ثورة الياسمين التونسية : إنجازات وآفاق


محمد بودواهي
2011 / 1 / 26 - 17:55     

يوم الخميس 13 يناير الجاري وعلى الساعة الخامسة مساء بتوقيت غرينيتش وصلت ساعة الصفر لديكتاتور تونس زين العابدين بن علي حيث غادر البلاد هو وعائلته الصغيرة على متن طائرته الخاصة التي جابت سماء البحر الأبيض المتوسط ذهابا وإيابا لتستقر أخيرا في المملكة السعودية بعد أن اعتذرت مالطا عن استقباله ، وبعد أن رفضته حليفته الاستعمارية فرنسا خوفا من إثارة غضب واحتجاج الجالية التونسية والمغاربية المتواجدة بكثرة في ديارها
غادر الديكتاتور البلاد بعد أن أقضى في الحكم أكثر من عقدين من الزمن ، كانت دهرا ، أذاق فيها مرارة العذاب للشعب التونسي الذي كان يئن تحت وطأة القهر والتسلط ، حيث كانت أجهزته البوليسية والمخابراتية المتعددة تمارس الطغيان والاستبداد ، ولا تتورع في اختطاف وسجن وتعذيب وحتى قتل وتصفية العديد من المعارضين السياسيين ونشطاء العمل النقابي والحقوقي ودفع الآخرين إلى مغادرة البلاد وطلب اللجوء السياسي .
لقد كانت الدولة التونسية بقيادة بن علي دولة بوليسية أمنية بامتياز حيث كانت التقارير السنوية التي تصدرها كل المنظمات الحقوقية الدولية وصحافة بلا حدود وغيرها تجمع على أنها من الدول العربية الأولى التي تصادر كل الحريات وتنتهك حقوق الإنسان أشد الانتهاك ، وتحاصر الأحزاب السياسية المعارضة وتمنعها من التنظيم القانوني والعمل الشرعي ، وتضيق الخناق على النضال الحقوقي ، وتتوجس من العمل النقابي والجمعوي الجادين ، وتتدخل في شؤؤن الصحافة والقضاء ، حيث كانت الصحافة كلها تقريبا تابعة للدولة ولا تنشر إلا ما يرضى عنه الحزب الحاكم وما يمجد أعماله ، وما يبارك خطواته ، ولا تغطي سوى تحركات الرئيس وزوجته وطاقمه الحكومي والوزاري وسفرياتهم وأنشطتهم الرسمية ، بالإضافة إلى ممارسة الدعاية لما يسمى بالنهضة التنموية والإنجازات الاجتماعية والتطور الاقتصادي التي تعرفها البلاد في ظل النظام ، وحيث كان القضاء أبعد ما يكون عن سلطة مستقلة إذ كان يخضع خضوعا مطلقا لوزارة الداخلية ، ويعمل وفقا لتوصياتها ويتحرك وفقا لأوامرها ونواهيها ، ويستعمل كسيف مسلط و كأداة قاهرة لتصفية الحسابات مع المناضلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين ومع كل رموز المعارضة المتعددة المشارب والقناعات والرؤى ، حيث تلفق لهم التهم وتفبرك لهم المحاكمات ليتم الزج بهم في المعتقلات والسجون .
لقد كانت تونس بالنسبة للعديد من المتتبعين ولمؤسسات الرصد الدولية بعيدة عن أن تكون دولة مؤهلة لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي حتى ولو كان محدودا وذو أفق إصلاحي . لقد كانت كل المؤشرات توحي بالإستقرار الاجتماعي ، كما كانت كل التقديرات لا تتجاوز في رؤيتها تلك المظاهر السطحية التي يبدو عليها الشارع التونسي لمدة تفوق 22 سنة من حكم الطاغية حيث كان أقصى ما يمكن أن يتبلور على مستوى المواقف والقرارات النضالية إضراب قطاعي معين كما حدث في إضراب الحوض المنجمي في السنة الماضية .
