درس من ثورتي تونس ومصر الشعبيتين


حسقيل قوجمان
2011 / 2 / 18 - 12:36     

عرفنا تونس الخضراء ببوشناق وذكرى والرباعي وسنية والجبالي وصوفيا وفاخت وعشرات الاصوات الجميلة والكفاءات الموسيقية الرائعة عرفناها بمجالس الطرب، ونسينا او تجاهلنا تونس الخضراء بشبابها وصبيانها وصباياها واطفالها وشيوخها. نسيناها بعمالها وكادحيها وعاطليها وموظفيها، نسيناها بجياعها ومرضاها الى ان فوجئنا بثورتها الشعبية السلمية التي هزت الشرق الاوسط وهزت العالم كله.
راينا شعبا تونسيا متراصا متماسكا كالبنيان يجوب مدن وشوارع تونس موحدا كشخص واحد يوحده شعار واحد هو اسقاط نظام بن علي. راينا شعب تونس الخضراء يتحدى بصدوره القوات التي رباها نظام جثم على صدوره عقودا وسامه كل انواع العذاب والاضطهاد وانفق المليارات من ثروات الشعب على تدريب وتثقيف قوات امن في كيفية مقاومة الحركات الشعبية بخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع والطلقات المطاطية والطلقات الحية والهراوات. تصدى هذا الشعب المتراص بمظاهراته السلمية كل هذه القوات وحقق الخطوة الاولى من شعار اسقاط النظام باجبار رأسه بن علي على الهرب. ونراه متمسكا بشعار اسقاط جسم هذا النظام ونامل ان يفلح في تحقيق اهدافه حتى النهاية الظافرة.
سخر مني بعض القراء حين وضعت في مقال "اليسار والحركات اليسارية" الذي اعيد نشره حاليا في الحوار المتمدن تعريفا لليسار هو"المفهوم الحقيقي لليسار في مجتمع معين حسب رايي هو جميع الذين لهم مصلحة في تغيير النظام السياسي والاجتماعي الى نظام افضل". وبينت ان الحركات والمنظمات اليسارية هي عبارة عن جزء واع من هذا اليسار تقوم بتوعية وتثقيف وتنظيم هذا اليسار وتقاس كفاءة كل منظمة بمقدار اندماجها في النضالات اليومية الاقتصادية والسياسية لهذا اليسار. ولكننا نرى اليوم ان هذا الشعب الذي يجد من مصلحته تغيير النظام الاجتماعي الى الافضل وجد طريقه الى وسيلة الوصول الى هدفه الاسمى، اسقاط النظام الفاسد وتحقيق نظام افضل. انتفض الشعب التونسي كله من اجل تحقيق نظام افضل واشتركت جميع الحركات السياسية السابقة بهذا الشعب الثائر لا بصفتها منظمات يسارية او غير يسارية وانما بصفتها جزء من هذا الشعب الثائر.
قيل لنا ان هذه الثورة الشعبية حركة تلقائية لا قيادة لها. ومقياسنا في ذلك هو ان ما الفناه من حركات كانت تجري تحت قيادة حزب او منظمة او عدة احزاب تتبنى شعارات وتحاول تحقيقها بدفع مؤيديها الى التظاهر والنضال من اجل ذلك. ولكننا وجدنا في ثورة تونس شيئا لم نألفه. وجدنا شعبا ينتفض كله مرة واحدة بدون ان نرى حزبا او منظمة تدعوه الى ذلك. راينا شرارة تتمثل بشاب احرق نفسه تدلع لهيب ثورة شعبية عظيمة لم نشهد مثلها في حياتنا. ولكن الحقيقة التي لم نرها هي ان هذه الشرارة لم يكن بامكانها ان تدلع لهيب الثورة لولا وجود الوقود اللازم لاندلاعها، لولا انها كانت مهيأة ومعدة كان الشعب يتأهب لاجرائها فاندلعت من هذه الشرارة.
