات عديدة مَطوية كما قُلنا وسنرى كيف ذلك بالتفصيل، وإمكانيتها إثارة أسباب إستمرار التخلف، فهى كَذلك تُمَثِل أحد النمَاذج المدرسية المناسبة جداًً لشرحٍ أكاديمى مُمَيز لإشكاليات التخلف الإجتماعى والإقتصادى والسياسى فى الأجزاء المتخلفة مِن الإقتصَاد الرأسمالى الدولى التى تشهد تسربات مستمرة فى القيمة الزائدة، ومِن هنا، وكما سَنُبرهن، تَبلوَر السبب الرئيسى لإختيار جمهورية فنزويلا البوليفارية لإجراء البحث عليها، ومِن خلالها. ونفس الأسباب هى التى دفعتنا إلى إختيار السودان للتأكد من صحة المنهج المقترح. فالأولى إذاًً تمثل القارة اللاتينية، والثانية تمثل القارة الأفريقية.
ولقد ظهرت الملامح الأساسية لفكرة هذه الأطروحة فى البحث الذى نُشر(فى عددين) بمجلة النَهج(6) التى تَصدُر عن مركََز الإبحََاث والدراسات الإشترَاكية فى العَالم العربى، فى دمشق، وذلك عام 2003، وعنونتُه آنذاك بـ"الإقتصاد السياسى للصراع الإجتماعى الراهن فى فنزويلا". وأضفتُ للعنوان الرئيسى عنواناًً فرعياًً، هو:"نحو منهج مقترح للبحث"، فى إشارة إلى تجَاوز طموحات البحث حُدود معالجة موضوع، إلى تقديم منهج. منهج يَطرح نَفسَهُ بإعتباره فَرضية تُستَخدَم أدواته الفكرية وألياته النظرية فى تشريح ظواهر مماثلة أو/و مشابهة تاريخياًً أو/و جغرافياًً، وذلك بالطبع بعد الوقوف على مدى صِحته ذاتياًً، وصِحة فروضه، موضوعياًً، مِن باب أولى، بإختبار صِحة تلك الفروض على أرض الواقع، وهو الأمر الذى سَعيت مِن أجلَِه ولم أََزل أواصل سَعيى.
وفى عام 2008، أى بعد مرور خمس سنوات على نشر الدراسة الأولى بمجلة "النَهج" تطورت الفكرة الرئيسية فى مجموعة مِن المقالات، حوالى خمسة، عنونتها كذلك آنذاك بـ"ضد السطحية فى المسألة الفنزويلية" بعد أن بلغت معالجات المسألة الفنزويلية، على مستوى فعل الكتابة والتحليل النظرى، حدوداًً غير مقبولة على الإطلاق مِن الإبتذال والإختزال والسطحية، وهى الأمور التى إمتدت كى تطول، ليس فنزويلا فحسب، وإنما طالت كذلك درس مجمل الأجزاء المكونة للكُُل اللاتينى نفسه. وكان مِن المتفق عليه مع الدكتور/محمد نور الدين، فى اللقاء الذى جمع بين سيادته وبينى فى القاهرة، أن تُنشر تلك المقالات على هيئة حلقاتٍ مُسلسلة فى جريدة "البَديل" المصرية، والتى تَمكَنت مِن تحقيق نجََاحات ملحوظة مُنذ صُدور أعدادها الأولى، إلا أن الظروف المادية العنيفة، إضافة إلى الصراعَات الشخصية، التى مرت بها الجريدة حَالتا دون هذا النشر، بل وحَالتا دونَ صدور الجريدة ذاتها، فيما بَعد، للأسف الشديد!! وقد حَاولت مِن خلال هذا البحث، وهو ما طورتَهُ فى المقالات المذكورة وغير المنشورة، المضى خطوات أبعد مِن مُجرد رصد الأحداث ومتابعة مُجريات الأمور فى دولة ما بمُعاينة الأحوال المرتبكة والإنقلاب على رئيسها، والوقوف مَوقف المشاهد المؤيد مِن خلال فِعل الكتابة(مع مراعاة كُُل ذلك تماماًً وإحترامه منهجياًً) حاولت أن أُحلل وأُشرِِح أهم الظواهر التى أثارتها المسألة الفنزويلية فى مجموعِها آنذاك ولم تزل، ووجدت أن الظاهرة الرئيسية المُتَعيَن دراستها تكمن فى إنقلاب آخر، فهو ليس على رئيس الدولة هذهِ المرة، وإنما على المنَاهج الميكانيكية والرؤى الخطية التى أربَكها ما لم تعهدهُ فى كراسات التَعميم ولم تألََفهُ التيارات المهيمنة فى حَقل اليسار بوجهٍ خَاص، إنه التحالف بين ضِدين مِن المََعلوم عَنهُما بالضَرورة أنهُمَا دائماًً كََذلك ولا يُعرَف عنهما غََير ذلك. قُُوة العَمل ورأس المال!! كما حاولت كََذلك، وصولاًً لتحليل الظاهرة، تَقديم خطاًً منهجياًً لا يَدعى العصمة بالتأكيد، يَرتكز على خُطوات فكرية مُعينة إفترضتُ إستطاعتها تكوين جسماًً نظرياًً يُمكننا مِن رصد وتحليل وتشريح، أو على الأقل مدخلاًً لذلك، جميع الظواهر الإجتماعية المتسمة بالعنف والقسوة عادةًً والدَموية غالباً (إنقلابات... إضرابات... مجاعات... حروب أهلية...) والتى تثور فى بُلدان قارتى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد كُنت طموحاًً، آنذاك وإزددت، إلى أقصى حد حينما إفترضت إمكانية التعميم، مع التَحفظ اليسير بشأن بعض البلدان ذات الخصوصية النسبية، فى كُُُلٍ مِن القارتين. فمن المؤكد أن أى محاولة لصياغة مفهوم نظرى موحد فى هذا الصدد هى محاولة يمكن أن تُُرمى على الفور بالتبسيط المخل. فإذا كان صحيحاًً ان كُُُل بلد من بلاد التخلف يمثل وحده تشكيله واسعة من التكوينات الإقتصادية والإجتماعية، فكيف يكون الحال، كما يتسأل الدكتور/فؤاد مرسى، بالنسبة لهذه البلاد مجتمعة؟ يقول الدكتور/فؤاد مرسى، رداًً على التساؤل، وهو طارحه:" إن أى بلد متخلف لا يُُماثل على الإطلاق أى بلد متخلف آخر. تلك حقيقة نبدأ منها. فلكُُُل بلد متخلف خصوصيته المحددة. غير أنه فيما وراء هذا التنوع المفرط تجمع بين البلدان المتخلفة سمات عامة تسمح بإستخلاص العمليات الموضوعية الجوهرية التى تُُُشكل فى النهاية الإتجاه العام لحركتها التاريخية. من هنا، فلا ضير من المحاولة، ما دمنا لا نحاول بها أن نفرض على البلدان المتخلفة نموذجاًً صارماًً للتخلف ولا قالباًً جامداً لوصفة أخرى للتنمية(7) ".
