هل تحقق في الاتحاد السوفييتي مجتمع اشتراكي حقيقي وكامل؟


حسقيل قوجمان
2010 / 12 / 1 - 14:17     

هل تحقق في الاتحاد السوفييتي مجتمع اشتراكي حقيقي وكامل؟
في مقالي حول فترة التحضير للمجتمع الاشتراكي لم يفهم احدهم ما معنى عبارة ان الارض تشكل نصف حياة الراسمالية. وسبب ذلك هو انه لا يعلم ان حياة الراسمالية هي الربح اذ بدونه لا تستطيع الراسمالية ان تبقى على قيد الحياة. وسلعة الارض هي اهم مصدر من مصادر ارباح الراسمالية اذ يبيعونها ويشترونها ويبنون عليها العمارات والمصانع والسكك ويزرعونها ويستخرجون الكنوز من باطنها ويستغلون ويستعبدون العمال والكادحين العاملين عليها. وان الغاء سلعة الارض يحرم الراسماليين من اكثر من نصف حياتهم اي ارباحهم. ولم يفهم اخرون ضرورة فترة تحضير للمجتمع الاشتراكي لانهم لا يميزون بين الحكم الاشتراكي والمجتمع الاشتراكي. الحكم الاشتراكي هو الحكومة الناجمة عن ثورة بروليتارية اي اشتراكية ناجحة، دكتاتورية البروليتاريا. وهذه الحكومة تضع هدفها الاستراتيجي تحقيق مجتمع اشتراكي يتطور تدريجيا الى مجتمع شيوعي. والحكومة الاشتراكية لا تستلم مجتمعا اشتراكيا جاهزا بل تستلم مجتمعا برجوازيا فيه بقايا علاقات الانتاج الاقطاعية بدرجات متفاوتة وعليها ان تحول هذا المجتمع الراسمالي اقتصاديا وفكريا وثقافيا واخلاقيا ونفسيا الى مجتمع اشتراكي وهذا يتطلب فترة هي فترة التحضير للمجتمع الاشتراكي.
والسؤال الذي اريد مناقشته في هذا المقال هو هل تحقق في الاتحاد السوفييتي مجتمع اشتراكي كامل وحقيقي ام ان ما سمي بالمجتمع الاشتراكي لم يكن سوى راسمالية دولة كما يحلو للبعض ان يصفه؟
للبدء في بحث موضوع هام كهذا ارجو ان يسمح لي القراء الكرام باقتباس كيفية تصور كارل ماركس للمجتمع الاشتراكي اقتصاديا. ناقش كارل ماركس ذلك في انتقاده لبرنامج غوتا الذي اتخذه الحزب الاشتراكي الالماني بدون مشاورته. فمن جملة ما ناقشه ما جاء في البرنامج عن مفهوم توزيع عوائد العمل على جميع افراد المجتمع توزيعا عادلا. فيسأل ما هي عوائد العمل؟ وبحث مفهوم عوائد العمل بمعنى الانتاج الاجتماعي. فكيف يجري توزيع الانتاج الاجتماعي في هذا المجتمع التعاوني؟ هل يجري توزيع هذا الانتاج الاجتماعي كاملا وغير منقوص على جميع افراد المجتمع؟ فسخر من موضوع توزيع الانتاج الاجتماعي كاملا وغير منقوص على جميع افراد المجتمع. اذ قبل توزيع الانتاج الاجتماعي على المجتمع ينبغي استقطاع الاجزاء التالية منه ولذلك لا معنى لتوزيعه كاملا غير منقوص.
"من هذا الانتاج يجب ان تستقطع الاجزاء التالية:
"اولا، تغطية او استعادة وسائل الانتاج المستهلكة."
"ثانيا، يستقطع جزء اضافي لغرض توسيع الانتاج."
:ثالثا، انشاء صندوق احتياطي او ضمان ضد الطوارئ والاضطرابات التي تسببها كوارث طبيعية الخ."