الحقيقة التي رايناها هي ان شبابا لم نشعر بهم استفادوا من التطورات التكنولوجية الهائلة لكي يعدوا وينظموا هذه الثورة عن طريق الانترنت بجميع اشكاله وبمثابرة واعداد لمدة طويلة. راينا ثورة ذات قيادة حكيمة خفية لا نراها قادت الثورة قيادة عظيمة بحيث ان الثورة لم تعرف خرقا واحدا للنظام والامن ولم يجر خلالها القاء حجر واحد ولم يجر اعتداء واحد خلال هذه المدة الطويلة من ايام الثورة. راينا الخرق للامن كله يجري من قبل قوات النظام ذاته مما ادى الى تضحية الكثيرين من الثوار بارواحهم. راينا قيادة الثورة نجحت في السيطرة على الامن في المدن بعد انسحاب قوات الامن فساد الامن والنظام في هذه المدن بشكل لم نألفه من قبل. ان للثورة قيادتها الحكيمة والخبيرة التي افلحت في التوصل الى الشعار الذي يوحد الشعب، اسقاط النظام، فنجحت في دفع الشعب كله في هذه الثورة الشعبية العظيمة. فللثورة قيادتها غير المألوفة في الثورات والانتفاضات السابقة، قيادة شبابية لا تظهر الا من خلال سلوك الثائرين وتصرفاتهم وشعاراتهم وصمودهم وتلاحمهم. نجحت الثورة في اسقاط راس النظام ولم تفلح بعد في اسقاط جسمه.
ان الحكومة التي نشأت بعد هرب بن علي هي حكومة بن علي بغيابه ما زالت تنفذ نفس السياسات السابقة وقد اعلن الغنوشي ان الوزراء الباقين من الحكومات السابقة نظيفي الايدي، وربما انظف من يديه هو الذي كان خادما امينا لابن علي طوال سنوات خدمته لابن علي كوزير اول وربما قبل ذلك.
لم تكن ثورة الشعب التونسي ثورة ضيقة مقصورة على تونس بل كانت شرارة لثورات اخرى في بلدان اخرى تحكمها حكومات شبيهة بحكومة ابن علي او اسوأ منها. وقد ظهر هذا اولا في مصر حسني مبارك. قيل لنا قبل اندلاع الثورة الشعبية المصرية ان مصر تختلف عن تونس وان توقع حدوث ما حدث في تونس هو مجرد هراء. ولكن حدث في مصر اكثر مما حدث في تونس. فاسقطت الثورة نظاما فاسدا جثم على صدور الشعب المصري ثلاثين عاما.
وكان بقاء حكم مبارك بعد سقوطه اكثر وضوحا مما حدث في تونس. فالحكومة الحالية هي حكومة حسني مبارك بغيابه والمجلس العسكري هو مجلس مبارك العسكري بغيابه ورئيس المجلس العسكري كان وما زال وزير الدفاع في حكومة حسني مبارك. واذا تتبعنا السياسة التي اتبعها المجلس العسكري واتبعتها حكومة حسني مبارك هي تنفيذ البرنامج الذي اعلنه حسني مبارك في خطابه الاخير ولم يجر اي شيء يختلف عن ذلك سوى حل البرلمان الذي لم يذكر في خطاب حسني مبارك. ان الحكومة الحالية والمجلس العسكري ما زالا يعتبران حسني مبارك رئيسا للجمهورية وحتى قرأت خبرا ان عمر سليمان ما زال يمارس مهامه كنائب للرئيس او كرئيس بالنيابة. وقد اعرب بيان المجلس العسكري عن شكره لحسني مبارك على الخدمات التي قدمها للشعب المصري خلال سنوات حكمه الثلاثين. وفي رايي ان هذا الشكر هو اهانة للشعب المصري وللثورة.
كل ما تقدمه هذه الحكومة هو وعود اذ يجري تعديل الدستور ويجري الاستفتاء عليه بعد شهرين وتجري الانتخابات بموجبه بعد ستة اشهر اي نفس الاشهر التي اعلن حسني مبارك انه يقوم بها باجراء الانتخابات الحرة. كل هذه الوعود تهدف الى اخماد الثورة ثم العمل على الانتقام من الشعب المصري ومن قادته اشر انتقام.
ان الشعب المصري الثائر وكذلك الشعب التونسي الثائر يعرفان كل ذلك ويعلنان استمرار الثورة حتى تحقيق جميع المطالب التي حدداها لهما كاملة. وليس في كل ما كتبته اعلاه اي جديد لا يعرفه الثوار ويعرفه العالم الذي يتتبع ثورتي تونس ومصر ويتتبع تداعيات الثورتين في البلدان العربية الاخرى مثل اليمن والجزائر والاردن والبحرين وليبيا وينتظر انتشارها الى البلدان الاخرى وكلنا نأمل في انعقاد مؤتمر قمة دائمي في الرياض لا انفضاض له.