والطرح الذى يُقدم نَفسه هنا فى تلك الأوراق إنما هو فى الحقيقة يُمثل إمتداداً فكرياًًً للمساهمات السابقة، ولن يُغايرهُ أو يُفارقهُ فى شىء؛ إذ أََحتَفَِظ بالمواقع الرئيسية نفسها، وإن كُُُل ما سَيُضَاف على هَيكَل الفِكرة الرئيسية يُعد غََوصاً أعمَق فى بنيانها، وتطويراً لعناصرها الأساسية. وليس له أدنى علاقة بإجراء التَعديل المََوضوعى أو المنهَجى..... بل انه يُمكن وبوضوحٍ شَديد وإيجازٍ أََشد القَول بأن الطَرح المقدَم فى كتابنا هذا إنما يُعد بمثابة تَعميق وتجميع شبه نهائى، فلا نهَائية فى العِلم، للمسألة كََكُل، وهو مِن هذه الوجهة أكثر إسهاباًً وأعمق تحليلاًً عن بحث "النََهج" ومقالات "البَديل". فلقد قُُمت بتقسيم الدراسة بشكل أكثر أكاديمية، مُقسِماً البحث إلى فصول ومباحث ومطالب، مُراعياً تسلسل الأفكار بعنونتها الجانبية ما أمكن، كما أضفتُ أجزاءً لم تكن موجودة مِن قبل، وبخاصة الفَصل الأول الذى يُناقش الأدوات الفكرية المستخدمة فى التحليل، والمداخلة الخاصة بالشركات دولية النشاط، وغيرها مِن المباحث التى تعاملت معها بشكل أكثر عمقاً فى التحليل، كما وَجَدتُ الأرقَامَ البيانية والجداول الإحصائية بحاجةٍ إلى بَعضٍ مِن التحديث فَحدثتها وأضفت إليها المزيد مِن الأرقام والإحصاءات بالقدر الذى أطمئن إليه نوعاً ما، إذ لا أُخفى دوماًًً شكى فى تلك الأرقام، لإخفائها أكثر مما تُظهِِر؛ وبخاصة حينما يُقدِم المتوسط الحسابى نَفسَهُ كتعبير رقمى عن حالة إجتماعية ما!! ومِن جهة أخرى، وحيث أن الخط المنهجى المقترح للبحث فى التخلف الإجتماعى والإقتصادى هو ما نهدف إليه بالأساس، فقد إستقدمنا الوضع السودانى، فى تطوره الإجتماعى عبر الزمن، كإقتصاد تابع كذلك ومتخلف، كى نتأكد من صحة المنهج الذى نقترحه. وهو الأمر الذى أفردنا له فصلاًً مستقلاًً.
الظاهرة
فى يوم12/4/2002بدأت الأنظار، واليسارية على وجه الخصوص، تتجه صوب فنزويلا. وسنخص بعضاً مِن فصائل اليسار تحديداً(مع الأخذ فى الإعتبار الجانب الآخر الذى يُمثله التنظير الإمبريالى)لكونها تُمثل، فى هذه المسألة تحديداًً، أعلى مراحل نُضج التفكير الجمعى المبتَذل، وسيكون طرازها هو السائد. وكما سبق القول، ونُكرر، بأن أهمية المسألة الفنزويلية إنما تَنبُع مِن ثرائها على صعيدى الفكر والواقع معاً، وقدرتها على إثارة العديد مِن القضايا الجوهرية فى معظمها، وإمكانيتها رسم خطوط منهجية عريضة نستطيع مِن خلالها أن نَفهم فهماً ناقداً مُجريات الأمور والأحداث الآنية فى العالم الرأسمالى المعاصر، وعلى وجه الخصوص نفهم تلك الكيفية التى تمت مِن خلالها العملية التاريخية التى كَوَنت إقتصاداًً عالمياًً بمستويات مختلفة مِن التطور والتقدم والنمو. الكيفية التى أنشأت التخلف الإجتماعى والإقتصادى"كظاهرة تاريخية" فى بعض أجزاء الإقتصاد العالمى. فى هذا التاريخ، أى 12/4/2002 أُُعلِن تنحية رئيس الدولة المنتخب هوجو تشافيز، وتولية بدرو كارمونا(8)، بيد أن هذا الإعلان لم يَستمر لأكثر مِن يومين؛ إذ عاد تشافيز إلى"ميرا فلوريس" القصر الجمهورى مرة أخرى فى 14/2/2002 رئيساًً شرعياًً لفنزويلا البوليفارية، وتم نفى كارمونا إلى كولومبيا. ومنذ اللحظة الأولى للأحداث وحتى كتابة تلك السطور، والتى قبلها، لم تَزل بعض الفصائل فى حقل اليسار(ومنظروا الإمبريالية مِن باب أولى) وبعد كُل تلك السنوات،لا ترى فى المسألة الفنزويلية التى طرحت نفسها فعلياًً فى12/4/2002 بإعلان تنحية هوجو تشافيز وتولية كارمونا (جنرال النفط) وإنتهت