في ذكرى ثورة أكتوبر العظمى متى بدأ نقص المناعة ينخر جسد النظام


سعيد مضيه
2010 / 11 / 1 - 17:10     

في ذكرى ثورة أكتوبر العظمى
متى بدأ نقص المناعة ينخر جسد النظام ؟

قد تتباين التفسيرات لانهيار التجربة الاشتراكية الأولى، لكن الإجماع تام على أن الانهيار حدث على شكل سطو عصابات مافيا من عناصر النخب العليا في أجهزة النظام. لم يأـ فعلا جماهيريا اختراق النظام إلى الرأسمالية ، وإن وقفت الجماهير، خاصة العمالية، لا مبالية تجاه نظام همّشها. ومع تدهور الأوضاع داخل الاتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية في ميادين الاقتصاد والعلم والثقافة ، فإنها لم تبلغ مستويات أسوأ منها في بلدان الرأسمال .
يتضح ذلك في العرض الذي قدمه غورباتشيف، وهو يطرح مشروع البيريسسترويكا ، أوضح فيه أن الأعراض التي أفصحت عن نفسها منذ النصف الثاني من عقد السبعينات وأسفرت إلى انعدام الثقة بالقيادة ، كانت على النحو التالي: "... وظهر في الحياة الاجتماعية ما تعودنا أن نسميه ظواهر الركود وغيرها من الظواهر الغريبة عن الاشتراكية .. وتائر النمو الاقتصادي تقلصت إلى النصف...وتشكلت ظاهرة النفسية الطفيلية ... وهبطت بالمقابل مكانة العمل الشريف والمتقن... مست العمليات السلبية بشكل جدي المجال الاجتماعي، ونشأ كما يقال ’مبدأ الفتات‘الذي يتمثل في رصد مخصصات لتطوير المجالات الثقافية الاجتماعية مما يفيض عن الإنفاق الذي خصصته الموازنة للأعمال الإنتاجية الصرفة ، وتكرست حالة من ’الصمم‘ حيال القضايا الاجتماعية . وأخذ المجال الاجتماعي يتخلف سواء من حيث التجهيز التقني، أم من حيث الكوادر المؤهلة ، والأهم من حيث نوعية العمل ". ويمضي التقرير إلى القول " ... صواريخنا تشق طريقها بدقة متناهية نحو مذنب هالي ، وتسرع لموعدها مع كوكب الزهرة ، ولكن رغم هذا النصر للفكر الهندسي والعلمي فإننا نلاحظ تخلفا واضحا في مجال استخدام المنجزات العلمية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية ، وكذلك تخلفا في الأجهزة المخصصة للاستخدام المنزلي بالنسبة للمستوى العصري"... إلى أن يقول التقرير "راحت تتقهقر تدريجيا القيم الفكرية والأخلاقية... كما سادت في العلوم الاجتماعية روح التنظير المدرسي وجرى استبعاد الأفكار الخلاقة في مجال النظرية الاجتماعية ... نشأت هوة بين القول والعمل ساهمت في تكريس السلبية الاجتماعية وعدم الإيمان بالشعارات المطروحة. ومن الطبيعي أن تهتز الثقة في وضع كهذا بكل ما يقال من فوق المنابر وعلى صفحات الجرائد والكتب المدرسية . وبدأ الانهيار في الأخلاق الاجتماعية والانهيار في أحاسيس التضامن العظيمة فيما بين الناس..." .
إذن تجلى التناقض بين الواقع وبين ما تعودت الدعاية على التلفظ به. النظام السوفييتي خذل ماركس، ولم تمض سوى بضع سنين حتى أكد النظام الرأسمالي صحة نظرية ماركس حول الرأسمالية، واعتبرته بعض استطلاعات الرأي اكبر مفكر في العصر الحديث. برزت ظواهر غريبة عن النظام السوفييتي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والروحية شبيهة بما ساد أنظمة الرأسمالية المتقدمة، كانت بالفعل المقدمة للانتقال السلس نسبيا إلى الرأسمالية إذا ما أخذنا بالاعتبار التناقض الحاد والصراع الضاري بين النظامين. الأعراض والظواهر التي أفصحت عن نفسها ، وكانت كامنة من قبل، تتناقض مع ما أكده ماركس وإنجلز حول ضرورة الديمقراطية لدى بناء الاشتراكية ، إذ حددا معيار الديمقراطية في الموقف من المعارضة والسماح لها بالنشاط. كما تناقضت الأوضاع السوفييتية مع ما راود مخيلة لينين من مناخ روحي وخطط اقتصادية تحكم بناء المجتمع الاشتراكي على رأسها تقف كل من المكاشفة واحترام عقل الجماهير وإرادتها . وهذا يقدم الدليل على أن الذي انهار نظام افتقر إلى الديمقراطية ،أحد أهم مقوماته الأساس، ، وإن استحوذ على معالم لبعض طروحات الماركسية.

