مصر على درب الثورة


محمد بودواهي
2011 / 2 / 4 - 17:41     

لازال الشارع المصري يهتز في أيام غضب غير مسبوقة معلنا بذلك بداية النهاية لمرحلة سياسية قاتمة ابتدأت مباشرة بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتولي أنور السادات زمام الحكم لتستمر في ظل النظام الحالي الذي يقوده حسني مبارك الطاغية وزبانيته في الحزب الوطني الديموقراطي المتسلط ، حيث اتسمت هذه المرحلة السوداء بالتراجعات المتتالية على كل المستويات السياسية الاقتصادية والاجتماعية سنة بعد سنة حتى أصبحت الوضعية كارثية بكل المقاييس مما أدى إلى بروز مجموعة من الحركات والإطارات الشبابية على الساحة السياسية لتقود النضالات الشعبية بعد أن كان الشارع رهينة سياسة التماطل والانتظارية التي ما لبثت تنهجها مختلف الدكاكين الحزبية التقليدية المسماة بالمعارضة كجماعة الإخوان المسلمين والوفد والتجمع والناصري وغيرها
لقد كان نظام مبارك الاستبدادي المتعفن مثالا يحتدى به في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وكل المناطق المجاورة في ممارسة الطغيان والاستبداد وفي تبديد خيرات الوطن ومقدراته الاقتصادية وفي استعباد المواطنين وإذلالهم واحتقارهم وممارسة جميع أنواع السخرة عليهم ، كما كان مثالا حيا في التبني لكل الأدوار الخبيثة والسباق دوما لاحتضان المواقف السياسية القذرة والمشبوهة المملاة من أسياد الخارج سواء اتجاه الشعب المصري أو اتجاه معارضيه السياسيين أو حتى اتجاه دول وأطراف سياسية إقليمية ذات رؤى سياسية واستراتيجية مختلفة . فلقد كان بارعا في نهج سياسية العداء الطبقي بمختلف أشكالها حيث نجد أكثر من 80 في المئة من خيرات البلاد تنعم بها فقط الطبقة السياسية الحاكمة والطبقة المتوسطة العليا التي لا تتجاوز نسبتها 20 في المئة من ساكنة مصر التي يفوق عددها 86 مليون نسمة ، وحيث التسلط والاضطهاذ يمارس على أشده من قبل مجموعة من الأجهزة البوليسية والمخابراتية ومؤسسات أمنية سرية إجرامية أخرى تنتشر في كل الأماكن والمؤسسات لتتجسس على المناضلين والمواطنين وتحصي أنفاسهم في كل صغيرة وكبيرة وتنشر الخوف والرعب في أوساطهم ، ومؤسسات سجنية متعددة ومتفرقة في كل أنحاء مصر ممتلئة عن آخرها بآلاف المعتقلين السياسيين والنشطاء الحقوقيين والنقابيين من مختلف التوجهات السياسية المعارضة لسياسة النظام ، وعشرات الآلاف من المسجونين ضحايا الفقر والجوع والبطالة ، وحيث فرض حالة الطوارئ على البلاد لمدة عقود حتى لا تتوفر أية شروط نجاح للعمل السياسي المعارض وحتى تتم المحاكمات السياسية تحت غطاء الشرعية القانونية المزعومة ، وحيث السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية لا تتوفر على أية استقلالية حقيقية بل تعمل وفق الأوامر والتوصيات التي تتوصل بها من قبل الجهات العليا المتنفدة في السلطة ، وحيث الدستور يشرعن الحكم الفردي المطلق وينص على التوريث في الفصل 88 ويضمن استمرار العمل في مؤسسات الدولة وفق الشرعية السياسية التي يقننها ووفق الرؤية الاستراتيجية التي يستهدفها جاعلا من كل الأجهزة الدعائية والإيديولوجية كالإعلام والتعليم والقضاء والمؤسسات الدينية كالأزهر والكثير من التنظيمات النسائية والثقافية والفنية والشبابية والطلابية أدوات مسخرة للدعاية لمشروعه السياسي الاقتصادي الاجتماعي ولخدمته