واقعياًً فى 24/3/2003 بعودة تشافيز رئيساًً لفنزويلا والأطاحة بالمعارضة!! لا ترى سوى مظاهرات وإضرابات وصدام ما بين عدة قوى متصارعة!! ولا تتمكن مِن رؤية ما هو أبعد مِن المظهر. فعلى طريقة النصوص إذا تَكررت تقررت، وإذا إنتشرت تأكدت، فلم تَزل تلك التيارات لا ترى المسألة إلا أدائياًًً، ولا تَتَمكن مِن مغادرة النظرة الخطية التى يُمثل الصراع الإجتماعى الراهن، بجميع مظاهره، فى فنزويلا، بمقتضاها مُجرد حالة إصطدم مِن خلالها فِكر ثورى راديكالى مع فكر إنتهازى رجعى، أو لحظة تاريخية تَصَادمت فيها السلطة المعزَزَة بإرادة جماهير تَسكن مُدن الصفيح مع معارضة إنتهازية ومتواطئة، وتُعتبر مِن ثم المسألة برمتها مثالاًًً ممتازاًً جداًً (وتعليمى مناسب، شبيه بالدرس ما بين المغرب وبين العشاء) للتدليل على القوة الكامنة فى الشعوب، وقُدرة الجماهير على تقرير مصيرها، وإمكانياتها القيام بإعادة توزيع ثرواتها، وإستطاعتها إختيار مَن يُمثلها ويُعبر عن مصالحها. هنا يَتوقف اليسار. إذ تُمثل نُقطة البدء غير الصحيحة نُقطة النهاية.
إرتباك أيدلوجى
لقد تَوقف فكر التيار المهيمن فى هذا الحقل عند تلك الإستنتاجات السهلة والمضمونة والجاهزة والتى أفرغت المسألة مِن مضمونها المتَعيَن فحصه، وحولتها إلى ظاهرة دعائية كالذى حدث، على سبيل المثال، عقب إعلان سحب السفير الفنزويلى مِن تل أبيب فى يوم3/8/2009، وصار الصراع الراهن فى فنزويلا، بعد تصفيته، لا يَختلف، كما ذكرنا، اللهم إلا جغرافياًً وتاريخياًً، عن آلاف الصراعات التى ناضل مِن خلالها المظلوم فى وجه الظالم. مَن لا يملك قِبل مَن يملك (هاكُم كراسات التعميم والموجزات الأولية بكامل بهائها !!)
إن التيارات المهيمنة حال سعيها لفهم الظاهرة(هناك، وهنا أدهى وأمر) لم تُؤمن بأهمية الوعى الأولى والرئيسى بطبيعة التكون التاريخى الخاص بطبقة "البروليتاريا النفطية" فى فنزويلا، تلك الطبيعة الخاصة التى مكنتها مِن ناصية التفاوض على الصعيد العالمى، وأهلتها للتحالف مع رأس المال، وإنما إبتداءً مِن سيطرته عليها، وسعيها، بالتوازى، للحفاظ على المكاسب الإجتماعية التى حققتها على الصعيد الإجتماعى. كما لم تَتَمكن تلك التيارات وهى تلوك المسألة الفنزويلية مِن إجراء التمييز فى حقل الإقتصاد الريعى المنجمى وهو حال فنزويلا، بين الدولة صاحبة الدخل وبين الشركة الرأسمالية المستثمِرة(أجنبية كانت أم وطنية) إذ أن ناتج البير أو المنجم يجرى تصديره؛ ومِن هنا تتحدد شروط ضَخ الإستثمارات فيه (بمراعاة كُلفـة الإستبدال المنجمى) تلك الشروط تُتِيّح فى نفس الوقت تحقيق ربح للرأسمال المستثمَر، وريع، بالتناقض على المستوى الدولى بين الدولة المالكة ورأسمال الإحتكارات التى تُهيمن على ظاهرة الأثمان الدولية. إن عدم القدرة على إجراء هذا التمييز إنما هو النتيجة الطبيعية جداًً، من ضمن النتائج، المترتبة على النظرة الخطية والمناهج الميكانيكية. بل وإنعدام المنهج. وحيث أن الأطروحة التى نعالجها فى مُجملها تنتمى إلى عالم المنهج، وفن تريب الأفكار الذى لا يَََنشغل بالإجابة؛ وإنما بالطريقة التى يستخدمها الذهن فى سبيله لتقديم تلك الإجابة، وهو بالتبعية يُنتِج إجابة بين طياته بلا شك، وحيث أن الأطروحة كذلك إنما تُقدِم نفسها على أساس مِن كونها فرضية منهجية يتعين التأكد مِن صحتها وإختبارها (المتكرر) على أرض الواقع، إذ تبدأ الفرضية مما هو أدائى وصولاًًً إلى ما هو هيكلى، حين فحص ظاهرة إجتماعية ما وتفسيرها، بل والتجاوز الطموح لتغييرها.
