الدولة الوطنية في فكر اليسار العربي


لطفي حاتم
2010 / 10 / 22 - 15:08     

تتمتع مواقف اليسار الاشتراكي ورؤاه الفكرية من الدولة الوطنية بأهمية راهنية انطلاقاً من الدور الكبير الذي تضطلع به الدولة الوطنية في بناء وتطور تشكيلاتها الاجتماعية من جهة والتغيرات الجوهرية التي أحدثها الطور المعولم من التوسع الرأسمالي على الوظائف الاقتصادية / الاجتماعية للدولة من جهة أخرى.
تأسيساً على ذلك الدور والتغيرات الحاصلة عليه أحاول التعرض لموقف اليسار الاشتراكي من الدولة وسلطتها السياسية عبر موضوعات فكرية / سياسية مكثفة استنداً الى محاور ثلاث : ـ
المحور الأول: ـ الدولة في الفكر السياسي الماركسي .
المحور الثاني: السلطة السياسية في كفاح اليسار الاشتراكي .
المحور الثالث: ـ الدولة الوطنية في فكر اليسار الديمقراطي المعاصر.

على أساس تلك الرؤية المنهجية أتناول المحاور المثارة خاتما إياها بجملة من الاستنتاجات التي أجدها ضرورية.

أولاً: ـ الدولة في الفكر السياسي الماركسي .

تحتل موضوعة السلطة السياسية في الفكر الماركسي موقعاً مركزياً إذ إنها ـ السلطة ــ تشكل رافعة أساسية لبلوغ الأهداف الاستراتيجية المتمثلة بسيطرة البروليتاريا على سلطة الدولة وصولاً الى تحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية وإقامة النظام الاشتراكي المفضي الى المرحلة الشيوعية.
إن المنظومة الفكرية الماركسية المشار إليها أعارت أهمية قصوى لقضيتين متلازمتين اولهما إعداد البروليتاريا للقيام بالانقلاب الثوري وثانيهما استلام سلطة الدولة والاحتفاظ بها كأداة أساسية في بناء دولة تشكيلة اجتماعية جديدة خالية من الاستغلال الرأسمالي .
لغرض الاحاطة بتلك المنظومة الفكرية دعونا نستعرض الظروف التاريخية الاقتصادية / السياسية الحاضنة لمنظومة ماركس الفكرية .
ـــ نمت الماركسية وتطورت استناداً الى نضوج علاقات الإنتاج الرأسمالية وانقسام التشكيلة الاجتماعية الى طبقتين اجتماعيتين متناقضتين خاصة بعد استلام البرجوازية لسلطة الدولة وتشديد وتيرة استغلال الطبقة العاملة فضلا عن قمع كفاحها المطالب بتحسين ظروف العمل .
ــ اندلاع الثورات البرجوازية في عام 1848 التي أوصلت البرجوازية الى سلطة الدولة في كثرة من البلدان الأوربية وما تبعها من مساومات طبقية بين الإقطاعية والبرجوازية الناهضة وما نتج عن ذلك من تحالفات اجتماعية مناهضة لنضال الطبقة العاملة الديمقراطي .
ـــ قيام كومونة باريس وتصديها للحكم البرجوازي ومساوماته مع القوى الخارجية وبهذا جمعت الكومونة التي أصبحت التمرين السياسي لسلطة البروليتاريا بين الروح الطبقية المتمثلة بالعدالة الاجتماعية والروح الوطنية ودفاعها عن السيادة الوطنية.