كما كان نظام مبارك اليكتاتوري الفاسد نموذجا مثاليا في نهج سياسة التبعية للإمبريالية الأمريكية والغربية وللصهيونية العالمية حيث عمل على تفعيل كل البنود الخاصة باتفاقية كامب ديفيد للسلام السيئة الذكر التي وقعها سلفه أنور السادات مع إسرائيل والتي كانت سببا في تصفيته من قبل أحد حراسه العسكريين فوق المنصة الرسمية أثناء الاستعراض الذي ترأسه بمناسبة الاحتفال بأحد أعياد مصر الوطنية ، وحيث عمل على استصدار قرارات سياسية قامت بموجبها الدولة المصرية بعقد اتفاقيات سياحية وزراعية ومعاهدات اقتصادية وتجارية يتم على إثرها تصدير الغاز والبترول لإسرائيل بأثمان بخسة جدا مقابل استقبال مئات الآلاف من اليد العاملة المصرية من طرف سوق الشغل في تلأبيب ومقابل جعل السوق المصرية قبلة لكل المواد والسلع والأدوات التي تنتجها التكنولوجيا الصناعية الإسرائيلية المتطورة والتي غالبا ما كانت تفجر الفضائح التي تزكم الأنوف بسبب التلوث البيئي والغدائي الذي كانت تحدثه كما حصل في موضوع الأسمدة
لقد أظهر الرئيس مبارك ونظامه الدموي للشعب المصري ولكل العالم تلك الحقيقة الإجرامية المتأصلة فيه وطبيعته التسلطية الاستبدادية التي كثيرا ما كان ينجح في إخفائها عن الجميع باستعمال كل اساليب التحايل والكذب والديماغوجية السياسية والتي استطاع من خلالها أن يضلل الشعب لمدة ثلاثين سنة كاملة من حكمه الفردي الغاشم ، إلا أن أحداث العشرة أيام الماضية من ثورة الغضب الشعبية ، وتلك الإعتداءات الإجرامية الدنيئة التي تم فيها تنظيم عصابات الحزب الحاكم ومجرمي الحق العام والعصابات والبلطجية والكثير من مرتزقة رجال الأمن وتسليحهم بجميع أنواع الأسلحة البيضاء والسيوف والهراوات وقنابل المولوتوف وتجهيزهم بالكثير من السيارات والخيول والجمال للهجوم على متظاهرين مسالمين عزل يعتصمون في ميدان التحرير للتعبير بشكل حضاري وسلمي على موقفهم اتجاه النظام الفاسد والمطالبة برحيله ، مما أدى إلى ارتكاب مجزرة حقيقية ورهيبة ذهب ضحيتها عشرات الشهداء وآلاف الجرحى في غياب تام ومشبوه لرجال الجيش الذين انسحبوا من الميدان بشكل يدعو إلى الحيرة والشك تاركين المتظاهرين العزل الذين أرهقهم الجوع والبرد والتعب والإرهاق لمدة ثمانية أيام ، في خط المواجهة في معركة ظالمة وغير متكافئة على جميع الأصعدة ، معتمدين فقط على سواعدهم وتخطيطهم المحكم وتلاحمهم وتضامنهم وتآزرهم الرفيع بالإضافة إلى إيمانهم القوي والصلب بعدالة قضيتهم واستعدادهم للدفاع عنها حتى آخر رمق ، مما يدعو إلى التساؤل حول إمكانية حصول تواطئ ما أو مؤامرة مدبرة بين النظام المباركي الفاشي والجيش لتصفية المظاهرة وقمع رجالها
قلت إن هذه العشرة أيام وتلك الاعتداءات الإجرامية التي حدثت يوم الأربعاء 2 فبراير المرتكبة من قبل عصابات النظام وزبانيته الإجرامية تبين بما لا يدع مجالا للشك همجية مبارك ونظامه المافيوزي ومدى استعداده للتضحية بمصر وتصفية شعبها وتخريب اقتصادها ومؤسساتها وإشعال نار الفتنة بين أفرادها وطوائفها المتعددة وطبقاتها الاجتماعية المختلفة في سبيل الحفاظ على السلطة بين يديه وتوريثها لابنه بعد وفاته مهما كان الثمن والتضحيات معبرا بذلك عن عنجهية لا مثيل لها وعن هستيريا ناتجة عن حالة نرجسية مرضية متعالية ومزمنة مرتبطة بالخرف الذي أصابه نتيجة كبر سنه والتي جعلته يتمسك بالسلطة إلى حد الهوس والجنون معتبرا إياها جزءا منه ومن شخصيته حيث لا يمكن لأحد أن يفصله عنها أو يفصلها عنه وحيث لا يستطيع أيا كان أن يقوم بتعويضه عنها
إنه مثال حي لرجل سلطة متجبر استطاع أن يلقي بظلال نفوده القوي وكرزميته السلبية الرجعية على طاقم واسع ومتكامل من رجال الدولة والمال والثقافة والسياسة والعسكر ليجعل منهم أتباع فاقدي الإرادة والرؤية المستقلة ومريدين لا يرددوا من الشعارات والأقوال والخطاب إلا ما سمعوه منه من أوامر ونواهي ، ولا يطبقوا إلا ماصدر عنه من تهديدات كثيرا ما كان يرافقها بتلك الإشارة المستفزة من سبابته اليمنى ، إلا أن الغريب هو أن نراهم في هذا الظرف العصيب على مصر وعلى مستقبلها ومستقبل شعبها مصرين على الاستمرار في التطبيل والتزمير لسيادة الرئيس دون حياء ولا خجل ودون أي إحساس بقيمة الوطن الذي يحتضر ولا الاعتبار للتاريخ الذي لا يرحم حيث يعز المرء أو يهان تبعا لمواقفه من الشعب ومن ثورته على الظلم والطغيان
إن كل رجالات زين العابدين بن علي في تونس من صحفيين وسياسيين ومثقفين الذين كانوا يتمسحون بأهذابه والذين كانوا يعظمون نظامه ويبجلونه مقابل بعض الامتيازات المادية والقيمية ليعبرون اليوم - بعد رحيله المخزي - عن ندمهم الشديد وأسفهم الكبير عما كانوا يقومون به اتجاهه ومنهم من عبر عن خجله مما كان فيه من تبعية مذلة ومهينة
هذا فقط للإشارة
والعبرة لمن يعتبر
إنها لثورة حتى النصر
المجد والخلود لثوار مصر في ميدان التحرير