فتحت عنوان " الشعار العام للحظة الراهنة" طرح لينين ديمقراطية أرقى من ديمقراطية البرجوازية قوامها الصدق والشفافية في التعامل مع الجماهير. حذر لينين "أن بمثابة الغرق في المستوى المنحط للسياسيين البرجوازيين خداع الجماهير والتكتم عليها". طرح مشروع ثورة ثقافية زاوج بموجبه بين تحرير الجماهير من الاستغلال والاضطهاد وبين تزويدها بالوعي العلمي. وبذلك اجترح لينين نموذجا متقدما للديمقراطية يقرن الحرية بالمعرفة المستنيرة، ديمقراطية تحظر استغفال الجماهير وتزييف وعيها. حيال فوضى النقاش العلني وما تركه من إرباك تقرر في أحد مؤتمرات الحزب أوائل عقد العشرينات وقف النقاش العلني، وكان ذلك مؤقتا ومشروطا بالإبقاء على حركة الجماهير وتحرير إراداتها ، وتقديم الحقيقة عما يجري وما يطرح من قضايا ومهمات .
في معرض طرح الخطة الاقتصادية الجديدة، أشار لينين إلى مضمون التحالف الديمقراطي بين الطبقة العاملة و الفلاحين ، الأمر الذي ينطوي على أهمية خاصة في ضوء السائد حاليا من تحالفات عرجاء. التحالف يقتضي صياغة الأطراف المتحالفة شروط العلاقات المتبادلة ، وليس ممارسة الضغط والإكراه على الحليف بدعوى حق "الحزب القائد". والضرورة تقتضي" عدم إخفاء أي شيء، وإنما يجب أن نقول مباشرة أن طبقة الفلاحين غير راضية عن شكل العلاقات الذي أقيم لدينا معها ( يقصد انتزاع فائض الحبوب بموجب شيوعية الحرب) ، وغير راضية لأنها لا تريد هذا الشكل من العلاقات ولن يستمر هذا الوضع على هذا الحال". (خطاب أمام المؤتمر العاشر للحزب البلشفي ـ مارس 1921).
لخص لينين المهمة الأهم والأصعب الواجب تنفيذها في إحداث ثورة ثقافية، فهي أصعب وأكثر تعقيدا من تأميم المصانع والأرض: "أمامنا مهمتان رئيسيتان تمثلان العصر هما مهمة تعديل جهازنا الإداري غير الصالح على الإطلاق والذي أخذناه عن العصر السابق ... ومهمتنا الثانية تتمثل في العمل الثقافي من اجل طبقة الفلاحين . وهذا العمل الثقافي بين الفلاحين كهدف اقتصادي يهدف بالذات إلى إدخال التعاون. وشرط التطبيق الكامل للتعاون يتضمن في ذاته درجة معينة من ثقافة الفلاحين ( الفلاحين بالذات بصفتهم جماهير غفيرة ، بحيث نجد أن التطبيق الكامل للتعاون مستحيل دون ثورة ثقافية كاملة) [من مقالة بصدد التعاون ـ يناير 1923]."
وكذلك اقتضت ضرورات البناء استخدام مثقفي البرجوازية ، خاصة من بين عداد أولئك الذين مارسوا النشاط في تنظيم الإنتاج الكبير في ميادين المحاسبة والضبط والإدارة. وإلى جانب ذلك السماح بالمشروع الخاص ونظام السوق، الأمر الذي يعني الرجوع خطوة للوراء. " إذ بدون مشورة خبراء في مختلف حقول المعرفة والتقاني والخبرات ، فإن الانتقال إلى الاشتراكية سيكون مستحيلا". ذلك أن "الاشتراكية تدعو إلى تقدم الجماهير الواعي نحو إنتاجية عمل أعظم بالمقارنة مع الرأسمالية. يجب على الاشتراكية إنجاز هذا التقدم بطريقتها الخاصة ،بوسائلها الخاصة ، أو لنقل بالوسائل السوفييتية. والأخصائيون ، بسبب الوسط الاجتماعي المحيط ، هم برجوازيون بالحتم وبصورة رئيسة ... والآن علينا الرجوع إلى الطريقة البرجوازية القديمة ونوافق على أن ندفع ثمنا عاليا مقابل "خدمات " الخبراء البرجوازيين ... ونتراجع في هجومنا ضد الرأسمال ( ذلك أن الرأسمالية علاقات اجتماعية محددة وليست مبالغ مالية)، وذلك خطوة للوراء من جانب سلطتنا السوفييتية الاشتراكية .." ، (مقال الشعار العام للحظة الراهنة ).
