مؤسسات تصنيف عالمية مصابة بعمى الألوان: هل من مجال لمؤسسات بديلة ترى واقع الناس الفعلي، وليس أثرياءهم فقط؟


داود تلحمي
2011 / 2 / 18 - 20:11     

تحت عنوان "معهد ’ليغاتوم’ البريطاني: ...تونس الأكثر ازدهاراً في إفريقيا"، نشر أحد المواقع العربية على شبكة الإنترنت، بتاريخ 30/11/2010، الخبر المطول التالي الذي نورده كما هو، بكل استطراداته:
"احتلت تونس المرتبة الأولى إفريقياً والثالثة عربياً في مؤشر الازدهار لسنة 2010 وحلت في المركز 48 عالمياً في التصنيف السنوي للازدهار الذي يعده معهد "ليغاتوم" البريطاني.
ويستند التصنيف إلى تعريف عام للازدهار يشمل التقدم المادي ونوعية الحياة، إذ تبيّن أن أكثر الدول ازدهاراً في العالم ليست بالضرورة تلك التي فيها معدل مرتفع من الناتج المحلي الإجمالي، بل هي تلك التي يتمتع سكانها بالسعادة والصحة والحرية.
وبحسب مؤشر الازدهار لمعهد "ليغاتوم" لسنة 2010، فقد اعتمد مؤشر هذا العام على تحليل موضوعي للمعطيات يقوم على 8 عناصر أساسية، تم عرضها في شكل مؤشرات فرعية، تعد مقومات أساسية للازدهار، وهي درجة النمو الاقتصادي، وحفز المبادرة والابتكار، والحرية الفردية، والتعليم، والصحة، والاستقرار والأمان، والحوكمة، ورأس المال الاجتماعي.
وحلت تونس في المرتبة 49 لمؤشر النمو الاقتصادي السليم. أما بالنسبة إلى المبادرة والابتكار فحلّت تونس في المرتبة الـ 45 عالمياً، علماً بأن هذه الفئة تعكس درجة القابلية لوجود مؤسسات جديدة وإمكان الحركة التجارية لأفكار جديدة.
أما في مؤشر الحوكمة الرشيدة فقد حازت تونس المرتبة 50 وهو مؤشر يبين مدى شفافية الحكومة ونزاهتها في التعامل مع المواطنين.
من جانب آخر، جاءت تونس في المركز 44 بالنسبة لتوفر الاستقرار والأمان.
أما في المجالات الاجتماعية، فقد احتلت تونس المرتبة 41 بالنسبة للتعليم والمرتبة 50 لقطاع الصحة، بينما حل رأس المال الاجتماعي في المركز 69 وهو مفهوم يُعنى بمجموعة القيم والأخلاق الاجتماعية التي تسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي.
ووفقاً لهذا الترتيب، احتلت النرويج، وللعام الثاني على التوالي، قائمة الدول الأكثر ازدهارا في العالم. وبحسب الترتيب، تلتها كل من الدنمارك وفنلندا وأستراليا ثم نيوزيلاندا.
أما بالنسبة للدول العربية، فقد حلت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً والـ 30عالمياً، تلتها الكويت في المرتبة الـ31، وحصلت تونس على المرتبة الثالثة عربياً والـ 48 عالمياً، ثم المملكة العربية السعودية التي حازت المرتبة الـ49 عالمياً.
فيما جاءت الأردن في المرتبة الـ 74، والجزائر في المرتبة الـ79، وسوريا(83)، ولبنان(84)، ومصر(89)، وإيران(92)، واليمن(105).
ويرجع متابعون للشأن التونسي هذا التصنيف المتقدم لتونس إلى المسيرة التنموية التي سلكها هذا البلد العربي الإفريقي خلال العقدين الماضيين، وبالخصوص حجم النقلات الهيكلية التي أدركها النسيج الاقتصادي والمؤسساتي التونسي وكذلك المشهد الاجتماعي بتجلياته المختلفة.
فقد أقرت الحكومة التونسية إصلاحات وإجراءات وتحديثات استهدفت الارتقاء بتنافسية المؤسسات الإنتاجية وتعصير خدمات الإدارة وتطوير وتجويد أداء الجهاز المالي والمصرفي من ناحية، وسعت، من ناحية أخرى، إلى تعزيز مؤشرات التنمية البشرية من صحة وتربية وتعليم وتشغيل ورعاية اجتماعية وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، التي تعد في كل البلدان المحرك الأساسي للتقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي.
يذكر أن تونس قد احتلت المرتبة الأولى إفريقيا والرابعة عربياً و32 عالمياً من أصل 139 بلداً وفق التقرير الأخير لمنتدى دافوس الاقتصادي.
كما تصدرت تونس قائمة الدول العربيّة التي تتمتّع بمستوى عيش جيّد حسب التصنيف السنوي للمؤسسة الدوليّة "انترناشونال ليفينغ" التي تعتبر مرصداً لجودة الحياة في العالم."- انتهى النص المستشهد به (التسطير تحت الكلمات مضاف من قبلنا- الكاتب)-.
***
طبعاً، الآن، وبعد كل ما حدث في تونس، يبدو هذا النص وتقييمات المؤسسات الدولية المشار إليها فيه أقرب الى الخيال العلمي، أو بالأحرى غير العلمي. خاصة وأن النص نُشر على الموقع العربي المعني قبل أقل من ثلاثة أسابيع من اندلاع الثورة الشعبية التونسية، التي أطاحت في أقل من شهر من اندلاعها بالنظام الذي تشيد به بشكل واضح كل هذه المؤسسات الدولية البارزة، ومن بينها قدس أقداس النظام الرأسمالي المعاصر: منتدى دافوس السنوي لأركان هذا النظام وشخصياته الأبرز.
بقي أن نتساءل بعد كل ما حدث في تونس، وبعدها في مصر، إذا ما كانت كل هذه المؤسسات الدولية التي تحيط نفسها بهالة من الهيبة والجدية ستقوم بإعادة النظر ببعض مرجعياتها ومعاييرها لتقييم دول العالم المختلفة.
ولكن ربما نطلب منها المستحيل. فهذه المؤسسات ليست محايدة، وهي جزء من النظام الرأسمالي الجائر الذي قاد الى ما قاد اليه من تشوهات في بلدان مثل تونس ومصر وغيرها من بلدان المنطقة والعالم، التي تشهد هذه الأيام تحركات الإحتجاج على انعكاسات الأزمة الرأسمالية الأكبر في مسار هذا النظام منذ الثلاثينيات الماضية، وزادت من الفقر والبؤس والفاقة ليس فقط في عالمنا "الثالث" المظلوم والمنهوب والمستباح، وإنما كذلك في العالم الرأسمالي المزدهر والغني نفسه، كما يتبين من تفاقم نسب البطالة والفقر في بلدان أوروبا وأميركا الشمالية وبلدان رأسمالية متطورة أخرى.