ان الهدف من مقالي هذا هو بحث ما يمكن ان تحققه ثورة الشعب التونسي وثورة الشعب المصري والثورات التي ستليها في حالة نجاحها نجاحا كاملا وتحقيق كل اهدافها المعلنة والمقررة.
يلاحظ ان الشعارات التي تريد الثورة تحقيقها هي تحقيق نظام حكومي واجتماعي افضل من النظام الحكومي والاجتماعي القائم. وهذا يعني ان جميع هذه الاهداف لا تمس النظام الراسمالي القائم وانما مجرد تحسينه وتغيير بعض سلوكياته. واذا تحققت اهداف الثورة كلها تحقيقا كاملا فما يتحقق هو نظام راسمالي كالنظام الراسمالي القائم مع اجراء بعض التحسينات عليه كتحويله الى نظام برلماني حقيقي واعطاء بعض الحقوق الاجتماعية الثقافية والاقتصادية للشعب الثائر. الغاء قوانين الطوارئ، اطلاق سراح السجناء السياسيين الذين حكمتهم محاكم عسكرية جائرة، استقلال القضاء عن السلطات التنفيذية، حرية تكوين الاحزاب السياسية، دستور جديد يمنح الشعب بعض الحقوق، وربما تحديد حد ادنى للاجور ومساواة الرجل والمرأة في اجور العمل المتماثل، وتحقيق الثقافة المجانية وهي موجودة في اكثر بلدان العالم الثالث، اجراء انتخابات حقيقية وعدم تزييفها لمصلحة فئة معينة الخ من الاصلاحات التي يمكن للنظام الراسمالي ان يمنحها للشعب بدون ان تمس بنظامه كنظام راسمالي.
ان الحكم في تونس او في مصر او غيرهما هو حكم طبقة هي الطبقة الراسمالية في اكثر البلدان وحتى طبقة اقطاعية في بعضها. والطبقة لن تتنازل عن حكمها تنازلا سلميا. ولذلك فان تجاح ثورة الشعب التونسي وثورة الشعب المصري وشعوب البلدان الاخرى التي ننتظر ثوراتها لا يمكن تحولها الى نظام سياسي واجتماعي يختلف عن الانظمة التي يجري اسقاطها. فالطبقة الحاكمة تبقى نفس الطبقة الحاكمة. وكل ما تستطيع هذه الثورات الشعبية تحقيقه هو اجراء بعض الاصلاحات المفيدة للشعب الثائر نتيجة لنجاح الثورات.
يبقى النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد نجاح الثورتين الشعبيتين نفس النظام القائم. فالصراع القائم هو صراع ضد طبقة ولكي يتحقق نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي مخالف ينبغي ازالة حكم الطبقة القائم وهذا ما لم تضعه هذه الثورات في برامجها. والنظام الطبقي نظام اعمى يعمل بدون ارادة اي من الطبقات، سواء الطبقة الحاكمة او الطبقات المحكومة. وبالتعبير الماركسي الذي ادين به فان النظام ايا كان يسير وفقا لقوانين موضوعية طبيعية تعمل بالاستقلال عن ارادة الانسان.
فشعار الثورة الذي يريد مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقه نتيجة لمثل هذه الثورة رغم كونها ثورة شعبية عظيمة. وعلى سبيل المثال لا يستطيع الراسمالي اذا وجد وسيلة تكنولوجية او صناعية توفر له توسيع الانتاج وادارته بعدد اقل من العمال الاستمرار في شراء قوة عمل نفس العدد من العمال بل هو مضطر بحكم قوانين الانتاج ان يتخلى عن بعض العمال فلا يستاجرهم. نعلم ان مصانع السيارات استطاعت ان تستخدم الروبوتات للقيام بعمل العمال وبدقة تفوق دقة العامل الانسان. في هذه الحالة لا تستطيع شركات انتاج السيارات الاحتفاظ بنفس عدد العمال الذين كانوا يعملون لديها قبل استخدام الروبوتات. ان الظروف الجديدة تجبرهم على التخلي عن الاف العمال لان ابقاءهم لا يؤدي الا الى افلاسهم وفشلهم في المنافسة بين المشاريع الراسمالية الاخرى. وفي الوقت نفسه يؤدي استعمال الروبوتات، شاء الراسماليون ام ابوا، الى تضاؤل انتاج فائض القيمة وهو المصدر الوحيد للارباح الراسمالية. ان الروبوتات تستطيع تنفيذ العمل ولكنها لا تخلق فائض قيمة لانها لا تقدم للانتاج سوى العمل الذي سبق استهلاكه في انتاجها.