قارتا التغلغل الإستعمارى، والتسرب
حيث كان ذلك، فسيكون الفصل الخامس فصلاًً (إختبارياًًً) للمنهج المقترح بوجه عام، إذ سنقوم بإعمال منهجنا المقترح على أحد البلدان المقابلة لفنزويلا فى الجزء الآخر من العالم. السودان فى أفريقيا، وبتلك المثابة يتحقق هدفنا الباحث فى قانون الحركة الحاكم لظاهرة تسرب القيمة الزائدة، على عدة مستويات، إبتداءًً من النهب الإستعمارى المنظم على الصعيدين اللاتينى والافريقى، وإنتهاءًً بالحفاظ على هذا التسرب، بترسيخ التبعية، والإعتماد فى الإنتاج وتجدد الإنتاج على ما يحدث فى الأجزاء المتقدمة: أولاًً: تعقب ظاهرة تسرب القيمة الزائدة من الأجزاء المتخلفة، وتراكمها فى الأجزاء المتقدمة، عبر مراحل تطورها التاريخى؛ بتكوين الوعى حول أسباب النشؤ، وأسباب التطور، وأسباب البقاء. بالبحث عن سمات عامة تسمح بإستخلاص العمليات الموضوعية الجوهرية التى تُُُشكل فى النهاية الإتجاه العام المشترك لحركة المجتمعات المتخلفة تاريخياًًً، ثانياًً: رفض جميع المحاولات المبتذلة التى تسعى، بلا وعى دائماًً، إلى طرح مفاهيم مشوشة ومبهََمة لمجموعة الظواهر التى تخص وجودنا الإجتماعى ذاته، كأحد سكان الأجزاء المتخلفة، وعلى رأسها: التخلف والتنمية والتبعية والتقدم والنمو. ثالثاًً: النظر إلى العالم كوحدة واحدة (غير متجانسة بالطبع) تكونت تاريخياًً على مراحل، من دولة مستعمَََرة ودولة مستعمِِِرة، فى مرحلة أولى، ثم دولة تابعة وأخرى متبوعة، فى المرحلة الثانية، وإنتهاءًً فى الحاضر بأجزاء متقدمة وأخرى متخلفة. رابعاًً: إيجاد أوجه الشبه الرئيسية(غير الصدفوية) التى تجمع ما بين القارتين (أفريقيا وأمريكا اللاتينية) كمصدريين رئيسيين للتراكم الرأسمالى الأولى، على صعيد الماضى الإستعمارى، والمستقبل المهزوم. بعد أن إستنفذت الرأسمالية دورها التاريخى، تاركة نصف سكان الكوكب جوعى.
نحن هنا ومحاولة فحص طريقة إداء قانون الحركة الحاكم للرأسمالية فى كلاهما إبتداءًً من القرن السادس عشر، ومن ثم كانت فنزويلا عن أمريكا اللاتينية، والسودان عن أفريقيا، فبغض النظر عن خصوصية المكان وحتى الزمان، وبغض النظر عن جنسية المستعمر أو لغته وديانته، وبغض النظر عن النوايا التى تعلن أو تسوق، لا يوجد سوى قانون حركة واحد حكم الظاهرة الإستعمارية فى البلدين فى الماضى، وتخضع له ظاهرة التسرب فى الحاضر. وما يجمع بين البلدين، هو التخلف، الذى حددناه سلفاًً بكونه: تَسرب القيمة الزائدة مِن الداخل إلى الخارج، و/أو مِن أسفل إلى أََعلى. أى مِن داخل بلدٍ ما إلى خارجها، و/أو من طبقةٍ أدنى إلى طبقةٍ أعلى فى بلدٍ محدد. وجه المفارقة الوحيد بين البلدين هو السلعة التى تتخصص فيها كُل واحدة منهما، فعلى حين تتخصص فنزويلا فى النفط، تتخصص السودان فى الصمغ العربى"وقد شرعت فى فقد الميزة النسبية التى تتمتع بها"، عدا ذلك، نجد البلدين قد مرا تقريباًً بظروف تاريخية معينة، مثلها الإستعمار، الأسبانى فى الأولى، والمصرى، والمصرى البريطانى، فى الثانية، والأهم هو خضوعهما لنفس قانون الحركة المهيمن، والذى يرتكز على تسرب القيمة الزائدة إلى خارج الإقتصادات المستعمَرة. يُنتِج البلدان سلعاًًً أولية هامة، يتم إرسالها إلى البلدان المستعمِرة(فى السابق) والأجزاء المتقدمة من الإقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر(حالياًً) ترسَل مُحمَلة بقيمة زائدة كى تُغذى صناعات متطورة ومعقدة فى تلك الأجزاء المتقدمة، ثم يُُُُعاد تصديرها مرة ثانية إلى الأجزاء المتخلفة. أضف إلى ذلك، وهو وجه تشابه أخر، الصراع الإجتماعى الراهن الذى يَفرض نفسه على الساحتين، الفنزويلية والسودانية، صراع حول النفط فى الأولى، وفى الثانية كذلك، بعد أن كان الصراع على المياه والأرض الصالحة للرعى والزراعة. الأمر الذى يدفعنا لجعل السودان بإشكالياته الراهنة محلاًًً للبرهنة على صحة منهجنا المقترح، والذى يتكون من أربع خطوات فكرية تبدأ مِن رصد الوضع الراهن كى ينتهى بالفهم الهيكلى مروراًً بتكوين الوعى بشأن التكوين الإجتماعى فى تطوره عبر الزمن. فالفصل الخامس إذاًً فى حقيقته، فضلاًً عن تعبيره عن الظاهرة، أى تسرب القيمة الزائدة، بتطوراتها من الإستعمار حتى التبعية، فى أحد أجزاء القارة الافريقية، فهو فصل لإختبار مدى صحة المنهج المقترح، وهو المنهج الرافض لكُل النظرات والنظريات الخطية. ومن هنا تبدأ أطروحتنا، وبعبارة أدق على أساس مِن هذا، أى رفض النظرة الخطية والرؤية الميكانيكية، وإعتناق المنهج الجَدلى فى المقابل، تنبَنى الأطروحة، والتى قُمنا بتقسيمها إلى خمسة فصول، فصل أول، ويتناول المرتكزات النظرية والفكرية، وهى الأدوات والأسس التى سنعتمد عليها حين التصدى للظاهرة مَحل الأطروحة، فى مرحلة فكرية أولى حين الذهاب إلى كاراكاس، وفى مرحلة فكرية ثانية حين التوجه إلى الخرطوم للبرهنة على صحة المنهج، وسنعتبر هذا الفصل بمثابة المدخل إلى الفصول الأربعة التالية، وهى:
الفصل الثانى: المدخل الإدائى لفهم الظاهرة.