إلا أن العالم كله رأى كيف بعثرت الجماهير التونسية كل هذه الدراسات والتكهنات والاستقراءات ، ورأى كيف انهارت الدولة وكل أجهزتها القمعية في لحظات متسارعة بعد أن جاء التسونامي المدمر ، وكيف غادر الديكتاتور تونس تاركا وراءه منظومة سلطوية متكاملة تتوزع بين أجهزة بوليسية ومخابراتية نشطة - رغم المسيرة التي نظمتها بعض عناصر الشرطة مؤخرا والتي عبرت من خلالها على مواقفها المعادية للنظام السابق والمؤيدة لثورة الياسمين الشعبية - وبرلمان فاسد ومتعفن يحن للمرحلة السابقة ، ورجال دولة متمرسين في الديماغوجية وعلى ممارسة سياسة المناورة والتحايل متشبتين بالسلطة حتى النخاع ، مصممين العزم على محاصرة الثورة وتقزيم أهدافها وتمييع مدلولاتها وإفراغها من قيمها الإيجابية الحقيقية وتقطير المطالب والتنازلات قطرة قطرة ، ناهجبن مختلف أساليب التسويف والمماطلة واجترار الأزمة إلى أبعد حد ممكن في انتظار أن يتسرب الملل والعياء إلى نفوس المتظاهرين وتتشقق صفوفهم ، ويهتز تكتلهم ، وتتكسر وحدتهم ، فيتراجع حماسهم وتنطفئ يقضتهم ، وتبدأ شعلة الثورة وتوهجها في الخفوت ، فيتم الانسحاب من الشارع شيئا فشيئا إلى أن يندثر كل شيء ، مستغلين في ذلك غياب البديل السياسي الناضج وعدم أهلية احزاب المعارضة الحقيقية وشتاتها وعدم قدرتها على التقاط حدث الثورة في الوقت المناسب وتدبيره التدبير الصحيح للعمل على انتشال الشعب وإخراجه من دوامة الخوف على مستقبل الثورة المجهول وطمأنته على مصيرها إلى أن تصل إلى الأيادي الآمنة وتقطع إلى بر الأمان .
غير أن زخم الثورة ما فتئ يتطور حسب المستجدات التي تعرفها التطورات السياسية على الساحة حيث تعمل الجماهير الثورية على إبداع أساليب جديدة للحفاظ على وهج الثورة وجعلها سارية المفعول إلى حين إثبات أهدافها ، مكسرة بذلك كل محاولات الإفشال والتيئيس التي يراهن عليها أعداء الثورة معتمدة في ذلك على حماس الشباب الذي لا يلين وعلى يقظتهم التي لا تخفت ، وعلى الانترنيت ووسائل الاتصال الأخرى المتنوعة ، وعلى متابعة القنوات الفضائية التي ما لبثت تعمل على نشر مستجدات الأخبار ومتابعة التطورات على الميدان واستضافة كل الأطراف الفاعلة في الأحداث ومحاورتهم واستقراء آراء الجماهير وتقديم مختلف التحليلات السياسية لمختلف الرؤى والتوجهات والأطروحات .....
وكما هو معلوم ليس هناك ما يمكن أن يطمئن الشعب التونسي على ثورته المجيدة حتى لا تتربص بها قوى الشر والسوء التي لا شك أنها تعمل على قدم وساق لإجهاضها وسرقتها ، هو العمل - وفي أسرع وقت - على تشكيل حكومة وطنية مؤقتة لا وجود فيها لرجالات النظام السابق ، تشرف على تنظيم انتخابات نزيهة وحرة وشفافة ينبثق منها مجلس تأسيسي يعمل على سن دستور جديد يوفر كل الضمانات لتأسيس وبناء جمهورية ديموقراطية شعبية تكرس سيادة الشعب وتضمن فعليا كل القيم النبيلة للديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة لكل المواطنين ، وتحترم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا ، وتنهج سياسة اقتصادية اجتماعية وطنية وشعبية غير تابعة للدول الإمبريالية وقراراتها مستقلة عن توجيهات وتوصيات المؤسسات الاقتصادية العالمية الناهبة لخيرات الشعوب كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ، وتوفر الشغل والعدالة الاجتماعية وكل مقومات الحياة الحرة الكريمة لكل المواطنين ولكافة شرائح الشعب ، وتحقق المساواة بين الرجل والمرأة ، ويعترف بكل الهويات الإثنية والثقافية للشعب التونسي ، ويقضي على كل مظاهر الفساد والمحسوبية والرشوة ، ولا يميز بين الجهات المختلفة للبلاد ، ويعمل على تنمية كل المناطق الهشة البئيسة التي كانت مقصية من أي عمل تنموي في مرحلة الظلم السابقة ، وتعمل أخيرا وليس آخرا على تقديم كل رموز التظام السابق وسارقي المال العام وناهبي ثروات البلاد إلى المحاكمة واسترجاع كل أملاكهم ومطالبة كل الأبناك الدولية بتجميد أموالهم وبنشر مدكرة توقيف في حقهم .....
إنها لثورة مستمرة حتى النصر النهائي