ان جل ما تستطيع هذه الثورات لدى نجاحها الاقصى هو تحقيق مجتمعات ديمقراطية بمفهوم المجتمعات الديمقراطية القائمة في الدول المسماة مجتمعات ديمقراطية في البلدان الصناعية الكبرى. تبادل السلطات بين احزاب الطبقة الحاكمة تبادلا حرا واجراء انتخابات حقيقية غير مزيفة وتحقيق بعض الاصلاحات في حياة الطبقة العاملة والكادحين. ان تحقيق مجتمع تسود فيه العدالة الاجتماعية يتطلب ازالة الاسباب المؤدية الى عدم عدالة المجتمع وهي الطبقة التي بطبيعتها لا يمكنها ان تسمح بوجود مجتمع عدالة اجتماعية لان وجود مثل هذا المجتمع يؤدي الى خذلانها وانهيارها. فالراسمالية لا تستطيع العيش دقيقة واحدة بدون استغلال الشعب الكادح كله.
ان الطبقة الحاكمة القائمة، وهي الطبقة التي ستبقى في الحكم بعد نجاح الثورة نجاحا كاملا وتحقيق كافة الاهداف التي اعلنتها، هي شاءت ام ابت جزء من الطبقة الراسمالية العالمية. ولكنها يمكن ان تكون طبقة حاكمة فاعلة ونشطة او طبقة حاكمة خامدة وخاملة او طبقة خاضعة وخانعة ولكنها لا يمكن ان تصبح طبقة حاكمة مستقلة عن الطبقة الحاكمة الراسمالية العالمية مهما فعلت ومهما حاولت. لذا فان المجتمع الذي يتحقق بعد نجاح الثورة نجاحا تاما تعاني من نفس المشاكل التي تعاني منها جميع الدول الراسمالية من بطالة وازمات اقتصادية وغيرها. ولكن بامكانها ان تكون جزءا متقدما متطورا من الراسمالية العالمية وليس جزءا خاضعا خانعا مغلوبا على امره كما هو الحال في تونس بن علي ومصر حسني مبارك.
كل ما جاء لا يغير من عظمة ثورتي تونس ومصر والثورات القادمة على اثرها لانها ترفع مجتمعاتها من دول خاضعة خضوعا تاما لسياسات الدول الامبريالية الكبرى ومنفذة لمصالحها المباشرة كما هو الحال في جميع البلدان التي تدعى جزافا العالم الثالث وتحولها الى مجتمعات تشبه الى حد ما مجتمعات هذه الدول الصناعية. فثورة الشعب المصري مثلا بامكانها ان تعيد مكانة مصر ومركزها الهام والرئيسي في السياسة الدولية وفي الشرق الاوسط.
فتحية لشعب تونس الذي اشعل شرارة هذه الثورات وشعب مصر الذي حقق اول نجاح في ثورته الشعبية وككل انسان شريف في العالم احيي الشعبين الثائرين واحيي الشعوب التي ننتظر ثوراتها المماثلة قريبا. ان ثورتي تونس ومصر خلقت وضعا ثوريا في المنطقة وربما في العالم اجمع. والثورتان الشعبيتان وجهتا ضربة مميتة لبرامج الشرق الاوسط الجديد وتقسيم دوله الى كانتونات والى اخضاعه لسياسة العولمة التي لا تعني الا عولمة استعمار واستعباد العالم كله.
ان ثورة الشعب العراقي اذا حدثت وقد بدأت بشائرها تختلف عن ثورة تونس وثورة مصر وثورة اليمن وغيرها لان العراق خاضع لاحتلال امبريالي مباشر ووجود جيش استعماري والحكومات التي عينها والجيش الذي انشأه ودربه لكي يحارب الشعب ويعمل يدا بيد مع الجيوش الاجنبية لا يسمح بثورة سلمية كالتي جرت في تونس ومصر بل تتحول ثورته بالضرورة الى ثورة لا سلمية وليس في هذا المقال مجال لبحث هذا الموضوع بحثا مفصلا.