الفصل الثالث: جمهورية فنزويلا البوليفارية.
الفصل الرابع: المدخل الهيكلى لفهم الظاهرة.
الفصل الخامس: السودان، كنموذج لإختبار صحة المنهج.
---------------------------------------------------------------------------
الهوامش
(*) الأستاذ الدكتور/ محمد حامد دويدار( 19- ) درس القانون والإقتصاد فى جامعات الإسكندرية ولندن وباريس، وحصل على درجة الدكتوراه فى الإقتصاد السياسى من جامعة باريس فى عام 19، عن أطروحته بالفرنسية تحت عنوان: "نماذج تجدد الإنتاج ومنهجية التخطيط الإشتراكى"، وهو حالياًً أستاذ الإقتصاد السياسى بقسم العلوم الإقتصادية والمالية بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية. وقد عمل الأستاذ الدكتور محمد دويدار أستاذاًً سابقاًً بكلية الحقوق والعلوم الإقتصادية بجامعة الجزائر، كما عمل أستاذاًً زائراًً بمعهد الأمم المتحدة للتخطيط (داكار) وبجامعات: الرباط، وباريس، وبرازافيل، وبنين، وتناناريف، وتونس، وساكس (إنجلترا) ومونبلييه (فرنسا) وموستار (يوغسلافيا) ومعهد البحر الأبيض للدراسات الزراعية (فرنسا)، كما ساهم فى مشروعات التطوير الجامعى فى الجزائر والكونجو برازافيل ومدغشقر، كما كان المدير السابق لمشروع الأمم المتحدة الإنمائى فى ليبيا، له مؤلفات عديدة، أهمها "مبادىء الإقتصاد السياسى"، باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية فى النظرية الإقتصادية، ونظرية التخلف ونظرية التطور، وتخطيط التنمية، والإقتصاد المالى، وتاريخ الفكر الإقتصادى، وبعض هذه المؤلفات تُُرجم إلى اللغات الأسبانية والإيطالية والبرتغالية، ولقد حصل الدكتور دويدار، من مصر، فى عام 1983 على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى.
(1) هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد، ولى الدين الحضرمىّ الأشبيلىّ، ويَمتد نسبه إلى وائل بن حجر، أصله مِن أشبيليه، ومولده ومنشأه بتونس عام 1332، ويَشك إبن خلدون نفسه فى صحة نسبه، كما أنه لم يَقل لنا شيئاًً فى ترجمته عن تربيته الحقيقية؛ بل إلتزم الصمت التام إزاء حياته وحياة عائلته، على أنه عُنى بالإفاضة فى تعلمه وفى الكُُتب التى درسها فى مختلف العلوم التى كانت تُدرَس حينئذ فى تونس، راجع رسالة: طه حسين، فلسفة ابن خلدون الإجتماعية، تحليل ونقد، تعريب: محمد عبد الله عنان، دار الكتب والوثائق القومية. القاهرة 2006. ويقول عنه الزركلى فى كتابه عن الأعلام: "هو الفيلسوف المؤرخ، العالم الإجتماعى، البحاثة، رحل إلى فاس وغرناطة وتلمسان والأندلس، وتولى أعمالاًً واعترضته دسائس ووشايات، عاد إلى تونس، ثم توجه إلى مصر فأكرمه سلطانها الظاهر برقوق وولاه فيها قضاء المالكية وعُزل وأُُعيد، كان فصيحاًً، جميل الصورة، عاقلاًً، صادق اللهجة، طموحاًً، إلى أقصى الحدود، إلى المراتب العليا" حتى يُمكن إعتباره، فى تصورى، مِن أكبر إنتهازييّى التاريخ المعروفين، أنظر: الزركلى، الاعلام، المجلد الرابع، ص106. منشورات عويدات. بيروت1968 ، هذا وقد أدى الواقع الإجتماعى الذى شب فيه العلامة إبن خلدون إلى بلورة فكره بوجه عام؛ فلقد عاش فى أسوأ القرون التى عاش فيها العالم الإسلامى. سقوط بغداد على يد المغول. تحفز الصليبية للقضاء على الدويلة الإسلامية الباقية فى الأندلس. إنتشار الفتن وتعدد العصبيات. الإنقلابات. إستشراء الطاعون. . . الأمر الذى أفضى إلى ظهور مَن يُنادى بضرورة العودة إلى الدين المتمثل فى القرأن والسنة، وإن سبب تردى حال المسلمين، بعد عصر ذهبى، يرجع إلى شيوع البدع بينهم، ومِن أشهر القائلين بذلك إبن تيمية (1263- 1328) عاش إبن تيمية إذاًً فى عصر إبن خلدون، كما عاش الغزالى فى عصر إبن رشد، بيد أن الدرس فى الغالب ما يَسير فى إتجاه واحد، إنعزالى فى المقام الأول بما يُربك الفهم ويُقطِع أوصال حركة التاريخ، وحينئذ فقط سيكون مقبولاًً دراسة التاريخ إبتداءًً مِن تاريخ أوروبا، كما أرخته أوروبا. وبنفس مناهج القطيعة المعرفية . . . نعود ونقول: يأتى إبن خلدون وقد وقع تحت تأثير نزعتين قويتين، ربما متضادتين، هما حُب العِلم والبحث، وحب الجاه والسلطة، ويُكون الموقف الرافـض مِن فكـر إبن تيميـة، ويكشف عن أولى الأفكار فى بنيويـة "الديالكتيك "أو الماديـة الجدليـة، بقوله: ". . . . . ومن الغلط الخفى فى التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال فى الأمم والاجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من اهل الخليقة والسبب الشائع فى تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال فى الأمثال الحكمية الناس على دين الملك وأهل الملك أو السلطان إذ استولوا على الدولة والأمر فلابد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع فى عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى مِن بعدهم مزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء وكانت للأولى أشد مخالفة ثم لا يزال التدريج فى المخالفة حتى ينتهى إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب فى الملك والسلطان لا تزال المخالفة فى العوائد والأحوال واقعة والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومِن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فلربما يسمه السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وإنقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيراًً فيقع فى مهواة من الغلط." ولسوف يقوم مـاو تسـى تونـج بإعداد الصياغة النهائية للتطور الجدلى، حين كتب:"إن تغييرات المجتمع ترجع فى الأساس إلى تطور التناقضات الداخلية فيه، وهى التناقض بين القوى المنتجة وبين علاقات الإنتاج. التناقض بين الطبقات. التناقض بين القديم وبين الحديث . . . إن المظهر الرئيسى والمظهر الثانـوى للتناقض يحل كل منهما محل الآخر، ومن ثم يتغير طابع الظاهـرات. . . إن عمومية التناقض أو صفته المطلقة ذات معنى مزدوج. فأولاًًً توجد التناقضات فى عملية تطور جميع الأشياء، وثانياًًً توجد حركة التناقض فى عملية تطور كُُل شىء منذ البداية حتى النهاية . . . إن التناقض هو أساس الأشكال البسيطة للحركة، وهو بالأحرى أساس الأشكال المعقدة للحركة. وحالما يتوقف التناقض تتوقف الحياة ويحل الموت . . . إن عمومية التناقض تظهر فى الرياضيات: فى )+ و- ( السالب والموجب، وفى الميكانيكا: الفعل ورد الفعل. وفى الفيزياء: الكهرباء الموجبة والسالبة، وفى الكيمياء: إتحاد الذرات وتفككها. وفى العلوم الإجتماعية: الصراع الطبقى. إن الهجوم والدفاع فى الحرب، التقدم والإنسحاب، النصر والهزيمة، كُُلها مظاهر متناقضة. ولا يُُمكن لأحد منها أن يبقى بدون نقيضه، وهذان الجانبان متصارعان ومتحدان فى وقت واحد . . . وينبغى النظر إلى كُُل إختلاف فى مفاهيم الإنسان على أنه إنعكاس لتناقض موضوعى. . . إن التناقضات الموضوعية تنعكس فى التفكير الذاتى، فتشكل حركة التناقض فى المفاهيم، وتدفع التفكير نحو التطور، وتحل دون إنقطاع المشاكل التي تقوم فى فكر الإنسان . . . أن للتناقض فى كُُل شكل مِن أشكال حركة المادة صفته الخاصة. إن معرفة البشر للمادة هى معرفتهم بأشكال حركة المادة، لأنه ليس فى العالم شىء سوى المادة فى حالة حركة، وحركة المادة لا بد أن تتخذ شكلاًًً مِن الأشكال المعينة. وينبغى أن نأخذ بعين الإعتبار، عندما نتفحص كُُل شكل مِن أشكال حركة المادة، السمات التى يشترك فيها هذا الشكل مع الأشكال الأُخرى للحركة. لكن ما له أهمية أعظم هو وجوب ملاحظة السمة الخاصة التى تُشكل أساس معرفتنا بالأشياء، أى ملاحظة الاختلاف الجوهرى الذى بينه وبين الأشكال الأُخرى. وبهذا وحده نستطيع أن نميز بين الأشياء المختلفة. إن كُُل شكل مِن أشكال الحركة يحتوى فى ذاته على تناقضه الخاص. وهذا التناقض الخاص يُشكل الجوهر الخاص الذى يميز الشىء عن الأشياء الأُخرى. وهذا هو السبب الباطنى أو الأساس كما يُسمى أيضاًًًً، فى الإختلاف العظيم الذى لا يُمكن حصره بين الأشياء المتنوعة فى العالم. وثمة أشكال عديدة للحركة فى الطَّبيعة: الحركة الميكانيكية، والصوت، والضوء، والحرارة، والكهرباء، والتفكك، والتجمع، وهلم جرا. وجميع هذه الأشكال يَعتمد بعضها على بعض فى البقاء ويَختلف بعضها عن بعض جوهرياًً فى آن واحد. وأن الجوهر الخاص الذى يَحمله كُُل شكل مِن أشكال حركة المادة يتحدد بالتناقض الخاص الذى يتميز به ذلك الشكل. وينطبق هذا لا على الطَّبيعة وحدها، بل يَنطبق كذلك على ظواهر المجتمع والتفكير. فإن كُُل شكل مِن أشكال المجتمع، وكُُل أسلوب مِن أساليب التفكير، له تناقضه الخاص وجوهره الخاص. وإن تصنيف الدراسات العِلمية المختلفة يقوم بالضبط على أساس التناقضات الخاصة القائمة فى كُُل فرع مِن فروع العِلم. وهكذا فإن نوعاًًً معيناًًً من التناقضات خاصاًًً بحقل معين مِن الظواهر يُشكل موضوع الدراسة لفرع معين مِن العلوم. مثال ذلك الأعداد الموجبة والأعداد السالبة فى الرياضيات، الفعل ورد الفعل فى الميكانيكا، الكهرباء الموجبة والسالبة فى الفيزياء، التحليل والتركيب فى الكيمياء، القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والصراع بين طبقة وأُخرى فى العلوم الاجتماعية. النظرة الميتافيزيقية والنظرة الديالكتيكية فى الفلسفة، وهلم جرا، إن جميع هذه الأشياء بسبب إحتواء كُُل زوج منها على تناقض خاص وجوهر خاص، فإنها تُشكل مواضيع فروع مختلفة مِن الدراسة العلمية: وطبيعى أننا، إذا لم نعرف عمومية التناقض، لا نستطيع أن نكتشف الأسباب العامة أو الأسس العامة لحركة الأشياء وتطورها؛ كما أننا إذا لم ندرس خاصية التناقض فلن نستطيع أن نُحدد الجوهر الخاص الذى يُميز شيئاًًً عن الأشياء الأُخرى، ولن نستطيع أن نكتشف الأسباب الخاصة أو الأسس الخاصة