لمحة قصيرة عن النقد عند اليسار العربي


خالد صبيح
2010 / 12 / 9 - 22:51     


تاريخيا، وعبر تشكله في سياق ولادة الدولة الحديثة في المجتمعات العربية المعاصرة لعب اليسار الماركسي العربي؛ أحزاب شيوعية ومثقفون ماركسيون، في المنطقة العربية دورا مهما ومميزا في نشر الوعي وإشاعة الفكر العلمي وبث قيم العقلانية والحداثة في المجتمعات التي نشط فيها. وكان هذا الدور والتأثير قد أخذا منحى تراكميا بحسب وصف اليساريين أنفسهم له، بمعنى انه لم يتحقق في خطوة محددة أو محطة معينة وذلك يعود لسبب رئيسي هو؛ عدم تمكن اليساريين العرب من أداة التحويل الاجتماعي الرئيسية، واعني بها السلطة السياسية. لهذا فهم قد أدوا دورهم التاريخي في التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال عنصرين فاعلين؛ هما النشاطات السياسية والتنظيمية، وقوة المثال الذي تجسد في مختلف المراحل عبر أنماط ومواقف سلوكية وأخلاقية ونضالية تحلوا بها ومارسوها وكانت ذات تأثير وصدى في الأوساط الاجتماعية. وقد امتدت ساحة عمل اليسار إلى مختلف ميادين التنظيمات الاجتماعية؛ مهنية وأكاديمية وغيرها، غير أن الجبهة الأهم التي انخرط فيها اليساريون الماركسيون العرب هي جبهة الصراع الفكري، فقد أدوا في هذه الساحة وعبرها أدوارا مميزة بتصديهم المباشر لفكر التخلف والاستغلال والى كل مايدعوا إلى تضليل الوعي. فقد شهدت الساحة الفكرية والسياسية في المجتمعات العربية عبر عقود طويلة نقاشات ومجادلات حادة وعنيفة، ولكنها حيوية في نفس الوقت، حول الكثير من القضايا التي تهم تطور المجتمعات وحياة الناس،ـ مع التيارات السياسية والفكرية التي كانت تغطي المشهد الفكري والسياسي. ولعل الصراع مع التيار القومي بكل مشاربه كان هو السمة الأبرز للصراع الفكري والسياسي الذي خاضه اليسار على الساحة العربية لاسيما في مرحلة صعود التيار القومي مع هيمنة الناصرية وما تلاها. لكن في العمق، وعلى الجانب الآخر، خاض الماركسيون نقاشات ناضجة حول أفكار ومواقف ورؤى التيارات الدينية، وقدموا تحليلات فكرية ناضجة عن دور الدين وأثره في المجتمع، مبينين الفارق بين الدين كعقيدة وإيمان فردي يمارسه الناس، وبين أن يكون أداة سياسية وأيدلوجية بيد قوى اجتماعية وأحزاب سياسية. وأوضحوا عبر دراسات معمقة وناضجة وبأدوات منهجية متاحة في زمنهم الطابع التاريخي والاجتماعي للدين من غير أن يغفلوا عن القيم الروحية التي يحملها بالنسبة للمؤمنين به. وقد أسهمت نضالات اليسار ومجادلاته مع مختلف التيارات السياسية والفكرية في المجتمع في نشر فكر علماني نقدي متناسب مع الأطر الفكرية والمعرفية للمرحلة، ولعبت تحليلاته واستكشافاته للواقع دورا واضحا في تحشيد طاقة الأفراد حول القضايا والهموم الجوهرية التي يحتاجها المواطن؛ كالتعليم والحرية والحقوق المهنية والاقتصادية والسياسية من دون أن يخلقوا تعارضا وهميا بين أن يكون الإنسان مؤمنا في عقيدة دينية، وفاعلا اجتماعيا يحمل في نفس الوقت منطقا علمانيا ونظرة عقلانية. وكان هذا قد تحقق زمنيا قبل أن تنبت لما يدعى اليوم بتيار اللبراليين الجدد، الذي نما على حواشي الحملة الأمريكية لأمركة العالم وخلق شرق أوسط جديد مضبوط على مقاسات إسرائيل ـ أقول قبل أن تنبت للبراليين الجدد هؤلاء قرونهم الطينية التي اخذوا يناطحون بها التيارات الإسلامية تحت المظلة الأمريكية، مستلهمين عقيدتها العسكرية والإستراتيجية بما أطلق عليه بـ (الصدمة والترويع)، فاخذوا يشنون حروبهم الدون كيشوتية متهجمين ومهاجمين عقائد الناس باسم محاربة الإرهاب والتطرف. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن أسلوب التهجم على عقائد الناس ومقدساتهم هو، بتقديري، معادلا خطابيا ومعنويا لهامش قتل المدنيين الذي تنفذه الإستراتيجيات العسكرية الأمريكية على الأرض والذي غدا، اي قتل المدنيين، فضيحة معلنة تُحرج اقرب حلفاء أميركا وعملاءها. أقول قبل ولادة السفاح للبراليين الجدد هذه، وقبل أن يمتشقوا سيوفهم الخشبية، مثيرين ضجيجا يشوش على السمع والبصر السليمين، قبل هذا بعقود طويلة كان الماركسيون العرب قد قدموا رؤيتهم وموقفهم وتحليلهم للتيارات الدينية، ولعل دراسات ومؤلفات وأفكار محمود أمين العالم وحسين مروة ومهدي عامل وفالح عبدالجبار ورفعت السعيد وهادي العلوي وصادق جلال العظم وفيصل دراج وعبدالرزاق عيد وغيرهم من الأسماء البارزة ـ شواهد على هذا الانجاز الفكري والثقافي.

