القيادة العسكرية وتخوفات الشعب المشروعة من إجهاض أهداف الثورة


محمد بودواهي
2011 / 2 / 19 - 21:14     

لقد كان الوضع السياسي العام في مصر ما قبل الثورة تتناغم فيه المصالح لدى قوى التحالف الطبقي المسيطر الذي بسط هيمنته ونفوذه على كل مفاصل الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية والمجتمعية في إطار دولة تبعية لا تمارس سيادتها إلا وفق الرؤى والتصورات التي تفرضها عليها الدول الإمبريالية وتوصيات ونصائح مؤسساتها المالية الدولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي
وتعتبر القيادة العسكرية برئاسة مشير طنطاوي من بين المؤسسات الأكثر التصاقا واقترابا من رأس نظام الحكم السابق الذي كان يمثله حسني مبارك . فالجهازان بقيادة الرجلان كانا يعملان في إطار من التوافق التام حيث كان الإثنان هما من يقرران مصير البلد على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستراتيجية باعتبارهما رأسا كل من السلطة المدنية والسلطة العسكرية .
فمن المعلوم أن منذ تأسيس الجمهورية الأولى من طرف الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي توالى على الحكم كل من أنور السادات وحسني مبارك وهما القياديان في مؤسسة الجيش مما يعطي ذاك الطابع العسكري لنظام الحكم في مصر . غير أن حسني مبارك حاول بعد سنواته الأولى من الرئاسة أن يضفي على حكمه تلك الصبغة المدنية مما جعله يلجأ إلى تنظيم الإنتخابات ( المزورة ) حتى يحضى ببعض من المصداقية لدى الرأي العام الداخلي والرأي العام الدولي وحتى يساير تلك المتغيرات الدولية التي كانت تدعو إلى إسقاط الأنظمة العسكرية وإحلالها بأنظمة تؤمن بالتعددية و تمارس الديموقراطية و تضمن مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا ، لكن وفق المنظور الإمبريالي الأمريكي طبعا ، هذا في الوقت الذي يحافظ فيه على دوره القيادي في المؤسسة العسكرية كقائد أعلى للقوات المسلحة المصرية
إن هذا التاريخ الطويل لاندماج قيادة الجيش في نظام الحكم المصري وفي تناغم الأدوار بينهما يجعل المرء يتساءل عن الخلفية التي جعلت حسني مبارك يسلم السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعدما اقتنع بحتمية الرحيل بعد مشاهدته لزحف مئات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين نحو القصر الرئاسي يوم جمعة الزحف ، وهو الأمر الذي يجرنا بالتالي إلى التساؤل عن طبيعة الأعمال التي يقوم بها هذا الجهاز في ظل المرحلة الانتقالية وكذا طبيعة مواقفه من العديد من القضايا ذات الأيعاد السياسية والاستراتيجية التي ما فتئ الشارع المصري يطرحها في أجندته المطلبية الراهنة
إن الثورة رغم تملكها لإرادة التغيير غير أنها لا تتملك رؤية مستقبلية واضحة . فغياب قيادة سياسية للثورة وغياب تصور للبديل جعل واقع الثورة يتأرجح بين تصورات عدة لما قد ستؤول إليه الأمور في المستقبل . فهناك بالإضافة إلى بقايا النظام السابق الذين لا زالوا يتربصون بالوضع ، والإخوان المسلمين الذين يتحايلون على ضغوطات القوى الخارجية بتقديم العديد من التنازلات ، ومحاولات قوى الإصلاح في ترميم البيت الداخلي بعد سقوطها من أعين مناضليها بسبب مواقفها الخنوعة والمتذبذبة من الثورة ، ومجموع التنظيمات الشبابية التي يرجع لها الفضل في إشعال الثورة وفي السير بها حتى تحقيق النصر ، هناك المؤسسة العسكرية صاحبة الشرعية في قيادة المرحلة الانتقالية الحالية والتي لها تصوراتها الخاصة لما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في المرحلة المقبلة حيث لا تستطيع أن تسير في ركب الشعارات الثورية التي يرفعها الشارع نظرا لثقافتها السياسية الرجعية التي تشبعت بها في الفترة السابقة الممتدة لعقود طويلة من الزمن حيث ستعمل كل ما في وسعها لتلجيم طموح الجماهير الداعي إلى تأسيس الجمهورية الثانية وفق مبادئ الديموقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة عبر الشرعنة لدستور لا يتضمن إلا النزر القليل من قيم الحداثة والعدالة والديموقراطية والجزء الضئيل من المساواة بين الجنسين وبين الطوائف حيث سيبقى العنصر النسوي دون طموحاته المشروعة في تحقيق مساواة كاملة وحيث سيظل الأقباط في تلك الوضعية الدونية التي تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية بسبب المادة الثانية في الدستور التي تجعل من الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد والتي لا ينتظر أن تتغير في مشروع الدستور الجديد
