سيرورة الثورة وضرورة الحزب الثوري


محمد بودواهي
2011 / 2 / 8 - 19:42     

عندما تتحدث الأحزاب الماركسية والتنظيمات اليسارية الجذرية عن لا شعبية ولا وطنية ولا ديموقراطية الأنظمة التابعة للسياسة الإمبريالية الغربية بما فيها الأنظمة العربية والشمال إفريقية فإنها تعني بذلك تلك السياسة الطبقية العدائية التي تنهجها هذه الأنظمة اتجاه شعوبها والمتمثلة في التفقير والتهميش والقهر الطبقي والاجتماعي والسياسي وتبديد الثروات ومحاصرة العمل السياسي والتقليل من فرص الشغل والاستثمار والتنمية ، وذلك للحفاظ على مصالحها الضيقة ومصالح أسيادها الإمبرياليين ومؤسساتهم المالية العالمية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي حيث تعمل هذه الأخيرة على إثقال كاهل هذه الدول بالديون إلى الدرجة التي يصعب معها الانفكاك من الهيمنة وبالتالي السقوط في شرنقة العجز التام عن التسديد وفق المعايير التعجيزية المتفق عليها مما يجعلها تخضع للقرارات والتوصيات التي تصدرها والتي بموجبها يتم التوجيه نحو نهج سياسة اقتصادية واجتماعية تقشفية ، والتخطيط لميزانياتها العامة حتى تستجيب لمجموع إرشادات تتعلق بالعمل على التقليل من الدعم المخصص للمواد الاستهلاكية الأساسية والميزانية الخاصة بالاستثمار والتنمية ، وفتح المجال واسعا أمام الخوصصة وتصفية القطاع العام ، وصرف النظر عن الاهتمام بميدان التصنيع خاصة منه الصناعة الثقيلة ، وفتح الأسواق للمنافسة الحرة واستقطاب رؤوس الأموال الخارجية ، ودعم القطاع الخاص والتقليل من ميزنيات القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن ... وغير ذلك من الإجراءات والتدابير التي تنتقص شيئا فشيئا من السيادة الوطنية ومن استقلالية القرار لتسقط أخيرا في التبعية المطلقة
في هذا المضمار يعتبر النظام المصري من ضمن الأنظمة العربية الأخرى الأكثر تبعية للإمبريالية الرأسمالية والأكثر خضوعا لمؤسساتها المالية الدولية ولإملاءاتها النيوليبرالية التي تعتمد من بين ما تعتمده خوصصة القطاع العام وتحويل ملكيته إلى عدد قليل من العائلات كعائلة أحمد عز الرأسمالي المصري الذي بسط نفوذه وسيطرته على مصنع الحديد والصلب الحكومي الكبيرفي الإسكندرية وأصبح في وقت وجيز جدا من أكبر أثرياء مصر مثله مثل العديد من أصدقاء نجل الرئيس جمال مبارك الذي كانت الأجندة الرسمية وتخطيطات الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم تسابق الزمن لتهييء الشروط الموضوعية المناسبة لتوليه الرئاسة في الانتخابات المزعم تنظيمها في ديسمبر القادم
إلا أن تطور الأحداث سرعان ما قلب كل شيء على الأرض حيث أصبح النظام برمته قاب قوسين أو أدنى من السقوط . فلا جمال مبارك ولا الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم ولا مبارك نفسه قادر على احتواء الوضع السياسي المشتعل ، هذا الوضع الذي يعرف حركة شبابية ثورية غير مسبوقة منذ جمعة الغضب في 25 يناير المنصرم في ميدان التحرير بالقاهرة والتي ما فتئت تتصاعد في كل يوم وساعة حتى أصبحت تشمل كل المدن المصرية من الإسكندرية إلى السويس والعريش ومن الإسماعيلية والمنصورة إلى طنطا والفيوم وأسيوط وأسوان وقانة وإلى كل المدن المصرية الأخرى . هذا الوضع الثوري المشتعل كانت بوادره الأولى انطلقت بصبغة عمالية على إثر الإضراب الكبير الذي نظمته الطبقة العاملة داخل مصانع النسيج في المنطقة الصناعية في المحلة الكبرى سنة 2008 من قبل ما يفوق 32000 عامل وعاملة ، والذي تطور بسرعة فائقة إلى تمرد شعبي واسع سرعان ما اتخد أبعاد سياسية حيث تم المزج بين المطالب النقابية الصرفة التي تدعو إلى الزيادة في الأجور وتحسين الوضعية المعيشية للعمال والاعتراف بحقهم في التنظيم النقابي ، وبين المطالب السياسية التي وصلت إلى