قراءة في كلمة الرفيق رزكار عقراوي


عذري مازغ
2010 / 12 / 3 - 01:46     

طرحت كلمة الرفيق رزكار عقراوي في حفل تكريم الحوار المتمدن بفوزه بجائزة ابن رشد،أرضية خصبة لما يجب ان يكون عليه اليسار عموما في تعاطيه مع الإعلام الإلكتروني، فعمق بيانها لم يترك للمرء ما سيبحثه تحليلا او شرحا اكثر مما أفصحت كلمته،ليس هذا فقط بل إن النموذج الذي طرحه سير عمل الحوار المتمدن، بدءا بالمبادرة الفردية مرورا بالتحول الكرونولوجي من مرحلة إلى أخرى وصولا إلى ما وصل إليه، يطرح على اليسار عموما تحديا محرجا لما عليه هذا اليسار في عالمنا من حيث هو يسار منكفيء على ذاته ومتطرف في تعاطيه مع هموم شعوبنا المتنوعة. إن طريقة تعاطي الحوار المتمدن مع كل هذا التنوع الثقافي تجاوزت كل الحلقات الضيقة لهذا اليسار، وأحرجت مثقفين دأبوا على النشر في مواقع إعلامية حصينة لا يدخلها إلا هم من حيث يحتكرون صفحاتها، ولا أدل على هذا سوى هذا الكم من التعليقات التي تتمحور حول كتاب يشكلون وجهة نظر مخالفة لهوية الحوار، كأنما الحوار المتمدن عليه أن ينشر فقط كتابات اليساريين فقط، وهو تصور ينبع اساسا من التطرف الذي عاشه اليسار، فلايمكن انتاج معرفة بعالمنا إذا لم نكن نطلع على الرأي المخالف، وكنا فقط ننهل من نوع الثقافة التي هي هويتنا اليسارية، فمعرفة الآخر تتيح فهما أعمق لقضايانا المؤرقة، فالآخر هذا جزء من بنية ثقافتنا المتنوعة التي تفترض نوعا من المكاشفة والتفاعل. إن تبني الهوية اليسارية الماركسية خصوصا، هي بالضرورة هوية متفتحة على هذا الآخر، فماركس مثلا لم يكن يستطيع أن ينتج في علم الإقتصاد السياسي ما لم يكن قد اطلع على اقتصاد آدم سميث وبرودون وغيرهم، فنجاح الحوار المتمدن هو في هذا التفتح الرائع على كل الكتابات ومن مختلف المذاهب، بل يمكن القول أيضا بأن روح التطوع التي هي ميزة كتابه نابعة بالأساس من هذا التنوع الذي روحه هو أيضا هذا الميل العام للتفاعل والتصارع الفكري، فالكاتب أو القارئ أو المواطن العادي المتلقي، يجد نفسه مضطرا لهذا التفاعل سواء نقدا أو تأييدا، من هنا فالتساؤل المطروح هو: مالذي يمنع الأحزاب اليسارية من أن تمثل صحافتها وإعلامها هذا المستوى الرائع الذي وصل إليه الحوار المتمدن؟ إن سؤالا مثل هذا يطرح من جديد إشكالية أساسية حول هوية اليسار في عالمنا المتنوع، فهويته كيسار يفترض فيه أن يكون الإطار الملائم لخلق تعبئة جماهير هي بالضرور حاملة لأفكار متنوعة ومتناقضة بفعل تأثير البنية الإيديولوجية للأنظمة في عالمنا، فالتناقض هذا هو الإطار الملائم لإنتاج ثقافتنا اليسارية في التحام تفاعلي بين فئات هذا التنوع وليس في صفاء الهوية التي لاتنتج معرفة بل تنتج تماثلا في الرأي لايرقى إلى جديد، أي أنها تنتج أصولية يسارية مثلها مثل الأصوليات الأخرى من حيث هي تتمحور حول ذاتها وتشكل حوافز للهدم أكثر مما هي حوافز للبناء، لاشك أن التشتت الحاصل في واقع اليسار، في جانب كبير منه، يرجع أساسا إلى هذه الأصولية القاتلة أكثر مما هي انعكاس لانهيار مركز الجدب الذي كان يمثله الإتحاد السوفياتي سابقا، بل يمكن القول أن الإتحاد السوفياتي نفسه خلق ظروف هذه الاصولية القاتلة من خلال التشيع الأعمى لمساره الإيديولوجي الذي كان يحول دون اكتشاف هفواته القاتلة، أي أن هوية التشيع هذه كانت تمنع أي نقدمايفسر هذا هو أنه بمجرد سقوطه، سقط اليسار بشكل هائل وارتدت الكثير من أحزابه في العالم أجمع، وكان كل ماتبقى منها قد تشتت في إطار تيارات ضيقة متقوقعة حول الذات بشكل يستحيل التآمها من حيث تياراتها متآمرة بعضها على بعض في حسابات ضيقة لاترقى حتى إلى مستوى الخصام الرفاقي، بل العداء التناحري، وكأن هذه الأحزاب بما كانت تنشده من شعارات وتحمله من برامج كان مجرد تصورات لا تستند إلى معطيات الواقع في المحيط الذي كانت تناضل فيه بل كانت تستند إلى مباركة موسكو لها أكثر مما كانت تستند إلى أرضيتها وجماهيرها.
