حديث ليلي مع ممرضتي


نضال الصالح
2010 / 11 / 27 - 20:05     

دخلت الممرضة إلى غرفتي بعد منتصف الليل فوجدتني جالس في سريري أحدق في الحائط الذي أمامي كأنني أستقريه الأخبار. قالت : أعاجز عن النوم؟ قلت لها: داعبت الوسن وداعبني ولكن النوم طار من عيوني وعجزت عن اللحاق بي. قالت: هل أعطيك حبة منوم؟ قلت لها بأنني أكره أن يسيطر على حواس نفسي أي شيء خارج عن نفسي.
سحبت كرسيا وجلست عليه بجانب سريري، ثم أخذت يدي وقاست نبضات قلبي وسألتني: أبك أوجاع أم أن الأفكار لا تزال تتعبك. أجبتها بأن الواقع لم يتغير، ففلسطين لا زالت محتلة والعراق كذلك والوضع المأساوي يعم العالم العربي، ولذلك فلم تتغير الألفكار ولامتاعبها. طلبت مني أن أفتح فمي ونظرت في حلقي وفي عيوني ثم قالت: عندكم متاعبكم وعندنا متاعبنا. قلت لها: عن أي متاعب تتحدثين، لقد حصلتم على ما كنتم تتمنوه، أسقطتم النظام الشيوعي الدكتاتوري وأقمتم بدلا عنه الديموقراطية والحرية.
حدقت في وجهي وقالت وقد بدت على ملامحها ملامح الجد وسألتني: هل فعلا تصدق ما تقول؟ ولم تترك لي المجال لكي أجيبها وتابعت تقول: أنظر إلي كمثل، ومثلي الآلاف المؤلفة، أنا أعمل إلى الساعة السادسة صباحا. أترك العمل وأذهب إلى البيت لكي أحضر لزوجي ولأولادي الفطور وبعض الطعام ليأخذوه معهم. ثم أحضر الفطور لوالدة زوجي التي تعيش معنا وهي مقعدة، أطعمها وأغسلها وأغير لها ملابسها وأرتب لها سريرها ثم أذهب إلى المطبخ لإعداد الغداء للأولاد وأقوم بترتيب المنزل ثم أدخل سريري لكي أنام بضعة ساعات تقطها مطالب حماتي المتكررة. في العهد الإشتراكي الذي تدعوه بالدكتاتوري، كان أولادي يتغدون في مطعم المدرسة إلى جانب الحليب وبعض الكعك في الساعة العاشرة وكان زوجي يتغدى في مطعم العمل بمبلغ زهيد جدا وكنت أنا كذلك أتناول غدائي في مطعم المستشفى ودون مقابل. كانت وزارة الشؤون الإجتماعية تخصص إمرأة للقيام على رعاية حماتي، تحضر لها الغداء من مطعم المصنع الذي في شارعنا، وكانت تقوم على تنظيفها وإعطاءها الدواء وتجالسها حتى أعود أو يعود زوجي من العمل. كنا يا سيدي نطبخ فقط أيام الأعياد. كانت الأدوية مجانا والآن فرض على المريض أن يدفع مقابل الدواء أو جزء منه. زوجي يا سيدي يدفع ثلث راتبه ثمن أدوية لوالدته وتقاعدها لا يكفيها لسداد ثمن الدواء. كانت الإقامة في المستشفى في زمن الإشتراكية دون مقابل واليوم على المريض أن يدفع ثلاث أورات على كل يوم إقامة وهناك كثير من الفحوص الطبية أصبحت بثمن. كان ثمن تذكرة المسرح أو السينما خمسة كورونات واليوم ما يعادل مئتين وخمسين كرونا. كانت الكتب رخيصة وكانت المكاتب مليئة بالكتب القيمة وخاصة الترجمات العالمية. اليوم أصبحت الكتب غالية الثمن ومليئة بقلة الأدب والإنحطاط الفكري. كانت الصحف والتلفزيون والإذاعة ملك للحزب وكان الشيوعيون يسيطرون على ما يكتب وما يقال واليوم تسيطر الشركات الرأسمالية الأجنبية على كل مجالات الإعلام وهي التي توجهها وتفرض سياساتها وتحدد مضمونها. لقد أصبح الإعلام بوقا أمريكيا وصهيونيا ومصنعا للفكر الهابط. فما الذي تغير؟ زادت رواتبنا ضعفا وارتفعت الأسعار عشرات الأضعاف. ثم زاد الطين بلة أننا دخلنا منطقة اليورو فتحولت الأسعار من الكرونة إلى اليورو فزادت عملية التبديل من الأسعار كثيرا، كان فنجان القهوة في عهد الإشتراكية يساوي خمس كورونات واليوم ما يعادل الستين حتى التسعين كرون. كنا ندفع إكرامية كرونا واحدا أما اليوم فإن تدفع أقل من خمسين سنتا، وهي تعادل خمسة عشر كرونا، فإنهم سيرمونها في وجهك. تضاعفت الأسعار كما تضاعفت الجريمة وانتشرت المحسوبية وسرقة المال العام. أتعلم مذاذا كانت شعارات حزب ساس الإنتخابية والتي على أساسها نجح في الإنتخابات وأصبح جزءا من الحكومة؟ كان برنامجه الإنتخابي يرتكز على إصدار قوانين تسمح بتعاطي الخدرات وتسمح بزواج المثليين وتبنيهم الأطفال. هذه حالنا يا سيدي في ظل هذه الديموقراطية الرأسمالية.
عم الصمت الغرفة وبقيت تحدق بي كأنها تتحداني، قلت لها: ولكنكم أصبحتم أحرارا، تسافرون متى وإلى أي مكان تريدون. ضحكت بسخرية وقالت: نعم، معي جواز سفر يسمح لي بالسفر إلى أي مكان، ولكن أخبرني إلى أين سأسافر ومن سيدفع لي تكاليف السفر. في زمن الإشتراكية، كنا نسافر إلى البلدان الإشتراكية وكانت رخيصة مثل بلدنا، كما كانت النقابات توزع علينا رحلات مجانية وإقامة مجانية في المنتجعات التي أصبحت اليوم، بعد بيعها إلى الرأسمال الأجنبي، حكرا على الأغنياء المحليين والأجانب. لقد باعوا كل شيئ إلى الراسمال الأجنبي، الذي لم يعد يكترث لا بالبيئة ولا بالموظفين والعمال ومطالبهم وعند تهديده بالإضراب عن العمل يهدد هو الآخر بالرحيل إلى بلد أرخص. رفعت صوتها وقالت: يتحدثون عن الإرهاب ولكنهم إختلقوا إرهابا جديدا هو الإرهاب الوظيفي. كان العمل في العهد الإشتراكي واجبا وقدسا وكان على الحكومة أن تجد للمواطن وظيفة ملائمة، أما اليوم فجميعنا من مختلف المستويات والمراتب الوظيفية نعيش في حالة من القلق بسبب الخوف من خسارة الوظيفة. إنه الإرهاب الوظيفي. حتى أؤلئك الذين يتمتعون بوظائف عالية فإنهم محاطون بالخوف الوظيفي، فهم مقيدون بقروض وكفالات بنكية وأطفالهم في المدارس الخاصة التي تكلفهم مبالغ طائلة. خسارتهم لوظيفتهم سينتج عنها خسارة بيتهم وطرد أبنائهم من المدرسة وخسارة سياراتهم التي إشتروها بالتقسيط البنكي وهكذا.
شعرت برأسي يدور ويكاد ينفجر. قلت لها: هناك مثل في بلادنا يقول" جبناك يامعين حتى تعين وجدنا إنه بدك حدى يعينك." إرحلي واتركيني لوحدي. قامت وأرجعت الكرسي إلى مكانه ثم قالت:" أنا آسفة على إزعاجك." رجوتها أن تعطيني حبة المنوم. وضعت على الطاولة التي بجانب سريري حبتين وقالت: هذا في حالة أن واحدة لا تكفي. بلعت الحبة وأطفأت النور واندسست في فراشي. نمت وحلمت بحديقة جميلة، مليئة بالأزهار والطيور ولكن غرابا أسودا كان يقف على فرع شجرة يزعق بملئ صدره وكان زعاقه يغطي على ألحان العصافير. حاولت أن أطرده فرميته بحصى وصحت عليه بأعلى صوتي ولكنه ظل يزعق ويزعق حتى خلت أن رأسي سينفجر.

د. نضال الصالح