لحركة الأشياء أو تطورها، ومِن ثم لن نستطيع أن نُميز بين الأشياء أو نُحدد حقول البحث العلمى. وفيما يتعلق بالتسلسل فى حركة المعرفة البشرية، فهناك دائماًًً نمو تدريجى مِن معرفة أشياء مفردة وخاصة إلى معرفة أشياء عامة، ولا يَستطيّع الإنسان أن يَتوصل إلى التلخيص وأن يَعرف الجوهر المشترك بين أشياء مختلفة عديدة إلا بعد إلمامه بالجوهر الخاص لكل شىء منها، وبعد أن يلم الإنسان بهذا الجوهر المشترك..... عمليتان إذاًً فى المعرفة: إحداهما مِن الخاص إلى العام، والأُخرى مِن العام إلى الخاص. وتتقدم المعرفة البشرية على الدوام بإعادة هاتين العمليتين بشكل دائرى، ويُمكنها مع كُُل دورة (وفقاًً للطَّريقة العِلمية) أن ترتفع لدرجة أعلى وأن تَتَعمق بإستمرار". أنظر: ماو تسى تونج" فى التناقض، الأعمال الكاملة، المجلد الأول. وكالة الصحف العالمية. القاهرة1968ويُعتبر إبن خلدون، وفقاًً لهارى بَارَنس فى مؤلفه عن تاريخ عِلم الإجتماع، أول كاتب يتعرض لفكرة التقدم ووحدة العمليات الإطرادية الإجتماعية، كما يَعتقد بَارَنس، إن أهم تجديد لإبن خلدون هو عرضه لفكرة المرحلية التى تمر بها المدينة، وكشفه بوضوح عن كون الحضارة فى حالة تغير مُستمر مثل حياة الفرد تماماًً، كما يذهب سوركين إلى: انه يُمكن وضِعَ إبن خلدون جنباًً إلى جنب مع أفلاطون، وأرسطو، وفيكو، وأوجست كونت، على أنه أحد مؤسسى عِلم الإجتماع، كما انه فى مجال التاريخ العِلمى، يُعتَبر مؤسسه، أنظر لمزيد مِن التفاصيل: الدكتور محمد عاطف غيث، عِلم الإجتماع، دار المعرفة الجامعية. الإسكندرية 1989 ص 8و9. ويمكن القول أيضاًً وبوضوح ان العلامة إبن خلدون تَمكن مِن الوصول إلى ضفاف بعيدة فى نظريات عديدة يتعين الإنتظار فترة طويلة تاريخياًً حتى يعيد طرحها أحد مفكرى أوروبا فى العصر الحديث؛ إذ تَمكن إبن خلدون مِن الإحاطة بنظرية القيمة، فهو يرى أن مصدر القيمة إنما يَتجسد فى العمل، فعلى سبيل المثال، أوضح إبن خلدون فى الباب الأول مِن: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم مِن ذوى السلطان الأكبر ان حقيقة الرزق والكسب، إنما هى قيمة الأعمال البشرية، حيث يقول:" وإعلم أنه إذا فُُقِدَت الأعمال، أو قََلت بإنتقاص العمران، تأذن اللهُُ برفع الكسب. ألا ترى إلى الأمصار قليلة الساكن، كيف يَقل الرزق والكسب فيها، أو يفقد لقلة الأعمال الإنسانية، وكذلك الأمصار التى يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالاًً وأشد رفاهية". ثم يَضرب إبن خلدون مثلاًُ:"حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريانها فى القفر لما أن فوران العيون إنما يكون بالإنباط والإمتراء الذى هو بالعمل الإنسانى".ويتبع إبن خلدون فى مسلكه هذا تسلسل معين: فالله سبحانه وتعالى خلق جميع ما فى العالم للإنسان وإمتن عليه فى غير أية مِن كتابه. ويد الإنسانة مبسوطة على العَالم وما فيه بما جعل اللهُُ له مِن الإستخلاف. ثم أن أيد البشر منتشرة، فهى مشتركة فى ذلك، والإنسان متى إقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف؛ سعى فى إقتناء المكاسب ليُنفِق ما أتاه الله منها فى تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها". ثم يَنقِل إبن خلدون فى الفصل الثانى مِن نفس الباب عن الحريرى أنه قال:"إن المعاش إمارة ونِجارة وفِلاحة وصناعة". وإستبعد الإمارة لأنها ليست بمذهب طبيعى للعيش، وتُقدم الفلاحة لأنها بسيطة وطبيعية وفطرية، كما يَستبعد إبن خلدون إبتغاء الأموال مِن الدفائن والكنوز وكونها لا تُعد مِن المعاش الطبيعى، ويوضح إبن خلدون معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها فى الفصل التاسع مِن جهة كونها محاولة للكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء وذلك القدر النامى أسماه ربحاًً. أنظر: تاريخ العلامة إبن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر، دار الكتاب اللبنانى 1960. وتتميز عناصر الإنتاج، عند إبن خلدون، بتحديد أوجه التفرقة بين عناصر الإنتاج اللازمة لأداء العملية الإقتصادية، وحصرها فى: العمل، ورأس المال، والموارد الطبيعية (المقدمة، طبعة دار الشعب، ص326) أما العمل فقد ذكره فى أماكن عديدة وإعتبره أهم عنصر مِن عناصر العملية الإنتاجية، إذ بدونه لا يُمكن إتمام أى شىء نافع للإنسان. وهو حينما يتكلم عن العمل فهو يتحدث مباشرة عن القدرة على العمل، القدرة الموجودة لدى الإنسان (المقدمة ص344) ولكن تلك القدرة، وفقا لإبن خلدون، ليست مجرد قدرة جسمانية، وإنما هى أيضاًً قدرة فكرية وذهنية، فبتتبع الخط المنهجى لإبن خلدون نتوصل معه إلى أن القدرة الجسمانية بمفردها دون القدرة الذهنية، لا يُمكن أن تَخلِق الألات والأدوات التى تُساعد فى الإنتاج، بمعنى أن العمل هو الخالق لرأس المال، المركََب مِن أدوات عمل ومواد عمل، تم خلقها بعمل الإنسان.
