السبيل إلى تجاوز الرأسمالية


سامح سعيد عبود
2010 / 11 / 1 - 13:44     

عبر كل التاريخ البشرى المكتوب لم يوجد أمام العبيد، سواء أكانوا أفرادا أو جماعات، عبيد قهر أم عبيد اضطرار، إلا ثلاث طرق فى مواجهة وضع العبودية، أولها التمرد على سلطة السادة بعدم الاستمرار فى وضع الخضوع، وانتزاع حريتهم من هؤلاء السادة بالعنف فرديا كان أم جماعيا، وثانيهم هو تحسين ظروف عبوديتهم نفسها بالمساومة مع السادة و بالضغط عليهم مع استمرارهم كعبيد لهم، وثالثهم شراء حريتهم من السادة، ليصبحوا أحرارا مثلهم.
لأننا لن نعيد اختراع العجلة فلا يوجد أمام العمال المأجورين أو المجبرين فى عصرنا الحالى إلا نفس تلك الطرق الثلاثة، ولا خيار لنا بينهم و لا تفضيل، لأن اختيار أى طريق منهم، لابد وأن يعتمد على ظروف واقعية وموضوعية قد تسمح بخيار ولا تسمح بخيار آخر أو السماح بعدة اختيارات، فالخيار الأول الثورى يعنى سيطرة الطبقة العاملة الجماعية على كافة وسائل الإنتاج والخدمات والعنف والمعرفة، وإدارتها لشتى شئون المجتمع لصالحها، بواسطة المجالس العمالية أو النقابات العمالية فى مواقع العمل والمناطق السكنية، و اتحادات تلك المجالس طوعيا من أسفل لأعلى. والخيار الثانى وهو النضال الإصلاحى التدريجى من أجل انتزاع الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عبر النضال النقابى والحكومات الإصلاحية فى إطار الديمقراطية البرجوازية نفسها، والخيار الثالث هو التحرر الذاتى للعاملين بأجر من وضع العمل المأجور لوضع العمل الحر إما فرديا أو جماعيا عبر التعاونيات الإنتاجية.
أحد الشروط لكى يناضل العبيد لتحرير أنفسهم أو تحسين أوضاعهم، يبدأ من نفورهم من وضعهم كعبيد، وطوقهم للحرية والمساواة مع السادة، ثم معرفتهم طرق الوصول لتلك الحرية و تلك المساواة، أما أهم الشروط فهو معرفتهم الوثيقة أنهم لا يملكون إزاء مضطهديهم إلا الوحدة والتضامن فيما بينهم، والحرية فى النهاية ليست مطلبا جوهريا للبشر إذ تسبقها مطالب اشباع غرائز أخرى كملىء المعدة بالطعام و توفر الأمان، والحرية تتجاوز هذه الغرائز الحيوانية لما هو أسمى، وهى لن تتحقق إلا لمن يطلبها ويناضل من أجلها ليستحقها.
على العكس من كل الفترات المأزومة السابقة التى اعترت الرأسمالية، و التى أمكنها تجاوزها فى السابق ، فالأزمة الراهنة رغم تمددها فأنها تشهد أيضا أكثر حالات القوى المناهضة للرأسمالية ضعفا، سواء على مستوى تأثير وعيها اجتماعيا أو قدرتها التنظيمية والنضالية، فسقوط البيروقراطية فى شرق أوروبا والتى كانت تقدم نموذج بديل للرأسمالية يروج له اليسار التقليدى السائد و الأعلى صوتا على أنه الاشتراكية، أضعف ثقة الناس بأى خطاب يتجه لليسار الراديكالى فضلا عن اليسار التقليدى، مما جعل غالبية الناس يرفضون مجرد الاستماع حتى للذين ينتقدون النموذج البيروقراطى، وحتى من يسمع ويقتنع عقليا منهم، فأنه يفتقد لتلك الإرادة النضالية العاتية، و الروح المعنوية المرتفعة، والتضحيات المذهلة التى ميزت الشيوعيين والاشتراكيين واللاسلطويين حتى سبعينات القرن العشرين، فهناك اتهام جاهز لهؤلاء المناضلين بأنهم رومانسيين وخياليين و ربما حمقى و مجانين، فى وقت أصبحت فيه الأنانية الفردية والنفعية و الاستهلاكية هى القيم الأخلاقية المروج لها بقوة عبر الثقافة والإعلام، فالمزاج العام يتجه يمينا نحو الفاشية والمحافظة فى تناقض مذهل مع تدهور الأوضاع التى تدفعنا لها الرأسمالية، أما على مستوى التنظيم فقد تفككت روابط البروليتاريا مع عولمة الإنتاج.