خلاصة القول إن الفكر السياسي الماركسي المتعلق بالدولة نما وتطور في خضم الصراعات الطبقية العنيفة التي ميزت الطور الأول من التوسع الرأسمالي المتمثل بالثورات البرجوازية واستلامها سلطة الدولة السياسية وتطور نزاعها الاجتماعي مع القوى المنتجة المناهضة لها .
إن الخلاصة المشار إليها يمكن استكمالها بملاحظات إضافية منها: ـ
ــ إن التطورات الاقتصادية / السياسية التي أنتجها الطور الأول من التوسع الرأسمالي أعاقت بناء نظرية ماركسية متكاملة عن الدولة وسلطتها السياسية بل نضجت أراء نظرية ومنطلقات فكرية عن الدولة وسلطتها السياسية .
بكلام آخر إن السلطة السياسية التي أعارتها الماركسية اهتماماً هي تلك السلطة البرجوازية المرتكزة عن العنف والاستغلال والذي جرى توصيفها ـ الدولة ـ (أداة طبقية بيد الطبقة المهيمنة ) وبهذا المعنى فقد جرى اختزال الدولة الى سلطة سياسية . (1 )
لقد انطلقت المعالجة الماركسية لمسالة الدولة من النظرية المادية التاريخية المرتكزة على مساند أساسية أهمها : ـ
ـــ تعبر الدولة كبناء سياسي عن أنماط إنتاجية محددة تاريخياً يرتبط تطورها ـ الدولة ـ بطبيعة ونتائج الصراعات الطبقية لهذا فإن شكلها الجمهوري الديمقراطي جرى تقييمه إيجابا باعتباره شكلاً ضرورياً لكفاح الطبقة العاملة رغم أن هذا الشكل السياسي يجسد الهيمنة القومية للطبقة البرجوازية .
ــ أعارت الماركسية اهتماماً خاصاً بالسلطة السياسية باعتبارها الأداة الفعلية القادرة على تنفيذ المراحل الأساسية للبناء الثوري الجديد وبهذا المسار أكدت الماركسية على أن ديكتاتورية البرولتياريا هي مرحلة انتقالية تفضي الى اضمحلال الدولة .
ــ تقود الفرضية الفكرية المشار إليها الى أن مباركة الماركسية للشرعية البرجوازية المتمثلة بالانتخاب والتداول السلمي للسلطة السياسية لم تكن مباركة مطلقة بل مشروطة كونها مرحلة انتقالية لخدمة الكفاح الديمقراطي للبروليتاريا والتأكيد على أن الشرعية البرجوازية شكلا من أشكال هيمنة البرجوازية على السلطة السياسية.
ـــ لقد طورت اللينينية في المرحلة الثانية من التوسع الرأسمالي المتسم بظهور الدولة الرأسمالية الاحتكارية الموقف من الديمقراطية البرجوازية وجعلها مرحلة ضرورية حاضنة لتطوير النزاعات الطبقية معتبرة إن الديمقراطية البرجوازية هي منظومة سياسية توفر الشروط الضرورية لاستلام السلطة وقيام دكتاتورية البروليتاريا التي تمثل ديمقراطية شعبية حقيقية حسب الرؤية اللينينية. ( 2 )

إن الرؤية الماركسية لوحدة السلطات الناتج عن تحليلها التاريخي للدولة باعتبارها أداة طبقية أنتج قضايا فكرية / سياسية هامة منها احتكار سلطة الدولة عبر قيادة الحزب الثوري لها ، ومنها اعتبار الدولة المالك الفعلي لوسائل الإنتاج بهدف بناء دولة العدالة الاجتماعية.

إن المنطلقات الفكرية والنتائج السياسية التي جرى استعراضها جسدتها ثورة أكتوبر الاشتراكية في الطور الثاني من التوسع الرأسمالي وسماته الإمبريالية المرتكزة على دولة الرأسمال الاحتكاري التي تشكل مرحلة أخيرة من مراحل الرأسمال حسب الرؤية اللينينية وما يشترطه ذلك من استبدال طراز الإنتاج الرأسمالي بآخر اشتراكي يتطلب بناء دولة العدالة الاجتماعية .

لقد أرست ثورة أكتوبر الاشتراكية دولة سوفيتية جديدة اتسمت منظومتها السياسية / الاقتصادية بالطبيعة التالية : ـ
أولاً البناء السياسي : ـ
أ: ــ اعتماد مبدأ المركزية الديمقراطية في بناء الدولة الجديدة ومؤسساتها السيادية وأجهزتها الإدارية .
ب : ــ دمج السلطات التشريعية ، القضائية والتنفيذية وإناطة قيادتها بأجهزة وكوادر الحزب الحاكم .
ج : ـ استبدال الشرعية الديمقراطية التي اعتمدتها الطبقة البرجوازية بديمقراطية الشغيلة وممارستها السياسية .