على أرضية هذ الواقع المرير تأتي مبادرة الحوار المتمدن، وتأتي كلمته التي ألقاها الرفيق رزكار في حفلة جائزة ابن رشد لتكرس هذه المعطيات التي استند إليها، بالإضافة إلى طرح أرضية خصبة للنقاش في إطار ما سماه الرفيق باليسار الإلكتروني، في محاولة ترمي إلى الإستفادة من هذه الإمكانيات التي تتيحها الإنترنيت والتي تتجاوز في اختراقها كل الحواجز والعراقيل التي كانت تقف عثرة في وجه القوى اليسارية، بل إن الكلمة ضمنت نقذا غير مباشر لتقوقع اليسار وطرحت بدائل ممكنة من خلال الإستفادة من هذه التقنيات،في السير تجاوزا للعراقيل المادية التي كانت دائما تحول دون العمل اليساري، مضمون هذا النقد، هو ذاك السؤال الذي طرحنا سابقا وهو مالذي يمنع الأحزاب اليسارية الآن من تجاوز أزمتها التعبوية من خلال نظام الإنترنيت هذا، ولماذا انتظر عالمنا المتنوع والغني والكبير بثقافاته حتى تاتي المبادرة من أفراد ذاتيين تحول مجهودهم إلى عمل جماعي؟
والجواب ببساطة ودون الدخول في التفاصيل، وانطلاقا من مؤتمرات هذه الأحزاب وبنيتها التنظيمية، وقاداتها التاريخيين الذين لا يتغيرون، والشكل العمودي لممارسة الفعل السياسي داخل أجهزتها قياسا على الأنظمة السياسية التي ينتقدونها، هذه العوامل كلها هي من يحول من أن يتحول المكبوت السياسي للمقموعين حتى داخل هذه الأحزاب واليساريين المستقلين إلى يسار إلكتروني بالمعنى الذي قدمه الرفيق رزكار، فاليسار هذا يسار غير محتمل حتى داخل التكتلات اليسارية نفسها، لأنه ببساطة يسار متفتح ومناقض للأصوليات داخل اليسار نفسه، يطرح الحوار المتمدن تحديا سافرا ليس فقط للدول والأنظمة العربية بل حتى للأحزاب اليسارية التي لم تستطع إعلاميا من الإستفذة من هذه التقنيات المتوفرة وبتكاليف غير وازنة، والتحدي هذا يعكس بنية الأصولية داخل هذه الأحزاب كما يعكس بنية تخلفها
تاتي مبادرة الحوار المتمدن في ظرف تاريخي دقيق لملء الفراغ الذي تركه اليسار المتشتت، ليطرح أملا منشودا من خلال أرضيته الديموقراطية المتفتحة، التي لا تقصي حتى الحاملين للفكر الآخر، وصحيح أنه الآن بدأت تتشكل في أرضيته، من خلال مايكتب على الأقل، توجهات فكرية متعددة أجمل ماتعبر عنه أنها تجمع جميعا أن الحوار المتمدن،هو موقعها على الرغم من النزعة الأصولية التي مازالت تحكم بعضهم، فالكثير من التعليقات منها تتساءل حين يرد مقال غير مرغوب فيه: كيف تسمح إدارة الحوار المتمدن بنشر مثل هذا المقال؟ والجواب بسيط للغاية، وهو ما أشرت إليه في بداية المقال وهو أن الحوار المتدن ليس يسارا أصوليا ولا هو منزوي على نفسه ويرفض كما تقول كلمته التعصب المؤسساتي والنخبوي والتنظيمي: أي أن إدارة الحوار تتشكل من عناصر مشبعة بالقيم الديموقراطية والقيم الحقيقية لليسار: تقول كلمة الرفيق بهذا الصدد أيضا: «هو منبر مفتوح لكافة اتجاهات اليسار والعلمانية و الديمقراطية والدينية المتنورة. وقد التزم بالانفتاح الكامل على الآراء المختلفة واحترام الرأي والرأي الأخر, بما فيها المنتقدة لليسار وتجاربه» ، أي أنها ترفض تلك الاشكال الأزمية التي تعرقل مسارها وتفتح بديلا التفتح نحو كل الإتجاهات بما فيها هذه الأشكال نفسها، ولا أدري إن كانت هي الصدفة أن يلتقي رفاق صارمين في هذا الشأن من التشبع بهذه القيم،أم هي الضرورة التي يفرضها نجاح مشروع كهذا،لكن على مايبدو ومن خلال كلمة رزكار نفسها، تعبر عن وعي مسبق بضرورة خلق مثل هذا اليسار من خلال الفراغ الذي تعرفه الساحة اليسارية، ويبدو أن هذه القيم اليسارية حاضرة في منطق الرفاق من خلال تركيزهم على البنية الأزمية لليسار بشكل عام، والتي أشرت بأن الأصولية تشكل أحد عوائق نهضته.
لن أدخل في تفاصيل أخرى من كلمة الرفيق رزكار فكلمته فصيحة البيان وواضحة فيما يخص أهداف وتأثير الحوار المتمدن والعراقيل التي صاحبت ولادته وما إلى ذلك وأختم بتهنئتي من جديد لإدارة الحوار المتمدن وكتابه وقرائه بجائزة ابن رشد وفي ذكرى تأسيسه.