وبعد ان يبين كارل ماركس ان هذه الاستقطاعات ضرورية اقتصاديا، يواصل بحث الاستقطاعات الضرورية من بقية الانتاج الاجتماعي الذي يزمع توزيعه كوسائل استهلاك. اذ قبل توزيعه ينبغي استقطاع اجزاء اخرى منه.
"اولا، التكاليف العامة للادارة التي لا ترتبط بالانتاج مباشرة."
"ثانيا، الجزء الذي يهدف الى التلبية العامة للحاجات كالمدارس والخدمات الصحية الخ."
"ثالثا، الاجزاء المخصصة لاولئك غير القادرين على العمل الخ."
"الان فقط نأتي الى التوزيع..."
"ما ينبغي ان نعالجه هنا هو مجتمع شيوعي، ليس كما لو تطور حسب اسسه الخاصة وانما، على العكس، بالضبط كما ينشأ من المجتمع الراسمالي; وهو كذلك من كافة الوجوه، اقتصاديا واخلاقيا وفكريا; ما زال موسوما بسمات المجتمع القديم الذي نشأ في رحمه. وعلى هذا الاساس يستلم المنتج الفرد من المجتمع - بعد الاستقطاعات التي اجريت - بالضبط ما قدمه له; ما قدمه للمجتمع هو كمية عمله الشخصي. فعلى سبيل المثال، يتألف يوم العمل الاجتماعي من مجموع ساعات العمل الفردية للعمل، ومدة العمل الفردي للمنتج الفرد هي جزء يوم العمل الاجتماعي الذي يساهم به، حصته فيه، فيستلم شهادة من المجتمع بانه قدم هذا المقدار من العمل (بعد استقطاع عمله للمتطلبات العامة) وبشهادته هذه يسحب من المخزون الاجتماعي من وسائل الاستهلاك بالضبط نفس ما يكلفه نفس مقدار العمل. نفس مقدار العمل الذي قدمه للمجتمع بشكل ما يستعيده بشكل اخر." (كل الاقتباسات الملونة مقتبسة ومترجمة نصا من كراس نقد منهاج غوتا باللغة الانجليزية الصادرمن مطابع اللغات الاجنبية، بكين)
بهذا الشكل تصور كارل ماركس النظام الاقتصادي في المجتمع الاشتراكي، والذي يسميه المجتمع الشيوعي لانه لم يميز في هذا الكراس بين مرحلتي المجتمع الشيوعي، المرحلة الاشتراكية والمرحلة الشيوعية. وواضح ان كارل ماركس لم يتطرق في هذا الوصف الى متطلبات الدفاع عن المجتمع الاشتراكي الذي شكل جزءا كبيرا من الاستقطاعات كانت عبءا ثقيلا على الاقتصاد الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي. وقد يعود ذلك الى ان كارل ماركس كان يتصور ان البروليتاريا العالمية الموحدة في اممية بروليتارية ستقوم بالثورة موحدة ولهذا لا يعاني النظام الاشتراكي من خطر الهجوم من دول راسمالية اخرى محيطة به.
يعتبر وجود المجتمع الاشتراكي الحقيقي في الاتحاد السوفييتي من ١٩٣٣ الى الهجوم النازي على هذا المجتمع وبشكل اخر حتى يوم وفاة ستالين. فكيف كان التنظيم الاقتصادي لهذا المجتمع الاشتراكي؟
كان التنظيم الاقتصادي لهذا المجتمع شبيها جدا بما تصوره كارل ماركس. فكان يخصص من الانتاج الاجتماعي جزء لتغطية وسائل الانتاج المستهلكة وجزء لتوسيع الانتاج وجزء للصندوق الاحتياطي للطوارئ. وكان يخصص من الانتاج المتبقي جزء للتكاليف الادارية وجزء للخدمات العامة وجزء لاعالة غير القادرين على العمل، واضافة الى ذلك جزء لتطوير وسائل الدفاع عن المجتمع الاشتراكي.