ثانياً شكل الدولة : ـ
اشترط الإرث الاستعماري للدولة الروسية بناء دولة سوفيتية فدرالية تضم جمهوريات اتحادية وأخرى ذات حكم ذاتي ارتكزت على مبدأ التضامن ألأممي والوحدة البروليتارية .
ثالثاً شكل الملكية : ـ
أ: ـ اعتبار الدولة السوفيتية المالك الأساسي لوسائل الإنتاج الأساسية عبر إلغاء الملكية الخاصة .
ب: ـ بناء أشكال تعاونية لتطوير الوظائف الخدمية / الإنتاجية للدولة .
ج: ـ استحداث تعاونيات أهلية فرضها تعدد الأنماط الإنتاجية في الدولة السوفيتية الجديدة .

تكثيفا يمكن القول إن المنظومة السياسية للدولة السوفيتية التي أفرزتها التجربة الاشتراكية ورغم تأثيرها الهائل على الفكر السياسي الاشتراكي إلا إن تلك المنظومة وفي مجرى تطورها حدت من تطور المجتمع المدني عبر إلحاق مكوناته الأساسية الأحزاب ، النقابات ، الجمعيات التعاونية ، المنظمات الجماهيرية ، المؤسسات الثقافية بالدولة الامر الذي أضاع السمات الحقيقية للديمقراطية الاشتراكية .
إن تعرضنا لموضوعات الفكر الماركسي ــ اللينيني إزاء سلطة الدولة من جوانبه النظرية والتاريخية أجده مدخلا فكرياً يساعدنا على تحليل موضوعة الدولة في الفكر السياسي لأحزاب اليسار الاشتراكي العربي .

ثانياً: ــ السلطة السياسية في كفاح اليسار الاشتراكي .

بات شائعاً أن الدولة الوطنية في البلدان العربية نشأت وتطورت في مرحلة المنافسة الرأسمالية حيث جرى اقتسام العالم بين الدول الرأسمالية المتصارعة بعد الحرب العالمية الأولى وبهذا المسار فقد أحاطت دول الاحتلال مناطق نفوذها بسيادة شكلية لغرض كبح المنافسة الرأسمالية من خلال الاحترام الدولي لذلك الاقتسام بعد أن وثقته بمعاهدات واتفاقات دولية .

إن ظهور الدول الوطنية ترافق وجملة من المظاهر السياسية / الاجتماعية / الاقتصادية منها : ـ
ــ أفضى بناء الدول الجديدة من الناحية الجغرافية والسكانية الى هيمنة السلطة التنفيذية على الدولة واستحواذها على مصادر القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبهذا المعنى فان الباحث في هذه الحقبة التاريخية لا يمكنه رؤية الحدود الفاصلة بين الدولة وسلطتها السياسية .
ــ ظهور الأشكال الأولية للسلطتين التشريعية والقضائية في الدول الجديدة لم يساهم في بناء وتطور مبدأ فصل السلطات ولم يضع تلك الدول على عتبة الشرعية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة .
ــ تشوه البناء السياسي للدول الجديدة عكس هشاشة تشكيلاتها الاجتماعية من جهة وهيمنة المصالح الرأسمالية الوافدة من جهة ثانية .