إن ما يجعل الشعب المصري يتخوف عن مستقبل ثورته هو هذا التحول البائس الذي تؤسس له أطروحات الجيش والذي لا تحاول فيه الغوص في جوهر القضايا الحقيقية المطروحة على الساحة من قبل الشعب ولا الأخد بالمطالب الهامة التي سطرها ثوار ميدان التحرير وعموم جماهير الشعب بل تروم فقط تحقيق بعض التغييرات البسيطة في المشهد العام لنظام الحكم كحل مجلسي الشعب والشورى وتعديل الدستور عوض تغييره وإيقاف بعض المسؤولين والوزراء في النظام السابق ومحاسبتهم وتجميد أموالهم وتقديمهم كأكباش فداء دون المساس بديناصوراته العملاقة الذين لا يظهرون في الصورة والذين اغتنوا بشكل فاحش وبطرق غير مشروعة بما فيهم بعض قياديي المؤسسة العسكرية ا دون الكلام على عائلة الرئيس وبعض المقربين منه وعلى 70 مليار التي افتضح أمره بها
فما الذي يا ترى يجعل المجلس الأعلى يحافض على بقاء تلك الحكومة التي نصبها الرئيس السابق ويعتبرها حكومة تصريف أعمال في الوقت الذي توجد فيه كفاءات عليا تستطيع تسيير المرحلة الانتقالية بجدارة في ظل حكومة تكنوقراطية ؟ وما الذي جعله يطالب بتجميد أموال بعض الوزراء السابقين كوزير الداخلية والإعلام والعدل والتجارة وبعض المتنفدين كأحمد عز دون المطالبة بتجميد اموال حسني مبارك وعائلته وأقاربه ؟ وما الذي يضر المجلس الاعلى إذا كانت توجهاته وطنية لا ترضخ لأية ضغوط أجنبية خارجية وحسم الموقف بتحقيق مطالب الشارع دفعة واحدة دون تأخر أو تلكؤ أو مساومة خاصة إذا كانت هذه المطالب لا تحتاج إلا إلى قرارسياسي واضح وشجاع ؟ ما الذي جعل المجلس الأعلى يستمر في اجترار بعض مظاهر النظام البائد وشخصياته وسياسته وأجندته الداخلية والخارجية في الوقت الذي قام الشعب بالثورة بهذف التغيير الشامل ؟ ألا يتناقض المجلس الأعلى مع كل تصريحاته السابقة التي عبر فيها عن حياديته بما يقوم به الآن من تصريف لمواقف لا علاقة لها بما يرفعه الشعب من شعارات ومطالب وتصورات ؟ أليس المجلس الأعلى والقيادة العسكرية وجه من وجوه النظام البائد حتى يطاب منه الإسراع في تبني مبادئ الثورة والعمل وفق شرعيتها للتأسيس للجمهورية المصرية الثانية على أسس سليمة ومتينة ؟
إنها أسئلة كثيرة يجب طرحها حول الوضعية التي توجد عليها مصر في ظل الحكم الاستثنائي المؤقت الذي تقوده القيادة العسكرية في المرحلة الانتقالية الحالية والتي تتطلب إجابات شافية حول ما يجب أن يكون عليه الشارع من حذر ويقظة شديدين لما يكتنف هذه المرحلة من التباس وغموض في مواقف مؤسسة الجيش التي لا شك أنها تتعرض لضغوطات غربية وأمريكية بالخصوص حتى تحول دون نقض كل المعاهدات والاتفاقيات التي وقعتها مصر مع العديد من الأطراف الدولية خاصة منها معاهدة السلام مع إسرائيل المسماة باتفاقية كامب ديفيد ، وحتى تقف في وجه أية محاولة ترمي إلى إخراج مصر من شرنقة التبعية السياسية والاقتصادية وتأسيس دولة حرة ذات توجهات وطنية وشعبية وديموقراطية
إن المرحلة الانتقالية التي يمر منها الشعب المصري حاليا لتعتبر أكثر أهمية وحساسية من الفترة التي أنجبت فيها الجماهير الشعبية ثورتها المجيدة . فالطبقات الشعبية وطليعتها الطبقة الوسطى قامت بدورها الكامل في التضحية والنضال حتى أسقطت النظام الديكتاتوري المقبور . أما المرحلة الحالية فهي تعتبر أكثر حساسية ومصيرية من سابقتها نظرا لما تتطلبه من جهود مكثفة ووعي كاف وأعمال مسؤولة من قبل الطبقة السياسية النظيفة التي لها رؤى وتصورات سياسية جادة وهادفة وتطرح مشاريع مجتمعية بديلة قادرة على النهوض بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعموم الشعب وقادرة على التقليل من الفوارق الطبقية الصارخة بشكل كبير حتى تكون عند حسن ظن الشعب وحتى يمكن القول أن الثورة أعطت ثمارها