هل كانت ثورة اكتوبر ثورة اشتراكية؟


حسقيل قوجمان
2021 / 10 / 29 - 00:49     

الموضوع الثاني الذي اود مناقشته من وحي حوارات التمدن هو هل كانت ثورة اكتوبر ثورة اشتراكية؟ تختلف الاجابات على هذا السؤال اختلافا شديدا فوجدت ان احاول اثبات حقيقة كونها ثورة اشتراكية.
منذ ان كتب لينين كراسه "تكتيكان" بين ان ظروف الثورة في روسيا تتألف من مرحلتين، مرحلة الثورة البرجوازية، ومرحلة الثورة الاشتراكية. وبين ان المهمة التي تجابه روسيا انذاك هي المرحلة الاولى من الثورة، مرحلة الثورة البرجوازية.
لم يكتب لينين كراسه لمجرد تبيان هذه الحقيقة لانها كانت معروفة قبل ذلك ولكن هدف لينين الاساسي من كتابة الكراس كان التأكيد على ان ظروف الثورة البرجوازية في روسيا تختلف عن ظروف الثورات البرجوازية السابقة بكون الطبقة العاملة الروسية اصبحت طبقة متبلورة تستطيع ومن مصلحتها قيادة الثورة البرجوازية. فكان نص الكراس عبارة عن مقارنة بين تكتيك الحزب البلشفي في هذا الموضوع وتكتيك المنشفيك فيه ومن هنا جاء اسم الكراس "تكتيكان". ان اهمية الكراس هي اعلان لينين عن سياسة الحزب البلشفي في ان قيادة الثورة البرجوازية ليست مقصورة على القيادة البرجوازية وليس على الطبقة العاملة ان تترك ذلك للطبقة البرجوازية كما كان تكتيك المنشفيك بل ان من مصلحة الطبقة العاملة ان تقود الثورة البرجوازية وتحققها تحقيقا جذريا لا تقوى البرجوازية على تحقيقه. وكان نضال الحزب البلشفي بقيادة لينين منصبا على تحقيق الثورة البرجوازية بقيادة الطبقة العاملة.
لم تتحقق الثورة البرجوازية الروسية بالطريقة التي ارادها لينين، اي بقيادة الطبقة العاملة، بل تحققت بقيادة مشتركة بين البرجوازية والسوفييتات. ولكن نتيجة الثورة كانت تسلم الطبقة البرجوازية للسلطة بعد فترة وجيزة من السلطة المزدوجة.
فماذا كان موقف لينين من ثورة شباط البرجوازية؟ منذ اللحظة التي قرأ لينين فيها في الصحف عن خبر انتصار الثورة البرجوازية اعلن موقفه المبدئي برسائله من بعيد عن انتهاء المرحلة الاولى من الثورة الروسية وبدء المرحلة الثانية، مرحلة الثورة البروليتارية. وكان هتافه في محطة بتروغراد عند عودته الى روسيا "تعيش الثورة البروليتارية". ففي عرف لينين بدأت مرحلة الثورة الاشتراكية يوم نجاح الثورة البرجوازية. وانصب نضال الحزب البلشفي على قيادته النضال من اجل تحقيق المرحلة الثانية من الثورة الروسية، مرحلة الثورة الاشتراكية. وليس سرا ان الحزب البلشفي اعتبر الثورة قبل قيامها وفي فترة الاعداد لها وبعد قيامها في فترة بناء الدولة الجديدة ان الثورة هي ثورة اشتراكية. ولكن الكثير من الكتاب، سواء منهم المعادون للثورة وللاشتراكية وللماركسية ام المؤيدون لها يشككون في كون الثورة كانت ثورة اشتراكية، ويحاولون البرهنة على ذلك بالسياسة التي اتبعتها حكومة الثورة بعد نجاحها.
الحزب البلشفي وجميع قادته اعتبروا الثورة ثورة اشتراكية. حتى المعارضة في قيادة الحزب البلشفي لم تشكك في كون الثورة هي ثورة اشتراكية ولكن معارضتهم كانت في كون ان الاشتراكية، اي تحقيق هدف الثورة في بناء مجتمع اشتراكي في قطر واحد متأخر صناعيا وزراعيا غير ممكنة ودعوا الى اتباع سياسات اخرى غير السياسة التي وضعها لينين لبناء مجتمع اشتراكي في قطر واحد. ولكن اعتبار الثورة ثورة اشتراكية جرى من جانب القائمين بالثورة ويجوز لاولئك الذين لم يقوموا بالثورة التشكك في كونها ثورة اشتراكية. وهذا ما هو قائم الان لدى الكثير من الكتاب عن ثورة اكتوبر خصوصا بعد انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. لا اريد هنا ان اناقش هؤلاء الذين لا يعتبرونها ثورة اشتراكية وانما احاول ان اثبت عن طريق تاريخها انها ثورة اشتراكية.
