بَدَد الشيوعية العربية بين أثر مفتوح و تأويل ُمفرط


سوسن بشير
2004 / 9 / 15 - 09:39     

حينما حدد امبرطو ايكو مفهوم الانفتاح عام 1958 في كتابه المهم " الأثر المفتوح "،ربطه بعدة أطراف،يأتي على رأسها "المؤول"،الذي يتعامل مع النص،أو الخطاب،أو"الأثر".بمعنى أن النص يفتح براحه خارج قصد كاتبه،ويُترك للمُؤَوِل(المُفَسِر)،الذي تُلقى على عاتقه مسئوليات كبرى.بدون شك سيكون على رأس المسئوليات تبعية التابعين للتأويل،من هنا سيتبعون إما نصاً مفتوحاً أو مغلقاً،بحسب التأويل الذي يُعطى للنص،ويُطبق على أساسه.ولا يمكن فهم مسئولية هذا المؤوِل،إلا عبر كتابات أخرى لإيكو،منها بل من أهمها في رأينا " التأويل و التأويل المفرط".و"التأويل"هو فهم للنص،يؤدي إلى امتلاك المعاني المضمرة داخله،في شبكة علاقات تربط هذا المعنى بالعالم والذات.أما"التأويل المُفرط"فيعنينا أن نشير إلى معنى مهم من معانيه،هو تأويل النصوص اللادينية ،إلى درجة تقديسها،مما يؤدي إلى تطبيقها بشكل مشوه،يبتعد بها عن هدفها الأساسي.ويمكننا أن نتصورإذا زاد على ذلك سؤ التفسير أو التأويل،فقد يؤدي إلى نقيض النتائج المرجوة من صاحب النص الأصلي،أو يؤدي إلى نقيض أفضل النتائج المرجوة عامة، لتصبح ما لم يتخيله أحد على الإطلاق. تُرى هل يبدو هذا المدخل منطقياً،إن تحدثنا عن ماركس كصاحب أثر مفتوح،وعن من قاموا بتأويل نصوصه تأويلاً مفرطاً،إضافة لسؤ التأويل ،ثم طبقوها وتبعهم عالم من البشر؟أعتقد نعم.لكن كيف يبدو هذا المدخل منطقياً،في الحديث عن بَدد الشيوعية العربية؟ربما لأنه تجدر الإشارة إلى بدد الشيوعية في معقلها،بل ومع مقدم ثلاثينيات القرن العشرين.والتبديد في اللغة العربية أي التفريق(يقال شمل مبدد.وذهب القوم بداد بداد أي واحدا واحدا).وربما يعيننا على فهم الصورة بدون تفاصيل،مصير أحد كبار المثقفين الشباب(حيث لم تتح له السلطة الستالينية أن يصبح أحد كبار الكبار)و هو الشاعر والكاتب الروسي فلاديمير ماياكوفسكي،الذي اختار الانتحار بديلاً عن الستالينية(ألصقت به تهمة الانتحار عن حب فاشل)وربما بديلاً عن مصير أكثر سواداً قبل الموت،لحق بصحبه.وفي الحديث المباشر عن الشيوعية العربية يعنينا الإشارة إلى غياب التأصيل النظري الماركسي،الذي يجعلك تتساءل،هل قٌرِأ ماركس هنا؟هل عُرِف على أي أساس فلسفي وُضعت البنية الماركسية؟غاب البعد التنظيري منذ البداية عن كثيرين .لكن لا يمكن الحديث عن شيوعية عربية دون تخصيص،ستهدف نظرتنا هنا إلى بيان هذا البدد في الحزبين الشيوعيين السوري اللبناني والعراقي،حتى نكسة يونيو،ونبدأ بالسوري لأنه الأقدم في البداية الرسمية.أما لماذا هذا التخصيص ثم التحديد الزمني،فلأن الحزبين يمتدان في الزمان أطول مدة من غيرهما،كما يميزهما عن غيرهما البعد التنظيمي الأشمل(ولا يلغي هذا التصور ما دونهما من أحزاب وحركات شيوعية عربية)،أما التحديد الزمني فنحتاجه حينما نقدم مقالاً.وتصلح نكسة يونيو عن غيرها فاصلاً أساسياً،نتوقف عنده ونقول ما قبلها و ما بعدها،بالنسبة لما يُلحق بكلمة "العربية"،ونحن هنا نتحدث عن الشيوعية العربية.