الثورة المصرية وبوادر الجمهورية الثانية


محمد بودواهي
2011 / 2 / 14 - 18:16     

بعد نجاح ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 في إسقاط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية الأولى هاهي ثورة الشباب في ميدان التحرير تنجح في إسقاط نظام مبارك الطاغية وتعبيد الطريق أمام تأسيس الجمهورية الثانية التي من المأمل جدا أن تكون اللبنة الأولى في تركيز مبادئ الديموقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة على مستوى الواقع لا على مستوى الشعارات السياسوية الفارغة . إنها فعلا مرحلة مفصلية في تاريخ مصر حيث استطاع الشعب المصري تحقيق حلمه في إزاحة نظام فاشي ديكتاتوري جثم على صدره لمدة ثلاثين سنة كاملة بعد 18 يوما من التظاهرات والمسيرات المتواصلة في القاهرة وفي الإسكندرية وفي كل المدن المصرية الأخرى ، واعتصامات الشباب في ميدان التحرير وصمودهم البطولي في معركة نضالية مستميتة أبهرت العالم كله بمستواها العالي في التنظيم والتخطيط حيث تكونت لجن شعبية متعددة لتدبير كل الأعمال الاجتماعية والترفيهية والسياسية ، وبمقاومتها الباسلة لكل محاولات النسف التي دبرتها أجهزة السلطة وعصاباتها من رجال الأمن ومعاونيهم من مرتزقة الحزب الوطني الديموقراطي الخائن وأمثالهم من البلطجية وأصحاب السوابق الإجرامية ، وبتكتيكاتها النضالية التي ما انفكت تربط بين تدابير عدة للنجاح في خلق تلك الأجواء الراقية جدا وسط الثوار المعتصمين حيث سادت بين صفوفهم قيم التضامن والتآزر والتعاطف وتعددت أساليب العمل الجماعي المشترك وتظافرت جهود الجميع لتوفير مناخ يمكن الكل من الإحساس بمتعة المسؤولية في الحفاظ على وهج الثورة وزخمها في ظل تناوب عمليتي المد والجزر التكتيكية في حضور الجماهير وكيفية تطوير أساليب الدعاية لتوسيع دائرة السخط والغضب في صفوف الجماهير للإلتحاق بالثورة بعد أن حققت نجاحا باهرا في تظاهرة 25 يناير التي سميت بجمعة الغضب ، وهو الأمر الذي مكن لاحقا من استقطاب كل المصريين إلى جانب الثورة حيث التحقت بالميدان يوم الجمعة 11 فبراير الذي سمي بجمعة الزحف كل الفئات تباعا في مسيرات حاشدة تحمل لافتات لهويات مهنية متعددة من أطباء ومحامين وفنانين ومدرسين وقضاة وغيرهم تدعو لسقوط النظام ومحاكمة رموزه الفاسدة ، وحيث خطب بعض رجال الأزهر في جموع المتظاهرين في كل من القاهرة والإسكندرية بعد صلاة الجمعة دعوا خلالها إلى الاستمرار في التظاهر والعصيان إلى أن تتحرر مصر من حكم الطغاة المستبدين
لقد خسر مبارك معركته مع الشعب بعد أن كان ظانا أنه سيبقى في السلطة إلى أن يشاء ، وبعد أن تفنن في إضعاف المعارضة الرسمية طيلة 30 سنة كاملة بنهجه سياسة الكذب وديماغوجية التضليل حيث تحولت مجالس الشورى والشعب إلى مجالس يصول فيها اتباع الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم ويجولون ، وحيث نفوذ السياسة ونفوذ المال
لقد تنحى مبارك عن السلطة في مساء يوم " جمعة الزحف " بعد أن تلا نائبه عمر سليمان بيان التنحي والذي فوض فيه السلطة للمجلس الأعلى للقيادة العسكرية الذي لم يتأخر في إصار بيانه الثالث الذي أثنى فيه بشكل بروتوكولي على أعمال مبارك وأشاد بالثورة الشعبية وبمشروعيتها مبجلا شهدائها بكلمات معبرة وبتحية عسكرية مؤترة ، وهو الأمر الذي أشعل لهيب الفرح في صفوف ملايين المصريين في كل المدن المصرية ابتهاجا بنجاح الئورة وسقوط نظام الطاغية وجعلهم يحتفلون طوال الليل والنهار الموالي ذون أن ينسيهم ذلك في متابعة كل المستجدات التي تحدث تباعا على مستوى الساحة السياسية والقرارات التي تؤخد من طرف قيادة الجيش لمعالجة القضايا الاستعجالية وتلك التي تهم المطالب التي أوردتها القيادات الشبابية في بيانها الأول والتي تتعلق بالإزاحة الفورية لبعض المسؤولين الذين تعاملوا مع الثورة بعدائية شديدة كوزراء الداخلية والإعلام والكثير من محافظي الولايات والأقاليم ومثلهم من المسؤولين الأمنيين الذين مارسوا الكثير من الشطط في حق المواطنين العزل ضدا على احتجاجاتهم الحضارية ومسيراتهم السلمية الراقية ، بالإضافة إلى الأخد