اعتقد ان اول شرط من شروط الثورة اذا كانت ثورة اشتراكية هي ان تكون الحكومة التي تتالف بعد انتصار الثورة حكومة اشتراكية. كيف نعرف ان كانت الحكومة التي تشكلت بعد نجاح الثورة كانت حكومة اشتراكية؟ اعتقد ان الشرط الحاسم في ذلك هو ان يكون هدف الحكومة الاستراتيجي هو بناء مجتمع اشتراكي. وهذا كان واضحا في اهداف لينين من ثورة اكتوبر قبل قيام الثورة وبعد قيامها. فالهدف الاستراتيجي الذي وضعه الحزب البلشفي بعد انتصار الثورة هو بناء مجتمع اشتراكي.
ولكن الهدف الاستراتيجي وحده غير كاف بل على الحكومة ان تتصرف، ان تمارس سياسة، تؤدي الى بناء مجتمع اشتراكي. فهل قامت الحكومة المنتصرة في ثورة اكتوبر بخطوات في هذا الاتجاه؟
اول الخطوات اللازمة في هذا الاتجاه هي تحطيم الدولة البرجوازية بكل مؤسساتها من وزارات وجيش ومحاكم وبرلمان وغيرها. ففي الثورات البرجوازية تستطيع البرجوازية عند استلامها السلطة ان تعتمد على نفس مؤسسات الدولة بتغيير الشخصيات القيادية فيها. تستطيع ان تعتمد على نفس الجيش والشرطة والمحاكم وحتى المجلس النيابي باعادة انتخابه وكل المؤسسات الوزارية وغيرها. اما الطبقة العاملة فلا تستطيع ان تعتمد على اي من هذه المؤسسات بل تحتاج الى بناء مؤسساتها هي التي تتعارض كليا مع المؤسسات القائمة. هل حققت ثورة اكتوبر مثل هذا الشرط؟ ليس من يستطيع ان ينكر ذلك لان التاريخ يعرف ان السلطة البروليتارية حققت منذ اليوم الاول شكلا جديدا من النظام السياسي واقامت حكومة سوفييتية وانتخبت حكومة جديدة هي دكتاتورية الطبقة العاملة اي انها اهملت كافة المؤسسات القائمة في ظل النظام الراسمالي. قد يستطيع المرء انتقاد الحزب على اقامة دكتاتورية الطبقة العاملة وهذا موضوع اخر لا يخص هذا البحث. ولكن اقامة دكتاتورية البروليتاريا ليس سرا وليس هناك من يستطيع انكاره.
كان الهدف الاستراتيجي المعلن من قبل الحزب البلشفي ودكتاتورية البروليتاريا هو بناء مجتمع اشتراكي. وكل كتابات لينين بعد الثورة برهان على ذلك. ولكن ما يقرر ذلك ليس ما يكتبه لينين وانما السياسة التي تتبعها دكتاتورية البروليتاريا. فهل كانت سياسة دكتاتورية البروليتاريا العمل على تحقيق هذا الهدف؟
ان بناء المجتمع الاشتراكي لا يمكن ان يقال له كن فيكون. الحكومة السوفييتية استلمت مجتمعا راسماليا مليئا ببقايا علاقات الانتاج الاقطاعية التي فشلت الحكومة البرجوازية في تغييرها او تقاعست عن تغييرها. وكان على دكتاتورية البروليتاريا ان تحول هذا المجتمع الراسمالي بكل كياناته الى مجتمع اشتراكي. كان عليها ان تلغي كافة علاقات الانتاج الراسمالية القائمة وتغيرها الى علاقات انتاج اشتراكية. لذلك يعتبر الماركسيون او قيادة الحزب البلشفي على الاقل ان الثورة البرجوازية تنتهي يوم انتصار الثورة لانها تستلم نظاما راسماليا متطورا اصبحت علاقات الانتاج فيه عائقا في سبيل تطوره وتقدمه ولا تحتاج الى بناء مجتمع جديد اقتصاديا وفكريا ونظريا واخلاقيا. بينما تستلم الطبقة العاملة مجتمعا راسماليا بكل ما فيه من صفات اقتصادية وفكرية واخلاقية وعليها ان تحول هذا المجتمع الى مجتمع اشتراكي. ولذلك يعتبر الحزب البلشفي وقادته ان الثورة الاشتراكية تبدأ لدى انتصار الثورة ولا تنتهي به كما هو الحال في الثورة البرجوازية.