لكن ينبغي التذكير هنا أن المرحلة الزمنية التي خاض فيها الماركسيون صراعهم الأوسع مع التيارات الدينية قد جاءت في ظروف يمكن وصفها بأنها كانت مرحلة نكوص في الفكر الماركسي، ومرحلة النكوص تلك كانت في نفس الوقت هي، وللمفارقة، مرحلة صعود التيارات الإسلامية سياسيا وانتعاشها أيدلوجيا بعد تفكيك دول المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة في عقد الثمانيات من القرن الماضي. غير أن صعود التيارات الإسلامية كظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية لم يكن نتيجة مباشرة لانتهاء الحرب الباردة كما قد يوحي به الكلام هنا، وإنما هو ثمرة لتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وقعت في المنطقة (الفورة النفطية في السبعينات وماافرزته من تزايد نفوذ النظام السعودي في المنطقة،قضية أفغانستان،الحرب الأهلية اللبنانية،انتصار الثورة الإيرانية وصعود التيار الإسلامي المتشدد فيها، الحرب العراقية الإيرانية، أزمة احتلال الكويت)، بالإضافة إلى بعض التحفيزات والحقن الهرموني الذي قدمته لها، اي للتيارات الاسلاموية، بعض أنظمة الحكم لمواجهة التيارات اليسارية، كما فعل نظام السادات بدعمه للتيارات الإسلامية وتقربه منها. وقد شكل كذلك في نفس المرحلة وذات السياق على المستوى العالمي صعود تيار اليمين المحافظ الذي تمثل في ظاهرة الريغانية والتاتشرية في أميركا وأوربا وما قدماه من رؤى وسياسات راديكالية الطابع ومزدهية بنفسها، قد شكل الخلفية والقاعدة والمحفز لتصعيد أفكار واستراتيجيات الصدام الدولي بدل التوافق الذي تهادنت عليه القوى العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أعاد الغرب اكتشاف خصومه الجدد، الإسلاميين، بعد أن توارى شبح الشيوعية عن المسرح العالمي، فتقدمت طروحات جديدة زعمت أن طابع الصراع العالمي هو صراع حضارات، وأُقحم الدين بعد أن ضُخم دوره ليشكل بصورة قسرية هوية للصراع العالمي، واختير الإسلام خصما كبيرا للعالم الغربي مما حفز قوى الإسلام السياسي أن تصعد من عدائية خطابها وشموليته.

وهنا كان على الماركسيين خوض الصراع، في ظروف غير ملائمة من النواحي الاجتماعية والسياسية مع تيار هو في حالة صعود وانتعاش.

