ليذهب التيار الديمقراطي الى الجحيم

سامر خيرأحمد
2004 / 9 / 15 - 09:42     

كنا نقول منذ البدء أن "الديمقراطية" –بمعناها المجرد دون إضافات- هي ثقافة لا سياسة، أي أنها وصف لإطار تفكير ولنمط سلوك يقودان صاحبهما لقبول التعددية في جانبيها السياسي والاجتماعي، ولاحترام حق الآخر في الاختلاف، بغض النظر عن محتوى الأفكار البرامجية التي يحملها "الديمقراطي" وذاك الذي يحترم اختلافه معه.
وهكذا فانه لا يجوز أن يسمي حزب سياسي ما، أو تيار سياسي ما، نفسه بأنه ديمقراطي فقط لا غير، لأنه بذلك يدعي لنفسه قبوله التعددية مع الآخر دون أن يوضح ماهية اختلافاته مع ذلك الآخر في الأفكار والبرامج والتطبيقات. وكأنه يقول أنه بلا برامج أو أفكار. إن وصفاً كهذا يجوز أن يطلق على منظمة مدنية يكون همها نشر ثقافة الديمقراطية، غير أنه لا يجوز أن يطلق على حزب سياسي دون إضافات توضح طبيعة مقاصده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالحزب ليس مؤسسة ثقافية معرفية وإنما تجمّع همّه تغيير الواقع في تفاصيله المختلفة.
وعليه، فان تسمية حزب ما أو تيار معين نفسه بـ"الديمقراطي" يدل على أحد أمرين: إما أنه يجهل دوره السياسي المفترض ويخلط مهامه بمهام منظمات المجتمع المدني المتخصصة، أو أنه يريد أدلجة الديمقراطية، فيحرف معناها من التعبير عن نمط ثقافي يؤثر في السلوك وإطار التفكير (لا في مضمون الأفكار)، ليصير معبراً عن منظومة أفكار وبرامج ومقاصد، فتتحول الديمقراطية من إطار يفترض أن يجتمع ويتفق عليه جميع الناشطين السياسيين باعتباره الحكم في "اللعبة"، إلى أيديولوجيا موازية ومناقضة ومناددة للأيديولوجيات الأخرى. وكأن أصحاب هكذا تيار يريدون أن يقولوا أن من يتفق مع برامج وأفكار الأحزاب السياسية الأخرى (أي خصومنا السياسيين) ليس ديمقراطياً ولا يمكن أن يكون.
إنها –إذن- مصادرة للديمقراطية تقترب من السرقة السياسية، وهي تشبه ما قام به آخرون من سرقة لأفكار نبيلة أخرى كـ"الإسلامية" و"الحرية".
كل شئ ينكشف حين التدقيق في مضامين الأفكار التي يطرحها هؤلاء "الديمقراطيون"، فهم –في حقيقة الأمر- يتبنون أيديولوجيا واضحة تقوم على العلمانية الاجتماعية واليسارية السياسية، بمعنى أنهم إنما يدافعون عن منظومة أفكار تريد أن تقول للفرد: افعل أو لا تفعل، ولا يدافعون أبدا عن تعددية سياسية حقيقية وحرية اجتماعية فعلية تضمن للفرد حرية الاختيار والقرار في سلوكه الاجتماعي أو مشاركته السياسية.