يتضح من كل ما تقدم أن الاشتراكية ليست نظاما مسبق الصنع يجري تركيبه؛ ولم يكن مشروعها جاهزا في ذهن أي من قادة الحركة الاشتراكية، لينين ومن قبله ماركس وانجلز . يشير لينين إلى أن بناء مجتمع خال من الاستغلال والقهر الطبقيين عملية تنطوي على تعقيدات وتكابد التجربة والخطأ . والأهم من ذلك ـ والتكرار لا يخل، بل ضروري بالنظر لما نحن عليه الآن ـ " بدون أن نخفي عن الجماهير أخطاءنا ونقاط ضعفنا؛ ... فذلك يعد بمثابة الغرق في المستوى المنحط للسياسيين البرجوازيين وخداع الجماهير. وأن نشرح بصراحة كيف ولماذا اتخذنا هذه الخطوة للوراء ثم نناقش علنا ما هي الوسائل المتوفرة للتعويض عن الزمن الضائع ، إنما يعني تثقيف الشعب والتعلم من التجربة ، التعلم مع الشعب كيف نبني الاشتراكية. يندر أن حدث في التاريخ معركة عسكرية مظفرة لم يقترف المنتصر خلالها أخطاء معينة، ولم يكابد تراجعات جزئية يتخلى مؤقتا عن أشياء ويتراجع في أماكن معينة . والحملة التي اضطلعنا بمهامها ضد الرأسمالية أصعب بمليون مرة من أصعب حملة عسكرية ، ومن الغباء والمهانة أن نستسلم لليأس بسبب تراجع جزئي معين. "
تعزو دراسات معينة فشل التجربة الأولى لبناء الاشتراكية إلى حقيقة أن فكرة الاشتراكية بطبيعتها طوباوية، وكل مجتمع يقوم على الصراعات والبقاء للأصلح ، مثلما هي مملكة الحيوان. وما حدث في أكتوبر 1917 انقلاب لا لزوم له. لكن يدحض هذا الزعم وينقضه كون قيام الاتحاد السوفييتي قد شكل معلما بارزا في الحياة الدولية: أولا أحدثت ثورة أكتوبر رجفة جزوعة لدى البرجوازيين فأرسلت أربع عشرة دولة جيوشها لواد الوليد الجديد. ورفض لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا، إلحاح وزيره آنذاك، وينستون تشرشل، زيادة الدعم للثورة المضادة في روسيا. رد لويد جورج على الإلحاح ، بأنه إن فعل ذلك "ستصبح بريطانيا ذاتها بلشفية وستكون لدينا سوفييتات في لندن". رفض عمال الموانئ شحن السلاح، وجرت مظاهرات الجماهير في ربوع البلد، وبرز خطر إضراب عام آني والتلميح إلى عصيان مدني للمطالبة بإرجاع القوات الغازية من روسيا.
وردا على إعلان لينين مبدأ تحالف السلطة السوفييتية مع حركات التحرر الوطني ضد العبودية الاستعمارية نشطت في بلدان المشرق العربي حملة مسعورة تلطخ الشيوعية وحكم السوفييت بالافتراءات ، مدعية الغيرة على الأسرة والتقاليد والدين. وبرز في هذا المجال عدد من مشايخ الأزهر ورجال السياسة، ومضت فكرة " العداء للشيوعية" تحفر لها مجرى داخل المجتمعات العربية ، وتطال كل عنصر أو جماعة تعارض السيطرة الامبريالية . إلا أن ذلك لم يحل دون توطد الماركسية في الثقافة الوطنية العربية مقترنة بالتقدم ؛ كما برز مثقفون ماركسيون بارزون في المجتمعات العربية وآخرون في شتى القارات.