(2) للتفصيل، يمكن الرجوع إلى المواقع الألكترونية الأتية:
)www.arabicpanorama.com ( (Error! Hyperlink reference not valid.(
(3) لتكوين وعى عام، وناقد، بصدد ممارسات صندوق النقد الدولى وتوجهاته الفكرية أنظر: أستاذنا الدكتور محمد دويدار، صندوق النقد الدولى والإقتصاد المصرى. من بيده مفتاح الآخر؟ محاضرة ألقيت فى إطار الموسم الثقافى للجمعية المصرية للإقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع فى 13/12/1987، منشورة فى مجلة مصر المعاصرة. القاهرة 1988.

(4) لتكوين الوعى حول التكوين الإجتماعى لظاهرة التخلف الإقتصادى المصرى فى تطورها عبر الزمن، لتكوين الموقف الرافض لسطحية النظرية الرسمية، أنظر: أستاذنا الدكتور محمد دويدار، الإقتصاد المصرى بين التخلف والتطوير، دار الجامعات المصرية. الإسكندرية، 1978. أيضاًً: محمد دويدار، المشكلة الزراعية والتطور الرأسمالى فى مصر. قصايا فكرية. القاهرة 1990، ولإستكمال التصور النظرى لخط سير الإقتصاد المصرى بعد إدماجه الكلى فى الإقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر: أستاذنا الدكتور محمد دويدار، الحركة العامة للإقتصاد المصرى فى نصف قرن"رؤية إستيراتيجية" إصدارات سطور الجديدة، القاهرة 2010، كما يتعين الرجوع إلى كُُُلٍٍ من: الدكتور أحمد صابر سعد، تحول التكوين المصرى من النمط الأسيوى إلى النمط الرأسمالى، دار الحداثة، بيروت 1981، أيضاًً: الدكتور أحمد الحته، تاريخ مصر الإقتصادى فى القرن التاسع عشر، مطبعة المصرى، القاهرة 1967. ولتكوين تصور موسوعى لما قبل الحملة فإنه يتعين الرجوع إلى: عبد الرحمن الجبرتى، وحسن العطار، مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس، تدقيق: أحمد عبده على، مكتبة الآداب، القاهرة 1998، ولتكوين نفس نوع الوعى بعد الحملة يتعين الرجوع إلى: عبد الرحمن الرافعى، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر، بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية، مصر 1760- 1840، ترجمة: محروس سليمان، ومراجعة: الدكتور: رؤوف عباس، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. القاهرة 1993.
(5) أنظر بصفة أساسية: الدكتور/فؤاد مرسى، التخلف والتنمية، دراسة فى التطور الإقتصادى، دار المستقبل العربى، القاهرة 1982(ص51-62) وكذلك: أستاذنا الدكتور/محمد دويدار، محاضرات فى الإقتصاد الدولى، دار الأندلس للنشر والتوزيع، 1995(ص122 وما بعدها)
(6) محمد عادل زكى، الإقتصاد السياسى للصراع الإجتماعى الراهن فى فنزويلا، مجلة " النهج" العدد (223و224) مركز الأبحاث والدراسات الإشتراكية فى العالم العربى، دمشق 2003 .
(7) الدكتور/فؤاد مرسى، التخلف والتنمية، دراسة فى التطور الإقتصادى، المرجع السابق(ص8)
(8) ولد بيدرو كارمونا عام 1942، ودرس الإقتصاد فى بلده فنزويلا، ثم فى بلجيكا. وتقلد العديد مِن الوظائف المهمة والحساسة ويُمكن القول بأنه عمل أغلب حياته فى القطاع الخاص كما مَثل فنزويلا فى بعض التظاهرات الاقتصادية المالية فى الخارج. ومِن أبرز الوظائف التى تقلدها كارمونا: رئاسة إتحاد غرف التجارة والزراعة والصناعة والخدمات المعروفة باسم"فيداكمراس"والتى تَضم كبرى المؤسسات الاقتصادية الفنزويلية.وكذلك قام برئاسة الجمعية الفنزويلية للصناعة والبتروكيمياء مِن 1992 إلى 1995. ومِن 1995 إلى 1997: أيضاًًً شَغل منصب رئيس الكونفدرالية الفنزويلية للمصنعين. كما عُين مندوباًً خاصاًً لفنزويلا لدى مقر الاتحاد الأوروبى ببروكسل وكذلك مندوباًً لدى جمعية أميركا اللاتينية للتجارية الحرة بمونتفيديو. ويُعد كارمونا، مِن أهم المناهضين لسياسات تشافيز، وفور أن عُين كارمونا فى حكومة الإنقلاب على تشافيز، عَين مباشرة فى إدارته بعض الوجوه الفنزويلية ذات التوجه اليمينى المتطرف، إلا أنه تمت تنحيته بعد 48 ساعة من الحُُكم بعد مظاهرات شعبية وتدخل الجيش لصالح هوجو تشافيز. وعلى الرغم مِن قِصر مدة ولايته فقد ألغى كارمونا 49 مرسوماًً صادراًً عن الحكومة المخلوعة وتشمل قطاعات حساسة مثل الإصلاح الزراعى وإعادة هيكلة القطاع النفطى الذي أُمم عام 1976. غادر بيدرو كارمونا (الذى وُجهت إليه مجموعة من الإتهامات أهمها التمرد العسكرى ومحاولة الإستيلاء على السلطة) القصر الرئاسى وعاد إلى منزله حيث فُُُُرِضت عليه الإقامة الجبرية. وقد وافق تشافيز على رحيله إلى كولومبيا بعد أن وافقت بوجوتا على منحه حق اللجوء السياسى.