بيد إن الخطاب الماركسي العربي كان قد تحلى ببعض الخصائص التي ميزته عن غيره من قوى اليسار في العالم، رغم أن اغلب حطاباته كانت قد نشأت، لاسيما الشيوعي منها، اي الصادر عن الأحزاب الشيوعية، في ظل العقائدية السوفيتية التي أقصت الجانب الديني عن اي دور في الحياة واعتبرته، بتطرف علماني، حالة ماضوية ينبغي أن تحذف من التاريخ ومن الوعي، أقول انه كان لخطاب الماركسيين العرب خصائص اختلف فيها عن المدرسية السوفيتية وكذلك عن التطرف العلمانوي الذي وسم بعض اتجاهات الفكر في العالم الغربي، بأنه قد أعطى للدين حيزا في الواقع الاجتماعي، ومايز بوضوح بين الإسلام السياسي والإسلام العقائدي. وكان لهذا التمييز ضرورة منهجية وعملية، لان الربط بين الإسلام الدين والإسلام السياسة هو أقصى ماتتوق له قوى الإسلام السياسي التي سعت جاهدة منذ البداية للوصول إلى ربط منهاجها الأرضي والسياسي السلطوي بالمقدس ألعقيدي. ولهذا كان الماركسيون متنبهين، بسند من منهجيتهم العلمية وأيدلوجيتهم التنويرية، لمسعى الربط بين هذين الجانبين المنفصلين واقعيا ومنطقيا. بينما سقط بسهولة وخفة في هذا المطب العقلي اللبراليون الجدد، بسبب من خلل في منهجيتهم التي اتسمت بنزعة ارادوية ذاتية، وأيضا بدوافع أيدلوجية ذات أجندة مريبة ضللت نظرتهم للتاريخ وللواقع على حد سواء، فأخذت نظراتهم تجول في التاريخ والواقع بدون هداية، يسقطون زمن على زمن ويقحمون واقع على آخر بغير ما ترابط أو اتساق سوى دوافع الغضب والكراهية وهما دافعان لايبنيان فكرا ولا يصححان اعوجاجا.

لكن في السنوات الأخيرة شهدت ساحة الصراع الفكري تراجعا ملحوظا في دور اليسار العربي ونشاطاته أثرت على تأديته لدوره التنويري في المجتمع. ويعود هذا التراجع لأساب ذات صلة ببعض الإرباكات السياسية لدى الأحزاب الشيوعية التي تأثرت مكانتها واهتزت أبنيتها الداخلية بأفول زمن الحرب الباردة وانحلال دول المعسكر الشرقي ( الاشتراكي)، وكذلك بسبب بعض الاضطراب الفكري أو التشوش الذي أصاب الكثير من الماركسيين بسبب التازمات السياسية والفكرية في المنطقة. وقد أدى هذا التراجع لحدوث فراغ فكري أفسح المجال لظهور آراء وطروحات عمقت الأزمة الفكرية التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي وجدت نفسها تتخبط فيها بسبب تعدد الضغوط عليها، خارجيا؛ تحديات العصر وطابع السياسات الدولية وتحولاتها، وداخليا، الاستبداد السياسي، وضغوط الجماعات الاسلاموية وابتزازها للمجتمع ولأنظمة الحكم معا، وكذلك بتأثير من انتشار أفكار الإرهاب والتطرف والأصولية الدينية والطائفية بكل مشاربها، مما أدى إلى إشاعة أجواء عدمية وفقدان للثقة في الذات وفي المستقبل.