هل من مجال لمؤسسات تقيس مستوى العدالة الإجتماعية واحترام كرامة البشر؟!

ويبقى أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي بعد الإزدهار الهائل لمؤسسات التصنيف الدولية المتعددة التي تضع قوائم لبلدان العالم وفق معاييرها، التي، كما يتضح أعلاه، ليست في الأغلب بريئة وجادة: هل بالإمكان أن تقوم مؤسسات تهمها مصائر البشر الأحياء، المواطنين العاديين وليس النخبة الثرية وحدها وحاشياتها، وتهمها كرامة الناس وتلبية حقوقها الأولية في الحياة الكريمة والحرة وفي توفر الأمن الإقتصادي والإجتماعي للجميع، بوضع تصنيف لدول العالم وفق مستوى العدالة الإجتماعية، مثلاً، أو احترام كرامة كل المواطنين، أو التقارب بين المداخيل ومستويات المعيشة في ما بينهم، أو توفر التأمينات والضمانات الأساسية لكل المواطنين في مجالات التعليم والصحة والحق في العمل وفي رعاية الأطفال والأمهات والمعاقين والمرضى والمسنين؟
نضع هذا التساؤل أمام الجهات، العربية وغير العربية، اليسارية والإنسانية المستنيرة، التي تتبنى مبادئ حرية المواطنين وكرامتهم واحترام حقوقهم في الحياة اللائقة، كل المواطنين بدون تمييز، بغض النظر عن أصولهم وجنسهم ولون بشرتهم ودينهم وعقائدهم ولغاتهم ومستوى تطور مجتمعاتهم وبلدانهم. فربما يفيد ذلك في تفادي بعض عمى الألوان الذي تقود إليه تصنيفات مؤسسات دولية لا ترى البشر كلهم بنفس المعيار، وتنظر باهتمام أكبر الى أصحاب الثروات والسطوة كمرجعية لتقييماتها وأحكامها على بلدان العالم، وخاصة عالمنا "الثالث" إياه، الذي فاجأ هذه المؤسسات والقائمين عليها مفاجأتين كبيرتين خلال أقل من شهرين، بانتصار ثورتي تونس ومصر الشعبيتين.