وثانيا أن غياب الاتحاد السوفييتي دشن لنظام دولي جديد جائر بحق الشعوب. عانى الشعب الفلسطيني شراسة الاحتلال الإسرائيلي التي تضاعفت عنفا وتوسعا؛ أشهرت الصهيونية مشروعها للاستحواذ على كامل " أرض الميعاد" مسنودة بدعم الإدارات الأميركية والمحافظين الجدد. برزت إيديولوجيا نهاية التاريخ وصراع الحضارات ، كما نشطت إيديولوجيا السوق والخصخصة وانسحاب الحكومات من وظيفتها الاجتماعية وفتح الأبواب على مصاريعها لنشاط الرأسمالية المتوحشة. ظهر اتجاه المسيحية الأصولية والمحافظين الجدد ينادون باسم الليبرالية الجديدة بوأد الليبرالية القديمة، وذلك قبل حدوث تفجيرات أيلول. فعلا تخلت البرجوازية الاحتكارية عن الديمقراطية في الداخل ، بعد أن ركلت بأقدامها الحديدية الديمقراطية في العلاقات الدولية. دعا المحافظون الجدد إلى قرن أميركي سداه الهيمنة المطلقة على مقدرات الشعوب، وتوتير بؤر التوتر في أنحاء العالم.
وتفسير آخر شاع بعد الانهيار الدرامي يحمل مسئولية تخلف روسيا قبل ثورة أكتوبر الهزال المزمن للوليد البكر . فالنظام السوفييتي لم يكن اشتراكيا ؛ إنما هو نظام رأسمالية دولة قام بوظيفة "تأمين التراكم الأولي" ، وعجز عن التصدي لأمراض الفساد والبيروقراطية والجمود العقائدي، فلازمته حتى أودت به. ويستشهد أصحاب هذا الاعتقاد بلامبالاة الطبقة العاملة السوفييتية وهي ترى كل شيء ينهار وثمار كدحها تنهب. أما الوقائع التاريخية فتؤكد أن ثورة أكتوبر اشتراكية في هدفها ومضمون رسالتها ، وأن قائدها أقر في معرض تفسيره للسياسة الاقتصادية الجديدة أنه يجري بناء رأسمالية الدولة التي هي عتبة الاشتراكية. وبقي أن يقترن البناء بالديمقراطية، وإشاعة قيمها وثقافتها، التي هي منشطات التقدم، ودخول فضاء الاشتراكية .

وتتردد كثيرا ادعاءات أن خيانة الاشتراكية دشنت بتسلم خروتشيف قيادة الاتحاد السوفييتي. لكن أصحاب الاتهام لا يفسرون لغز صمت الطبقة العاملة والشعب السوفييتي إزاء "خيانة" الارتداد عن الستالينية، علما أن آلاف شهداء الحرب استشهدوا وهم يهتفون بحياة ستالين، وكانت شخصيته موضع عبادة جماعية. كيف انتظرت الظواهر الغريبة عن الاشتراكية حتى منتصف عقد السبعينات كي تفعل في المجتمع السوفييتي؟ ألا يعطي ذلك دلالة أقرب للدقة على أن عهد بريجنيف، الذي انقلب على الخروتشوفية، هو المولد للاختلالات التي أجهزت على النظام؟
بالطبع يطمس أنصار عبادة شخصية ستالين حقيقة أن وجه الاتحاد السوفييتي المنفتح على والداعم بشتى الوسائل لحركات التحرر الوطني والمتحدي للعدوانية الامبريالية برز في عهد خروتشيف. وامتلك خروتشيف الجرأة على إبعاد الجنرال جوكوف من قيادة الحزب لأنه لم يكف عن محاولات فرض هيمنة الجيش على الحزب، رغم أن خروتشيف برز من جهاز البيروقراطية ولم يقلص نفوذها التاريخي على الحياة السوفييتية. ولا يناقش أصحاب هذا الاتهام الانقلاب البيروقراطي على خروتشيف عام 1964؛ ولا يتساءلون بصدد لغز توقف انتقاد ستالين أثناء الحقبة البريجنيفية ، وتغييب ظواهر سلبية وردت حول عهد ستالين في مؤلفات وضعت إبان فترة خروتشيف.