المشكلة الأخرى التى تضعف القابلية على خطاب اليسار الراديكالى هى التشكك فى ثورية البروليتاريا الصناعية، وقدرتها على إنهاء الرأسمالية محررة نفسها والبشرية بأسرها من القهر والاستغلال والاغتراب كما بشرت بذلك الماركسية، ويستند هذا التشكك على حقيقة التدجين الكامل للبروليتاريا الصناعية فى مراكز الصناعة فى العالم بالإصلاحية، فى حين أنها الأكثر قدرة تنظيما ووعيا على سحق الرأسمالية، أما البروليتاريا الصناعية فى الأطراف فقدرتها الفعلية على إحداث ضرر جذرى للرأسمالية، لا تتجاوز التمرد على النظام القائم لا تهديد جوهره، وقد تساعد على تغيير شكله، إلا أنها أعجز من أن تغيره لما هو أكثر تقدما، وقدرتها الاجتماعية محددة فى هذه الحالة فى أن يساعد تمردها فى رفع طبقة أخرى غيرها للسلطة لا أن تتولى هى السلطة .
يستند المتشككون فى أهلية البروليتاريا الصناعية أيضا على غيبية إضفاء القدرة الثورية على البروليتاريا الصناعية لتحرير نفسها، حيث يقدم المتشككون دفعا قويا يؤكد شكوكهم، بأن العبيد و الأقنان لم يحرروا أنفسهم أبدا عبر التاريخ المكتوب، من سيطرة ملاك العبيد والسادة الإقطاعين، لسبب جوهرى، وهو افتقادهم القدرة المادية على تحرير أنفسهم، بقدر ما تم تحريرهم بفضل قوة مادية أتت من خارج البنية الاجتماعية القائمة، الرعاة البدو فى آسيا، و قبائل البرابرة فى أوروبا قديما، ثم البورجوازية التى نشأت فى المدن الحرة فى غرب أوروبا حديثا على هامش نمط الإنتاج الإقطاعى. ويتساءلون ما الذى يملكه عمال الصناعة من قدرات لا يملكها العبيد و الأقنان لكى يمكنهم تحرير أنفسهم ذاتيا، ولماذا بالنسبة للرأسمالية تحديدا نفترض أن مهمة التحرير القادمة ستكون من داخل بنيتها لا من هامشها، كما حدث للبني السابقة، و ذلك كما حدث عبر التاريخ بالفعل، وهى تساؤلات مشروعة بالطبع، و الإجابة التى تجيبها الماركسية، هى أنه فى عالم مادى مثل عالمنا لا تأثير سوى للقوى المادية، والبروليتاريا الصناعية تملك الإمكانية المادية القادرة على التغير، بشرط وحدتها العالمية فى مواجهة مضطهديها ومستغليها، وهو نداء مر عليه أكثر من قرن ونصف، ولم يلبى حتى الآن.
الإجابة الأخرى اللاسلطوية الجديدة، هى أن التغيير الاجتماعى يمكن أن يتم وفق مفهوم التحرر الذاتى أو ما يسمى ثورة كل يوم، والذى يعنى بناء تدريجى تراكمى لمجتمع المستقبل اللاسلطوى من قلب ومن هامش المجتمع السلطوى القائم، وعلى أساس ما هو موجود فعلا فى هذا المجتمع من علاقات اجتماعية لا سلطوية هامشية كالتعاونيات وغيرها ، بعيدا عن خلق اليوتوبيات، و صنع البرامج، وطرح الشعارات، و دون تحريض على أى ثورات، ودون التبشير بانتظار خلاص نهائى لكل البشرية بالضربة القاضية الفنية فى الدنيا أو فى الآخرة، ذلك لأن البشر بتركيبهم الحيوى والعقلى والنفسى الحالى، ولفترة طويلة سوف تتراوح علاقاتهم الاجتماعية ما بين التسلط والتحرر، والمساواة واللامساواة، ومن ثم قد يطول أمد النضال اليومى من أجل زيادة حجم التحرر والمساواة على حجم التسلط والا مساواة فى تلك العلاقات.