لقد تجسدت هشاشة التشكيلات الاجتماعية بحزمة من المتغيرات الاجتماعية والسياسية أبرزها : ـ
ــ رغم تنامي حدة الحراك الاجتماعي الذي أوجدته الحقبة الكولونيالية تماشيا وتطور مصالحها الاستراتيجية ونشوء بواكير الطبقة العاملة في المؤسسات الخدمية / الإستخراجيه إلا أن التشكل الطبقي في هذه الحقبة لم يصل الى تخومه الرأسمالية بمعنى وجود طبقتين اجتماعيتين متنازعتين .
ـــ بسبب طبيعة المرحلة الثانية من التوسع الرأسمالي المتسمة بالسيطرة على الثروات الوطنية وتصدير البضائع الرأسمالية تراجعت المكانة السياسية / الاجتماعية للبرجوازية الوطنية وفكرها الليبرالي الهادف الى ترسيخ المؤسسات (الشرعية ) الضامنة لمصالح سيطرتها السياسية .
لقد انعكست هشاشة التشكيلات الاجتماعية العربية على طبيعة النظم السياسية للدول الجديدة بجانبين الأول منها تنامي النزعة الاستبدادية لسلطة الدولة الوطنية والثاني تنامي مساهمة الطبقة الوسطى وأحزابها الراديكالية في الحياة السياسية.

لقد تأثرت بعض شرائح الطبقة الوسطى بفكر التيار الاشتراكي الساعي الى اعتماد العنف (الثوري ) سبيلاً لإحداث التغيرات الاجتماعية والسياسية وكذلك التيار القومي المتشح بالفكر العنصري المترابط والنزعة الانقلابية التي جسدتها التجربة الألمانية .
إن تأثر الحركة السياسية في البلدان العربية بفكر الحداثة الأوربية الاشتراكية والقومية قاد الى نتائج سياسية /اجتماعية / حددت المسار اللاحق لتطور الدول العربية الناهضة .

لتقدير شرعية الفرضية المثارة دعونا نتابع تطور التشكيلات العربية ودور المستوى الأيديولوجي / السياسي فيها .

بداية نقول إن نشوء الدول الوطنية الناتج عن المرحلة الكولونيالية ورغم سمته التقدمية إلا أن الوافد الخارجي لم يستطع بناء تشكيلات اجتماعية لبلدانه المستعمرة على أسس رأسمالية بل عمل على تطوير طبقات اجتماعية شكلت شريكا سياسياً في قيادة الدولة وسلطتها السياسية وبالتحديد منها طبقتي التجار والإقطاع .
ــ إن تداخل وتعدد الأنماط الإنتاجية للبلدان الجديدة وضعف مكوناتها الاجتماعية أفضى الى إعاقة الدولة الوطنية من بسط سيطرتها السياسية على تشكيلها الاجتماعي الأمر الذي أدى الى تحكم مؤسسات المجتمع الأهلي ــ العشيرة ــ الطائفة ـ العرق ـ على تطور تلك البلدان . بكلام آخر إن بناء الدول الجديدة المترابط والعامل الخارجي لم يرافقه ظهور قوى اجتماعية قادرة على أن تشكل قاطرة وطنية لقيادة التطور الوطني اللاحق .
ـــ سيادة أساليب الإنتاج التقليدية وضعف العلاقات الرأسمالية في الدول الجديدة مهد الطريق لصعود الطبقة الوسطي التي انتعشت بسبب تطور الأجهزة الإدارية والعسكرية للدول الجديدة ناهيك عن تطور قطاع الخدمات في المرافق التعليمية والصحية .
ــ إن قيادة الطبقة ألوسطى لكفاح القوى السياسية الفاعلة أفضى الى سيادة المستويات الأيديولوجية / السياسية المتلازم واستخدام العنف والانقلابات العسكرية انطلاقاً من موضوعة ( إن السياسية تعلو على الاقتصاد ) .

إن اعتبار السلطة السياسية هدفا أساسيا لقوى الطبقة الوسطى الراديكالية تجسد في مرحلتين أساسيتين اولهما مرحلة الكفاح الوطني حيث تركز النزاع السياسي حول الانتهاء من ازدواجية الهيمنة الأجنبية / الداخلية التي مثلتها المرحلة الكولونيالية فضلاً عن إعادة بناء الدولة الوطنية على قاعدة الاستقلال الوطني . وثانيهما مرحلة الاستقلال والسيادة الوطنية التي اندلع النزاع بين قواها السياسية الراديكالية حول طبيعة السلطة واتجاهات تطورها انطلاقاً من برامج أيديولوجية وشعارات مثالية . ( 2 )

بكلمة موجزة إن هشاشة التشكيلات الاجتماعية الوطنية وضعف نزاعاتها الاجتماعية الفعلية المرتكزة على تعارض مصالحها الاقتصادية فضلا عن سيادة المؤسسات الأهلية هي التي جعلت المستوى الأيديولوجي لدى لأحزاب السياسية بعيداً عن وقائع الحياة السياسية / الاجتماعية وما حمله ذلك من أضرار بالغة على مسار تطور الدول الوطنية اللاحق .