في اليوم الاول من حكمها قامت الحكومة السوفييتية بخطوات عظمى في هذا الطريق. كان احد القرارين الهامين اللذين اتخذتهما الحكومة السوفييتية في اول اجتماع لها هو مرسوم الارض. ومشكلة الارض هي احدى مهام الثورة البرجوازية اذ لكي تستطيع البرجوازية ان ترسخ حكمها وتطور مجتمعها البرجوازي عليها ان تلغي علاقات الانتاج الاقطاعية وذلك تحققه البرجوازية بتحويل ملكية الارض الاقطاعية الى ملكية برجوازية قدر الامكان. يتم ذلك بما يسمى الاصلاح الزراعي ويجري تحقيقه بسرع مختلفة تعتمد على مقدار جدية البرجوازية في تحقيق القضاء التام على علاقات الانتاج الاقطاعية او ابقاء جزء منها لتكون سندا للبرجوازية ضد نضالات الطبقة العاملة. ولم تحقق الحكومة البرجوازية الروسية بين الثورتين اي جزء من هذا الهدف. فهل كان تحقيق هذا الهدف من قبل الحكومة السوفييتية بنفس الطريقة التي تحققه بها البرجوازية لدى استلامها السلطة؟ ان الحكومة السوفييتية لم تنفذ هذا الهدف عن طريق اجراء اصلاح زراعي او عن طريق توزيع الاراضي على الفلاحين او عن طريق مصادرة الملكيات الاقطاعية بتعويض او بدون تعويض. فالحكومة السوفييتية في يومها الاول حققت هذا الهدف بصورة تختلف كل الاختلاف عن الطرق البرجوازية. في مرسوم الارض الغت الحكومة السوفييتية ملكية الارض بتأميمها. فليس هناك ملكية للارض. يجوز لفالح الارض ان يفلحها ويستفيد منها ولكنها لا تصبح ملكا له باي شكل من الاشكال. وهذا يعني خطوة هامة في طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي، هدف بناء مجتمع اشتراكي. فالارض هي في جميع المجتمعات الطبقية بعد زوال النظام العبودي اكبر واهم سلعة في البلاد. وفي الخطوة الاولى لدكتاتورية البروليتاريا الغي كون الارض سلعة. لم تعد الارض سلعة يمكن امتلاكها او بيعها او شراؤها او رهنها. وانما هي وسيلة للانتاج الزراعي والحيواني في الاراضي الزراعية ووسيلة للسكن والبناء في الاراضي السكنية. وهذا يعني ان الحكومة السوفييتية ازالت من الوجود اهم واكبر سلعة هي الارض وهذه خطوة كبرى في طريق بناء المجتمع الاشتراكي الذي من اهم واجباته الغاء كل سلعة يمكن الغاؤها. ان الغاء سلعة الارض خطوة كبرى في طريق بناء المجتمع الاشتراكي وبرهان ساطع على ان الثورة هي ثورة اشتراكية.
ولا اتحدث هنا عن انهاء الحرب وتحقيق اتفاقية السلام مع المانيا وما رافقها من تعقيدات وخسائر لان انهاء الحرب يمكن ان تقوم به ثورة اشتراكية وكذلك يمكن ان تقوم به ثورة غير اشتراكية. ولكن الحكومة البرجوازية التي استولت على الحكم بعد ثورة شباط البرجوازية لم تقم بمهمة انهاء الحرب وتحقيق السلام.
وكيف سلكت الحكومة السوفييتية تجاه البرجوازية الكبيرة الروسية والاجنبية؟ قامت حكومة الثورة فورا بتأميم اي مصادرة جميع الشركات الكبرى المحلية والاجنبية بدون تعويض. استولت حكومة الثورة على المشاريع الصناعية والبنوك والمواصلات واحتكرت التجارة الخارجية. وهذه الخطوة ايضا خطوة لا تقوم بها الا حكومة اشتراكية لان هدف الحكومة الاشتراكية بناء مجتمع اشتراكي ولا يمكن بناء مجتمع اشتراكي تسيطر عليه اقتصاديا شركات راسمالية محلية كانت ام اجنبية.
كل الدلائل المذكورة تبرهن لنا ان ثورة اكتوبر كانت ثورة اشتراكية وليس انقلابا راسماليا او استلاما للسلطة البرجوازية او غير ذلك من الادعاءات بان الثورة لم تكن ثورة اشتراكية.

2017 / 4 / 20