ما تبقى من الانتاج الاجتماعي هو الجزء الذي يجري توزيعه على العاملين في المجتمع الاشتراكي بالضبط كما تصوره كارل ماركس. وهذا الجزء من الانتاج الاجتماعي هو المواد الاستهلاكية التي يحتاجها الانسان بصورة مباشرة ولم يستطع المجتمع الاشتراكي بعد توزيعها على اساس من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته . فكان العامل يستلم شهادة من المجتمع عن كمية العمل الذي قدمه لكي يسحب من المجتمع ما يقابل ذلك من المواد الاسهلاكية. ولكن شكل هذه الشهادة التي يتلقاها العامل مقتبسة من شكل الاجور في النظام الراسمالي. نرى من هذا ان الاجور في الاتحاد السوفييتي لم تكن اجورا بالمعنى المألوف في الانظمة الراسمالية وانما كانت شهادة تعترف بمقدار العمل الذي قدمه العامل تخوله ان يسحب من المواد الاستهلاكية نفس المقدار الذي قدمه. وبتعبير كارل ماركس "نفس مقدار العمل الذي قدمه للمجتمع بشكل ما يستعيده بشكل اخر." وهذا هو الشعار الاشتراكي العام "من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله"
كيف كان يجري توزيع الانتاج الاجتماعي في المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي؟ كان يجري بالضبط كما وصفه كارل ماركس. تستلم دكتاتورية البروليتاريا كافة الانتاج الاجتماعي، وتستقطع منه ما يعوض عن المواد السمتهلكة، ومواد توسيع الانتاج وصندوقا للاحتياطي. ثم تستقطع نفقات الادارة والخدمات العامة وما تتطلبه معيشة غير القادرين على العمل. ويوزع الباقي على العمال وفقا لما قدمه كل عامل للمجتمع بموجب شهادة يستلمها عن مقدار ما قدمه من عمل للمجتمع. واتخذت هذه الشهادة شكل الاجور المقتبس من النظام الراسمالي. فهل كانت الاجور في الاتحاد السوفييتي شبيهة بالاجور في النظام الراسمالي؟
تشكل الاجور في النظام الراسمالي كل دخل العائلة العمالية. فمن هذه الاجور عليها ان تدفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة، تكاليف السكن من شراء مسكن ام استئجاره، تكاليف الخدمات الصحية وتكاليف تثقيف الابناء، وتكاليف المواد الغذائية اللازمة لمواصلة حياة العائلة وتكاليف الكساء وغيرها المتغيرة بتغير حياة المجتمع. ليس للعائلة العمالية دخل اخر غير اجورها وهذه الاجور مهددة دائما بخطر البطالة.
اما الاجور في النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي حين كان نظاما اشتراكيا حقيقيا فلم تكن سوى شهادة تخول العامل ان يستلم من المواد الاستهلاكية ما يعادل اجوره اي ما يعادل عمله. ولكن بخلاف وضع العامل في النظام الراسمالي ليست اجور العامل في الاتحاد السوفييتي الاشتراكي دخله الوحيد. لم يدفع العامل جزءا من اجوره كضريبة، كانت الخدمات الصحية لجميع افراد المجتمع مجانية، لكل حسب حاجته، وكذلك كانت الثقافة بكافة درجاتها مجانية متوفرة لكل من يريد الثقافة. لم يكن على العامل السوفييتي ان يدفع طيلة حياته من اجل شراء او استئجار مسكن لان الحكومة كانت مكلفة بتوفير السكن لكل عائلة يدفع العامل نسبة ضئيلة من اجوره لقاء السكن والكهرباء والغاز وغير ذلك. كانت العائلة العمالية تتمتع بحق الاصطياف في مصائف ومنتجعات الاتحاد السوفييتي كل سنة بدون مقابل. وفرت الحكومة وسائل اللهو للعائلات العمالية باسعار رخيصة بحيث يستطيع كل عامل ان يحضر المسارح والحفلات الموسيقية ومسارح الباليه مما لا يحلم به اي عامل في النظام الراسمالي. نظمت الحكومة الاشتراكية دور حضانة للامهات العاملات في محلات عملهن بحيث لا تكلفها حضانة اطفالها مبالغ كبيرة من اجورها كما هو الحال لدى العائلات العاملة في النظام الراسمالي. وفرت الحكومة الاشتراكية مطاعم شعبية رخيصة في محلات العمل وفي محلات السكن تنقذ النساء الى درجة كبيرة من مهمات الطبخ واعداد الطعام للعائلة. والاهم من كل ذلك لم يكن العامل في الاتحاد السوفييتي يخشى من غده، لم يكن مهددا بالبطالة لان القانون كان يتطلب من الحكومة ان توفر العمل لكل من هو قادر على العمل.