إن الرافعات الفكرية / السياسية المحركة لنشاط القوى السياسية الراديكالية تدفعنا الى رصد موضوعة السلطة السياسية في فكر اليسار الاشتراكي العربي من خلال استعراض سماته التاريخية العامة عبر تلخيصها بالمحددات التالية: ـ
المحدد الأول: ـ لم تعمد قوى اليسار الاشتراكي الى تحليل طبيعة التشكيلات الوطنية العربية المرتكزة على سيادة المؤسسات الأهلية وهيمنة الولاءات الطائفية فضلا عن عدم اكتمال أبنيتها الطبقية . ( 3 )
المحدد الثاني: ـ أخفق مفكرو اليسار الاشتراكي في تشكيل رؤية فكرية لنهوض دول بديلة عن دول الهيمنة الكولونيالية استناداً الى الشرعية الديمقراطية عبر تطوير المؤسسات الدستورية والأجهزة (التمثيلية ) التي أنتجها الاحتلال الأجنبي .
المحدد الثالث: ـ رغم هيمنة الفكر الاشتراكي على الشرائح المثقفة إلا أن مثقفي اليسار لم يتمكنو من دراسة التاريخ العربي الإسلامي وتوظيف تراثه الايجابي بخدمة الكفاح التحرري بل عمدوا الى تحليل ركائز الفكر الماركسي والتجربة الاشتراكية الامر الذي شكل ثغرة جدية انعكست سلباً على فعالية الكفاح الوطني / الديمقراطي. ( 4 )

إن المحددات الفكرية / الاقتصادية / السياسية المشار إليها أنتجت فكراً أيديولوجيا مقدسا أفضى الى إعاقة حركة اليسار الاشتراكي الهادفة الى بناء دول ديمقراطية متجاوبة و سمات تطورها التاريخي . ( 5 )

إن تحليلنا لمواطن العجز الفكري لدى اليسار الاشتراكي وغياب مشروعه الوطني لبناء دولة ديمقراطية بسمات واقعية يقودنا الى فحص الممارسة الفعلية الفكرية / السياسية لأحزاب اليسار الاشتراكي والتي أجدها في الموضوعات التالية: ـ
1: ـ رغم اعتماد أحزاب اليسار الاشتراكي برامج الثورة الوطنية الديمقراطية إلا أن تلك الأحزاب نزعت محركاته الأساسية ــ الثورة والقيادة الطبقية ـــ ولم تضع تلك المحركات على مسار الممارسة السياسية.
2: ـ لهذا فان شعار استلام السلطة المتبنى أيديولوجياً جرى الابتعاد عنه في الممارسة السياسية حيث فضلت أحزاب اليسار الاشتراكي العمل مع القوى الديمقراطية الأخرى على بناء منظومة سياسية ديمقراطية للدولة وسلطتها السياسية . ( 6 )
3: ـ استمد الكفاح الوطني الديمقراطي لأحزاب اليسار الاشتراكي شرعيته التاريخية من أهمية تفتيت النظم السياسية الاستبدادية وإعادة البناء الديمقراطي للدول الوطنية على أساس الشرعية الديمقراطية وحقوق المواطن الأساسية .
4 : ـ شكل كفاح أحزاب اليسار الاشتراكي و شعاراته الهادفة الى بناء دول وطنية ديمقراطية ورغم أرديتها الأيديولوجية تعويضاً عن كفاح الطبقة البرجوازية وشعارات فكرها السياسي الغائب .

ثالثاً : ـ الدولة في فكر اليسار الديمقراطي المعاصر.