وقد بدأ هذا الفراغ يأخذ شكلا ويثير تداعيات أربكت وتربك المشهد الفكري والسياسي مما يحتّم على الماركسيين أن يستأنفوا دون إبطاء ما ايتداوه ودشنوا به نقدهم للفكر الغيبي والديني ومساعيهم لتجذير الحداثة. فمهمة تحديث المجتمعات العربية هي من أولى أولويات اليسار الماركسي الآن. وهو كتيار فكري وسياسي الأجدر منهجيا وفكريا من غيره في إنضاج هذه العملية من دون أن يلغي بطبيعة الحال جهود الآخرين في تأدية أدوارهم في هذه العملية المتعددة المهام والجوانب. بيد أن التصدي لهكذا مهمة كبيرة وواسعة يقتضي من التيار الماركسي، فيما يقتضيه، أن يقوم بتجديد وتطوير خطابه وتطويعه أو لنقل تحديثه بما يتناسب ومعطيات التحولات في الحياة المعاصرة، إذ لاينبغي عليه، وهو يتصدى لهكذا مهمة نوعية، أن يعلي من شان بعض المسلمات التي تجاوزها الزمن، كالعامل الاقتصادي والقاعدة المادية والبناء الفوقي وغيرها من المفاهيم التي ماعادت كافية وحدها لتحليل الواقع - أقول لاينبغي للتيار الماركسي أن يرتكن إلى هذه المسلمات وإنما عليه أن يطور من أدواته المنهجية ويعمق من رؤيته الفكرية ويوسع من افقه المعرفي لكي يتسنى له الإحاطة بتعقيدات الواقع وبما يتناسب مع تغيرات الحياة وتطور أدوات المعرفة وتنوع المناهج والرؤى.

وينبغي أن يمتلك الخطاب الماركسي، بتقديري، بالإضافة إلى ماتقدم من اشتراطات معرفية ومنهجية جرأة نقدية تسمي الأشياء بأسمائها بلا مداراة أو مهادنة. فإذا كانت بعض الظروف السياسية والتعقيدات الميدانية تثقل خطى الأحزاب الشيوعية، وتؤثر في شكل وآلية نقدها للتيارات الأصولية والإسلامية، بحكم تجاورها الميداني في العمل النضالي مع هذه القوى، ومعروف أن التجاور الميداني في المواجهات السياسية يفرض على الأطراف المتجاورة أشكال مهادنة اضطرارية، أقول إذا كان هناك من أسباب تثقل خطى الأحزاب فليس من المفروض أن هذه الأسباب تعيق المفكرين والكتاب والمثقفين اليساريين من نقد التيارات الأصولية بعمومها والاسلاموية على وجه الخصوص بكل جرأة ووضوح. فالمفكرون والكتاب يمتلكون الاسترخاء الكافي أو لنقل المسافة الكافية التي تفصل بينهم وبين حيثيات الواقع تتيح لهم وتؤهلهم لرصد جوانبه التي تتفلت من مراقبة من يمارس النضال اليومي في الميدان السياسي. فعلى الفكر أن ينطلق بأبعد مما تؤطره السياسة لان للسياسة، كما تمت الإشارة، شروطها التي تكبلها والتي لاينبغي أن تنسحب إلى مجال الفكر.

أضف إلى ذلك أن الدور الذي ينبغي أن يلعبه الماركسيون لايتحدد أو يقتصر على مواجهة احادية كما يمارس ذلك الأصوليون اللبراليون بتركيزهم على خصم واحد وحيد هو الاسلامويون وأتباعهم، وإنما ينبغي أن يمتد نقدهم ويتسع ليشمل مناقشة كل التيارات الفكرية والسياسية وتفكيك خطاباتها، فالمعركة الفكرية والسياسية لاتتجزأ، رغم أن لها أولويات. لكن قبل القيام بعملية النقد الواسعة ينبغي التركيز على تأسيس منهج وجهاز مفهومي متكامل ومترابط قادر على تحليل الواقع وكشف تعقيداته وبناه المتعددة. فالمهمة الأولى التي ينبغي أن يقوم بها التيار الماركسي إذن، هي تطوير منهجه لأنه بغير تطوير أدواته المنهجية لا يمكنه اكتشاف حقائق الواقع ومعطياته ليتمكن من إنتاج موقف يعالج الواقع ويغيره بطرحه لبدائل ناجحة له يتجاوز بها العدمية النقدية السائدة والممارسة في الساحة اليوم والتي تريد أن تهدم بغير ما بديل.

***
تنبيه
إن صفة العربي التي ألحقتها باليسار لا تحيل أو تصف هوية قومية أو عرقية وإنما هوية ثقافية، بمعنى أن هؤلاء الكتاب والمفكرين قد كتبوا باللغة العربية وفكروا من داخلها فألحقت بهم صفة الثقافة واللغة التي تنطق بها.