أما لماذا اختار هؤلاء لأنفسهم اسم "ديمقراطيين" وصادروا الديمقراطية لأنفسهم، فلأنهم يتخذون مواقف معارضة من كل من الإخوان المسلمين الذين صادروا وصف "إسلاميين" لأنفسهم، والتيار المحافظ الذي صادر وصف "وطني" لنفسه. وهم يقولون أن الإخوان المسلمين والمحافظين ليسوا ديمقراطيين –وهم محقون في ذلك- لكنهم يريدون أن يقولوا أنهم ديمقراطيون لمجرد أنهم يعارضون غير الديمقراطيين، مغفلين أنهم هم أيضاً غير ديمقراطيين لأنهم إنما يهدفون لفرض رؤاهم وأفكارهم على الناس فرضاً، تماماً كما يفعل خصومهم، مع اختلاف ماهية تلك الرؤى والأفكار من طرف لآخر. كما يذهب بعضهم لتعليل هذه التسمية بالقول أنها تدل على طبيعة العلاقات وكيفية اتخاذ القرار داخل هذا الحزب/التيار "الديمقراطي"، حيث يدار الحزب بطريقة تداول القيادة ويتخذ القرار عبر احترام الأقلية للأغلبية، وهكذا يستمد الحزب اسمه مما يدور في داخله لا من مقاصده العامة، وكأن الديمقراطية تكون حقيقية لو قصر تطبيقها على مجموعة محددة من الناس، هي هنا أعضاء الحزب، فيما تمارس المجموعة نفسها القمع الفكري والاستبداد المعرفي على الآخرين!
هكذا فان مبدأ "اللاديمقرطية" حاصل أيضاً عند هذا "التيار الديمقراطي" الذي ليس له نصيب من الديمقراطية إلا الاسم الذي تسمى به، فالتيار الديمقراطي الحقيقي هو ذاك الذي يحمل إلى جانب أفكاره ورؤاه الخاصة ثقافة الديمقراطية التي تحترم حق الآخر في الاختيار والاختلاف، بمعنى أن يكون له طروحاته وبرامجه –وربما أيديولوجيته- الخاصة، لكنه لا ينكر على الآخرين أن يحملوا طروحات وبرامج وأيديولوجيات مخالفة، فالديمقراطي الحقيقي لا يجبر ولا يكره ولا يفرض.
ولما كان هذا "التيار" يفتقد أبسط قواعد ثقافة الديمقراطية، ويريد أن يجبر خصومه السياسيين على تغيير ملّتهم والالتحاق بأفكاره الاجتماعية والسياسية، بدل أن يهدف إلى تكريس فكرة الديمقراطية في النظام السياسي والحزبي التي تضمن بقاء جميع الأفكار والبرامج والطروحات وتنافسها على قاعدة حرية اختيار الفرد، فإننا ندعو عليه أن يذهب إلى الجحيم، تماماً كما ندعو على خصومه السياسيين الآخرين الذين لا يحترمون الديمقراطية، ذلك أنهم بمسعاهم هذا إنما يريدون أن يذهبوا بمجتمعاتنا إلى الجحيم!
ذلك الجحيم الذي سيذهب إليه المجتمع هو استمرار الاقتتال الداخلي بين الأفكار السياسية، والالتهاء به عن مسألة نهضة الأمة التي يجب أن تكون همّ الجميع وشاغلهم، وهو اقتتال مستمر منذ قرر العرب في أواخر القرن التاسع عشر أدلجة العلمانية وتصنيفها خصماً للإسلام، بدل أن تظل فكرة نبيلة تخدم حرية الاختلاف، فصار شاغل العرب كيفية إثبات صحة هذه الفكرة وإجبار الناس على العمل بها مقابل برهنة خطأ الفكرة الأخرى وإكراه الناس على تركها، وقد استمر الاقتتال نفسه طيلة القرن العشرين، تارة بين أفكار برامجيةـ وأخرى بين أيديولوجيات شغلت العرب نصف قرن كامل، وهو جحيم أبعد العرب عن جنة النهضة والسعي لها، ولهذا فانه يجب أن يتوقف، وعلى الذين يريدون أن يستمروا في الاقتتال ويرفضون التوقف عنه واحترام حق كل فرد ومجموعة في الاختيار والاختلاف (وهو الشيء الذي يمكن أن يضمن التفات الأمة من جديد إلى مسألة النهضة) أن يبعدوا عن طريق الأمة التي تعيش تخلفاً عظيماً قياساً إلى أمم الأرض الأخرى، وعليهم أن لم يعملوا لصالح النهضة ويشاركوا في قيادة الأمة في سبيلها، أن يذهبوا إلى الجحيم الحقيقي، ويكملوا اقتتالهم هناك.