والزمن الذي نبدأ منه نظرتنا،هو ثلاثينيات القرن العشرين أيضاً،لتصبح الصورة متسقة،بين الإتحاد السوفيتي والمنطقة العربية(إن جاز التعبير).في هذا التاريخ كان الحزب الشيوعي السوري اللبناني قد نظم صفوفه،وبدأت النشأة الرسمية للحزب الشيوعي العراقي.ولكي نلاحق البدد في الإثنين نضع قائمتين بأهم مثالب الحزبين في رأينا،في فترة زادت على ثلاثين عاماً(وهي قليل بعمر الشعوب).وعلينا الإشارة أن قائمتي المثالب لا تنفي على الإطلاق وجود المنجزات،بل ولا تنفي بالأساس فاعلية وجماهيرية الحزبين في مرحلة مهمة.لكن المثالب هي موضوع المقال،وهي الموضح للفجوة بين أثر مفتوح وتأويل مفرط.أولاً:الحزب الشيوعي السوري اللبناني:عمليات الإحلال والتبديل الحادة بين مناضلين جدد وقدامى،تبعها إلصاق شبهات خيانة للقدامى،وخروجهم من الحزب فور الانتقال للمرحلة العلنية. ضبابية الرؤية بخصوص قضية الفلاحين من ناحية والأقليات القومية من ناحية أخرى،وهما قضيتان كان يجب البت فيهما منذ التأسيس،من حيث معرفة السياسة النظرية للحزب تجاههما،ودورهما التطبيقي داخل الحزب. المفارقة بين اتساع رقعة شعار أنسنة المقدس،وهدم الحتمية بعد حل الأممية الشيوعية،والتركيز على جعل الحزب الشيوعي حزباً وطنياً،وبين موقف الحزب من قرار تقسيم فلسطين،حيث تبع السياسة الخارجية السوفيتية،مما قضى على تلك الشعارات،وأفقدها مصداقيتها.عبادة الصوت الواحد؛الفرد الأكبر ممثلاً في خالد بكداش.انضمام أعضاء الحزب عن طريق التعيين.والنقطتان الأخيرتان تشيران إلى غياب الديمقراطية بالأساس.ثانياً:الحزب الشيوعي العراقي:افتقاد برنامج عمل محدد في مرحلة التأسيس.الارتكاز على المفهوم اللينني للماركسية.التبعية للإتحاد السوفيتي في قرار تقسيم فلسطين،وإدانة الجيوش العربية في حرب فلسطين،في ذات الوقت الذي تظلل الحزب تحت لافتة علنية:"حزب التحرر الوطني".ازدياد عدد العرب السنة بعدعام خمسة وخمسين،مخالفاً لماعكسته بداية الحزب للواقع العراقي بقوميته وطائفيته،ثم يختلف الوضع بعد عشر سنوات خاصة في النسب المكونة للجان المركزية للحزب،لتكون الأغلبية للعرب الشيعة،ثم الأكراد ثم العرب السنة.كثرة التصدعات الداخلية.لكن من الجدير بالذكر في حق الحزب الشيوعي العراقي أن نقول،بالنسبة لفرد في مرحلة الشباب اليوم،ينظر لمسيرة الحزب الشيوعي العراقي في هذه المرحلة،وما استطاع أن يحققه من شعبية كبرى،ومنجزات عراقية،في ظل تركيب مجتمعي معقد،وتكتلات خارجية مضادة،وحملات قمع ذات بأس،ومفارقات تشكلها أطراف أخرى،وتحكمها علاقات الإتحاد السوفييتي بخصوم الحزب،من ينظر لكل هذا،يشيد بإرادة عراقية حديدية، داخل منظومة هذا الحزب،حتى برغم الخيانات الداخلية.واذا كان هذا المقال يتوقف عند 1967كتاريخ زمني،ويصمت عما بعد،فلقد صمت أيضاً عما قبل في نقاط أخرى؛فلا يمكن فهم البدد المتبدي في المثالب المجتزأة السابقة،إلا بالوقوف على النظرية الماركسية وأسسها،لتبين وضعها كيوتوبية لم تتحقق في التاريخ المعيش،أي لم تتحقق على أيدي اللينينيين والستالينيين في بلادهم،وكذلك لم تتحقق لدينا؛فهذه النقاط السريعة تشير إلى تناقضات حادة مع المنظومة الماركسية الأصلية لمن يعرفها،بل تشير بالأساس إلى التعامل تحت وطأة نص أو أثر مغلق لم ينفتح بعد