بمحمل الجد - في ظل الشرعية الثورية - كل التصورات التي أتت بها القوى الثورية حول ما يجب أن تكون عليه الأوضاع مستقبلا والتي تتمثل في العديد من الإجراءات السياسية الهامة كإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ، وإلغاء الدستور الحالي وتأسيس لجنة للإشراف على وضع دستور جديد يتماشى مع المرحلة الديموقراطية التي تتهيأ لها البلاد ، وحل مجلسي الشورى والشعب والمجالس المحلية والتهييء لانتخابات حرة ونزيهة تتم تحت إشراف جهات دولية ، وتشكيل حكومة مؤقتة من كفاءات وطنية من التكنوقراط تدير المرحلة الانتقالية والتي يجب ألا تتجاوز فترتها ستة أشهر وحيث لا يحق لهم الترشح للإنتخابات الرئاسية والحكومية المقبلة ، وإنشاء مجلس رئاسي لتسيير المرحلة الانتقالية يتكون من عسكري واحد وأربع مدنيين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة ونظافة اليد ، وإطلاق حرية الإعلام وحرية تأسيس الأحزاب السياسية على أسس مدنية وإنشاء النقابات ومنظمات المجتمع المدني ومتابعة كل الجناة الذين ارتكبوا جرائم القتل ضد المتظاهرين وتعويض ذوي الضحايا وعائلاتهم ، ومحاسبة كل رموز الفساد من أمثال أحمد عز وأحمد نظيف ووزراء الداخلية والإعلام والتجارة وغيرهم من المسؤولين على سرقة المال العام ونهب ثروات الشعب
هذا ولقد حددت قوى الثورة ومجموع التنظيمات الشبابية يوم الجمعة 18 فبراير المقبل للإلتقاء في ميدان التحرير لتدارس كل المستجدات المطروحة على الساحة ومدى تحمل قيادة الجيش لمسؤولياتها في تدبير المرحلة وفق الأجندة المتفق عليها ووفق ما جاءت به الشرعية الثورية من رؤى وتصورات لإصلاح الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية المتدهورة التي ورتثها مصر عن مرحلة النظام البائد ، كما اتفق شباب الثورة على استمرار التواصل بينهم عبر الهواتف المحمولة وعبر الأنترنيت للحفاظ على استمرارية التنظيم لمواجهة كل أشكال الظلم التي ما فتئ يمارس على المواطنين وفضح كل الممارسات السيئة كالرشوة ومحاربتها وعدم السكوت على الإهانات التي يمكن أن يتعرض لها ومواجهة كل الإساءات التي قد تحصل في حقهم من أي كان وانتقاد التجاوزات والشطط الذي تمارسه السلطة وأعوانها ......
إن ما يتطلع إليه الشعب المصري من خلال شبابه الئائر هو القطع مع مرحلة مظلمة من تاريخ مصر الحديث حيث عانى فيها المصريون أهوال الاستبداد السياسي وويلات الجوع والفقر والبطالة وجميع أنواع القهر الإجتماعي الطبقي ، وحيث اندحرت فئات متعددة من الطبقة الوسطى إلى مستوى طبقي أدنى مما أثر على أحوالها الإقتصادية والإجتماعية فاتسعت بذلك دائرة الطبقات المحرومة بشكل غير مسبوق ، كما استفحلت وضعية الطبقة الراسمالية الصناعية الصغيرة منها والمتوسطة من جراء هيمنة الرأسماليين الكبار من أعضاء الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم الذين بسطوا نفوذهم الإقتصادي انطلاقا من نفوذهم على السلطة السياسية ففتحت امامهم أبواب الغنى الغير مشروع حيث فوتت لهم العديد من الشركات التابعة للقطاع العام ومؤسسات عامة بأثمان رمزية بخسة جدا في إطار عمليات خصخصة مشبوهة فتضخمت رساميلهم بشكل فاحش ، وفي ظرف زمني قياسي ، إذ بلغت عشرات الملايير من الجنيهات امتلأت بها الأبناك في دول أوربية عديدة
إن المرحلة الانتقالية التي يطمح الشعب المصري حاليا في تحقيقها على أرض الواقع هي تلك التي يستطيع أن يلمس من خلالها أن هناك قطيعة مع ما كان عليه الوضع في ظل الجمهورية الأولى التي دامت حتى حدود رحيل مبارك ومجموعة من رموز نظامه المقبور ، والتي يجب أن تكون بمثابة الجسر الذي من خلاله يمكن الإطلالة على مشارف مرحلة جديدة تؤسس فيها الجمهورية الثانية قواعد وأسس الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة حيث يتمتع المواطن بكامل حقوق المواطنة سواء منها السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية أو الثقافية وحيث تكون قيم العدالة والحرية والمساواة مضمونة على مستوى الواقع والدستور وتكون كرامة المواطن وقيم الديموقراطية الحقة محل احترام وتقديس من قبل الجميع حكاما ومحكومين ...