بناء على ما سبق فإن الأكثر عملية وجدوى من وجهة نظر اللاسلطوية أن يبحث اللاسلطويون أفرادا أو جماعات عن خلاصهم الفورى للتحرر من التسلط واللامساواة، ذلك أن المستسلمين لعبوديتهم، والمستمتعين بدونيتهم عليهم النضال بأنفسهم كى يحرروا أنفسهم لو شاءوا، وعلي اللاسلطويون أن يكونوا مثلا لهم، وقدوة فى هذا النضال لا أكثر، مرشدين لهم دون أن يعينوا أنفسهم أوصياء عليهم، وهذا الحل هو ما يراه اللاسلطويون ممكن ومتاح وواقعى، إلا أنه سوف يكون نسبى بالطبع طالما نعيش فى مجتمع تسوده العلاقات الاجتماعية السلطوية، و بالطبع لابد وأن يعترفوا بمدى صعوبة تحقق مثل هذا التحرر فى مجتمعات استبدادية ومحافظة مثل مجتمعاتنا تعيق استقلالية الناس، و تقيد حرية كل من الأفراد والجماعات المدنية على السواء، على عكس مجتمعات أكثر تحررا تشكل مناخا مواتيا أكثر لنجاح تلك العملية، لكن ذلك التكتيك برغم ما يشوبه من صعوبات ربما يكون أفضل من انتظار ما لا يأتى إلا نادرا فى التاريخ، وأفضل من استنزاف الجهد والطاقة فى أشكال من النضال التى لا جدوى منها، وأصدار أطنان من البرامج والبيانات والتقارير التى لا يقرأها أحد، و أفضل فى نفس الوقت من التكيف مع الواقع الراهن، وخفض سقف أهدافنا لمجرد تحسين أوضاع العبيد مع استمرار عبوديتهم، ورفع شعارات نخب لا تعنى قضاياها الجماهير، و من ثم عاجزة عن حشدهم من أجلها.
أعتقد أن استمرار تصاعد هذه العملية التحررية التى تحدث فعليا فى الواقع بمرور الوقت بصرف النظر عن إرادتنا، سوف يقرب المزيد من البشر يوم بعد يوم من الخلاص النهائى، عندما يتحول ما هو هامشى من علاقات لاسلطوية موجودة بالفعل أو يمكن انشاءها عمليا إلى وضع السيادة اجتماعيا، فى حين تتقلص العلاقات الاجتماعية السلطوية لصالح سيادة متنامية للعلاقات اللاسلطوية، و هذا يتطابق مع الرؤية المادية التى يتبناها معظم اللاسلطويون للتطور الاجتماعى باعتباره عملية تطور تراكمى مستمر، لا يحدث فجأة ومرة واحدة وعلى نحو إرادى، فهذه العملية التطورية كما فى البيولوجيا تماما تحكمها قواعد موضوعية، و العلاقات الاجتماعية يمكن أن تزيد أو تقل عبرها تسلطا أو تحررا حسب ظروف موضوعية لا دخل للبشر فيها من جانب، وحسب نضال البشر نحو مزيد من التحرر أو مزيد من التسلط من جانب آخر.
أما الثورات السياسية الكبرى فى التاريخ فهى مجرد احداث استثنائية ونادرة، و قد انتهت غالبا للردة، و إعادة إنتاج القهر والاستغلال الطبقيين، وإلى الديكتاتوريات المستبدة، وخيانة شعارات الثورة، والفشل فى تحقيق شعاراتها، و قادها أفراد طامحون للتسلط على الناس لا تحريرهم بالفعل، كانوا يحملون بمحض الصدفة أفكارا ثورية سبق وأنتجها لهم مفكرون انتقدوا الواقع الاجتماعى القائم، مبشرين بواقع اجتماعى جديد، وغالبا ما تصارعوا كالذئاب على وليمة السلطة وامتيازاتها التى وقعت فى أيديهم، فتنتهى الثورة لتأكل أبناءها، ليصعد بدلا منهم إلى الحكم الأفاقون والانتهازيون الآكلون على كل الموائد.
الثورة بمثابة المشهد الدرامى الأكثر إثارة ولفتا للانتباه فى التاريخ، لكن التغيير الاجتماعى نفسه يحدث بهدوء ودون ضجيج قبل هذا الحدث وبعده وفى أثناءه، يبدأ بهدوء من تغيرات فى قوى الإنتاج والتوزيع والتبادل بسبب تطورات فى التقنية والفن الإنتاجى، تستلزم تغيرات فى علاقات الإنتاج، تتلاشى علاقات وتتهمش، لصالح تسييد علاقات أخرى، و هو ما يمكن تسميته ب (الثورة الاجتماعية)، و تؤدى هذه التغيرات الثورية الاجتماعي، لتأسيس دولة الطبقة السائدة المنتصرة فى الصراع الاجتماعى أو تلاشى السلطة السياسية نفسها بإلغاء الدولة كشرط لبناء مجتمع لا طبقى، ثم يعقب ذلك تغيير الوعى الاجتماعى (الثورة الثقافية)، هكذا هو سيناريو التغيير الاجتماعى تاريخيا وليس العكس كما يصر على هذا الإرادويون والمثاليون والخياليون بالفعل.