فوق كل ذلك نظمت الحكومة الاشتراكية في المدن الكبرى على الاقل قصور الاطفال. فقد حولت قصور الملوك والامراء الى قصور للاطفال، جميع الاطفال، حيث يجري تمتيع الاطفال باحلى وسائل اللهو وتعلم الموسيقى والتمثيل ولعب الشطرنج والرقص والرسم وكافة الفنون على ايدي اشهر الموسيقيين والممثلين ولاعبي الشطرنج والفنانين. والاهم من كل ذلك في هذه القصور كانت تكتشف في كل طفل المؤهلات التي يمتاز بها وتوفر له كل الظروف لتطويرها. مهما يستطيع المرء ان يتحدث عن هذه القصور لا يوفيها حقها وقد كتب زوار الاتحاد السوفييتي من ارجاء العالم في حينه كتبا عن قصور الاطفال قد يستطيع من يهمه الامر ان يطلع عليها من ادبيات الثلاثينات حول الاتحاد السوفييتي. كانوا يسمون الاطفال ملوك الاتحاد السوفييتي. فهل هناك تشابه بين الاجور في النظام الراسمالي والاجور في النظام الاشتراكي غير اسمها؟ لا اظن انسانا منصفا يستطيع ان يشابه اجور العامل في النظام الراسمالي مع اجور العامل في الاتحاد السوفييتي الاشتراكي.
ان نظام الاجور نظام ضروري لا تستطيع اية حكومة اشتراكية حتى في المستقبل ايضا الاستغناء عنه. ويرجع ذلك الى ان المواد الاستهلاكية هي المواد التي لا يستطيع النظام الاشتراكي توزيعها على العمال لكل حسب حاجته. وفي اللحظة التي يصبح انتاج المواد الاستهلاكية في المجتمع الاشتراكي كافيا للتوزيع لكل حسب حاجته تتحقق المرحلة الثانية من النظام الشيوعي، المجتمع الشيوعي، من الناحية الاقتصادية. ويصبح المجتمع في هذه اللحظة مجتمعا شيوعيا اذا كانت مستلزمات الانتقال الاخرى الى المجتمع الشيوعي متوفرة في ذلك المجتمع. في هذه اللحظة يتحقق من الناحية الاقتصادية شعار "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته".
قلت ان النظام الاشتراكي الحقيقي في الاتحاد السوفييتي دام حتى الهجوم النازي. لان النضال في فترة الدفاع عن الوطن الاشتراكي، اول وطن للطبقة العاملة في التاريخ، كان المهمة الاساسية في هذه الفترة. وكانت كل الطاقات في ساحات القتال وفي المؤخرة وفي حرب الانصار في الاجزاء المحتلة منصبة على تحقيق هذه المهمة. هبت جميع القوميات العديدة موحدة للدفاع عن وطنها الاشتراكي فانقذ الاتحاد السوفييتي في هذا النضال العالم كله من عبودية النازية الهتلرية.
وكانت مهمة النظام الاشتراكي السوفييتي في فترة ما بعد الحرب الى يوم وفاة ستالين مهمة اعادة بناء ما دمرته الحرب وفي هذه السنوات القليلة نجح الاتحاد السوفييتي الاشتراكي في اعادة البناء نجاحا لا يمكن تصوره في ظل الانظمة الراسمالية. ولكن الاتحاد السوفييتي انتهى كدولة اشتراكية يوم وفاة ستالين وسيأتي نقاش هذه الفترة من تاريخ الاتحاد السوفييتي في الحلقة الاخيرة من هذه السلسلة من المقالات.