تأسيساً على ما جرى استعراضه يواجهنا السؤال التالي :ــ هل هناك إمكانية لاستعادة اليسار الديمقراطي لمكانته السياسية / الفكرية في التشكيلات الاجتماعية العربية ؟
الإجابة على ذلك التساؤل يشترطها الطور الجديد من التوسع الرأسمالي المتسم بكثرة من المتغيرات الامر الذي يحتم علينا البحث عن إمكانية بناء يسار ديمقراطي يستعيد مكانته التاريخية المشروعة على أساس بناء مشروع فكري يتعلق بالدولة وسلطتها السياسية مترابطاً وتغيرات السياسة الدولية ، وبهذا المسعى بودي التأكيد على بعض المنطلقات الفكرية التي أجدها مدخلا ربما يساعد في تحديد وصياغة الرؤى الجديدة : ـ
ــ يهدف التوسع الرأسمالي المعولم الى إلحاق الدول الوطنية بالتكتلات الاقتصادية وما يفرزه ذلك من نتائج وخيمة على الدول الوطنية أهمها انهيار سبل التنمية الوطنية المستقلة فضلاً عن تهميش القوى المنتجة الامر الذي يفضي الى اضطرابات اجتماعية واسعة. ( 7 )
ــ يتطلب التهميش المتواصل لقوى الإنتاج في البلدان الملحقة استخدام العنف ضد كفاح القوى الاجتماعية المطالبة بالعمل والضمانات الاجتماعية وبهذا السياق فان اشتداد وتيرة الاستبداد السياسي يشكل السمة الأبرز للدولة الوطنية في طورها التاريخي المعاصر .
ــ يقود التهميش المتواصل الى إضعاف روابط القوى الطبقية في التشكيلات الاجتماعية ويعيد سيادة البني الأهلية والمراكز الطائفية وتصدرها للحياة السياسية / الاجتماعية.

على أساس هذه الفرضيات الناتجة عن ميول الاندماج بصيغة الإلحاق أحاول التركيز على بعض القضايا الفكرية: ـ

ــ تقدم التغيرات الكبيرة التي جلبتها العولمة الرأسمالية لليسار الديمقراطي إمكانية المطالبة بالتغيرات الديمقراطية من خلال التركيز على الوحدة الجدلية لمبدأي الوطنية والديمقراطية المتمثلتان في أعادة بناء الدول الوطنية على أساس المواطنة المرتكزة على ديمقراطية الأنظمة السياسية وصيانة مصالح البلاد الوطنية ، وما يعنيه ذلك من نقل النزاعات الفرعية الى نزاعات سياسية تقررها المصالح الاجتماعية .
ــ يشترط الكفاح الوطني الديمقراطي لإعادة بناء الدول الوطنية الانتقال الى التمثيل الوطني الشامل وبهذا المسار فان أحزاب اليسار الديمقراطي هي أحزاب متعددة الأطياف الاجتماعية يفترضها التهميش المتزايد للعولمة .
ــ يتطلب تحويل الكفاح الوطني الديمقراطي الى قوة شعبية عربية / إقليمية/ واسعة بلورة شعارات واقعية تفرضها تطورات السياسية الوطنية / الإقليمية من جهة وطبيعة السياسية الدولية التدخلية من جهة أخرى .

إن أهداف الكفاح الوطني / العربي التي تشترطها العلاقات الدولية الجديدة يمكن بلورتها في موضوعات عامة أهمها: ـ
أولا: ـ تنمية الكفاح الوطني / العربي المشترك الهادف الى فك ازدواجية الهيمنة / الوطنية / الخارجية التي يحاول الطور المعولم فرضها من جديد على الدول الاستبدادية .
ثانياً: ـ تفعيل الكفاح الوطني / العربي المشترك من أجل بناء أنظمة ديمقراطية تستجيب لمصالح البلاد الوطنية .
ثالثاً : ـــ السعي المشترك لبناء دول وطنية ديمقراطية تستند الى ركائز واقعية لشبكة التضامن الاجتماعي وما يعنيه ذلك من اعتماد سياسية التوازن السياسي / الاجتماعي بين مكونات التشكيلة الوطنية .
رابعاً : ـــ مناهضة التداخلات الخارجية السياسية والحربية في النزاعات الاجتماعية الوطنية والمطالبة بعدم تدويلها .
خامساً :ـــ الكفاح المشترك من أجل بناء علاقات دولية متوازنة تحترم استقلال البلدان العربية وتوجهاتها الاقتصادية .
أخيراً المطالبة بتعزيز العلاقات الوطنية الإقليمية وتطويرها نحو بناء التكتلات الاقتصادية الهادفة الى الحد من الدمج والإلحاق .