الثورة السياسية بشكلها التقليدى كما فى القرون الماضية نفسها أصبحت تتناقص احتمالات حدوثها باضطراد، هذا إن لم تكن مستبعدة بالفعل فى المدى المنظور، وذلك لأن هناك تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتكنولوجية وثقافية، طرأت مؤخرا على المجتمعات البشرية، جعلت الثورة السياسية بشكلها التقليدى أقل احتمالا عن ذى قبل.
التطورات التى تقف عقبة أمام الثورة السياسية كما عرفت تاريخيا لا ينبغى أن تدعونا للتشاؤم، و قد حدثت أمام أعيننا ثورة اقتصادية جديدة بالفعل، وذلك مع اختراع الكومبيوتر الشخصى ومعه الوندوز والأنترنت فى الثمانينات من القرن الماضى، مما أدى لجعل معظم الإنتاج والتوزيع والتبادل الإعلامى والثقافى والفنى والمعلوماتى أكثر تحررا من الرأسمال والدولة، فهناك ملايين متزايدة باطراد من البشر أصبحوا يحصلون على احتياجاتهم من المعلومات والتعليم والتثقيف والترفيه والتسلية مجانا، وهناك ملايين متزايدة باطراد من المنتجين لذلك النوع من السلع يضعون انتاجهم مجانا بعيدا عن وسطاء النشر والتوزيع الرأسماليين أو الدولة، ولا عزاء لحقوق الملكية الفكرية فى هذه المجالات، وبانتقال استخدام الأنترنت من نظام الكابل إلى اللاسلكى، وانتشار استخدام اللاب توب والنوت بوك بدلا من الكومبيوتر المكتبى، سوف يقترب هذا القطاع من أن يصبح لاسلطويا بالفعل، لولا استمرار أعداد متناقصة من المستهلكين بحكم عاداتهم المحافظة، وميلهم للتباهى الاستهلاكى، بشراء الكتب والصحف والمجلات الورقية والأسطوانات وشرائط الكاسيت والفيديو، و فى الذهاب لدور السينما والمسرح و الحفلات والملاعب الرياضية والمعارض الفنية، وفى مشاهدة التليفزيون، لعجزهم أحيانا أو عدم تعودهم أحيانا أخرى على استخدام الكومبيوتر والأنترنت فى إشباع احتياجاتهم فى تلك المجالات، لكن بعد عقود قليلة من الآن ، وفناء الجيل الحالى بعاداته القديمة، مع نشوء عادات جديدة لجيل آخر، سوف يختفى هذا النوع من المستهلكين، لنقول وداعا للرأسمالية والدولة فى تلك القطاعات.
لا شك أن برامج نظام ليونكس مثل شهير على أن كثيرا من البرامج يصنعها أفراد لا يرغبون فى الربح، و مع الوقت سوف يزداد استخدام نظام ليونكس المجانى، بعيدا عن استهلاك الوندوز والأوفس غير المجانيين. و لا شك أنه مع اختراعات واكتشافات أخرى ، مثلما هو متوقع بالفعل فى الهندسة الوراثية والعلاج الجينى والنانو تكنولوجى، و اكتشاف مصادر الطاقة البديلة من الرياح والشمس وغيرها هذا من جانب وسائل الإنتاج، و زيادة أعداد المنتجون الأفراد مع تقلص العمل المأجور، وتصاعد أعداد المهمشون والمتعطلون عن العمل الذين تطرحهم التكنولوجيا جانبا هذا فى جانب قوة العمل، و انتشار الاستهلاك والانتاج التعاونى، وعمليات الاستيلاء على المنشئات الاقتصادية وإدارتها من قبل العاملين، واثبات تفوق الإنتاج و الاستهلاك التعاونى على الإنتاج والاستهلاك الرأسمالى أو الدولتى فى اشباع أفضل لاحتياجات البشر هذا من جانب علاقات الإنتاج، سوف نقترب أكثر فأكثر من الخلاص النهائى، بعيدا عن الخيالية التى سوف يظل اللاسلطويين متهمين بها، طالما هناك من لا يقرأ أو يتأمل.