نهج الإدارة البيروقراطية والأوامرية الفظة فرض بتجاهل تام لتحذيرات لينين من خطر البيوقراطية على البناء الاشتراكي. فقد أظهرت خبرة البناء الاشتراكي، بمنجزاتها وإخفاقاتها، أن السياسة ليست فكرا فحسب، بل هي فكر تتحكم في تجلياته الكيمياء النفسية للقيادة و توازنات القوى. كل نظرية تتعثر بغبار الواقع؛ ذلك أن الواقع ينعكس في النفس البشرية بنماذج متضاربة تحكمها الخبرة والطاقة الذهنية وكثافة المعرفة وأمور أخرى. تخضع السياسة لمنطق مختلف تماما عن الفكر من خلال بناء القوى ومراكمتها وتبديل توازناتها. المراقبون للسياسة السوفييتية لاحظوا فرقا واضحا بين قيادة لينين وقيادة ستالين. أفسح لينين المجال للرأي الآخر وتسامح مع تباينات الآراء ؛ كان أوسع أفقا وأكثر خبرة بالنفسية البشرية ؛ بل طالما استشار لينين في تكتيكاته مواضيع علم النفس الاجتماعي ، بينما ألغى ستالين دراسات علم النفس وأبحاثه، ومارس القيادة بأسلوب أوامري غير متسامح مع تباينات الآراء. فرض ستالين نظام الحزب الواحد الذي قلدته أكثرية بلدان التحرر الوطني، وأفضى إلى تحول الأنظمة إلى البيروقراطية فالاستبداد المرتبط بالامبريالية .

تمضي السياسة التقدمية،المرشدة بالعلم، عبر بناء قطب سياسي قادر على تغيير الوقائع وفرض وقائع جديدة بواسطة الجماهير المنطلقة لبناء الحياة الجديدة. وهذا ما يعطي قيمة للعمل السياسي التقدمي ويدمجه بالفكر التقدمي، ويعطي قيمة لتشكيل القطب الديمقراطي. وبعد وفاة لينين تمت التضحية بديمقراطية الاستناد إلى مبادرات الجماهير المثقفة والقابضة على أعنة الإنتاج. ونظرا لتميز تاريخ روسيا بالاستبداد القيصري والإقطاعي وفظاظة حياة الفلاحين لم تتغلغل قيم الديمقراطية بين سواد الشعب، وكان من السهل التحايل عليها. لم يسترشد ستالين بالفهم الماركسي للديمقراطية، ولم يتأهل بقيم الديمقراطية ؛ وطالب لينين اللجنة المركزية للحزب مراجعة قرارها بانتخاب ستالين لمركز الأمين العام، فهو معروف بفظاظته ولا يقيم علاقة رفاقية مع الآخرين. ومن تجربتي في النشر على الموقع تبين لي أن القراء الستالينيين تنقبض صدورهم، شأن ستالين ، لدى سماع الرأي المخالف، و يتشنجون وهم يطالعون انتقادات لستالين..
على أنه يتوجب القول أن ستالين أقدم على ما أقدم عليه من منطلق الدفاع عن الاشتراكية وعن مصالح الكادحين كما استوعبها . اختلف ستالين بشكل حاد عن ديكتاتوريين أقاموا أنظمة فاشية خدمت مصالح الرأسمالية الاحتكارية؛ وليس من النزاهة تشبيه ستالين بأي من الديكتاتوريين السابقين او اللاحقين . كانت شخصية ستالين متناقضة؛ أنجزت قيادته مكتسبات هائلة للبلاد السوفييتية وضمنت القاعدة المتينة لقدرة عسكرية ألحقت الهزيمة الحاسمة بالوحش النازي وحمت البشرية من بربريته العنصرية. غير أن نمط قيادته الأوامرية البيروقراطية فرضت إطارا حديديا لعلاقات إنتاج عجلت في البداية النمو الاقتصادي ووجهته في نفق واحد بعيدا عن تلبية الحاجات المتنامية للجماهير العاملة. وعطل هذا التوجه وحيد الجانب، فيما بعد، التنمية الاقتصادية، طبقا لما ورد في تقرير غورباتشيف. ألحقت علاقات الإنتاج الخاضعة لسطوة البيروقراطية الضرر الفادح ببنيان الاشتراكية وأرست حجر الأساس لانهيار عام 1989.