إن أهداف الكفاح الوطني / الإقليمي التي يفرزها الطور الجديد من التوسع الرأسمالي هي التي تدفع اليسار الديمقراطي الى أعادة بناء عدته الفكرية وتطوير قاعدته الاجتماعية وصولا الى تحوله الى قوة اجتماعية فاعلة مساهمة في صياغة البناء الديمقراطي الجديد للدول الوطنية وتوازن مصالحها الدولية .

الهوامش: ـ

* المداخلة تنحصر في معالجة قضية الدولة الوطنية في الفكر الاشتراكي العربي .
1 : ـ لم تكن هناك مصادر ماركسية كثيرة عن الدولة سوى مؤلف أنجلس عن العائلة والملكية الخاصة والدولة ، وكذلك كراس لينين عن الدولة فضلا عن المراسلات الكثيرة بين قادة ومؤسسي الفكر الاشتراكي .
لقد تحددت الرؤية الماركسية حول الدولة بــ ( أ) ترافق ظهور الدولة و الملكية الخاصة وما يعنيه ذلك من أن الدولة هي بناء سياسي تتغير وتغير أساليب الإنتاج المختلفة . ( ب ) اعتبار الدولة جهاز قمعي بيد الطبقات السائدة . ( ج ) إن إلغاء الاستغلال والطبقات الاجتماعية يقود الى اضمحلال وتلاشي الدولة.
2 : ـ وفق الرؤية الماركسية إن ديكتاتورية البروليتاريا هي الشكل السياسي لسلطة الطبقة العاملة.
3: ـ. أثبت اعتماد موضوعة الصراع الطبقي مقياساً أساسياً لتفسير تطور التشكيلات العربية عدم فعاليته ما لم يتداخل ومناهج تحليلية أخرى .
4: ـ لا تمنع الثغرات الفكرية المشار إليها من القول أن قوى اليسار الاشتراكي الفكرية أبدعت في مختلف المجالات الثقافية إلا أن جل مثقفو اليسار انشغلوا بتفسير الفكر الماركسي وتجاربه الاشتراكية وعمد كثرة الباحثين الى دراسات تاريخية إلا إن تلك الدراسات ورغم أهميتها لم يجري الاستفادة منها في صياغة مشروع وطني لبناء الدولة الديمقراطية.
5 : ـ جرت وفي فترات تاريخية معينة محاولات لتجديد البناء الفكري لبعض الأحزاب بهدف صياغة نهوج سياسية تتلاءم وطبيعة التشكيلات الوطنية ، كما جرى التنظير لبناء تحالفات وطنية ديمقراطية واسعة تسعى لبناء دول جديدة تستند الى الديمقراطية ( النسبية ) وشكلا من أشكال العدالة الاجتماعية .
6: ـ إن شعارات اليسار الاشتراكي الرافضة للنهوج الاستبدادية واحتكار السلطة لا يعني استلام السلطة والانفراد بها بل دعوة لمشاركة القوى الوطنية في بناء دولة وطنية ديمقراطية .
7 : ـ إن عملية الاندماج بين الشركات الاحتكارية في الدول الرأسمالية الكبرى يشكل وجها ايجابيا للعولمة أما إلحاق البلدان الوطنية بالتكتلات الاقتصادية يشكل الوجه السلبي لعملية الاندماج الرأسمالي بسبب انعدام التكافؤ بين الأطراف .