حد المطالبة الصريحة بتغيير النظام اللاشعبي واللاديموقراطي الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار حيث أصبح أكثر من 40 مليون من المصريين يعيشون تحت عتبة الفقر في الوقت الذي يتم فيه تحويل مئات الملايير من الدولارات إلى الأبناك الخارجية من طرف الرئيس وعائلته ومجموعة غير قليلة من الوزراء والسياسيين ورجال الأعمال المقربين من النظام . هذا إضافة إلى إضراب سائقي القطارات وعمال الصلب والنسيج وعمال الجمارك الذين نجحوا في تأسيس نقابة مستقلة بهم وإضرابات رجال التعليم والعديد من القطاعات الأخرى التي لم تلق من النظام البوليسي إلا القمع والتنكيل مما حال دون نجاح العمل التنسيقي بين مختلف المنظمات العمالية حيث باءت بالفشل كل المحاولات الجادة التي تم إجراؤها في هذا الصدد . غير أن هذا الفشل تم تعويضه بنجاح الشباب في خلق شبكة التواصل الاجتماعي في الفيسبوك ، بالإضافة إلى تأسيس حركة كفاية وحركة 6 أبريل الشبابية والحركة التي أسسها محمد البرادعي وغيرها من الحركات التي عملت على ضمان الاستمرارية لكفاح الحركة النقابية العمالية والتي حاولت بجهدها الكبير تطويره إلى عمل سياسي جاد ومكافح لتغطية الضعف السياسي البائس الذي أحدثته ما يسمى بأحزاب المعارضة من إخوان مسلمين والوفد والتجمع والناصري وغيرها من البوتيكات الحزبية التي لم تدعم حركة العمال النضالية ولم يصطفوا بجانب الجماهير إلا بعد أن خرجت بالملايين إلى الشارع وإلى الاعتصام في ميدان التحرير .
إن عدم وجود حزب سياسي يساري ماركسي مناضل ذي رؤية سياسية واجتماعية واضحة تهدف خدمة مصلحة العمال والفلاحين وجماهير الشعب سيترك الثورة المصرية في أيدي حركة الإخوان المسلمين الظلامية والأحزاب الليبرالية والإصلاحية كالوفد والتجمع والناصري الذين ما فتؤوا يلوحون بإمكانية التفاوض مع النظام مستعدين الارتماء في حضنه مديرين ظهورهم لثورة الجماهير وشعارها الرئيسي ( إسقاط النظام ) مقابل البحث عن بعض المناصب والأدوار واحتلال بعض المواقع المتقدمة في السلطة متجاهلين انتفاضة الشعب التي عوض الاستمرار في الانضمام إلى صفوفها والتشبت بتوجهاتها حتى الخلاص نراهم يجرون نحو التفاوض المشبوه الذي غالبا ما يؤدي إلى إبرام الصفقات
إن الثورة المصرية التي تجري أدوارها الآن على ميدان التحرير تشكو من فقدان عامل أساسي وحاسم وبدونه لا يمكن الوصول إلى تحقيق البديل السياسي والمجتمعي المنشود المتمثل في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية الحقة في أفق بناء مجتمع اشتراكي يسود فيه حكم الشعب : إنه التنظيم السياسي المؤهل لقيادة الثورة والسير بها قدما إلى الأمام حتى الوصول إلى أهدافها الشعبية المنشودة . إن الثوار في ساحة الميدان وكل امتداداتهم في القاهرة وكل المدن المصرية الأخرى ، وكل الفعاليات المساندة لهم من أطر ومثقفين وفاعلين ونشطاء وجماهير مناضلة مطالبون اليوم قبل الغد على الانكباب على العمل لتنظيم أنفسهم في إطار سياسي جماهيري ديموقراطي وثوري وصياغة برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي قادر على استيعاب كل الطروحات والأفكار والمطالب والشعارات التي أنجبتها تفاعلات الثورة وتطويرها نحو الأحسن . إن الثورة المصرية يجب ألا تبقى بين أيدي الرأسماليين ذلك أن الاستمرار في النظام الاقتصادي الرأسمالي التبعي السائد لن يستطيع أبدا أن يحل مشكلة المصريين الأساسية المتمثلة في البطالة والفقر والاضطهاد الطبقي المقيت وسوء توزيع ثروات الشعب وهو الوضع الذي انتفض المصريون ضده اليوم .
إن أقل ما يجب أن تحققه الثورة الحالية هو الانتقال بمصر إلى مرحلة الديموقراطية الحقة التي تنتفي فيها دولة السلطة لتحل محلها دولة المؤسسات في انتظار قفزة نوعية قادمة
إنها لثورة مستمرة حتى النصر