علاوة على ما تقدم تسلل المتسلقون والمتزلفون إلى المراتب العليا للقيادة وأمكن بسهولة زرع الخونة الحقيقيين وتمكينهم من التسلل إلى قيادة مقاليد الأمور والسيطرة على أذني القائد؛ فدُفع العديدون من الشيوعيين المناضلين والمخلصين إلى ساحات الإعدام. وقبيل الغزو النازي نجحت المخابرات النازية ، بواسطة العميل بيريا ، في الإجهاز على كوكبة من خيرة الجنرالات السوفييت. أتيح لكاتب هذه السطور الاستماع إلى محاضرة أحد ضباط المفوضية السياسية بالجيش الأحمر . أذكر قول المحاضر: كنا طلبة في الجامعة أوائل الثلاثينات؛ ونطالع كل يوم تقريبا بصحيفة البرافدا خبر تنفيذ حكم الإعدام ب"عميل" . وذات يوم قرأنا في البرافدا خاطرة تدافع عن أحد الضحايا حملت اسم كاتبها ؛ لنقرأ بعد أيام قليلة نفس الاسم قد نفذ فيه حكم الإعدام بصفته خائنا. وطبيعي ان يستفحل في هذا المناخ الفساد وتغدو سرقة المال العام حرفة ممتهنة.

خلال الفترة البريجنيفية( الستالينية الجديدة كما أطلق عليها في حينه) ، اشتد بأس البيروقراطية السوفييتية وتولاها الطموح للانتقال من الإشراف الكلي على الاقتصاد إلى تملكه. لم يراودها الطموح في عهد ستالين. كانت أنيابها طرية ، ثم أفرز الجهاز البيروقراطي، مع الزمن وتراخي المراقبة، مافيات لها مخالب فولاذية وأنياب نووية تسطو على القطاع العام ؛ في عهد بريجنيف تكاثر لصوص المال العام ، وتكاثر تزوير التقارير عن الإنتاج. وفي عهد غورباتشيف واتت البيروقراطية الجرأة على تملك كل شيء بأبخس الأثمان. ولم يكن الصراع بين غورباتشيف وييلتسين إلا خلافا حول أسلوب الوصول إلى الخصخصة : غورباتشيف نادى بالسيرورة الهادئة البطيئة، وييلتسين تعجل بإدخال " علاج الصدمات". أوردت الأخبار مؤخرا أن صحيفة روسية نشرت أن تشيرنوميردن ، رئيس الوزراء الذي طبق " الإصلاح بواسطة الصدمات " يمتلك ثروة تقدر بمليارات الدولارات، وتم إغلاق الصحيفة بأوامر من بوتين.
في الاتحاد السوفييتي وضع النظام نفسه في مواجهة الجمهور وتحمل، كنظام شمولي، مسئولية كل شيء ؛ وبالمقابل أوجدت الرأسمالية نظام الحزبين كي تنفس الجماهير عن أزماتها بالانتقام من الحزب الحاكم، وليس النظام، ورسخت الاعتقاد بأن الرأسمالية توفر الفرص المتكافئة، يصعد الفرد أو يتداعى وضعه على مسئوليته. ولذا لم تسفر الأزمات الدورية وانعكاساتها على وضاع الجماهير عن حالة ثورية تستدعي تبديل الأنظمة.
أسفر الانهيار العظيم عن أطلاق النزعة الفاشية الكامنة في الرأسمالية؛ شاعت في جنبات الكرة الأرضية خيبة أمل إذ ارتدت الحضارة البشرية على ذاتها فغلب عليها طابع التوحش. وحوصرت الشعوب بين أصوليات مختلفة أصولية الشرق وأصولية الغرب المتصهين. وامتهنت الدعاية البرجوازية ميكافيلية غدرت بكل نزعة إنسانية منذ عصر النهضة وعصر التنوير، تهاجم المسلمين باسم العداء للأصولية ، بينما تتبنى أصوليات مسيحية ويهودية لا تقل عنها وحشية وإجراما. وبموازاة ذلك حدث الهجوم الضاري على أوضاع الشغيلة المعاشية في بلدان الغرب كافة ، وهو ما نشهد التصدي له على شكل مظاهرات مليونية.
بعد انهيار الاشتراكية انفردت الاحتكارات عابرة الجنسية بقدرات كفيلة بإنزال الكوارث العديدة والمهلكة أحيانا للبشرية. شنت العدوان على العراق متجاوزة معارضة كونية ضخمة؛ وقد تفضي ممارساتها ، وهي تجمح خلف الأرباح الاحتكارية والمواقع الاستراتيجية بلا كابح، إلى نموذج من البربرية المدمرة لإنسانية البشر ، او إلى دمار البشرية. ولهذا يحتفظ بصحته الشعار التحذيري : "الاشتراكية او البربرية".